الواحد الأحد

الواحد الأحد

إلهي .. أيها الواحد الأحد .. الفرد الصمد.. الذي ليس له نظير ولا ند.. ولم يكن له كفوا أحد.

مهما عظمت صفاتك وكملت وضاقت العبارات عن التعبير عنها إلا أن أعظمها وأكملها وأجملها وحدانيتك وأحديتك.. فأنت الواحد الأحد الذي لا يعتريه التعدد من كل الوجوه، وبكل المعاني، وفي كل الأحوال.

وكل من ادعى معرفتك، وادعى معها تعددك، أو تركيبك، أو وجود من يشبهك، أو وجود ما يناظرك، أو يكون معك ندا، أو يكون معك مدبرا، أو يكون معك حاكما.. فقد جهلك.. فأساس معرفتك وحدانيتك، وأساس كل ضلالة الإشراك بك.

فلولا وحدانيتك ـ رب ـ ما كملت صفاتك، ولا تنزهت ذاتك، وكيف تكمل صفاتك، وهناك من ينازعك إرادتك إذا أردت؛ فيختار عكس اختيارك.. وبذلك يجعلك مكرها.. أو يختار مثل اختيارك، فيكون لك ـ أو تكون له ـ تابعا.. أو ينازعك قدرتك، فيجعلك عاجزا.. أو يخالف ما دلك عليه علمك، فيجعلك جاهلا.. أو يخالف رحمتك فيجعلك قاسيا.. أو يخالف عدلك، فيجعلك جائرا.

وهكذا يا رب لن تبقى صفة من صفات كمالك، إلا وأفسدها التعدد.. فالتفرد والوحدانية أساس الكمال، ومن كان متعددا كان عرضة للفساد والانحلال.

ولهذا كانت وحدانيتك ـ رب ـ أساسا للسلام والطمأنينة والسعادة التي يشعر بها المؤمنون الموحدون.. وكيف لا يشعرون بها، وهم يرون صراع الأقطاب والنظراء، وغلبة بعضهم على بعض، وتسلط بعضهم على بعض، وقهر بعضهم لبعض.. وتحول الحياة بسبب ذلك كله إلى مفازة للقتل والدمار.

فلولا وحدانيتك ـ رب ـ ما رأينا الأقمار والكواكب والنجوم والمجرات والذرات، وهي تسير بدقة في مساراتها المحددة لها، لتجعل من الكون جميعا لوحة فنية بديعة الجمال.. وهل يمكن لسفينة يتنازعها ربانان أن تصل إلى المرسى؟.. وهل يمكن لكون يتنازعه ربان أن يسير بانتظام ودقة؟

ولولا وحدانيتك رب ما رأينا ذلك التكامل في الموجودات.. ولا ذلك التناسق بينها.. ولا تلك الخدمات التي يقدمها بعضها لبعض، فهي تسير في دورة منتظمة، وبمقاييس دقيقة لا يصيبها الشذوذ، ولا ينحرف بها الصراع.

فويل لأولئك الذين دنسوا عقولهم وقلوبهم بالإشراك بك.. فملأوها بالأسماء التي لا مسميات لها، والتي قلت فيها في كلماتك المقدسة توبخهم بسببها: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]

يا رب.. وكما هديتني إلى جنان توحيدك، وملأت قلبي بتعظيمك، وحفظت عقلي من أن تتسرب إليه أوهام الشرك بك.. فاجعلني أوحد قلبي لك، حتى لا يكون فيه غيرك، وحتى تكون أنت وحدك ملاذي وملجئي وطلبتي وغايتي.. وحتى لا يتربع على عرش قلبي حب غير حبك، أو تسليم غير التسليم لك، أو ذلة لغير جمالك، أو سكون غير السكون لك.

يا رب .. أنت تعلم أني ما أحببت إلا من أمرتني بحبهم، ولم أعظم سوى من أمرتني بتعظيمهم، ولم أسكن لغير من أمرتني بالسكون إليهم..

ولذلك فإن حبي وتعظيمي وسكوني لهم لم يكن سوى حبا وتعظيما وسكونا لك.. لأنك أنت الآمر، وأنت الخالق، وأنت المبدع.. وليسوا سوى مظاهر لجمالك وكمالك، وهل يمكن للعاشق أن يعشق الظاهر، ولا يعشق المظاهر التي يُظهرها أو يظهر بها؟.. وهل يمكن لمن يحب الشاعر أن يكره قصائده؟.. وهل يمكن لمن يحب الرسام أن يكره لوحاته؟

لذلك يا رب.. فإن قلبي محفوظ لك، ومتوجه إليك، وما دخله ليس أغيارا تزاحم محبتك، وإنما هي آثار لمحبتك.. وإنما هو فيضان لبحر محبتك.. وهل يمكن لعاشق أن يخالف محبوبه في الحب والبغض؟

إلهي.. فكما ملأت عقلي بكل براهين وحدانيتك، حتى استحال عليه أن يعتقد التعدد، أو يقع في مستنقعات الشرك.. فاحفظ قلبي المتقلب من أن يقع في تلك المستنقعات الآسنة، فينشغل بالمظاهر عن الظاهر، وبالأنوار عن النور، وبالأشياء عن مشيئها، وبالأكوان عن مكونها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *