الحكم العدل

الحكم العدل
إلهي .. أيها الحكم العدل.. صاحب الملك والملكوت.. والقوة والجبروت.. والموازين الدقيقة.. والقدرة النافذة.
عندما أنظر إلى عالم الآفاق، فأرى الكواكب، وهي تسير في مساراتها الدقيقة بانتظام عجيب، ولملايير السنين، من غير أن يصطدم بعضها ببعض، أو يطغى بعضها على بعض.
وعندما أستمع إلى ما يقوله الخبراء حول عالم الذرة الدقيق، والأكوان المصغرة التي صنعتها بلطفك وحكمتك، والتي لا تقل في إبداعها عن عالم الكواكب والنجوم والمجرات.
وعندما أنظر إلى عالم الحياة وأرى النمل والنحل والحشرات، وهي منتظمة في قراها ومدنها، يؤدي كل منها وظائفه بدقة وإحكام في مجتمعات ممتلئة بالرقي والتحضر.
وعندما أنظر إلى عالم النفس، ذلك العالم المملوء بعجائب الروح والمادة، والغيب والشهادة، والأحاسيس والمشاعر..
عندما أنظر إلى كل ذلك وغيره، أمتلئ إعجابا بقدرتك الباهرة، وموازينك الدقيقة، وعلومك التي لا حدود لها، ولطفك الذي لا نهاية لجماله.
بعد تلك الرحلة التي أرى فيها كل شيء مستقرا منتظما ممتلئا بالجمال والكمال والعدل، أنزل إلى تلك العوالم التي أذنت لنا فيها ببعض الحركة، حتى نؤدي وظائف الاستخلاف التي امتحنتنا بها، لترفعنا، وتمنحنا من الكمال ما هو متاح لنا.
عندما أنزل إلى هذه العوالم أصاب بالصدمة.. فالحرب والصراع والتنافس على حجارة الأرض ومعادنها وسوائلها وهوائها يقضي على كل شيء جميل، ويجعل الحياة البشرية كابوسا ثقيلا.
وعندما أنظر إلى أولئك الذين يجلسون على عروش السلطة، وأرى فيهم فرعون والنمرود ونيرون وهتلر وترامب.. وكل أولئك المجرمين الذين ملأوا الأرض خرابا ودمارا، أمتلئ بالألم، لأن البشر تركوك، وراحوا إلى أهوائهم يحكمونها من دونك.
ولو أنهم علموا أنك أنت الحكم العدل، كما أنك الخالق الرازق.. لجاءوا إليك يطلبون منك أن تكون الحكم بينهم مثلما كنت الحكم في عوالم الآفاق والحياة والأنفس.
ولو أنهم فعلوا ذلك لوجدوا كرمك الذي تجلى في عالم الخلق، يتجلى في عالم الأمر.. والذي تجلى في عالم الكون يتجلى في عالم التشريع؛ فيستحيل على الذي خلق كل شيء ألا يكون قادرا على تسييره.. ويستحيل على من دبر أمور الحشرات والحيوانات والذرات أن يعجز عن تدبير أمور البشر.
ولو أنهم تخلوا عن كبريائهم، وراحوا يدرسون سيرة الأنبياء والمرسلين.. لعلموا أنهم لم يتحملوا كل تلك التضحيات لمجرد التعريف بك، وبكيفية عبادتك، وإنما جاءوا مع ذلك ليعرفوهم بتلك القوانين التي تحكمهم، والقيم التي تصلح لهم، والتي تحميهم من نفوسهم، ومن تغيير الشياطين لفطرتهم.
ولو أنهم تواضعوا، وراحوا يقرؤون كلماتك المقدسة الممتلئة بالإعجاز، لوجدوا فيها كل ما يبحثون عنه.. فكل شرائع العدالة والرحمة واللطف مبثوثة فيها، بمنطوقها ومفهومها.
لكنهم حجبوا بأولئك الجبابرة الذين حكموا باسمك، وتسلطوا على عبادك بالشريعة التي كذبوا على الخلق حينما أوهموهم أنها شريعتك.
ولو أنهم تواضعوا، وراحوا إلى البيان النبوي الذي أرفقته مع تنزيلك، لعلموا أن رسول الله a أخبر أن السلطان والقرآن سيفترقان.. وأن كل الحكام الذين سيمر عليهم التاريخ لن يحكموا بشريعتك، وإنما سيحكمون بأهوائهم وأسمائهم وعشائرهم.. وإلا فإن أسماءهم وحدها تدل عليها.. فهي أحكام أموية أو عباسية أو عثمانية أو سعودية .. وليست أحكاما إلهية ربانية نبوية.
إلهي .. هم يتوهمون أن أحكامك بينهم قاصرة على تلك الحدود التي شرعتها، أو العقوبات التي سلطتها على المجرمين والخونة والظالمين.. ولم يعلموا أن شريعتك وأحكامك أعمق وأعظم، لأنها تبدأ بتربية النفس وتهذيبها، وتنتهي بذلك المجتمع الفاضل الممتلئ بكل قيم الرحمة واللطف والعدالة.
لقد جربوا أن يقيموا لأنفسهم دولا ودويلات وأنظمة بعيدة عنك، فتحققت لهم بعض مظاهر العدالة، فتوهموا أنه يمكنهم أن يقيموا حياتهم بمعزل عنك، وقد وهموا، فتلك العدالة التي يرونها ليست سوى شباك للشيطان يصطادهم بها.
فبتلك العدالة انتكست أخلاقهم، وظهرت بينهم كل أصناف الشذوذ والإباحية والرذيلة، وتحولوا معها إلى عوالم غريبة، لا هي من عالم الإنسان، ولا هي من عالم الحيوان.. ونجح الشيطان في تغيير خلقتهم وجبلتهم وفطرتهم.
إلهي .. ما حصل لهم ذلك كله إلا بتمردهم عليك، وفرحهم بعلومهم، وتوهمهم أنهم يمكن أن يستغنوا عنك بذلك البصيص من نور العقل الذي وهبتهم.. ولو أنهم استعملوه حق استعماله، لاهتدوا به إليك، ولنالوا من أشعة فضلك ما يحميهم من تلك الظلمات التي أوقعتهم فيها نفوسهم الأمارة، وشياطينهم المتمردة.
إلهي.. فهب لي جميل التسليم لك حتى أكون كنبيك إبراهيم.. ذلك الذي طلبت منه في عالم الرؤيا لا في عالم اليقظة أن يذبح ابنه، فأسرع إلى ذلك، لا يجادلك، ولا يماريك، ولا يعقب عليك.. لأنه يعلم أن رحمتك التي وهبته إياه هي نفسها التي طلبت منه ذلك.
وهب لي ـ إلهي ـ ما وهبته لإسماعيل .. ذلك الفتى الحليم الذي تقبل أمرك، وسلم له، وطلب من أبيه أن ينفذه بكل دقة.. ولم يتهرب، ولم يجادل، ولم يدخل ذلك البصيص الضئيل من العقل الذي يعقل عن الحقيقة.
إلهي.. أعوذ بك أن أتمرد على أوامرك، أو أدخل أهوائي في شرائعك.. فأنت أعلم بمن خلقت، وأنت الحكم العدل، وأنت اللطيف الخبير.
إلهي، وأعوذ بك أن يكون تسليمي لحكمك تسليم المقهورين المجبورين المكرهين، فأنت أكرم من أن تقبل مثل هذا التسليم..
وأسألك بدله أن يكون تسليمي لك ولشريعتك وحاكميتك تسليم المحبين الصادقين المخلصين.
وكيف لا يكون تسليمي لك مثل هذا التسليم.. وكل كياني ساجد لك، خاضع لأمرك..
وهل يمكن أن أكون أدنى همة من ذلك الذي قال لمحبوبته:
لو أرسلتْ، يوماً، بُثينة ُ تبتغي يميني، ولو عزّت عليّ يميني
لأعطيتها ما جاءَ يبغي رسولها، وقلتُ لها بعد اليمين: سليني
إلهي .. وأعوذ بك أن أدخل هواي في شريعتك، أو أقدم عقلي على ذلك العقل المقدس الذي وهبته لنبيك، وأنزلته لنا في كتابك.. فأنت الأعلم والأحكم، وأنت الأدرى أين تضع شريعتك..
فأسألك يا رب أن أكون كذلك الذي قال:
أترك ما أهوى لما قد هويته … فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي
فأسألك يا رب، وأنت الذي تملك نفسي، وتملك رضاها وسخطها، أن تجعلني ـ كما أعبدك بالذكر والسجود والصلاة والقراءة ـ أعبدك في السياسة والاقتصاد والفن والثقافة وكل شؤون الحياة.. فلا خير في شأن تكون أنت بعيدا عنه.
فاجعل يا رب سياستي واقتصادي وفني وكل شؤون حياتي تابعة لمرضاتك، حتى أتحقق بما أمرتنا أن نقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162، 163]