الفصل الثاني: الثورة الإسلامية.. والطاقات البشرية

الفصل الثاني

الثورة الإسلامية.. والطاقات البشرية

الركن الثاني من أركان انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، ومثلها انتصار أي ثورة، توفر الطاقات البشرية التي تنفذ بدقة تعاليم القيادة الحكيمة، لتصل بها في الأخير إلى تحقيق النصر الشامل؛ فبقدر توفر تلك الطاقات، واستعداداتها للتضحية في سبيل تحقيق النصر، بقدر ما تكون النتائج.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الركن عند حديثه عن قصة طالوت، وكيف أن الجماهير هي التي طالبت به.. ولولاه لم يتحقق النصر.. ولولاها لم يكن لطالوت أن يؤدي دوره في تحقيقه، والقصة تشير بذلك إلى تعاون كلا الركنين وانسجامهما، حتى يحققا الغاية الكبرى.

والقصة تشير كذلك إلى تلك الامتحانات التي قام بها طالوت من أجل التحقق من مدى استعداد الجماهير للتضحية في سبيل تحقيق النصر، وعندما وجد الثلة الكافية دخل المعركة، وانتصر فيها.

وهذه القصة تشبه كثيرا قصة الإمام الخميني مع الشعب الإيراني مع فارق بسيط، وهو أن العدد الذي تجاوب مع القائد الحكيم كان أكبر بكثير من تلك الأعداد التي استجابت لطالوت؛ فقد قدم الشعب الإيراني ـ استجابة لوصايا وإرشادات قائده ـ كل غال ونفيس سواء قبل تحقيق النصر على النظام الاستبدادي، أو بعد تحقيق النصر، وأثناء المواجهة مع قوى الاستكبار العالمي.

وقد أشار الإمام الخميني إلى ذلك التجاوب الشعبي للثورة، فقال: (لقد شعرت بالأمل حينما رأيت أن هذه الثورة شملت كافة فئات الشعب وشارك فيها حتى الوليد الصغير الذي ردد الشعارات ومصاصته في فمه.. حينما رأيت أن الأمر لم يقتصر على شريحة اجتماعية واحدة بل شمل كافة الفئات وتخطى ذلك أيضا، شعرت بالأمل لأنني عرفت أن هذا الأمر ليس من طاقة البشر، فمثل هذا الأمر لا يتسنى لقيادة ما أو قوة ذاتية، إنها قضية إلهية، إنها قدرة الله تبارك وتعالى الذي وجه الأمور بالطاقة الخاصة، وجعل كافة فئات الشعب تتكلم بلسان واحد وتتحرك نحو هدف واحد وتردد شعارا واحدا.. لما رأيت كل ذلك شعرت بالأمل)([1])

وربما تكون البداية التي انطلق فيها اختبار الإمام الخميني للشعب الإيراني هي تلك الأيام التي بدأ فيها بنشر بياناته وفتاواه قبل ما يقارب سبع عشر سنة من انتصار الثورة الإسلامية؛ فمنذ ذلك الحين، وطيلة تلك الفترة كانت جماهير الشعب الإيراني تلبي كل ما يطلبه، وتؤديه أحسن أداء، وقد جعله ذلك يصعد من طلباته إلى أن حقق النصر النهائي على الاستبداد، ثم حقق النصر بعده على قوى الاستكبار العالمي.

ولو لم يكن لتلك الجماهير تلك الاستجابة النادرة، أو لم يكن للإمام الخميني ذلك اليقين بقدرات شعبه على التضحية ما استطاع كلاهما تحقيق النصر.

ولهذا نرى أن ما ورد في الرواية عن الإمام الكاظم من النبوءة الغيبية المرتبطة بإيران، ليس له من مصداق تاريخي أقرب مما حصل بين الخميني وشعبه؛ فقد جاء في الرواية: (رجل من قم، يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، لا يملون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين)([2])

ومع أن الرواية ـ كسائر الروايات والأحاديث المرتبطة بالنبوءات ـ لم تذكر اسم الرجل، ولا زمانه، ولكنا ـ من خلال عرضها على التاريخ ـ لا نجد شخصا تنطبق عليه كانطباقها على الإمام الخميني والشعب الإيراني، واللذين أثني على كليهما في الرواية.

ويؤيد هذه الرواية ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]، فقد ورد في تفسيرها في مصادر السنة عن أبي هريرة أنه قال: تلا رسول الله هذه الآية: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ـ أي سلمان الفارسي ـ ثم قال: (هذا وقومه)([3])

والآية واضحة في تهديد الله سبحانه وتعالى للعرب الذين نـزل القرآن الكريم بين ظهرانيهم أنهم في حال توليهم وتخليهم عن الدور المناط بهم، سيتولى ذلك قوم آخرون، وأنهم سيؤدون الأمانة بصدق وإخلاص، وأنهم لن يكون أمثال القوم الأولين الذين شوهوا الرسالة.. وقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أن هؤلاء البدائل هم سلمان وقومه.

ومثل ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجمعة: 3]، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن مصداق هذه الآية منطبق على فارس، قال ابن كثير، وهو حافظ ومفسر من أكثر المدارس الحديثية تشددا مدرسة ابن تيمية: (وقوله: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنـزلت عليه سورة الجمعة: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال ـ أو: رجل ـ من هؤلاء)، ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، به)([4])

ويؤيد هذه الروايات المتفق على صحتها الكثير من الأحاديث الواردة في المصادر السنية، والتي تبين دور الفرس في حركة التاريخ، وأنهم سيحملون مشعل الإصلاح في الأمة، وكأنها تدعو العرب إلى التأسي بهم، وعدم التكبر عليهم، مثلما حصل في الواقع للأسف.

ومن تلك الأحاديث ما رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه [ذكر أصبهان] عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وذكرت عنده فارس ـ فقال: (فارس عصبتنا أهل البيت)([5])

وفي حديث آخر عن أبي هريرة قال: (ذكرت الموالي أو الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (والله لأنا أوثق بهم منكم، أو من بعضكم)([6])

وهذا يدل على اشتهار ذلك في الزمن الأول، حتى أنه روي أن الأشعث جاء إلى الإمام علي؛ فجعل يتخطى الرقاب حتى قرب منه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك، يعني العجم، فركض المنبر برجله حتى قال صعصعة بن صوحان: ما لنا وللأشعث! ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر، فقال الإمام علي: (من عذيري من هؤلاء الضياطرة، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجر قوما للذكر ! أفتأمرني أن أطردهم؟! ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين. أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً)([7])

ولهذا نرى الإمام الخميني يزكي الشعب الإيراني كل حين، ويعتبره السبب في كل ما حصل من انتصارات، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب له في 3 مارس 1979 م، في المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة، وبعد فراق طويل دام أكثر من ستة عشر عاماً، بحضور جمع غفير من الإيرانيين، فقد قال في مقدمة خطابه: (إنني أشكر عواطفكم أيها الشعب الإيراني.. إنني لم أنسكم أيها الشعب المضطهد، وإنني غير قادر على إبداء الشكر لكم، وأطلب من الله تبارك وتعالى الصحة والسعادة لشعب إيران.. فقد أحيا الشعب الإيراني الإسلام بروحه ودمه، وجدد الحياة للإسلام والمسلمين، وأسقط المساعي التي بذلها الاستعمار والأجانب)

ثم أشاد بالتضحيات التي قدموها؛ فقال: (يجب أن أشكر الشعب الإيراني، وأشكركم يا أبناء مدينة قم، إذ في قيامكم خلال السنتين الأخيرتين قضيتم على جميع مخططاتهم (مخططات الاستعمار) وطردتم عملاء الاستعمار من بلادكم، وسوف تطردون ما بقي منهم.. لقد قطعتم يد الاستعمار وقطعتم أيدي المستعمرين والقراصنة العالميين، بذلتم الدماء.. قدمتم الشباب، وكان هذا الدم وهؤلاء الشباب في سبيل الإسلام ولمصلحة الإسلام. وهو أعز من أن نخشى القتل أو استشهاد شبابنا في سبيله.. كان للإسلام شهداء كثيرين. فأمير المؤمنين شهيد الإسلام في سبيل الله، نحن لا نهاب القتل.. نحن لا نهاب الشهادة. أنت أيها الشعب الإيراني، أمَّنت بدمائك وشبابك، وقطعتم أيدي الأجانب فلكم المنة علينا جميعاً.. أنا ممنوناً لكم جميعاً.. أنا خادمكم جميعاً.. أنا لا أستطيع أن أشكر هذه النعمة التي منحنا.. نحن لا نستطيع أن نقدم الشكر للشعب الغيور في جميع أنحاء إيران، لقد مهدتم الطريق إلى هذا الحد)

وكان يشيد بهذا كل حين قبل انتصار الثورة الإسلامية، ومن الأمثلة على ذلك قوله مخاطباً الطلبة الجامعيين في أمريكا وكندا في 17 رمضان 1395هـ: (إن نقطة الوضوح التي تزيدني في أواخر عمري أملاً تتركز في هذا الوعي واليقظة التي تسري في هذا الجيل الشباب، إنها روح سارية بكل سرعتها وهي بحول الله تعالى ستصل إلى نتائجها الحتمية فتقطع أيادي الأجانب وتبسط العدالة الإسلامية)([8])

ومثله ما ورد في بيان أصدره إلى عموم الشعب الإيراني عام 1972م يقول فيه: (إنكم تملكون طاقات شابّة عظيمة تستطيع أن توصل الإسلام والبلاد إلى أوج العظمة والعزة وتقطع أيدي الجناة عن البلاد الإسلامية وبلدكم أنتم، تلك الطاقة التي لو بذلت في طريق الحق لتحوّلت إلى طاقة أبدية واتصلت بالقدرة الإلهية الأبدية… فاستيقظوا وأيقظوا الغافلين.. عودوا أحياء وامنحوا الحياة للأموات، وانطلقوا تحت لواء التوحيد لتطووا ملف الاستعمار بنوعيه الأحمر والأسود)([9])

وهذه العقيدة التي كانت لدى الإمام الخميني في الشعب الإيراني ظلت معه إلى آخر أيام حياته، فقد كتب في وصيته يقول: (إنني أدّعي وبجرأة بأن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في عصرنا الحاضر أفضل من شعب الحجاز الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن شعب الكوفة والعراق المعاصرين لأمير المؤمنين والحسين بن علي، فمسلمو الحجاز لم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخلفوا عن جبهات الحرب بذرائع مختلفة حتى وبخهم الله تعالى بآيات من سورة التوبة وتوعدهم العذاب، وكم رموا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالأكاذيب حتى أنه لعنهم من على المنبر.. أما أهل العراق والكوفة فلكثر ما أساءوا إلى أمير المؤمنين وتمردوا عليه، حتى صارت كتب الأخبار والسير تضج بشكاواه منهم، كذلك فإنهم وقفوا مع سيد الشهداء بين متردد عن الأقدام على الشهادة بين يديه، وبين هارب من المعركة أو قاعد عن القتال حتى وقعت بحقه تلك الجريمة التاريخية النكراء) ([10])

وبعد أن ذكر هذا الواقع المزري الذي عاشه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورثته ذكر التضحيات التي قدمها الشعب الإيراني، فقال: (في حين أننا نرى اليوم أن الشعب الإيراني بكل فئاته ـ بدءاً بالقوى المسلحة النظامية وشبه النظامية وحرس الثورة وقوات التعبئة، مروراً بالقوى الشعبية من العشائر والمتطوعين والقوى المرابطة في جبهات القتال وخلفها ـ يقدمون التضحيات بكل شوق ولهفة ويسطرون أعظم الملاحم، ناهيك عما تقدمه الجماهير الكريمة من معونات قيمة في جميع أنحاء البلاد، وما يُرى من التفاؤل على وجوه المعوقين وذويهم وعوائل الشهداء مما يبعث على الحماس، وما يطلقونه من مقولات وما يفعلونه من أعمال ملؤها الشوق والاطمئنان دافعهم إلى ذلك كله عشقهم وحبهم وإيمانهم المطلق بالله تعالى وبالإسلام والحياة الأبدية، والحال أنهم ليسوا في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المبارك ولا في محضر الإمام المعصوم، ليس لهم من دافع في ذلك سوى الإيمان بالغيب والاطمئنان له، وهذا هو سر التوفيق والنصر في إبعادهما المختلفة)([11])

ونحب أن نعقب على هذه الكلمة التي استعملها المغرضون وسيلة لتشويه الإمام الخميني، بأن ما ذكره لا حرج فيه من الناحية الشرعية، وليس في ذلك أي مساس بالنبوة، ولا قدسيتها، ذلك أن كل الأنبياء أدوا ما عليهم من أدوار، وعدم استجابة أقوامهم لهم، أو تقصيرهم في الاستجابة لا يعود للنبي، وإنما يعود للمقصرين، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)([12])

وقد علق بعض أولئك الذين يتهمون الإمام الخميني بسبب ذلك الخطاب على هذا الحديث بقوله: (فتصور هذا النبي يأتي ومعه رهيط، تصغير لقلة عددهم، فهذا النبي لا ينقصه إخلاص، ولا ينقصه علم، ولا ينقصه تأييد من الله تبارك وتعالى، ولا ينقصه معرفة بوسائل الدعوة، وطرق التأثير في الناس، فهذه الأمور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هم أكمل الناس فيها، ومع ذلك يأتي ومعه الرهيط، ومن هذا نأخذ فائدة مهمة، وهي: أن الهداية بيد الله عز وجل، وأن القلوب بيده، فالأنبياء يأتون إلى أقوامهم فما تفتح تلك القلوب، ليس نقصاً في ذلك النبي، ولا في أسلوبه، وإنما هؤلاء أعماهم الله عز وجل وأذلهم وأخزاهم، فحجبهم عن هذا النور، وعن هذا الهدى)([13])

وهذا التعليق هو أحسن جواب لمن يتهمون الإمام الخميني بالإساءة لجناب النبوة، بسبب إشادته بالشعب الإيراني، وعتابه لأولئك المقصرين في حق النبوة، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أشاد بأمته من بعده، وبين فضلها، وفضل إيمانها بالغيب.

وهكذا نرى الإمام الخامنئي يذكر هذا الركن من أركان الانتصار، ويعتبر إيمان الإمام الخميني بقدرات الشعب الإيراني، واستثماره لها هي السبب في تحقق النصر، وذلك عند حديثه عن المبادئ التي استطاع بها الإمام الخميني أن يقود الثورة الإسلامية نحو النصر، حيث قال في كلمة له في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني، في 4 نيسان 2015: (المبدأ والأصل الثالث هو الإيمان بإرادة الناس وقوتهم ورفض المركزية الحكومية، وهذا يمثل أحد الخطوط الرئيسية لحركة الإمام. فقد كانت ثمة محاولات، في تلك الأيام، نابعة عن رؤية خاطئة لإيكال جميع الأنشطة الاقتصادية في البلد إلى الحكومة، ولطالما كان الإمام يحذّر من ذلك ـ وقد انعكست هذه التحذيرات في كلماته بشكل جليّ ـ فكان يوصي بإيكال الأمور إلى الناس، حيث كان يثق بالشعب في القضايا الاقتصادية ويثق به في المسائل العسكرية)([14])

وهكذا ذكر استثماره لطاقة الجيش، وعدم تفكيكه له مثلما فعلت بعض الثورات، بل إنه استعمل كل الوسائل لتحويله إلى سند للثورة، ودعامة من دعامات نصرها، فقد قال: (على الجميع أن يلتفت إلى أنّ الإمام كان داعمًا للجيش منذ البداية، وهو الذي حال دون حلّ الجيش وتفكّكه، ولكن رغم ذلك أسّس قوّات الحرس الثوري، ومن بعدها شكّل التعبئة، وحوّل الحركة العسكرية إلى حركة جماهيرية)([15])

وهكذا ذكر استثماره للطاقات الشعبية في جهاد البناء، فقال: (استند الإمام الخميني إلى الناس في القضايا الاقتصادية، وفي الشؤون العسكرية، وفي المسائل العمرانية حيث أسس جهاد البناء على ضوء ذلك، وكذلك في الأمور الإعلامية) ([16])

وذكر كيف كان الإمام الخميني يهتم بأصوات الشعب ومطالبه، وفي أحلك الظروف، مع كونه كان مستغنيا عنها بسبب الثقة التي أعطيت له؛ فقال: (وفوق كل ذلك في مجال الانتخابات وأصوات الناس وإسهامهم في إدارة البلد وهيكلية نظامه السياسي.. فطوال تلك الأعوام العشرة من قيادة الإمام الخميني التي انقضت ثمانية أعوام منها في الحرب المفروضة، وفي قصف المدن والانشغال بقضايا الحرب، أجريت حوالي عشرة انتخابات مختلفة في البلد، ولم يتغير موعد إجراء أي واحدة منها حتى ليوم واحد! حيث كان الإمام الخميني الكبير يصرّ على إقامة الانتخابات في وقتها المقرر، وفي كل المراحل والأوضاع والظروف. ولم يعلن الإمام حالة الطوارئ في أي يوم؛ الأمر الذي اعتادت عليه بعض البلدان، لأنه كان يهتم بالانتخابات، وكان من أوائل الحاضرين عند صناديق الاقتراع، كان الإمام يؤمن بالناس، ويحترم أصواتهم وأفكارهم وآراءهم وتشخيصهم بكل ما للكلمة من معنى، حتى أنه قد لا تتطابق أصوات الناس مع رأي الإمام أحيانًا، إلّا أنّه كان يحترم أصوات الشعب ويُجلّها ويُقيم لها وزنًا) ([17])

وذكر نظرته الممتلئة بالتواضع لهم، فقال: (ولم يكتف بذلك في شأن الناس أيضًا، بل عرّفهم بأنهم أولياء نعمة المسؤولين، ولطالما أكّد أن أبناء الشعب أولياء نعمتنا، وأحيانًا كان يصف نفسه بأنه خادم للشعب قائلًا: أن تسمّوني خادم الشعب أحبّ إلي من أن تسمّوني قائده، وهذه كلمة كبيرة، وهي تدل على المكانة المرموقة للشعب وأفكاره وأصواته ومشاركته في رؤية الإمام. وقد لبّى الشعب نداء قائده خير تلبية، فنـزل الناس إلى الساحات، وتفانوا في الإيثار بالروح والقلب في الميادين التي أشار إليها الإمام. وهذا أمرٌ متبادل، حيث كان الإمام يثق بالناس، والناس تثق به أيضًا، كان الإمام يحب الناس، والناس يحبونه، هذه العلاقة المتبادلة هي أمر طبيعي) ([18])

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل بيان كيفية استثمار قادة الثورة الإسلامية الإيرانية للطاقات الشعبية في تحقيق النصر في جميع مستوياته، ابتداء من الجهاد ضد الطغاة والمستبدين، وانتهاء بجهاد البناء وتأسيس الجمهورية الإسلامية بصيغتها التي تجمع بين المثالية والواقعية.

وقد رأينا أنه يمكن تقسيم ذلك إلى نوعين كبيرين من الاستثمار هما:

1 ـ الطاقات الشعبية وإشراكها في الثورة والبناء.

2 ـ الطاقات النخبوية وإشراكها في القيادة والتوجيه.

وهما بعدان مهمان جدا يدلان على مدى وعي الإمام الخميني بالواقع، وكيفية تحريكه، ذلك أن الكثير من الثورات، وخاصة تلك التي يغلب عليها طابع الجماهيرية، أو يغلب على قادتها طبيعة الاستبداد، يرفضون وجود أي نخبة، بل يقمعونها، بخلاف الثورة الإسلامية التي جمعت بين الجماهيرية والنخبوية، حيث أعطت لكل منهما مجاله الخاص به، تنفيذا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أَنـزلوا النَّاس منازلهم)([19])

أولا ـ الطاقات الشعبية وإشراكها في الثورة والبناء:

من الأسس المهمة التي قامت عليها الثورة الإسلامية الإيرانية عدم استبداد قادته بالأمر، مثلما فعلت الكثير من الثورات بعد الانتصار، أو قبله؛ فالإمام الخميني والخامنئي ـ ومن خلال قيادتهما للثورة الإسلامية ـ يعتبران نفسيهما مجرد خادمين للشعب؛ فلذلك يوضحان بتفصيل شديد كل قضية يريدان طرحها على الشعب، ولا يكتفيان بذلك، بل يسمعان لما يقترحه، وينـزلان أحيانا كثيرة عند رغبته.

ولهذا نرى الخطب والبيانات والحوارات الكثيرة لهما، بخلاف غيرهما من القادة، ولهذا نستغرب من الذين يحاولون فهم الثورة الإسلامية الإيرانية بعيدا عن قادتها مع العلم أنهم أولى بمن يتحدث عنها.

وهذا البعد هو الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]؛ فالآية الكريمة تخبر أن سر نجاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تأليف قلوب أصحابه، هو رحمته بهم، ومشورته لهم على الرغم من استغنائه عن تلك المشورة.

ولهذا نرى الإمام الخميني كل حين يدعو الشعب إلى اعتبار نفسه المسؤول الأول في البلاد، وقد قال في خطاب الانتصار الذي أشرنا إليه في مقدمة الفصل: (لا تنتظروا من الحكومة أن تعمِّر كل شيء، الحكومة لوحدها غير قادرة على ذلك، لا تنتظروا من رجال الدين أن يعمروا الخراب، رجال الدين لوحدهم لا يستطيعون البناء، يجب أن يساعد الواحد منا الآخر، من الفلاح والعامل والصانع والعالِم، رجل الدين والجامعي، حتى الموظف والعسكري)([20])

ثم بين لهم أن جهودهم التي بذلوها في الثورة لتحقيق الانتصار لا تكفي وحدها، بل عليهم مواصلة الجهد لتحقيق الدولة القوية، يقول: (الثورة الآن في وسط الطريق.. لقد طردتم اللصوص فقط (من بلادكم).. طردتم المفسدين، لكن الخرائب لا زالت باقية.. المهم أن هذه الخرائب التي تركوها لنا، نعمرها من جديد بالاستعانة بهممكم العظيمة وعزائمكم الراسخة.. انتبهوا.. كونوا على حذر.. المفسدون قد نصبوا لكم المكامن، الأجانب مترصدون لكم. إنهم لن يغفلوا عنكم، وعليكم أن لا تغفلوا عنهم، إنهم يرسمون لكم الخطط بطرق وأشكال مختلفة. بعد أن سقط النظام الشاهنشاهي المنحط، يريدون أن يعودوا ولكن بشكل آخر)([21])

وفي خطاب آخر له بتاريخ 28 محرم 1402 هـ بمناسبة الذكري السنوية لتأسيس قوات تعبئة المستضعفين (البسيج) دعا المؤسسات جميعا إلى التعاون مع الشعب لمواجهة كل المؤامرات، فقال: (على أبناء الشعب الكريم أن يتعاونوا لحل مشاكل البلاد الغالية، وألّا يدخروا جهداً لتحقيق أهداف الإسلام العظيم وأن يسعي كل مجموعة أو فريق في أي منتسب كانوا لبلوغ هذا الهدف الإسلامي السامي لأن القوى الجهنمية الكبرى تسعي من كل ناحية إلى هزيمة الجمهورية الإسلامية التي قطعت أيدي هذه القوى من نهب أموال هذا الشعب المظلوم.. على أعضاء المجلس أن يسرعوا بعد التحقيق والتدقيق ومراعاة الموازين الإسلامية وأن يستشيروا المتخصصين في الحالات التي تحتاج إلى رأيهم، وعلى مجلس صيانة الدستور أن يبدي الرأي بعد الأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب في إشرافه على القوانين التي يتم التصديق عليها سواء تلك التي تمس الأحكام الشرعية الأولية أو تلك التي تمس الأحكام الثانوية، وعلى المسؤولين في الحكومة أن يسرعوا في تنفيذ هذه القوانين وأن يشددوا في أمر عدم تجاوز حدود هذه القوانين وأن يسلموا المعتدين على القانون من أي صنف أو مجموعة كانوا إلى المحاكم ليواجهوا عقابهم وعلى مجلس القضاء أن يحل مشكلة القضاء في هذا العمل الشاق المضنى القيم بكل سرعة وأن يستدعي المعتدين على الموازين الإسلامية إلى المحاكم ويعاقبهم عقاباً شرعياً)([22])

ثم بين كيفية قيامهم بتحقيق تلك الأدوار، فقال: (على المقاتلين والقوات العسكرية المسلحة والمدنيين واللجان والقوات الشعبية من العشائر وسائر الشرائح أن تتعاون فيما بينها وأن تستعين بالاستخبارات الشعبية المليونية لتحقيق أهداف الحرب ومنع شرور المنافقين والمنحرفين وألا تدخر وسعاً في ذلك. وعلى جهاد البناء ومؤسسة المستضعفين ومؤسسة شؤون منكوبي الحرب والمشردين أن تزيد من جهودها البنّاءة. وعلى قوات تعبئة المستضعفين (البسيج) التي أبارك ذكرى تأسيسها للشعب الإيراني وللشباب الملتزمين المؤمنين أن تزيد من جهودها في تعليم الشباب والناشئة وتربيتهم، وعلى الكتاب والمثقفين الملتزمين ووسائل الإعلام أن يوسعوا من نشاطهم الإعلامي ويبطلوا الدعايات الواسعة التي يمارسها أعداء الجمهورية الإسلامية، وعلى مجلس الثورة الثقافية أن يسعي إلى فتح الجامعات لاستمرار عملها بالاستعانة بالمستضعفين والعلماء وعلى العلماء أن يلبّوا دعوة هذا المجلس في هذا الأمر الحيوي وعلى الشعب الإيراني الذي حقق هذه الثورة أن يتعاون مع مسؤولي الأمور في المشاكل الحربية والعسكرية والاقتصادية والثقافية) ([23])

وهكذا أشار الإمام الخامنئي إلى ما قام به الإمام الخميني في هذا الجانب، فقال ـ عند بيانه للأصول التي استعملها الإمام الخميني للسير بالإيرانيين نحو الانتصار ـ: (الأصل الرابع في البُعد الداخلي هو دفاع الإمام ونصرته ودعمه للمحرومين والمستضعفين، حيث كان يرفض التمييز والفروقات الاقتصادية رفضًا باتًا، ويواجه النـزعة الأرستقراطية بمرارة، وكان مناصرًا حقيقيًا للعدالة الاجتماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولعل الدفاع عن المستضعفين من أكثر المواضيع التي تناولها الإمام في كلماته، وهو من الخطوط البيّنة في رؤية الإمام، ومن الأصول المسلمة، حيث يدعو الجميع إلى العمل وبذل الجهد لاستئصال الفقر، والسعي في مساعدة المحرومين لإنهاء حالة الحرمان، ومساندة المحرومين بكل وسعهم، وكان من جانب آخر يحذّر المسؤولين من التخلق بأخلاق أهل القصور والذي وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم أيضًا: ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [إبراهيم: 45]، وكان يؤكد مرارًا على الاعتماد والثقة بوفاء الطبقات الضعيفة، ويكرّر القول بأن سكّان الأكواخ والفقراء والمحرومين هم الذين ملأوا الساحات رغم حرمانهم دون اعتراض، وهم الذين يحضرون في ميادين الخطر، بينما الطبقات المترفة هي أكثر من تبدي استياءها وتبرّمها حين تقع الحوادث وتظهر المشاكل في كثير من الأحيان.. لقد برزت قضية وفاء الطبقات المتوسطة والمحرومة من أبناء الشعب في رؤية الإمام وكان دومًا يؤكد عليها، كما وكان يشدّد على استخدام بيت المال بشكل صحيح، وتجنّب الإسراف، وهذه بدورها واحدة من الخطوط الأساسية المتمثلة بالعدالة الاجتماعية ومناصرة المحرومين والابتعاد عن النـزعة الأرستقراطية والنـزوع إلى البذخ والكماليات والعمل في هذا الاتجاه) ([24])

بناء على هذا، سنذكر هنا بعض النماذج عن استثمار قادة الثورة الإسلامية للطاقات الشعبية المختلفة في تحقيق الانتصار أو في الحفاظ عليه.

1 ـ إشراك جميع الشعب في تحريك الثورة:

من أهم ميزات الثورة الإيرانية أنها ثورة شعبية بامتياز، ذلك أن المشاركين فيها لم يكونوا طرفا واحدا من أطراف الشعب، وإنما كانوا جميع الشعب، وبجميع شرائحه وطبقاته، ولذلك يرى من يشاهد الأشرطة الوثائقية التي تصور الثورة الإسلامية الحضور من كل الأصناف نساء ورجالا.. شبابا وكهولا وشيوخا.. ومن كل المستويات الاجتماعية من الفقراء والأغنياء، والمتعلمين وغيرهم..

وهكذا شارك الجميع بعد الثورة في كل القرارات المتخذة عبر الانتخابات الكثيرة التي دعا إليها قادة الجمهورية الإسلامية، وفي أحلك الظروف، وكان المرشحون فيها من أفراد الشعب البسطاء، والذين وصلوا إلى كل المؤسسات من دون أن يحول بينهم وبينها أي حائل.

وبما أنا اعتمدنا في هذا الكتاب خصوصا على شهادتي إمامي الثورة الإسلامية الإيرانية، باعتبارهما الموجهين والمرشدين والمحركين لكل الأحداث؛ فسنذكر هنا ما ذكراه حول مشاركة الفئات الاجتماعية المختلفة.

أ ـ مشاركة المرأة في الثورة الإسلامية:

عند مطالعة خطب قادة الثورة الإسلامية الإيرانية أو بياناتهم المختلفة، نجد شهادات كثيرة على الدور العظيم الذي قامت به المرأة، إلى درجة اعتبارها ركنا من أركان الثورة، وأنه لم تكن الثورة لتنجح من دونها، بل إن الإمام الخميني يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول: (لو جردوا الأمم من النساء الشجاعات والمربيات للإنسان فسوف تهزم هذه الأمم وتؤول إلى الانحطاط)([25])

ولذلك وضع لها يوما خاصا بها، وبتكريمها، وهو يوم ولادة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال مبينا سر هذا الاختيار: (مبارك للشعب الإيراني العظيم، وخصوصاً النساء المحترمات، يوم المرأة المبارك، اليوم المجيد لتلك الجوهرة اللامعة التي كانت على الأساس للفضائل الإنسانية والقيم العالية لخلافة الله في العالم)([26])

وفي خطبة له بتلك المناسبة في سنة الانتصار بتاريخ 20 جمادى الثانية 1399 هـ قال مخاطبا النساء:(يوم عظيم واجتماع كبير ومحل مبارك، يوم ولادة الزهراء المرضية، يوم المرأة. يوم انتصار المرأة، ويوم المرأة القدوة في العالم.. إن للمرأة دوراً كبيراً في المجتمع. المرأة هي مظهر تحقق آمال البشر، المرأة تربي جمعاً غفيراً من النساء والرجال العظماء.. يوم عظيم، اليوم ولادة امرأة تعدل جميع الرجال، امرأة نموذج للإنسان، امرأة تجلت فيها كل الحقيقة الإنسانية. إذا اليوم يوم عظيم. أنه يومكن أيتها النساء)([27])

ثم ذكر الأدوار الثورية للمرأة الإيرانية، فقال: (لقد أثبتت النساء في عصرنا أنهن تعدلن الرجال في الجهاد بل متقدمات عليهم.. إن نساء إيران جاهدن جهاداً إنسانياً عظيماً، وكذلك جاهدن‏ جهاداً مالياً كبيراً.. إن هذه الطبقة المحترمة من النساء من أبناء جنوب طهران ومدينة قم وبقية المدن، هذه السيدات المحجبات، هذه المؤمنات اللاتي يمثلن مظهر العفاف، كنّ سابقات في النهضة في الإيثار بالمال أيضاً.. لقد آثرن المستضعفين بمجوهراتهن وحليّهن)([28])

ولم تقتصر مشاركتهن على ذلك، بل يذكر الإمام الخميني أن (مشاركتهن في النهضة أعظم من قيمة أعمال الرجال، لقد خرجن بجلابيب العفاف، واتحدت أصواتهن مع الرجال وحققن النصر، وقدّمن الآن للمستضعفين وبنية خالصة ما ادخرنه في أيام عمرهن.. إن لهذا قيمة، إن الأغنياء لو دفعوا الملايين لما كانت قيمتها كهذه) ([29])

وقال في خطاب آخر في نفس المناسبة ـ ردا على أولئك الذين يتصورون أن المرأة التي قامت بالثورة هي المرأة المتحررة من القيم، لا الملتزمة بها ـ: (لقد رأينا أن العضو الفعّال الذي يمكنه العمل، والذي عمل لهذه الثورة وخدمها، هو أنتن [يقصد النساء الملتزمات].. أنتن اللاتي نـزلتن إلى الشوارع بهذا الوضع الذي أنتن عليه الآن وسرتن بالثورة قدماً.. أما اللاتي تربين على ثقافة النظام المباد، وساهمن في هذه الثورة، فهن اللاتي كان لهن وضع يشبه وضعكن. أما البقية اللواتي تمت تربيتهن بذلك الشكل فلم يكن لهن اهتمام بهذه المسائل. كما أن بعض الرجال أيضاً لم يكن لهم دور أبدا في هذه الثورة. وقد جاءوا الآن للاستيلاء على الغنائم. الآن وقد قامت هذه الطبقة المستضعفة، الطبقة التي يعتبرها الآخرون ضعيفة وقد كانت قوية بحمد الله، الطبقة التي يسميها هؤلاء بالطبقة الثالثة ـ وفي حقيقتها هي الطبقة الأولى وهم الطبقة الثالثة لجهنم بل السابعة ـ قامت هذه الطبقة بالعمل من أجل خدمة البلد، وحطمت السد الكبير وفتحت الطريق. فتدفق الآن السادة من أمريكا وأروبا إلى هنا للاستحواذ على الغنائم. بعض النساء اللاتي لم يكن لهن دور أصلًا في هذه الأحداث أتين الآن لجني الثمار.. أما أنتن فلا يوجد لديكن أية توقعات، حفظكن الله ومنّ عليكن بالسعادة، لقد كنتن خدم الإسلام، وكذلك الآن ولم تطالبن بشيء. لقد قمتن بالخدمة، وستقمن بها في المستقبل)([30])

وقال ردا على المغرضين الذين يتصورون أن وضع المرأة الإيرانية في عهد الشاه كان أفضل منه بعد انتصار الثورة: (إن المرأة قد ظلمت في مرحلتين، الأولى في الجاهلية، فالمرأة كانت في الجاهلية مظلومة، وقد منّ الإسلام على الإنسان بأن أنقذ المرأة من تلك المظلومية التي كانت تحت وطأتها.. والمرحلة الثانية لظلم المرأة كانت في إيران في عهد الشاه الأب والشاه الابن، حيث ظلمت المرأة تحت شعار تحرير المرأة.. لقد أسقطوا المرأة من المقام العزيز والشريف الذي كان لها، أسقطوها من ذلك المقام المعنوي وجعلوها سلعة من جملة السلع، وباسم الحرية، حرية النساء وحرية الرجال، سلبوا الحرية من الرجل والمرأة.. لقد أفسدوا أخلاق نساءنا وشبابنا.. لقد كان الشاه يرى بضرورة أن تحتل المرأة مكانها كـ (ساحرة).. طبعاً كان ينظر للمرأة بتلك العين الحيوانية التي كانت له، بتلك النظرة المادية الوضيعة، يجب أن تكون ساحرة.. لقد أسقط المرأة من مقام الإنسانية إلى مرتبة حيوان، لقد أنـزل المرأة من مقامها بحجة أنه يريد إعطاء مقام لها.. لقد جعل من المرأة دمية في حين أن المرأة إنسان، بل إنسان عظيم، المرأة مربيّة للمجتمع.. المرأة مربيّة للإنسان.. سعادة وشقاء الدول رهن وجود المرأة، فالمرأة بتربيتها الصحيحة تصنع الإنسان، وبتربيتها الصحيحة تحيي المجتمع.. والمرأة يجب أن تكون مبدأ جميع السعادات)([31])

ثم ذكر دور المرأة الملتزمة في الثورة والتحرير والنصر، فقال: (لقد شاهدتم وشاهدنا نحن ماذا صنعت المرأة في هذه الثورة. لقد شاهد التاريخ أية نساء كُنَّ في الدنيا، ومن هي المرأة.. وقد رأينا أية نساء ربّاهنَّ الإسلام، أية نساء ثرن في هذا العصر، إن اللاتي نهضن وساهمن في الثورة هن النساء المحجبات في جنوب المدينة وفي قم وبقية المناطق.. أما اللاتي نشأن في ظل الثقافة الشاهنشاهية، فلم يكن لهن دور أبدا في هذه النهضة، لقد تم تربيتهن تربية فاسدة وأبعدوهن عن التربية الإسلامية، وأما اللاتي تربين بتربية إسلامية فهنّ اللاتي قدّمْنَ الدماء، قدّمن القتلى، تدفقن إلى الشوارع، وحققن النصر للثورة.. إننا نعتبر نهضتنا مدينة للنساء.. كان الرجال ينـزلون إلى الشوارع تبعاً للنساء.. كانت النساء تشجع الرجال، كانت النساء في الصفوف الإمامية.. المرأة موجود بهذا المستوى تستطيع أن تحطم قوة شيطانية)([32])..

وهكذا نرى الإمام الخامنئي يشهد للمرأة بمشاركتها الفعالة في الثورة، وكونها سببا كبيرا من أسباب انتصارها، وأنها لها الحق لذلك في أن تنال جميع حقوقها التي طالبت بها، ومن تلك الخطابات قوله: (لقد باتت المرأة الإيرانية تخطو في مسار مميّز ببركة الثورة الإسلامية.. المرأة الإيرانية قادرة اليوم على الدخول في ميدان العلم وقطع أشواط في الحقول العلميّة مع حفاظها على دين، عفّة، تقوى، وقار، رصانة، شخصية وحرمة المرأة المسلمة أيضاً. كما أنّ المرأة باتت قادرة أيضاً على الدخول في ميدان العلوم والمعارف الدينيّة دون أن يقف بوجهها أيّ حاجز.. المرأة في بلادنا قادرة اليوم على إبراز شخصيّتها مع حفاظها على رصانتها ووقارها وحجابها الإسلامي في ميدان السياسة والفعاليات السياسية والاجتماعية والجهادية ومدّ يد العون للشعب والثورة والمشاركة في مختلف الساحات)([33])

ثم قارن بين وضع المرأة بعد الثورة الإسلامية، وقبلها، فقال: (في النّظام السّابق، مع كون كثير من النساء أميّات ولا يدركن شيئاً من القضايا الاجتماعية ـ أي أنّهم لم يكونوا ليسمحوا لهنّ بالتعرّف على أيّ شيء ـ وقد كنّ أيضاً لا يبالين بمصير البلاد ولم يكنّ يدركن أبداً أنّ المرأة يمكن لها أن يكون لها تأثير على مصير البلاد، مع وجود هذه الأمور من حيث الظاهر، كنّ شبه أوروبيّات وفي بعض الأحيان كنّ تخطّين حالة النساء الغربيّات والأوروبيّات وكان من يراهنّ يظنّ أنّ هذه المرأة قد قدمت من بلد أوروبي ومن بيئة غربيّة إلى إيران؛ لكن عندما كنت تحدّثها قليلاً، كنت ترى أنّها امرأة غير مثقّفة أو تملك مستوى متدنّياً من الثقافة، كانوا يجبرون المرأة على صناعة شخصيّة وهميّة لنفسها من خلال إبراز نفسها وجذب العيون نحوها. لقد كان هذا انحطاطاً للمرأة ولم يكن تقدّماً. هل تمّ ارتكاب جريمة أعظم من هذه بحقّ المرأة بأن يقوموا بإشغال فكرها بالزينة والموضة والتفاخر والملابس والذهب ويجعلوا منها وسيلة يُستفاد منها في بلوغ العديد من الغايات وأن لا يسمحوا لها بدخول ميدان السياسة والأخلاق والتربية؟ هذا ما كان يتمّ تنفيذه في النظام السابق بدقّة وتخطيط) ([34])

أما بعد الثورة الإسلامية، فقد تغير الوضع تماما ـ كما يذكر الإمام الخامنئي ـ حيث (جاءت الثورة وغيّرت نمط تعامل النساء وتوجّهات نساء بلادنا مئة وثمانين درجة؛ أي تمّت إدارة الظهر لتلك التوجهات والسير في اتجاه النور والنموّ والإدراك العلمي والأخلاقي والسياسي والمشاركة في الساحات وتنمية الشخصيّات البشرية وإفادة المجتمع بالمعنى الحقيقي للكلمة) ([35])

ب ـ مشاركة المستضعفين في الثورة الإسلامية:

من أهم الأوصاف التي أطلقت على الثورة الإسلامية الإيرانية وأدقها كونها ثورة المستضعفين المحرومين، في مواجهة المستبدين المستكبرين، ولا يزال هذا الوصف قائما على الرغم من مرور أربعين سنة على انتصار الثورة، وعلى الرغم من سقوط الشاه، ذلك أن الاستكبار العالمي لا يزال يستعمل كل وسائل المواجهة والحرب.

بالإضافة إلى أن مصطلح [المستضعفين] عند قادة الثورة الإسلامية يتجاوز الإيرانيين، بل يتعداهم إلى جميع مستضعفي العالم، ولذلك اعتبرت الثورة الإسلامية الإيرانية ثورة عالمية، وليست خاصة بدولة دون دولة، ولا بشعب دون شعب.

ولذلك نرى الإمام الخميني يخاطب مستضعفي العالم جميعا، بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم، ليأمرهم بالالتحاق بركب الثورة، ومواجهة الاستبداد والاستكبار، وهو ما أطلق عليه [تصدير الثورة]، وهو لا يعني ذلك المفهوم الذي أراده المغرضون، وإنما يعني دعوة شعوب العالم إلى التحرر من الاستكبار والهيمنة، وخاصة الهيمنة الأمريكية التي أطلق عليها قادة الثورة الإسلامية [الشيطان الأكبر]

وعند مطالعة خطب وبيانات وكتابات قادة الثورة الإسلامية نجد اهتماما كبيرا بهذه الفئة، واعتبارها المحرك الأعظم للثورة، ولذلك لها الحق في كل غنائمها، كما عبر عن ذلك الإمام الخميني بقوله في التحذير من إقصاء المستضعفين، وتقريب الانتهازيين الذين لم يشاركوا في الثورة: (إن أول من له حق على هذا الشعب هو هذه الفئة التي تجلس هنا، وتلك الطبقة التي يمثلها هؤلاء من نساء مشهد المحترمات وسائر نساء إيران. وفي الرجال أيضاً فإن طبقة العمال والفلاحين وصغار الكسبة والجامعيين المحرومين، الفئات المحرومين من طبقات المجتمع، هؤلاء هم الذين دعموا هذه الثورة. والآن أيضاً فإن توقعات هؤلاء ليست كثيرة كتوقعات أولئك)([36])

ثم قال مخاطبا المسؤولين في الجمهورية الإسلامية: (علينا العمل من أجل طبقة العمال والموظفين، هذه الطبقة الضعيفة، الطبقة التي تعتبرونها أنتم أدنى مع أنها أعلى منكم جميعاً، وأفضل مقاماً، يجب على الحكومة العمل من أجلها) ([37])

ثم خاطب أولئك الانتهازيين الذين يريدون أن يصلوا إلى السلطة على ظهور المستضعفين: (أنتم الذين تملكون الآلاف المؤلفة ولديكم الأموال في البنوك، وتملكون الشركات وأنواع التجارات.. ماذا تقولون وماذا تريدون؟ إن هؤلاء الذين لا يملكون شيئاً هم الذين ساهموا في هذه الأحداث.. لقد شاهدت التلفزيون في ذلك اليوم حينما كان يعرض الناس الذين يسكنون الحفر في طهران. وعندما سئل أحدهم ماذا تفعلون هنا. قال: عندما يصبح الصباح نذهب مع أطفالنا إلى المظاهرات.. هذا المسكين الذي يسكن في الحفر كان يخرج في المظاهرات وساعد في انتصار الثورة.. فعلى الحكومة أن تعمل من أجل سكان الحفر هؤلاء.. أما أنتم فقد كنتم تجلسون جانباً، وأتيتم الآن تريدون تحصيل المكاسب! فليذهب هؤلاء الانتهازيون وشأنهم! حفظ الله تعالى هذه الطبقة)([38])

وفي خطاب آخر له ذكر دور المستضعفين في الثورات، وبعد المترفين عنها، فقال: (لقد أدرك أبناء شعبنا العزيز، الصادقون والمدافعون الحقيقيون عن القيم الإسلامية، بأن النضال لا يجتمع مع طلب الرخاء والدعة، وان أولئك الذين يتصورون عدم تعارض النضال من أجل استقلال وحرية المستضعفين والمحرومين، مع الرأسمالية وطلب الرخاء؛ إنما يجهلون أبجدية النضال.. إن هؤلاء الذين يتصورون إمكانية إصلاح الرأسماليين والمرفهين الذين يجهلون معنى الألم، بالنصيحة والموعظة والإرشاد وانضمامهم لصفوف المناضلين من أجل الحرية، أو تقديم العون لهم، إنما هم كمن يهرس الماء في الهاون.. إن كل من النضال والرخاء، الثورة وطلب الدعة، طلب الدنيا والبحث عن الآخرة، مقولتان لا تجتمعان مطلقاً. إن الذين يقفون معنا إلى النهاية هم الذين تجرعوا مرارة الفقر والحرمان والاستضعاف فقط. فالذين يفجرون الثورات ويعتبرون من حماتها الحقيقيين هم الفقراء المؤمنون المحرومون‏)([39])

وفي خطاب آخر له عقب انتصار الثورة الإسلامية، بتاريخ 28 جمادى الثانية 1399 هـ وضح مفهومي (المستضعف) و(المستكبر)، فقال: ([المستكبرون] لا ينحصرون بالسلاطين، ولا ينحصرون برؤساء الدول، ولا ينحصرون بالحكومات الظالمة، بل للمستكبرين معنى أعم من ذلك وأحد مصاديقه هم الأجانب حيث يستضعفون الشعوب ويتعدون عليها ويظلمونها. ومن مصاديقه أيضاً هذه الحكومات الجائرة والملوك الظلمة الذين يستضعفون شعوبهم ويظلمونها. وكنتم مبتلين بذلك على مدى أكثر من خمسين عاماً وكنا نحن مبتلين أيضاً وجميع الشعب كان مبتلياً بذلك. لقد استضعفوا الشعب فكانوا ينظرون إليه من منظار الاستكبار ويتعدون عليه ويظلمونه. لقد ذهبوا ولن يعودوا أن شاء الله. اليوم يوم قد منَّ الله تبارك وتعالى به علينا بالحرية والاستقلال، أنه يختبرنا بهذه الحرية والاستقلال. لقد منَّ علينا بالحرية لِيَر ماذا سنفعل بهذه الحرية، ومنَّ علينا بالاستقلال لينظر ما سنفعله بالاستقلال. هل سنكون من المستكبرين أيضاً أم من المستضعفين؟ كل فرد يمكن أن يكون مستكبراً ويمكن أن يكون مستضعفاً. فإذا تعديت على الذين تحت يدي حتى ولو كانوا بضعة أشخاص وظلمتهم، واستصغرتهم، استصغرت عباد الله، أكون مستكبراً ويكونوا مستضعفين. وأكون مشمولًا للمعنى الذي يتضمنه المستكبرون والمستضعفون. إنكم إذا استضعفتم الذين تحت سلطتكم وتعديتم عليهم لا سمح الله وظلمتموهم تصبحون مستكبرين أيضاً ويكون الذين تحت سلطتكم مستضعفين. فلا بد أن نرى كيف سنخرج من هذا الامتحان، كيف سنخرج من بوتقة هذا الاختبار؟ هل سنخرج مرفوعي الرؤوس أم منكسي الرؤوس؟ هل سنتعامل مع عباد الله بالشكل الذي أمرنا الله تبارك وتعالى به؟ الآن وقد أصبحنا أحراراً، فهل سنتخذ الحرية وسيلة لخدمة الخالق والمخلوق، أم نجعلها وسيلة لمخالفة الله والاستكبار على الناس؟)([40])

وهذا التوضيح، وفي ذلك الوقت بالذات مهم جدا، لأنه يحفظ الثورة من أن تصبح وسيلة للأحقاد والأمراض، ذلك أن المستضعفين في الكثير من الثورات، يتحولون بسبب الانتصار إلى مستكبرين جدد، يمارسون نفس ما يمارسه المستكبرون الذين قضوا عليهم.

ولهذا اعتبر الإمام الخميني الانتصار امتحانا للتواضع، فقال: (لا يوجد أي فرق بيني أنا طالب العلوم الدينية وهؤلاء السادة أهل العلم وأنتم أبناء العشائر المحترمة والكسبة والعسكريين والإداريين والآخرين. إننا جميعاً مراقَبون الآن. مراقبة شديدة. أنه امتحان إلهي. أن النعم تكون أحياناً وسيلة للاختبار ليعمل الفاسدون الانتهازيّون عملهم ويستحقوا بذلك العذاب، ويعمل الشرفاء أيضاً أعمالهم الشريفة ويقوموا بخدمة أبناء وطنهم ليستحقوا السعادة.. إنه أمر صعب جداً أن ننجح في هذا الامتحان الذي وضعنا الله تبارك وتعالى فيه.. إن الأمر يحتاج إلى مراقبة شديدة لئلا نخرج من الامتحان لا سمح الله بنتائج سيئة.. إننا إذا خرجنا من الامتحان بنتائج سيئة فمن الممكن أن ترتفع عنا رعاية الله فنفقد الحرية ويُسلب منا الاستقلال.. إننا إذا عملنا بخلاف الموازين الإلهية واتخذنا هذه الحرية وسيلة للتعدي على المظلومين، فمن الممكن أن نعاقَب في هذه الدنيا.. وآمل أن نجازى في هذه الدنيا ولا يؤجل جزاؤنا إلى العالم الآخر! فالعقاب في العالم الآخر لا يشبه هذه العقوبات! إننا لا نستطيع تصور تلك العقوبات. إذا كنا مذنبين، إلهي! إذا كنا مذنبين، إذا اتخذنا هذه الحرية وسيلة للتعدي على المظلومين ولو على شخص واحد، للتعدي على الذين تحت سلطتنا ولو على شخص واحد، إلهي! عذّبنا في هذا العالم، ولا تؤجله إلى عالم آخر)([41])

وعلى نهج الإمام الخميني نرى الإمام الخامنئي يتحدث كثيرا عن المستضعفين، ويعتبر الحديث عنهم ونصرتهم من علامات التمسك بالإسلام المحمدي الأصيل، وقد ذكر قدوته في هذا، فقال: (النقطة الأولى والأهم في مباني الإمام الخميني ونظراته هي قضية الإسلام المحمدي الأصيل .. أي الإسلام المقارع للظلم، والإسلام المطالب بالعدالة، والإسلام المجاهد، والإسلام المناصر للمحرومين والفقراء، والإسلام المدافع عن حقوق الحفاة والمعذبين والمستضعفين. وفي مقابل هذا الإسلام أورد الإمام الخميني مصطلح [الإسلام الأمريكي] في ثقافتنا السياسية وقاموسنا السياسي. الإسلام الأمريكي يعني الإسلام الذي يقتصر على التشريفات فيبتعد عن التطبيق، وهو إسلام عدم الاكتراث مقابل الظلم، ومقابل الجشع، واللامبالاة حيال التطاول على حقوق المظلومين، إنّه إسلام مساعدة العتاة والمتعسفين والأقوياء .. الإسلام الذي يتأقلم مع كل هذه الأمور. هذا الإسلام سمّاه الإمام: الإسلام الأمريكي)([42])

ج ـ مشاركة القوات المسلحة في الثورة الإسلامية:

من الملاحظات المهمة التي نجدها في الثورة الإسلامية الإيرانية نتيجة التزامها بالإسلام، وبقيادة العلماء الحكماء، عدم وجود صراع بين الشعب والقوات المسلحة مهما اختلف نوعها، بل إنها تحولت بعد الثورة مباشرة إلى خادم للشعب، بل إن الكثير من أفرادها شارك في الثورة من غير أن يحولها إلى ثورة عسكرية.

ولذلك نجد إشادة قادة الثورة الإسلامية بكل أطياف القوات المسلحة، ومن الأمثلة على ذلك ما خاطب به الإمام الخميني جمعا من منتسبي مقر الوحدة البحرية في الشمال بتاريخ 25 جمادى الأولى 1399 هـ عقب انتصار الثورة الإسلامية، مبينا تلك الخطط التي أراد بها الأعداء إحداث الشقاق بين الشعب والقوات المسلحة، فقال: (على قواتنا أن تحرص على وحدتها؛ فالقوات البحرية، والجوية، والبرية والشعب جميعهم بعضهم من بعض، كما أن قوى الأمن والقوى الشعبية قوة واحدة.. يجب على الجميع أن يكونوا معتصمين بحبل الله، فبالاعتصام بحبل الله انطلقنا وانتصرنا، وسنواصل به مسيرتنا أيضا.. لقد كان لكم أنتم قوى الأمن الداخلي دور كبير في هذه النهضة.. لقد شوَّهوا صورتكم وعزلوا الشعب عنكم غير أنكم كشفتم عن حقيقتكم في هذه النهضة، وأنكم مع الشعب ومع الإسلام. وقد استقبلكم الشعب بأحضانه وسيستقبلكم.. إنكم لم تكونوا سابقاً في أي وقت وسط هذه الجماعات التي ترونها الآن ولم تشاهدوا أنفسكم يوماً بين إخوانكم، فمن بركات هذه النهضة أنكم ترون أنفسكم اليوم وسط إخوانكم وفي أحضانهم.. وهذا توفيق كبير تحقق لنا.. بركة كبيرة من بركات هذه النهضة العظيمة أن يجد الإخوة أنفسهم إلى جوار بعض، ويشكلون صفاً واحداً، صفاً متراصاً من قوى الأمن وأبناء الشعب، إننا جميعاً في صف واحد ويجب أن نكون كذلك)([43])

ثم بين المستند الشرعي الذي جعله ـ وفي وقت اشتداد الخناق على الثورة ـ لا يرضى بتسليحها لتواجه الجيش، فقال: (إنه حكم الإسلام أن نكون جميعاً معتصمين بحبل الله.. يجب أن لا نكون مفترقين عن بعضنا بعضاً، التفكير بالفرقة تفكير خاطئ، لا تزعزعوا هذه الوحدة، لا تطفئوا هذه النهضة، لا تخونوا الإسلام.. على جميع القوى التكاتف والاتحاد ليتسنى لها الوقوف بوجه قوى الشيطان، قوى الأجانب.. لقد رأيتم كيف هزمتم القوى العظمى بوحدة الكلمة، حافظوا على هذه القدرة، إذا وقع ـ لا سمح الله ـ خلل في هذه القدرة فانتظروا الكارثة)([44])

 وقال في خطاب له بعد الانتصار في جمع من منتسبي الشرطة: (لقد كانت الشرطة سابقاً منعزلة عنّا وعن علماء الدين وعن الشعب، أما اليوم فإنها بين الشعب ومن الشعب، والشعب أيضاً يريد من الشرطة أن تحرس المدن وتوفر الأمن له.. إن نظرة العلماء الأعلام إلى الشرطة نظرة جيدة، وكذلك بقية الفئات، إنهم يعتبرونهم إخوتهم.. إنني آمل أن تبقى وحدة الكلمة هذه بين جميع فئات الشعب، وأن تنطلق نهضتنا الإسلامية إلى الإمام معتمدة على وحدة الكلمة، وأن تنال جميع الفئات حقوقها مع استقرار حكومة العدل الإسلامي.. لا يتوهم الأجانب أنهم يستطيعون إيجاد خلل في وحدتنا الوطنية هذه.. هذه الوحدة الوطنية وحدة إلهية، تحققت بيد الله تبارك وتعالى.. إن الإسلام قائدنا، القرآن الكريم قائدنا.. وقد دعانا القرآن الكريم إلى الوحدة، دعانا الإسلام إلى الوحدة.. نحن نتبع الإسلام.. لقد فجر شعب إيران هذه الثورة وسار بها قدماً بوحدة الكلمة والاعتماد على الإسلام ولن يتخلى عن هذا السر.. لا تختلفوا، كونوا مع بعضكم إخوة متساوين)([45])

وقال في خطاب له لحرس الثورة الإسلامية: (إنني أشكر الشعب الإيراني عموماً، وحرس الثورة خاصة لاسيما أنتم حرس الثورة في طهران.. لقد كنتم الجنود الذين دافعوا عن إيران في اللحظات الصعبة، ووقفتم بوجه الذين أرادوا إخماد ثورتنا.. إننا وبعد الآن أيضاً نحتاج إلى قوة الحرس الكبيرة هذه.. إن الإسلام يتطلّع إلى هؤلاء الشباب ويتوقع منهم الكثير، يتوقع منهم النصرة والمعونة، يتوقع منهم إحباط تآمر المتآمرين)([46])

وقال ردا على تلك الشائعات التي يذكرها المغرضون من الفرقة بين الجيش والشعب: (نحن جميعاً ندعم الجيش ونحن جميعاً ندعم قادة الجيش، ولو قال أحد إن شعبنا ليس مع الجيش فهو كذب صريح، والدليل عليه هو أن الجيش هناك يقوم بواجبه. وجميع أبناء الشعب يخدمونه. الذين يقولون أن الجيش وعلماء الدين مختلفون مع بعضهم البعض، هم يكذبون لأن علماء الدين الأعزاء الذين جاءوا إلى هنا من مختلف أنحاء البلاد وجاؤوا الآن من قم ومشهد المركزين العلميين الكبيرين في البلاد جاؤوا إلى هنا بأسلحتهم وقد قدموا الشهداء والمجروحين ثم يذهبون إن شاء الله وينتصرون بمشيئة الله. جميع أبناء الشعب يجب أن يكونوا خلف الجيش وعلى الجيش أن يحافظ على الجبهات.. على الشعب وعلماء الدين والجامعة وعلماء الدين أن لا ينفصلوا عن بعضهم ولا ينسلخوا عن بعضهم لأن انسلاخهم عن بعضهم هو هلاك الشعب وهلاك الإسلام وهلاك البلاد)([47])

وهكذا شهد الإمام الخامنئي لهذه القوات بالثبات على قيم الثورة وحمايتها لها رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها، يقول: (نشكر الله على أنّ قوّاتنا المسلّحة وقوّات الحرس عندنا، وجيش الجمهورية الإسلامية، وجميع منظّمات القوى المسلّحة، قد ثبتت في هذا الطريق وأصرّت عليه، وتركت تجارب خالدة للذكرى)([48])

وقال في لقاء مع طلّاب الكلّيّات الحربيّة بجامعة الإمام الخميني للعلوم البحريّة: (إنّ القوّات المسلّحة هي رأس حربة النظام الإسلاميّ والإلهيّ والحضارة الإلهية والإسلامية في مواجهة الأعداء والأشرار والحاقدين. إنّ شبابنا الأعزّاء يعبرون هذا الميدان بحماسٍ وعشقٍ ومحبّة وبوعيٍ)([49])

وقال مخاطبا لهم: (لا شكّ بأنّ مواجهة مستكبري زماننا للإسلام ولطلوع هذه الشمس الساطعة هي مواجهةٌ ستنتهي بانتصار الإسلام. ويتحمّل نظام الجمهورية الإسلامية مسؤولية كبرى في هذا المجال، وأنتم أيّها الشباب الأعزّاء الذين اجتمعتم في هذا الميدان وفي كلّ القوّات المسلّحة تتحمّلون قسماً حسّاساً من هذه المسؤولية) ([50])

وقال مخاطبا عائلات القوات المسلحة: (فلتعلم أُسر مجاهدينا العزيزة وزوجاتهم، سواء أكانوا عناصر الجيش أم من الحرس أم من التعبئة أم من القوّات الأمنية أم من العاملين في وزارة الدفاع من يعينون ومن هو شريك حياتهم.. إنّ شريك حياتكم هو من الذين لهم دورٌ حسّاسٌ في هذا البناء الرفيع والشامخ، فهذا هو حال القوّات المسلّحة. وبتعبير أمير المؤمنين [حصون الرعيّة]، إنهم حصون الأمة، الحصون المعنويّة للبلد. ووجود القوّات المسلّحة المستقلّة الواعية المبتكرة الشجاعة المضحيّة هو أمانٌ لأيّ بلدٍ ولو لم يطلقوا رصاصة واحدة، فإنّهم يوقفون الأعداء في أماكنهم، فالقوات المسلّحة هي بمثل هذه الأهمية)([51])  

2 ـ إشراك جميع الشعب في حفظ الثورة:

وذلك عن طريق الكثير من المؤسسات التي وفرت لجميع شرائح الشعب الإيراني البيئة المناسبة التي يساهم فيها بحفظ ثورته، وعدم سرقتها، أو اختراق القوى الأجنبية لها.

ولعل أكبر مؤسسة شعبية تولت هذا الدور بكل فعالية ما يطلق عليه [قوات التعبية]، وهي من أهم إبداعات الثورة الإسلامية الإيرانية، والتي لا نجد لها نظيرا في العالم، بل ولا في التاريخ، وقد عرفها الإمام الخامنئي بقوله: (إن للتعبئة تعريفها المحدد: فالمراد منها هم أبناء الشعب الذين يوجدون في وسط الساحة بأهداف إلهية سامية وبروح مثابرة لا تعرف الكلل والملل وفي كل مكان يتطلب الأمر، وينـزلون بكل قدراتهم وطاقاتهم إلى الميدان، ولا يهابون المخاطر التي تعترض الطريق)([52])

وعرف الفرد المنتمي لهذه المؤسسة بقوله: (التعبوي هو ذلك الشخص الذي أعدّ نفسه لهذه المهمة الشاقة؛ ألا وهي بذل النفس، بل وحتى بذل تلك الأمور التي قد تكون أعز من النفس؛ هذا هو معنى التعبئة)([53])

وبين أن أهم سمات هذه المؤسسة (الحضور الواسع الذي يجب الحفاظ عليه، في مختلف الساحات العسكرية والعلمية والفنية من أمثال الشهيد السيد مرتضى آويني الذي كان تعبوياً، إلى غيره من الفنانين الملتزمين والموالين، سواء في عالم الفنون التشكيلية أو الشعر أو الأدب وما إلى ذلك، وكذا في الساحة التقنية، وأخيراً في المسائل الاقتصادية التي أوصيت رجال الحكومة في شأنها، وقلت لهم بأن قوات التعبئة مستعدة للحضور والمساهمة في ساحة الاقتصاد المقاوم)([54])

واعتبرها من بركات الإمام الخميني، وسعه أفقه، وحكمته، فقال: (لقد تجلت حكمة إمامنا العظيم في الكثير من القضايا، وإيجاد قوات التعبئة واحدة من أبرز تلك القضايا)، وقال: (قوات التعبئة أعظم وأخلد تذكار لذلك الرجل العظيم الجليل)([55])

وقال ـ مبينا أهميتها في استمرارية الثورة ونجاحها ـ: (أصل القضيّة هو أنّ التعبئة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة هي ظاهرة ثوريّة، ويجب على هذا الوطن وهذه الأمّة وهذه الثورة أنْ يتعاطوا مع هذه الظاهرة دائماً بجديّة ويعلموا قدَرها)([56])

ويبين الحكمة منها، وسر حفاظها على الثورة الإسلامية، مقارنا لها بغيرها من الثورات، فقال: (ظاهرة التعبئة ظاهرةٌ إبداعية، ولا يعني ذلك أن قوى المقاومة الشعبية لم يكن لها وجود في البلدان والبقاع الأخرى، فلقد كان لها وجود وهذا ما نعلمه، غير أن قوات المقاومة في شتى بلدان العالم شرقاً وغرباً غالباً ما تختص بفترات القمع والكبت والكفاح، وبعد انقضاء فترة الكفاح ـ سواء عبر إمساك فصائل المقاومة نفسها بزمام السلطة أو إمساك غيرها بمساعدتهم ـ تنتهي قوى المقاومة وينقضي أمد هذا التنظيم الشعبي، وهذه هي الحالة السائدة في العالم، والمعروفة لدى كل من له اطلاع بفصائل المقاومة الشعبية في شتى بلدان أفريقيا وأوروبا وآسيا)([57])

وضرب أمثلة على ذلك ببعض الثورات التي استطاعت أن تحقق النصر، ولكنها لم تستطع الحفاظ عليه بسبب فقدانها لقوات التعبئة، ومن بينها الثورة الجزائرية، ففي (فترة تسلط الفرنسيين على الجزائر مثلاً، تشكلت فصائل المقاومة الشعبية، وخاضت كفاحاً مريراً لسنوات طوال لربما يبلغ ثمانية إلى عشرة أعوام، وبذلوا جهودًا جبارة، ولكن بعد أن تأسست الحكومة الثورية، تبدّدت هذه الفصائل وتفرّق جمعها، حيث تربّع البعض منهم على كرسيّ الحكم، وشكّل البعض الآخر حزباً، وبالتالي لم يبق شيء باسم فصائل المقاومة) ([58])

ومثلها (في عهد الاحتلال الألماني لفرنسا مثلاً، حيث تبلورت جماعات المقاومة من اليساريين واليمينيّين والمعتدلين، وأخذت تمارس نضالها لفترات طويلة، ولكن بعد انهيار الاحتلال وتشكيل الحكومة، انتهى تاريخ صلاحية هذه الجماعات ولم يبق أثرٌ منها) ([59])

وبين سبب ذلك الانحسار والذوبان لهذه القوات بعد تحقيق النصر، وهو التوزع بين الوصول إلى السلطة، والوقوع في آفاتها، أو تأسيس أحزاب موالية أو معارضة، والانصراف بذلك عن قيم الثورة وأهدافها، فقال: (أشرت إلى أنّهم إما كانوا يجلسون على سدّة الحكم، وحينما يصلون إلى السلطة يصابون بآفاتها، وهذا ما شاهدته بالعيان في بعض البلدان. فإنّ أولئك الذين جاهدوا جهاداً مريراً في الخنادق وعلى التراب والأرض لسنوات حتى الوصول إلى السلطة، أخذوا ينتهجون في فترة حكمهم نفس ما كان ينتهجه مثلاً ذلك القائد البرتغالي الذي كان حاكماً على هذا البلد، ويتبعون نفس الأسلوب من دون أي فارق، فقد كان الهدف من النضال هو الوصول إلى السلطة، وهذا ما شاهدته بنفسي في مواطن متعددة حيث تتبدل حقيقتهم) ([60])

أما غيرهم من الذين لم يصلوا إلى السلطة، فإنهم ـ كما يذكر الإمام الخامنئي ـ (يشكّلون الأحزاب، كما هو حال بعض الأحزاب الموجودة في هذه الدول التي كان نضالها بدافع الوصول إلى السلطة، فإنّ الهدف الذي تتوخاه الأحزاب الغربية وبتبعها الأحزاب الموجودة في كل العالم هو الإمساك بزمام السلطة، وهذا يعني أن الحزب يناضل بغية التربع على كرسي الحكم، ثم يشرع الحزب الآخر بالكفاح لانتزاع الحكم من يديه. وفي الحقيقة فإن الأحزاب التي يُطلق عليها اليوم عنوان الحزب في العالم، لا تشكّل الأرضية لمتابعة المفاهيم والمعارف السامية التي يؤمن بها نفس ذلك الحزب، نظير ما كان يتبادر إلى أذهاننا في أوائل الثورة من مفهوم الحزب، فإن هذا غير رائج في العالم المعاصر، وإنما الهدف هو أن تتشكل فئة ـ كنادٍ أو مجموعة ـ وتسعى للوصول إلى السلطة، وبعد تحقيق أهدافها تقتفي آثار نفس الحكومة السابقة دونما فارق) ([61])

وبناء على هذا كله، (فإن فصائل المقاومة تؤول بعد الانتصارات إلى الزوال والاضمحلال والانقراض) ([62])

وهذا كله يخالف ما وقع في الثورة الإسلامية، والتي جعلت (هذه الفصائل كالتيار الجاري والنبع الفياض بعد الانتصار أيضاً، وتزداد يوماً بعد آخر تألّقاً ووعياً، وتنـزل إلى مختلف الساحات التي يحتاج البلد إليها بصورة تنظيمية، وتنمو وتتكامل من الناحية الكمية والنوعية، وتتوصل إلى مفاهيم جديدة، وتتمكن من أداء دورها في الصراعات التي تتولّد حديثاً، كما هو حال قواتنا التعبوية، فهذا ما لم يسبق له في العالم نظير ومثيل) ([63])

وبين دورها الكبير في إحباط كل المؤامرات، فقال: (ومطالعة الواقع التاريخي الذي نشأت فيه قوات التعبئة يدل على ذلك، فهي التي أحبطت كل المؤامرات المحاكة ضد الثورة الإسلامية، وضمنت لها الاستمرارية، وجعلت من تلك الجماهير قوة منظمة، يمكن استخدامها في أي وقت) ([64])

وبناء على هذا كله نجد الإمام الخامنئي يستمر على نهج أستاذه الإمام الخميني في الاهتمام بهذه المؤسسة وتطويرها، وقد قال في خطاب له بمناسبة أسبوع التعبئة([65])، وبحضور خمسين ألفاً من قادة التعبئة من مختلف أنحاء البلاد بتاريخ 20/11/2013 م مبينا ضرورتها: (إن التعبئة هي مصدر عزةٍ للبلاد والنظام.. لأن معنى التعبئة هو الحضور وسط الناس في مجالات النشاطات الأساسية للشعب والبلاد.. إن كل حكومة وكل بلد يكون فيها الشعب حاضراً ويتحرك نحو جهة محددة فانتصارها سيكون حتمياً، هذا أمر مسلّم. تتعرض البلدان للضربات والهزائم حين لا يكون الشعب حاضراً في الميدان وحينما لا يكون الشعب متحدا في (ميدان) العمل. حيثما يحضر الشعب في الميدان ويوجد اتحاد وانسجام بين أفراد الشعب فإن الانتصار والتقدّم حتميان. التعبئة هي نموذج كهذا، هي مظهر من هذا الحضور الشعبي في الميدان وتلاحم الشعوب فيما بينها، ينبغي النظر إلى التعبئة بهذه الرؤية)([66])

ثم بين نجاح أفراد التعبئة في كل الاختبارات التي وضعوا فيها، فقال: (بالنسبة إلى الصدق ـ الذي ذكرته في مطلع كلامي ـ فإنّ التعبئة قد أدّت امتحان الصدق، في الحرب المفروضة في الدفاع المقدّس الذي كان الزمن الصعب للبلاد. وقد نجحت في امتحان الصدق في كل الأماكن أثبتت منظمة التعبئة ومجموعة التعبئة بأنها تتحلى بالصدق. وبالطبع فإنا رأينا أن التعبئة غير محصورة بهذا العدد المنتسب إلى منظمة التعبئة، يوجد الكثير من الأشخاص ممن قلوبهم معكم، يشجعونكم ويؤيدونكم ويكنّون الاحترام والتقدير لكم وهم ليسوا داخل منظمة التعبئة، فإنهم من التعبئة أيضاً. أولئك الذين يعتقدون بقيمكم ويحترمونكم، يحترمون جهودكم وخدماتكم وجهادكم، هم برأينا من التعبئة أيضاً) ([67])

وذكر كيف أصبحت التعبئة محلا تجتمع فيه كل قوى الشعب، لأداء دورها في الحفاظ على الثورة وقيمها، فقال: (اليوم ولحسن الحظ، يوجد داخل مجموعة التعبئة شخصيات علمية بارزة، شخصيات فنية بارزة، شخصيات اجتماعية، شخصيات سياسية، ناشطون اجتماعيون، أفراد مؤثّرون في أوساط الناس، هم كُثر وليسوا قلّة، لقد كانت التعبئة وحتى اليوم مجموعة إنسانية تتجه نحو الرشد والتسامي، وينبغي أن تستمر هكذا أيضاً) ([68])

وبعد توجيهاته لأفراد التعبئة بالالتزام بكل القيم التي قامت الثورة الإسلامية من أجلها، قال: (إن سلوككم أيها الأعزاء التعبويون، فرداً فرداً، أنتم أيها الشّباب وأيها الطاهرون، أصحاب القلوب الصافية والمنيرة، ينبغي أن يكون سلوك كل واحد منكم مع الناس بشكل يقول الآخرون عنده: هؤلاء هم الذين ربّاهم النظام الإسلاميّ، مصدر لجذب المحبّة والاحترام إلى النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة. هذه المستلزمات العملية والجهادية والاجتماعية هي أعمال يجب أن تُنجز، أي تقوية الخصال الحسنة في أنفسنا، التعامل الحنون والخدوم المحبب مع المحيط، العمل الجدّي في جميع الجبهات ـ جبهة العلم وكذلك جبهة الأنشطة والخدمات للناس، وجبهة العمل وجبهة السياسة وجبهة الإنتاج ـ حيثما كان لكم حضور فلنعمل بشكل جدّي دون إحساس بالتعب ومع تجنّب الكسل.. هذا الجمع العظيم ـ عشرات آلاف القادة ممن اجتمعتم اليوم هنا ـ باستطاعته أن يحرّك البلاد بالمعنى الحقيقي للكلمة في جميع الجهات الإيجابية وأن يكون مصدراً للاستقرار والثبات وعاملاً لهيبة النظام والحمد لله هو كذلك. إن التعبئة اليوم هي مصدر لهيبة النظام وافتخاره) ([69])

وهكذا نرى الإمام الخميني يعبر عن قيمة التعبئة وأدوارها ورسالتها في خطب كثيرة، ومنها قوله في نداء له بتاريخ 12 ربيع الثاني 1409 هـ: (لا شك في أن تشكيل قوات التعبئة الشعبية في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان من البركات والألطاف الإلهية التي منّ بها الله سبحانه على الشعب العزيز والثورة الإسلامية الإيرانية)([70])

ثم لخص أدواره الكبرى التي قام بها، فقال: (في خضم الأحداث المختلفة التي أعقبت انتصار الثورة لا سيما الحرب، نهضت المؤسسات والفصائل المختلفة بمهمة الدفاع عن البلد وصيانة الثورة الإسلامية، متفانية في الإيثار والتضحية والإخلاص والاندفاع نحو الشهادة. ولكن إذا أردنا حقاً إعطاء مصداق متكامل للإيثار والتضحية والإخلاص والعشق للإسلام ولذات الحق المقدسة، فليس هناك أصدق من قوات التعبئة والتعبويين.. التعبئة شجرة طيبة ونافعة ومثمرة يفوح من براعمها عبير ربيع الوصال وطراوة اليقين وحديث العشق.. التعبئة مدرسة العشق ومذهب الشاهدين والشهداء المجهولين حيث رفع أبناؤه من فوق مآذنه الشامخة آذان الشهادة والهداية.. التعبئة ميقات الحفاة ومعراج الفكر الإسلامي الطاهر، حيث حصل المتربون في أحضانه على الاسم والشهرة في السرّ والخفاء.. التعبئة لواء الله المخلص الذي وقّع بيان تأسيسه جميع المجاهدين من الأولين إلى الآخرين) ([71])

بل إن الإمام الخميني لا يكتفي بكل تلك الأوصاف، وإنما يضيف إليها قوله: (إنني أتفاخر دائماً بإخلاص وصدق التعبويين وأطلب من الله تعالى أن يحشرني مع أحبائي التعبويين. فما أفخر به في هذه الدنيا هو أني أحد التعبويين) ([72])

ثم حض الشعب الإيراني جميعا على أن يقتدي به في ذلك، ليسجل نفسه ضمن التعبويين الذين يحبطون كل المؤامرات، فقال: (إن الشعب الذي يحث الخطى على نهج الإسلام المحمدي الأصيل، ويناهض الاستكبار وعبادة المال والتحجر والقداسة الزائفة، يجب أن يكون جميع أبنائه من‏ التعبويين، وأن يحرصوا على تعلّم فنون القتال، فالشعب العزيز والخالد هو الذي تتحلى الغالبية من أبنائه بالاستعداد العسكري المناسب لمواجهة المخاطر في اللحظات العصيبة)([73])

ثم بين قيمة الفكر التعبوي في تحصين الثورة، لا في إيران وحدها، بل في كل بلد يريد التحرر والسيادة، فقال: (باختصار، إذا ما خيمت أجواء الفكر التعبوي المؤنس على بلد ما، سيكون مصاناً من أطماع الأعداء والناهبين الدوليين، وإلا ينبغي توقع حادثة في كل لحظة)([74])

ثم بين المسؤوليات المناطة به، والتي لا تكتفي بعلاج مشاكل زمن دون آخر، فقال: (لقد برهنتم خلال الحرب المفروضة بأن الإسلام قادر على فتح العالم بالإدارة الصحيحة والجيدة. وعليه يجب أن تعلموا بأن مهمتكم لم تنتهِ بعد، الثورة الإسلامية العالمية بحاجة إلى تضحياتكم. وأن بوسع المسؤولين ومن خلال دعمكم ومساندتكم فقط البرهنة لجميع المتعطشين للحقيقة والصدق، بأنه بالإمكان تحقيق الحياة الكريمة المقرونة بالسلام والحرية، بمعزل عن أميركا والاتحاد السوفيتي أن تواجدكم في ميادين الصراع يؤدي إلى اجتثاث الجذور المعادية للثورة في مختلف المجالات) ([75])

ثم ختم بيانه بقوله: (إنني أقبل أياديكم فرداً فرداً أنتم طلائع التحرر، وأعلم بأنه إذا ما غفل المسؤولون عنكم فسوف يصطلون بنار جهنم الإلهية.. أؤكد مرة أخرى، أن الغفلة عن تشكيل جيش العشرين مليون، ستقود للسقوط في شباك القوتين العظمتين.. إنني أتقدم بالشكر لكافة قوات التعبئة لا سيما قادتهم الأعزاء، ولن أنسى صالح الدعاء لأبناء الإسلام الأوفياء هؤلاء.. أسأل الله تعالى أن يمنّ على شهداء التعبئة الأعزاء المجهولين بنعمة مجاورة أهل البيت عليهم السلام، وأن يمن على المعاقين الأعزاء بالشفاء، وأن يعيد الأسرى والمفقودين الأعزاء إلى وطنهم سالمين، وأن يضاعف كل يوم من عظمة وشوكة هذا الوجود الشعبي المقدس، الذين هم أنصار الإسلام العزيز وأعوان حضرة بقية الله الأعظم ـ أرواحنا لمقدمه الفداء ـ)([76])

وفي أثناء بيانه ذكر أهمية التحاق الطلبة جميعا بهذه المؤسسة الشعبية الضخمة، فقال: (إن أكثر التشكيلات ضرورة اليوم تعبئة الطلبة الجامعيين وطلبة العلوم الدينية؛ فمن واجب طلبة العلوم الدينية وطلبة الجامعات الدفاع بكل قوة عن الثورة والإسلام انطلاقاً من مواقعهم، وينبغي لأبنائي التعبويين في هذين المركزين العلميين، أن يكونوا الحارس الأمين للمبدأ الخالد (اللا شرقية واللاغربية).. إن الجامعة والحوزة بحاجة اليوم إلى المزيد من الاتحاد والوحدة أكثر من أي موقع آخر. وعلى أبناء الثورة أن لا يسمحوا لأيادي أميركا وروسيا باختراق هذين الموقعين الحساسين مطلقاً. وأن البسيج وحده القادر على تحقيق هذا الأمر الهام. كما أن التوجيه العقائدي للبسيجيين يقع على عاتق هاتين القاعدتين العلميتين. إذ ينبغي للحوزة العلمية والجامعة وضع الأطر الأصيلة للإسلام المحمدي الأصيل تحت تصرف البسيجيين كافة) ([77])

بل إن الأمم الخميني يتجاوز إيران ليدعو الأمة جميعا لتلتحق بهذه الفئة، لتقاوم كل مشاريع الهيمنة، يقول: (كما يجب على بسيجي العالم الإسلامي التفكير بتشكيل الحكومة الإسلامية الكبرى وهو أمر ممكن، لأن البسيج لا يقتصر وجوده على إيران الإسلامية. فلا بد من تشكيل خلايا المقاومة في مختلف أنحاء العالم والتصدي للشرق والغرب) ([78])

ثانيا ـ الطاقات النخبوية وإشراكها في القيادة والتوجيه

من أهم المظاهر التي ميزت الثورة الإسلامية الإيرانية، وكانت سبب انتصارها وديمومتها كثرة قياداتها العلمية والفكرية التي استعملت كل الوسائل للتواصل مع الجماهير، وإقناعها بكل حركة تقدم عليها، سواء لهدم ما بناه الطاغوت، أو لبناء ما قررته الثورة بناء على اختيارها للشريعة الإسلامية.

ولذلك يمكن اعتبار الثورة الإسلامية الإيرانية ثورة علمائية، أو ثورة النخبة العلمية؛ فهي ليست مثل الكثير من الثورات التي غلب عليها طابع المطالب المادية، وتحقيق الرفاه المعيشي، وإنما هي ثورة فكرية، منطلقة من قناعات دينية.

ولذلك كله كان القائمون عليها هم رجال المعاني، كما عبر الإمام الخميني عن ذلك بقوله في بعض خطبه: (إن الذين يستطيعون حماية بلدهم، والذين يستطيعون إنقاذ بلدهم وشعبهم، هم الذين يملكون المعنويات، إذا لم تكن المعنويات وكان كل شيء مرتبط بالماديات، فحينئذ أينما كان العلف أفضل فإنهم سيذهبون وراءه حتى ولو كانت أمريكا هي التي أعدَّته.. إن الذين خانوا بلدنا ونهبوا جميع ما نملكه لا فرق عندهم بين أن تكون أمريكا هي التي تقدم لهم الإمكانات المادية مثل السيارة والحديقة وغيرها أو أن يحصلوا عليها من طريق صحيح.. لا فرق عندهم بين الطريق السليم وغير السليم.. إنهم يريدون سيارة ولا فرق لديهم بين أن تصلهم عن طريق النبي أو أبي جهل؛ فلا شأن لهم بالوسيلة وإنما المهم عندهم هو السيارة.. إن الذين خانوا بلدنا، وجروه للدمار، أولئك الذين كانوا يفتقرون إلى الإيمان، ولو كان يوجد بينهم شخص واحد مؤمن لما كان قام بهذه الأعمال.. إن الذين سرقوا ونهبوا وأفسدوا ما عندنا، كانوا لا شأن لهم بالإسلام ولا اعتقاد لهم به، ولا يعتقدون بما وراء الطبيعة، ولا يعتقدون بالمعنويات، كانوا يقولون إن الحياة هي هذه الأيام القلائل، فليكن كل شيء بشكل أفضل وأكثر رفاهية، وليحصل من أي طريق كان)([79])

ويدل لهذا ما وقع في إيران منذ بداية ثورتها عام 1963، حيث كان الإمام الخميني وتلاميذه المباشرون هم القدوة في تضحياتهم لكل من بعدهم من الجماهير الذين التحقوا بركب الثورة، بعد أن اقتنعوا بأن تكليفهم الشرعي يتطلب منهم المشاركة فيها، والذود عنها.

ونحب هنا ـ مثلما فعلنا في المبحث السابق ـ أن نذكر بعض توجيهات قادة الثورة الإسلامية المرتبطة بهذا الجانب، لنرى من خلالها كيف استطاعوا تجييش تلك الحشود الكبيرة من العلماء والأساتذة وطلبة العلم والنخبة المثقفة لتكون في مقدمة الثوار.

1 ـ دور علماء الدين في الثورة:

من خصائص الثورة الإيرانية أن محركها لم يكن الشيوعيون، ولا الليبراليون، ولا أصحاب أي مدرسة من المدارس الفلسفية أو الاجتماعية المعروفة، وإنما كان محركها علماء الدين، كما عبر عن ذلك الإمام الخميني في بعض خطبه بقوله ـ ردا على الذين ينسبون الثورة للتيارات اليسارية وغيرها ـ: (إنكم أينما ذهبتهم ترون أن الذي دفع الناس للانخراط في الثورة هم علماء الدين، فلا تقفوا الآن معارضين لعلماء الدين وتقولوا: (الإسلام من دون رجل الدين)؛ فالإسلام من دون رجل الدين كالطب من غير طبيب.. الطب من دون طبيب معناه أننا لا نريد الطب.. وإلّا فلا يمكن أن يكون هناك طب ولكن دون طبيب. الإسلام من دون العالم معناه إننا لا نريد الإسلام. إنكم إذا حطمتم هذا السد لن تستطيعوا إنجاز أي من الأعمال ولو اجتمعتم كلكم. علماء الدين هم الذين يستطيعون العمل، ابحثوا، انظروا، ادرسوا هذه النهضة. انظروا من الذي كان يتقدم بالنهضة؟ أية فئة كانت مؤثرة في الحركة أكثر من غيرها.. الجميع كانوا مؤثرين، ولكن الذي كانت الجماهير تسير من وراءه، عامة الناس، المعيار هو الفلاح، البائع الذي في السوق، المعيار هو هذا الشارع وهؤلاء الناس الذين هم في الشارع، من الذي كان يعبئ هؤلاء ويهيئهم لهذا العمل؟ إنهم علماء الدين. طبعاً كان هناك آخرون ولكن علماء الدين كانوا في الطليعة. فلا تفكروا أن تكتبوا الآن في الصحف: (سيطر علماء الدين)، فإذا اعرض الناس عن مثل هذه الصحيفة، يأتي الكتّاب والصحفيون ويقولون: لقد وقفوا بوجه الديمقراطية! لقد وقفوا بوجه الحرية!)([80])

