اللطيف الخبير

اللطيف الخبير

إلهي.. أيها اللطيف الخبير .. الذي يعلم كل شيء.. ظاهره وباطنه.. ومكشوفه وغامضه.. وسره وعلانيته.. ويعلم ما يصلحه.. وما يفسده.. وما ينفعه.. وما يضره.

عندما أراقب أنفاسي، وهي تمتص رحيق النسيم، فيمر في جنبات جسمي لطيفا هادئا لا يشعرني بأي نوع من الانزعاج ولا  القلق، مع أنه يقوم بأعقد عمليات الاحتراق، ليوفر لي ما أحتاجه من الراحة، ويحول من ذلك الطعام مادة تزود خلاياي بالحياة.

وعندما أتذوق الطعام، وأجد لذته، وأرى مروره الهادئ بين أجهزة جسمي وأعضائي ودمي وخلاياي.. مع أنه يقوم بأعقد العمليات التي لا تضاهيها جميع مصانع الدنيا .. من غير أي ضجيج ولا ضوضاء ولا قلق.

وعندما أرى جسمي على الكرة الأرضية، وهي تتحرك حركتها السريعة، وتسبح مع الكواكب والنجوم في أفلاكها الدقيقة من غير أن يصيبني الدوار، ولا الغثاء.. بل أشعر، وكأني ذلك الرضيع الذي يتقلب في مهده بكل سعادة وراحة.

وعندما أرى مصابيح النهار تنطفئ بالليل لتتيح لي نوما مريحا..

وعندما أراها تشتغل بكل هدوء ولطف مع تنفس الصبح، لتتيح لي أن أتقلب في هذه الحياة ومطالبها..

وعندما أرى كل شيء معدا إعدادا دقيقا، وكأنه لم يخلق إلا لأجلي، فأشعة الشمس حانية.. وألوان الفضاء زاهية.. والماء العذب يترقرق بانسيابية وهدوء وجمال.

عندما أرى كل ذلك يا رب .. أرى لطفك وحنانك وخبرتك بما يحتاجه خلقه.. فلذلك تتكرم عليهم بكل ما يصلحهم، ويصلح لهم، وتبعد عنهم كل ما يزعجهم ويؤذيهم.

يا رب .. عندما أرى كل هذا أتيقن أن كل شيء يحصل في هذه الحياة هو ثمرة للطفك وخبرتك التي لا ندركها.. فخالق الحياة هو خالق الكون.. وهو أنت..

وما دام لطفك يتحكم في عالم الأكوان، فهو يتحكم في عالم الحياة.. وما دام هو المتحكم في عالم الآفاق، فهو المتحكم في عالم الأنفس.

لقد أدرك نبي الله يوسف صلواتك عليه وسلامه هذا المعنى عندما قال في خاتمة مسيرة حياته: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]

لقد أدرك أن الأذى الذي أصابه به إخوته.. والبئر التي رمي فيها.. والعبودية التي امتحن بها.. والإغراء الذي تعرض له.. والسجن الذي لبث فيه بضع سنين.. لم يكن كل ذلك سوى مقدمة لتتويجه بذلك التاج الشريف الذي أتاح له أن ينقذ البشر من المجاعة.

لقد كان كل ذلك ضروريا حتى يصل إلى ذلك المحل، بعد أن يمر بكل أصناف الفتن ما ضر منها، وما سرّ.. ليسير بعد ذلك وفق التجارب التي عاشها، والتربية التي ربيته بها.

وهكذا يمكن لكل الخلق إن فهموا سر لطفك أن يتوجوا بمثل ذلك التاج.

وذلك التاج ليس ضروريا أن يكون في الدنيا.. فالدنيا دنيا.. وقصيرة.. ولا معنى لها.. ولو كانت تعدل عندك جناح بعوضة ما سقيت منها كافرا شربة ماء.

لذلك يمكن لكل الناس.. لكل الفقراء.. والمحرومين.. والمرضى .. والمبتلين.. أن يعتبروا أنفسهم قد وقعوا في الجب الذي وقع فيه يوسف، ورُموا في السجن الذي رمي فيه.. فإن أحسنوا كما أحسن يوسف، وصبروا كما صبر، ورضوا كما رضي.. فسيتوجون بذلك التاج الذي توج به.. ويصبحون أعزة بعد أن كانوا أذلة.. وأصحاء بعد أن كانوا مرضى.. ومنعمين بعد أن كانوا مبتلين..

لو فقهوا اللطف الإلهي لعلموا أن اللطيف الخبير لا يؤذيهم ولا يعذبهم ولا يتفنن في الإساءة لهم كما تزعم الشياطين.. بل هو يصعد بهم في لطف وحنان وتؤدة إلى أن يصلوا إلى الكمال الذي أتيح لهم، والتيجان التي يستحقونها.

إلهي.. وأسألك بلطفك الذي غمرت به كل شيء، أن تلطف بي في مجاري أقدارك حتى لا يقع لي منها إلا ما يسعدني ويرفعني ويؤهلني لتلك المناصب الرفيعة التي أهلت لها أولياءك بعد أن امتلأت قلوبهم محبة لك وشوقا إليك.

يا رب .. الطف بقلبي كما تلطف بجسدي حتى لا تحرقه الأغيار، فينصرف عنك، فيختنق بذلك الانصراف.. فأنت هواؤه وحياته.. ولا حياة له من دونك.

يا رب .. وأسألك بلطفك أن تلطف بهؤلاء البشر المساكين الذين تركوا سبيل أنبيائك وأوليائك وراحوا يسلكون سبل الشياطين، ويتمردون على الصالحين والقديسين الذين علمتهم تأويل الحديث، وأرسلتهم إلى البشر لينقذوهم من جوع الروح، كما أنقذهم يوسف من جوع الجسد.

لقد كان جوع المصريين لسبع سنين.. وأنقذهم نبيك يوسف منها.. ونحن يا رب قد امتد جوعنا لمئات السنين.. ونسألك أن تنقذنا من تلك البقرات العجاف والسنابل اليابسات التي تلتهم حياتنا وديننا وأخلاقنا وكل شيء صالح فينا.

يا رب نحن في انتظار ذلك الذي وعدتنا به، فقلت: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]

وننتظر بشغف ذلك الوعد الذي كتبته في جميع كتبك، وقلت عنه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105]

وننتظر من لطفك أن يتحقق ذلك الوعد الذي ينقذ البشرية، ويقتل شياطينها، والذي قلت فيه: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]

يا رب لا مبدل لكلماتك، ولا خلف لوعدك.. ونحن ننتظر لطفك بنا، وبهذه الأمة، وبالبشر جميعا.. حتى يعودوا إليك، وتعود إليهم مع العودة إليك تلك الابتسامة التي سرقتها منهم الشياطين، وعوضتهم بدلها ما نراه من صراع وسفك دماء.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *