القابض الباسط

القابض الباسط

إلهي يا من وصفت نفسك بالقبض والبسط، فكان من أسمائك الحسنى: القابض الباسط.. وهما اسمان ارتسما في كلماتك جميعا الصامتة والناطقة.. فقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]

وقد وجدت حروف هذين الاسمين الجليلين مكتوبة.. ليس في كلماتك المقدسة فقط، وإنما في كل الأشياء والمواقف.. فكلها من فيض قبضك وبسطك، وعطائك ومنعك.. ابتداء من نفسي التي أعيش مشاعرها وأحاسيسها، وانتهاء بأبسط ذرة في الكون.

والغفلة عن علاقة ذلك بك ـ يا رب ـ وبأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، هو الذي يوقع الغافلين في الشرك، ويجعلهم يتيهون في البحث عن الأسرار والحقائق بما يتوهمونه من الأوهام التي لا وجود لها.

إن الغفلة ـ يا رب ـ جعلتنا نتوهم أن القبض الذي ينزل على نفوسنا، فيملأها بالكآبة، سببه ذلك العوز المادي، أو ذلك الفقر العاطفي، أو تلك الحاجات التي تهفو إليها نفوسنا.. ولذلك نسعى لذلك العلاج الوهمي.. ثم نكتشف بعد ذلك أن الغنى المادي والعاطفي وغيرهما لم يغنيا عنا شيئا.. بل كانا مجرد مهدئات، زال مفعولها بعد استعمالها لمرات محدودة معدودة.

ولو أنا علمنا أن ذلك القبض الذي أصابنا منك، وأنك صاحبه، وأنه من تجليات اسمك القابض.. وليس من ذلك الفقر المادي أو العاطفي.. ولو علمنا أنك لم ترسل إلينا ذلك القبض وما يرافقه من الاكتئاب والإحباط والكدر عقوبة، وإنما أرسلته تنبيها وتأديبا لنعود إلى حقيقتنا حتى لا تقتلنا الغفلة، فنتيه في وديان البسط والراحة والسرور غافلين عن سر رحلتنا في هذا العالم، وساكنين عن الصعود في المعارج التي نصبتها لنا لنترقى في مدارج الكمال.

لو علمنا ذلك يا رب.. لتركنا كل شيء، ولجأنا إليك، ذلك أنه لا يسقينا بأكواب السعادة الخالصة غيرك.. بل إن اسمك الكريم هو الدواء الوحيد الذي يعالج كل أصناف القبض ما قدم منها وما استجد.. فاسمك دواء، وذكرك شفاء، وطاعتك غنى.

يا رب .. لقد ذكرت لنا ذلك في كلماتك المقدسة، فقلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

والطمأنينة هي تلك السكينة التي تمتلئ بها النفس، وتمتلئ معها بكل أنواع النشوة والسعادة والسرور التي تجعل صاحبها يعيش عوالم الجمال المطلق التي لا توفرها له كل خمور الدنيا ومخدراتها التي يهرب إليها الغافلون ليعالجوا القبض الذي يصيب قلوبهم.

ولو أنهم تدبروا كلماتك المقدسة لعلموا أن ذلك الكدر والكآبة ليس سوى مظهر من مظاهر الغفلة عنك، أو هي تجل من تجليات اسمك القابض.. فأنت الذي بيدك مفاتيح السعادة، كما أن بيدك مفاتيح الشقاء.. في الدنيا والآخرة.. وقد ذكرت ذلك في كلماتك المقدسة، فقلت ـ تعد المؤمنين المقبلين عليك ـ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقلت ـ تتوعد المعرضين عنك ـ :{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

إلهي .. فهب لي من بسطك ما يرفعني عن كدورات الدنيا، ويجعل قلبي متعلقا بك، سائرا في طريقك، مقبلا بكل كيانه عليك.. وأعوذ بك من كل بسط وسرور وسعادة تحجبني عنك، وتملؤني بالغفلة، لأخسر بذلك روحي وحقيقتي التي لا يمكن أن يعوضها كل كنوز الدنيا.

إلهي .. عندما أخرج من عالم نفسي، وأدخل عوالم الآفاق المحيطة بي أرى حروف قبضك وبسطك مكتوبة في كل الكائنات.. فالزهرة تتفتح، وترسل أريجها عندما يتجلى عليها جمال بسطك.. وتنقبض وتذبل عندما يتجلى عليها جمال قبضك.. والعارف هو الذي يعرفك في كليهما، ويراك في كليهما، ويعيش معك في كليهما.

والريح عندما ترسل.. والليل عندما يعسعس.. والصبح عندما يتنفس.. كلهم يتحركون من خلال قبضك وبسطك..

لقد ذكرت ذلك في كلماتك المقدسة، فقلت ـ عن الرياح ـ : {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الفرقان: 48].. وقلت عن المياه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].. وقلت عن الفلك: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [يونس: 22]

وهكذا، فإن كل ما نراه في عوالم الآفاق والأكوان مما نستبشر له، أو نحزن بسببه، ليس سوى تجل من تجليات بسطك وقبضك.. والعارف هو الذي يقرأ حروف الرسائل التي ترسلها إلينا من خلال ذلك القبض والبسط.. والغافل هو الذي يملأ بسطه بالسرور الكاذب، واللهو الفارغ، والأمل الطويل.. ويملأ قبضه بالقنوط من رحمتك، والهرب إلى كل العقاقير التي تقتل عقله وروحه وكل جمال فيه.

إلهي.. يا من بيده كل شيء.. لجأت إليك، وأنا عبدك الضعيف صاحب القلب المتقلب.. أن تحفظني من آثار الأشياء، حتى لا تبعدني عنك.. فالسعادة كلها في جوارك، والطمأنينة كلها في رحابك.. وهل يمكن أن يطمئن لأحد عيش وهو يقاطع ويعادي ويغفل عمن بيده القبض والبسط؟

يا رب .. لقد رأينا بأم أعيننا أولئك الذين بذلوا كل حياتهم من أجل الثروة والجاه وكل أصناف المتع، لكنهم ماتوا بعدها منتحرين.. لأنهم توهموا أن البسط في تلك الثروة والجاه، ولم يعلموا أن البسط بيدك.. فأنت الذي ملأت قلوب الصالحين بالسعادة من غير أن يكون لهم مال ولا متاع.. كما ملأت قلوب المستكبرين بالكدر مع أن كل شيء كان لهم وبجانبهم.

أنت يا رب صاحب مفاتيح السعادة والشقاء.. والسرور والكدر.. والفرح والحزن.. والنشوة والانقباض.. توزعها لمن تشاء، وكيف تشاء.. فاجعلنا من أهل السعادة والسرور، ومن أهل جنة الدنيا وجنة الآخرة.. فالجنان بيدك، والنيران بيدك.

أنت ـ يا رب ـ من حول نيران إبراهيم جنانا وبردا وسلاما.. فكلما حولتها له كذلك، فحول كل النيران التي تحيط بنا إلى برد وسلام.. حتى لا يصيبنا منها شيء.. فأنت ربنا ورب كل شيء..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *