الحسيب الكافي

الحسيب الكافي
إلهي .. أيها الحسيب الكافي..
أنت يا رب الذي تكفي عبادك كل ما أهمهم؛ فلا يحتاجون معك إلى غيرك، وكيف يحتاجون، وكل مقاليد الأمور بيدك؟
وكيف يحتاجون ومفاتيح خزائن كل شيء تحت تصريفك؟
وكيف يحتاجون وأنت المدبر لكل شيء، فلا يعزب شيء عن تدبيرك؟
وكيف يحتاجون وأنت القاهر لكل شيء، فكل شيء مذعن لك، ساجد بين يديك؟
أنت حسيب عبدك الصالح موسى حين وقع بين فكي البحر وفرعون، فراح قومه ينشرون فيه المخافة قائلين: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، لكن موسى الذي يعرفك رد عليهم بكل هدوء، وهو يبتسم، وينظر إليك: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]
وأنت حسيب عبد وخليلك إبراهيم إذ هم قومه أن يرسلوه إلى النار لتحرقه، فابتسم هادئا، وقال مخاطبا لكل الملائكة الذين جاءوا ليكونوا في خدمته: حسبي الله ونعم الوكيل.. فتركت أعداءه يرمونه في النار.. لكنك حولتها إلى برد وسلام.. فمفاتيح الحرق ليست بيد النار، وإنما بيدك، وأنت الذي تستطيع أن تجعلها حارقة، وأنت الذي تستطيع أن تجعلها بردا وسلاما.
وأنت حسيب خاتم رسلك محمد الذي اضطره قومه من المشركين للالتجاء للغار، وحين أحاطوا به، ولم يكن بينه وبينهم إلا أن يرموا بأبصارهم إليه، قال بكل هدوء لصاحبه الذي امتلأ خوفا: { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
وأنت حسيب أولئك الصالحين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
فكن حسيبي يا رب، كما كنت حسيبا لهم.. وكن كافي لي كما كنت كافيا لهم، وقد قلت في كلماتك المقدسة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36)
وكيف لا تكون حسيبي، وأنت حسيب كل شيء.. فكل شيء رهن لمشيئتك وقدرتك ولطفك ورحمتك.. وكل شيء خاضع لك.. ومن اكتفى بك، كفيته كل شيء، وقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [النساء: 132]
فأسألك يا رب .. أن تكون حسبي في كل شؤوني حتى أعيش معاني قربك، ولذة وصالك، وأرى يدك الحانية وهي تمتد إلي كل حين بكل أنواع اللطف والكرامة.
إلهي أنت حسبي هاديا للسراط المستقيم.. فمن اعتمد في هدايته على عقله ضل، ومن اعتمد على فكره زل، ومن اعتمد على الخلق أسلموه إلى الهاوية..
فكن أنت حسبي الذي يكفيني أمر هدايتي، فلا أضل وأنت معي.. وكيف أضل وأنت الهادي الذي هدى كل شيء، وقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]؟
إلهي أنت حسبي معلما .. فخزائن العلوم بيدك.. وأنت الذي تعلم من تشاء بما تشاء، وقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282]
فيا من علمت أنبياءك وأولياءك أصناف العلوم، وجلت بهم في الملك والملكوت، فعلمني كما علمتهم، وفهمني كما فهمتهم، واجعل تعليمك لي تعليم هداية وترق، لا تعليم ضلال ونزول، حتى لا أكون كذلك الذي علمته، فراح يستغل ما آتيته من العلم في تضليل خلقه، فنزلت به من قمة الهداية إلى هاوية الضلال، وقلت فيه: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175، 176]
إلهي أنت حسبي مربيا.. وكيف لا تكون حسبي وأنت رب العالمين.. فآت يا رب (نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) ([1])
يا رب .. لقد عجزت عن تطهير نفسي الأمارة بالسوء، فكن أنت المطهر لها.. واملأها بالفضائل التي ارتضيتها، وأبعد عنها الرذائل التي مقتها.. وكن أنت مربيها ومؤدبها ومهذبها، حتى تصبح صالحة لتجليات جمالك وكمالك.
يا رب .. وأنت حسبي في رزقي.. وكيف لا تكون حسبي.. وأنت الرزاق ذو القوة المتين.. وكل مقاليد الرزق بيدك.. وقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58]
يا رب .. وأنت حسبي على أعدائي، والمتربصين بي، والمضمرين لي السوء.. فاكفني بقوتك، وحل بينهم وبيني بقدرتك، حتى لا يصلوا إلي، كما فعلت ذلك بنبيك، فقلت في كلماتك المقدسة:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } [يس: 9]
فاجعل ـ يا رب ـ كيد أعدائي في نحورهم، وقني وق عبادك الصالحين والمستضعفين من شرورهم.
يا رب.. فاستجب دعائي، وأغنني بك عن سواك، حتى لا أُذل نفسي لغيرك، وكيف أُذلها وأنت العزيز الذي لا يعز إلا من استعز به.
وكيف أُذلها، وأنت الذي تكفي كل من قصدك،
ولا ترد من طلبك، ولا تحجب من التجأ إليك، ولا تبعد من تقرب منك.
([1]) رواه مسلم رقم (2722)