الدال والدليل

الدال والدليل

إلهي يا من دل كل شيء عليك.. وكنت الدليل على كل شيء.. فلا يحجب عنك إلا من طُبع على قلبه، وغُشي على بصره وبصيرته.

لقد سألت كل شيء عنك، وعن دليله عليك، فأخبرني أنك أنت الدليل على الأشياء.. لأنها لولاك لم تكن.. ولذلك كان وجودك مقدمة لوجودها.. وحضورك الدائم بذرة لحضورها.. ولطفك العظيم ورحمانيتك السابغة عنوانا لظهورها.

عميت عين لا تراك، وأنت حاضر في كل شيء.. وخسرت صفقة عبد يشك في وجودك، وقد دل عليك كل شيء، بل أنت الدليل على كل شيء.

ولو أن هؤلاء نظروا إلى الضعف والقصور والعجز المرسوم في صفحات الأشياء، لعرفوا أن ذلك أكبر دليل عليك.. فلا يخرج الضعيف عن ضعفه إلا القوي، ولا يخرج المريض عن مرضه إلا الطبيب.. ولذلك كان مجرد بدو الضعيف قويا دليلا على وجود القوي.. ومجرد تحول المريض سليما دليلا على وجود الطبيب.

يا رب .. لو أنهم طبقوا هذه المعايير الموجودة في عقولهم، والتي يزعمون من خلالها أنهم عقلاء وفلاسفة ومفكرون وعلماء.. ثم يتباهون بذلك، ويتفاخرون به.. لو طبقوها على الأشياء لدلتهم كلها عليك، ولعرفوا أنك أنت الحقيقة العظمى التي سبقت وجود كل شيء.. ولولاها لما وجد شيء.

وهل يمكن أن يتشكل القصر العظيم من غير أن يكون هناك مهندسون يخططون لبنائه، وعمال يقومون بالبناء.. ويكون معهم الكثير من الرمل والإسمنت وكل أدوات البناء.. فهل يعقل أن نؤمن بوجود القصر، ثم لا نؤمن بوجود المهندس الذي صممه، والبناؤون الذين قاموا ببنائه؟

إنهم ـ يا رب ـ إذا رأوا قصور الدنيا، حتى لو كانت خربة قد أكل عليها الدهر وشرب، يقرون بوجود أصحاب لها، ويعجبون بالمهندسين الذين صمموها، ويحفظونها في الآثار، ويكتبون عنها الكتب.. لكنهم يمرون على تلك القصور العجيبة الموجودة في خلايا أجسامهم، وفي كل شيء يحيط بهم، ثم لا يعيرونها أي اهتمام، وكأنها تملك من العقول ما يجعلها مستغنية عن المهندسين والمصممين والبنائين.

يا رب.. لو أنك لم تخلق في كونك جميعا سوى زهرة واحدة لكانت دليلا للعاقل يدله عليك، ويوصله إليك.. وكيف وأنت خلقت ما لا يعد ولا يحصى من المخلوقات، ومن كل الأنواع، وبكل الهيئات..

لكن عقل الجاحد يعرض عنك، ويظل يميز بين إبداعك وإبداع من يتوهم أنه إبداعهم من خلقك.. حيث ينسب إليهم كل ما يصلون إليه من اكتشافات لبعض بدائع صنعك، في نفس الوقت الذي يعمي عينيه عنك.

وهو يجادل في ذلك.. ولا يعلم أن جداله نفسه دليل عليك.. فمن أين لتلك المواد الكيميائية التي يتصور أن حركتها هي السبب في تحرك فكره القدرة على التفكير والجدل، وهي مجرد مواد ميتة لاعقل لها، ولا مشاعر، ولا أحاسيس.. وهل يمكن للموتى إذا اجتمعوا أن يشكلوا حياة ممتلئة بالإدراك والوعي والأحاسيس؟

وهكذا يمكنه أن يتساءل عن تلك الزهرة الممتلئة بالجمال، مع أنها صماء بكماء لا عقل لها.. فهل تملك أدوات الألوان، أو عبقرية الفنان، أو تلك المواد الكيميائية لتشكل نفسها بتلك الصورة الجميلة التي تجتمع فيها الألوان الباهرة، والروائح الذكية، والتناسق العجيب، ثم تظهر في أوقات محددة، وتختفي في أوقات أخرى بعد أن تؤدي بدقة ما وكل لها من وظائف هي نفسها لا تعلمها.

هل يعقل أن تكون تلك الزهرة هي التي صنعت نفسها، وهي التي صممت ألوانها، ومزجت من المواد المنتشرة بينها ما شكل رائحتها؟.. وهل هي على علم بعلوم الفيزياء والكيمياء والطبيعة؟.. وهل هي على علم بالمواد المحيطة بها وتفاصيلها؟

إن الحمق يبلغ مبلغه من أولئك الذين يرونها، ثم لا ينسبونها إليك، أو يعتبرونها رسالة منك إليهم لتدلهم عليك، في نفس الوقت الذي ينبهرون فيه للباحث البسيط الذي استطاع أن يكتشف الصيغة الكيميائية المشكلة لروائحها، أو سر ألوانها وبهائها، أو ذلك الفنان الذي يقلد جمالها في لوحاته.

إنهم إذا رأوا تلك اللوحات انبهروا بها، وسجدوا للفنان الذي رسمها.. وأحالوا أن يكون ذلك الرسم مجرد صدفة لألوان اجتمعت.. بل يعتبرونها إبداعا عظيما، ومن عقل جبار، وذوق رفيع..

لكنهم ـ يا رب ـ يتركون تلك المكاييل التي حكموا بها للعالم والفنان، ليطبقوا على الزهرة قوانين الصدفة العمياء، والطبيعة البكماء الصماء المجنونة.

إلهي.. ولذلك كان وجودك دليلا على وجود الأشياء، وكمالك دليل على ما أودع فيها من قوى وطاقات لا يمكن أن يوفرها إلا صاحب علم عظيم، وإرادة نافذة، وقدرة باهرة.

يا رب .. عندما أتأمل في سر ذلك الغباء والحمق والغفلة التي يقع فيها أولئك الذين يزهون بأنفسهم، ويترفعون عليك أعلم أن ذلك أيضا دليل عليك، فهم لم يحتجبوا عنك، وإنما أنت الذي حجبتهم، لأنك لا تريد أن تري جمالك تلك النفوس المملوءة بقذارة الكبر، وعفن الغرور، والزهو الكاذب.

ولو أنهم بدل أن يسلموا أمر معرفتك لعقولهم المعقولة بأهوائهم، راحوا يطهرون أنفسهم من تلك القاذورات التي تحولت إلى قيود وأغلال تحجبهم عنك، لعرفوك من غير حاجة لأي دليل يدل عليك، لأن كل شيء يشير بلسان حاله ومقاله إليك.

فالجهل بك ـ يا رب ـ ليس ناشئا عن دليل أو علم أو فلسفة أو فكر.. وإنما هو ناشئ من تلك الأمراض التي سيطرت على البصيرة، فحالت بينها وبين الرؤية الصحيحة للأشياء..

لقد ذكرت ذلك يا رب .. وبينت سره، فقلت: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 146]

فالكبر والغفلة والغرور هي الأمراض التي تسيطر على عين البصيرة، لتجادل في البديهيات الواضحات، ولو أنها طبقت ذلك الجدال على كل الحقائق التي تؤمن بها، لتبرأت منها، وتحولت إلى السفسطة التي تنكر كل شيء.

ولذلك كان أعقل الملاحدة وأكثرهم انسجاما مع نفسه أولئك السفسطائيين، لأنهم احترموا عقولهم، فطبقوا إنكارهم لك على الأشياء.. ذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يجمع بين إقراره بوجود الأشياء، ثم لا يقرّ بك.

ذلك أن مثله مثل الذي يقر بوجود التصميم البديع، ثم لا يقر بوجود المهندس، أو يقر بوجود الشعر الراقي، ولا يقر بوجود الشاعر، أو يقر بوجود الترياق الشافي، ثم لا يقر بوجود الطبيب.

يا رب.. وأسألك أن تخلص نفسي من كل ذلك العفن الذي يحول بينها وبين جمال معرفتك.. وأن تخلص عقلي من كل القيود التي تحول بينه وبين الرحلة إليك.. فأنت الغاية والمنتهى، وأنت البداية والأساس.. ومن لم ينطلق منك لم يصل إلى شيء.. ومن لم تكن أنت قصده فلن يصل إلا إلى السراب.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *