المولى النصير

المولى النصير
إلهي .. يا {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40].. ويا نعم الحفيظ ونعم المقيت.. يا من حوائجنا تقضى كلها بكرمه.. ومخاوفنا كلها يقضى عليها بنصره.
أنت يا رب من نصرت أنبياءك وأولياءك على أعدائهم حين تربصوا بهم؛ فأمددتهم بجندك، وحفظتهم بحفظك، ونصرتهم مع ضعفهم وقلة عددهم وعتادهم.
بل كنت أنت الذي قاتل معهم، وقد قلت في كلماتك المقدسة: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]
أنا أعلم ـ يا رب ـ أن الغافلين عن أسرار كلماتك.. الواقفين مع المباني دون المعاني، سيتعجبون من هذا.. ويقولون: كيف يمكن أن يكون هذا.. وأنت القادر على كل شيء؟
ولم يعلموا أن قولك ذلك لا يعني سوى تأييدك لأولئك المؤمنين الطاهرين المستضعفين الذين همّ أعداؤهم باستئصالهم، فاستأذنوك في قتالهم، فأذنت لهم، ثم علمت بأن نفوسهم الطاهرة قد تتحرج من القتال، ولا تستسيغ إزهاق الأنفس، فذكرت لهم أن قتلهم لم يكن بأيديهم، وإنما كان بيدك، وأن ما حصل لهم لم يكن مرتبطا بأحقاد يحملها المؤمنون، وإنما هو مرتبط بعدالتك وسننك وقوانينك التي نظمت بها الكون.
وإلا فإنك أعظم من أن تحتاج إلى الرمي، ولا إلى القتل، ولا إلى إرسال المدد من الملائكة، فأنت الذي تقول للشيء: كن فيكون.. وأنت الذي أمرك { وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]
فأسألك يا رب .. كما أمددتهم بقوتك ومددك من الملائكة أن تمدني بما أمددتهم، وأن تحفظني بما حفظتهم حتى أنصرك كما نصروك، وأحمي جناب الحق كما حموه.
يا رب.. أنا أعلم أن إذنك في قتال المعتدين الظالمين المستكبرين لم يكن نابعا سوى من بحر رحمتك الواسعة ولطفك العظيم..
فأولئك المجرمون العاشقون للدماء، لا يمكنهم أن يرتدعوا بموعظة، ولا بحكمة، ولا بحجة، ولا بحوار، ولا حتى بمعجزة.. وإنما يرتدعون بالسيوف التي تقابل سيوفهم، والرماح التي تقابل رماحهم.
ولذلك أمرتنا بالإعداد، وطلبت منا أن نهيئ أنفسنا لنكون جنودا للحق، حتى نقاتل أولئك الذين سخروا أنفسهم للشياطين، وعبدوهم من دون الله، ولذلك أمرتنا بقتالهم كافة فقلت: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]
يا رب .. أنا أعلم أنك لم تأمرنا بقتلهم لذواتهم.. ولا لأجل عقائدهم.. ولا لأجل ما اختاروه لأنفسهم.. فأنت قد أخبرتنا في كلماتك المقدسة أنك لا تقبل من الدين إلا ما خلص لك، وكان عن رغبة فيك، وليس عن رهبة من غيرك، وأنه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة: 256]
وإنما أمرتنا بقتالهم ـ يا رب ـ لأجل شركهم المرتبط بنصرة مشروع الشيطان في حرب الإنسان.. وهو مشروع لا يكتفون فيه بالكلمات، ولا بالمواقف، وإنما يستعملون كل ما أطاقوا من أدوات الشيطان لتخريب بنيان الإنسان الذي أمرت بحفظه، ولعنت من تعرض له.
يا رب .. فاجعلنا من جنودك الذي يقاومون جنود إبليس، ويحاربون الاستعمار والاستعباد والاستذلال والاستكبار.. وكل أصناف الطغيان.. حتى ننصر الإنسان في حربه مع الشيطان.
يا رب.. وكما نصرت الصالحين من عبادك على أنفسهم وأهوائها، فانصرنا على نفوسنا، وطهرنا من كل هوى يحجبنا عنك، ويملأ نفوسنا بما يبعدنا عنك.
يا رب.. نحن عبيدك المستضعفون، وأنت تعلم عجزنا عن نصر أنفسنا في الباطن والظاهر.. والداخل والخارج.. ومع شياطيننا وأهوائها.. ومع أعدائنا المتربصين بنا، والمترصدين لنا.. فكنت أنت مددنا ونصرنا.. واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، حتى ترتد جميع سيوفهم ورماحهم إلى صدورهم، ولا ينالون منا، وكيف ينالون منا، وأنت مولانا، والحافظ لنا.
يا رب .. واحفظ جميع المستضعفين الذين تكالب عليهم الأعداء، وأذاقوهم كل ألوان الهوان.. فانصرهم يا رب بنصرك العاجل.. وأمددهم بمددك الكريم.. واجعل لهم من عندك فرجا ومخرجا.
يا رب.. أنا أعلم أن كل ذلك الهوان الذي يصيب المستضعفين لم تأذن فيه إلا لتختبر من يقف معهم، أو من يقف ضدهم، أو من يقف في الحياد مؤثرا لنفسه وهواه.
وأنك ـ يا رب ـ ستكرم المستضعفين بكرمك العظيم في هذه الدنيا، أو في الآخرة، أو في كليهما.. فلذلك مع حزني عليهم أغبطهم، لأني لا أنظر إلى حالهم في هذه الدنيا الفانية، وإنما أنظر إليهم، وهم في الآخرة الباقية.
يا رب .. كلما رأيتهم تذكرت ما نطق به نبيك حين خبرنا عن حقيقة المصير الذي يصيرون إليه، والمصير الذي يصير إليه أعداؤهم، فقد قال لنا: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) ([1])
وقص علينا قصص جنتك ونارك، فقال: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي) ([2])
يا رب.. يا نصير المستضعفين.. يا قاهر المستكبرين.. اجعلني في حزب المستضعفين، فهم حزبك الذين أذنت بغلبتهم على أعدائهم، فقلت: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]
واجعلني من أنصارك الذين أذنت بنصرك لهم، فقلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف: 14]
يا رب.. واجعلنا ممن ينصر المستضعفين، وفي كل مكان، ويحارب المستكبرين، وفي كل مجال، لينفذ بذلك ما أمرتنا به، فقلت: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]
ونعوذ بك يا رب أن نكون جندا في راية عمية جاهلية، تنتصر للأهواء، وتنشر الأحقاد، وتقتل البشر لأجل الحجر والشجر.. أولئك الذين وصفتهم، وأمرتنا بقتالهم، فقلت: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76]
يا رب.. ونسألك أن تختم حياتنا بالشهادة
في سبيلك، حتى تكون توقيعا لصدقنا، وخاتمة لجهادنا.. وحتى نلقاك ومعنا برهان
الإيمان واليقين.. فأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
([1]) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403)
([2]) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846)