وعبر عن ذلك أحد قادتها وشهدائها الكبار، الشهيد مطهري، وذلك في محاضرة له عن دور العلماء في الثورة، والرد على الذين يتوهمون تخلفهم عنها، حتى يتيحوا المجال لليساريين وغيرهم لنيل المكاسب، فقد قال في ذلك: (سيكون كلامي حول موضوع مهم وهو دور علماء الدين قبل الثورة وبعدها.. ومع أن عملهم واضح بيِّن لا يخفى على أحد من أنهم يسيرون على الخط الإسلامي لتحقيق الأهداف السامية كالقضاء على الظلم وإقرار العدالة والإصلاح في المجتمع.. مع ذلك نجد أن اليسار دائماً يتساءل كيف أصبح علماء الدين ثواراً؟ إذ باعتقاد الفئات اليسارية أن الطبقة المحرومة هي أساس الثورة الشعبية، ولذا لا يتسنى لرجال الدين قيادتها لأنهم على علاقة وثيقة بالحكم الشاهنشاهي، أما مسيرهم مع الثوار فعلى أساس خطة مدبرة من الطبقة الحاكمة لإنقاذ عرشها، بعد ما وجدت نفسها على شفير الهاوية لجأت إلى الروحانيين لاحتواء الثورة حتى يعيدوا للطبقة الحاكمة طريق العودة.. وأصدرت منظمة [طوفان] السرية نشرة في شباط سنة 1979 في جريدتها [حزب العمال والفلاحين الشيوعيين الإيرانيين]، وقالت فيها: لا تنخدعوا بهؤلاء الرجال الذين يُدعون رجال الدين، لأنهم من صنع نظام الشاه ويريدون حفظ هذا النظام.. كذلك نجد عند بعض المثقفين العجب والغرابة في أن قيادة الثورة الإيرانية بأيدي علماء الدين فيحاولون بأية وسيلة إلصاق التهم بأنهم عملاء للإنجليز والروس.. وهذا الاتهام للعلماء الروحانيين نتج عنه فصل بينهم وبين بعض المدنيين، يقول أحد الكتاب، وهو ابتدأ حياته الفكرية مع حزب تودة (الحزب الشيوعي الإيراني) ثُمّ أصبح متدينا مع مرور الأيام في مقال له سنة 1979: بأن السبب الرئيسي في هزيمة ثورتي المشروطية والوطنية بقيادة [مصدق] هو الانفصال الذي حصل من قبل العلمانيين مع المؤمنين ورجال الدين، ومحاولة استثمار جماعة مصدق وحدهم بالسلطة بعد نجاح النهضة)([81])

وبعد أن أورد ما لا نـزال نسمعه من المحللين الذين يتصورون أن العلماء وأصحاب العمائم سرقوا الثورة من الشعب والشيوعيين وغيرهم، بناء على مؤامرة مدروسة، قال: (في هذه الثورة كان يظن المثقفين بأن العاملين الأساسيين في المجتمع والثورة هما العامل الاقتصادي والعامل السياسي.. ولم يستطيعوا التوصل إلى وجود عامل آخر هو أمتن وأعمق جذوراً في المجتمع وأسبق وجوداً في الثورة من العاملين ألا وهو العامل الديني.. ولوجود تلك الأفكار المسمومة في المجتمع وطرحه على سبيل مسلمات أردت أن أركز على دور علماء الدين في إيران وضرورة بقائهم ونشاطهم لاستمرار وبقاء الثورة) ([82])

ثم بين الخطأ الذي وقع فيه الذين استبعدوا العلماء الإيرانيين عن الثورة، وهو قياسهم البعيد لعلماء الشيعة على علماء السنة، مع الفارق الكبير بينهما في هذا المجال، ذلك أن علماء المدرسة السنية أو أكثرهم مرتبطون بالسلطة، نتيجة تقاضيهم لمرتباتهم منها، ونتيجة لعقائدهم في حكومة المستبد، بخلاف علماء الشيعة المرتبطين بالشعب، والمستقلين تماما عن السلطة، والمؤمنين بالحركة والثورة، فقال: (منذ فترة وجيزة أجريت موازنة بين علماء الدين الشيعة وبين علماء السنة، وقلت: إن النظريات والآراء الإصلاحية المطروحة من قبل علماء السنة أكثر مما هو المطروح من قبل علماء الشيعة، ومع ذلك لم يستطيعوا إيجاد حركات إصلاحية عميقة في المجتمع على عكس علماء الشيعة الذين تميزوا بإيجاد حركات إصلاحية كثيرة في المئة سنة الأخيرة.. إن أحد الأمريكيين الذين آمنوا بالإسلام ظاهراً كتب كتاباً عن تاريخ إيران الحديث جاء فيه: إن لعلماء الدين في إيران الدور الأساسي في نهضة المشروطية، وإن رجال الدين الشيعة كانوا دائما معارضين لسلاطين عائلة قاجار، وكانوا في طليعة الذين تصدوا لنفوذ الطبقة الحاكمة وللاستعمار البريطاني في إيران.. وفي النهضة التي حدثت لأجل تأميم شركة البترول الإيرانية وانتزاعها من أيدي الإنجليز، لم تكن لتنجح لولا ترأس آية الله خوانساري والكاشاني ومنظمة فدائيان إسلام لهذه الحركة بجانب مصدق رئيس الحكومة آنذاك.. ومنذ سنة 1963 إلى يومنا الحاضر كان ولا يزال علماء الدين هم الطليعة في قيادة الثورة الجماهيرية لأجل الإطاحة بالطاغوت، وإقامة الحكومة الإسلامية) ([83])

وانطلاقا من هذه النماذج ذكر الأسباب الحقيقية لتزعم علماء الشيعة للحركات التحررية عبر التاريخ، فقال: (سبب ترأس علماء الدين الشيعة للحركات التحررية على مدى التاريخ يرجع إلى الثقافة الدينية الواسعة التي يتمتعون بها، هذه الثقافة المولدة دائماً للحركة وللثورات، إذ أن النبع الذي تغترف منه هو علم الإمام علي وتتغذى من أفكاره، وتقتدي بأفعاله.. وهذه العناصر المولدة للحركة الدائمة لا توجد عند غيرنا.. والسبب الثاني أن علماء الشيعة، بل الطائفة الشيعية بشكل عام، كانت ولا زالت منذ فجر التاريخ معارضة للسلاطين والملوك، فينكرون أحقيتهم في الحكم ويسلبون الشريعة في تسلطهم على رقاب الناس.. كذلك إن علماءنا تميزوا بمعنويات رفيعة مستندة على الإيمان بالله وبالإسلام قولاً وفعلاً والذي يصر على إحقاق الحق والعدالة للناس أجمعين والمساواة بين أفراد المجتمع، فلذلك استند علماؤنا على الناس لأنهم طالبوا أن يعيش الناس حياة سعيدة في حرية وعدل ومساواة وأنهم لم يساعدوا الحكام على ظلمهم وعلى جورهم لأنهم لم يكونوا جزءاً من الدولة.. لذلك لاحظنا أن أبا يوسف القاضي في عهد هارون الرشيد لم يكن يتمتع بشعبية لأنه مشى مع السلطة، بينما نرى شعبية الإمام محمد عبده كثيراً جداً، وكذلك المصلح الكبير الشيخ محمد شلتوت المصري فإنهم عارضوا السلطة لأنها جائرة ورفضوا السير إلاّ تحت راية الإسلام كانت لهم الشعبية الواسعة والتأثير على الناس.. فالروحانية الشيعية قامت منذ البدء على استقلال عن القدرات الحاكمة، وهذه الاستقلالية عند أولئك العلماء جعلتهم رأس الحركات الثورية التحررية) ([84])

وعندما نطلع على وثائق الثورة الإسلامية الإيرانية، ومنذ بداية انطلاقتها عام 1963 نلاحظ ما ذكره الشهيد مطهري، وبكل وضوح، ذلك أنه كثيرا ما يذكر الإمام الخميني المؤامرة على العلماء والمدارس الدينية حتى لا يبقى لها أي دور في السياسة، ويرد كثيرا على من يسميهم علماء السوء الذين يدعون إلى إبعاد العلماء عن السياسة، وسنرى بعض النماذج عن ذلك من خلال العناوين التالية.

أ ـ التحذير من إبعاد العلماء عن السياسة:

ونلاحظ هذا المعنى كثيرا في خطبه وبياناته، حيث يعتبر الإمام الخميني العلماء والمدارس الدينية قبل الثورة وبعدها هي المحرك والضامن والمرشد والموجه والمحافظ على نقاء الثورة ونجاحها.

ومن الأمثلة على خطاباته في هذا المجال قوله في خطاب له بتاريخ 3 جمادى الثانية 1387 هـ حين كان بالنجف الأشرف‏، وبمناسبة هجوم السافاك على المدارس الدينية في قم: (إن مخطط حكّام طهران أبعد غوراً مما نتصوره، فهم يهدفون من وراء إغلاق المدرسة الفيضية واعتقال العلماء والطلاب، تدمير الحوزة العلمية في قم، والقضاء على الإسلام والعلماء، فهم لا يريدون الإسلام ولا العلماء، لأنهم يرون في العلماء والإسلام عقبة أمام تنفيذ أوامر أسيادهم داخل البلاد، وربط إيران بالخارج كلياً)([85])

ثم بين أن العلماء الإيرانيين وطلبتهم واعون جدا لكل ما يخطط لهم، فقال: (الحمد لله الشعب واعٍ وعلماء الدين يدركون واجباتهم أيضاً؛ فالاستعمار عاجز عن إقصاء علماء الدين وخداعهم، وبوحي من هذه اليقظة سيتمكنون ـ إن شاء الله ـ من قطع الأيادي الخائنة للإسلام والبلاد) ([86])

وهكذا دعا العلماء إلى المشاركة بعد نجاح الثورة الإسلامية في كل ما يؤدي إلى تحقيق غاياتها، ففي خطاب له بتاريخ 21 شوال 1399 هـ قال موجها خطابه للعلماء: (من الأشياء الأكثر أهمية، والتي تقع مسؤوليتها على عاتق علماء الدين في تصوري، تتمثل في تحقيق مصداقية الجمهورية الإسلامية. لقد صوت الجميع في الاستفتاء لصالح الجمهورية الإسلامية، فإذا تم التعامل داخل الجمهورية الإسلامية بشكل مخالف للموازين ـ لا قدر الله ـ فإنه سيتم الطعن في مصداقيتها في الخارج، لاسيما وأن أعداء الإسلام وأعداء علماء الدين كُثر، وهم يتربصون لأي خطأ أو عيب في النظام الإسلامي، ويقومون بتضخيمه، حتى يبدو للناس أن النظام الإسلامي نظام شبيه بالنظام الملكي السابق، وأنه دكتاتوري أكثر من النظام السابق)([87])

ثم دعاهم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الذين يدعون العلماء إلى اعتزال السياسة، فقال: (نحن لدينا مشاكل داخل البلاد ومع الأجانب، وبين بعض الذين لا يروق لهم أن يتولى رجال الدين بعض المسؤوليات ويطالبونهم بالتفرغ للمساجد والصلاة وأن يتركوا شؤون الحكم لهم)([88])

وحكى لهم عن نفسه، وأنه تعرض لمثل هذا عندما كان معتقلا، فقال: (لازلت أتذكر، بأنه عندما تقرر اطلاق سراحي من السجن، جاءوا إلي وأخذوني إلى غرفة واسعة وفخمة، وهناك رأيت رئيس جهاز الأمن آنذاك، حسن باكروان ـ الذي قتل فيما بعد ـ فبدأ يتكلم عن السياسة ويصفها بأنها كذب وخداع وتضليل، وفي آخر المطاف قال: (إنها مهنة لعينة دعوها لنا)، فقلت له: حسناً إنها لكم، فإذا كانت السياسة كما تقول فإنها لكم.. فذهبوا ونشروا في الصحف خبرا يقول: لقد توصلنا إلى تفاهم مع فلان من الناس على أن لا يتدخل في السياسة.. وفي أول خطاب لي بعد ذلك قلت بأن القضية كانت أوضحت حقيقة ما جرى) ([89])

ثم ذكر لهم أن ما جرى له قبل الثورة هو ما يجري لهم بعدها، فقال: (والآن أيضاً يريد هؤلاء أن يقولوا: إن السياسة هي هذه الأمور، وعلى العلماء الأفاضل أن لا يخادعوا ويضللوا، ويذهبوا إلى المسجد ويضعوا العمامة على رؤوسهم لكي يصلوا ويشرحوا بضع المسائل الفقهية للناس ويرجعوا إلى منازلهم مكرمين، ونحن أيضا سنكنّ لهم الاحترام.. إن معنى قولهم أن اتركوا الحكومة لنا، لأنكم لستم أهلًا لهذه الأمور ونحن سنتولى إدارتها. في الواقع، هذا هو منطقهم) ([90])

ثم بين لهم الأيديولوجية التي تنطلق منها أمثال هذه الدعوات، فقال: (إن الكثير من هؤلاء يخافون من الإسلام ومنكم لأنكم دعاة للإسلام وتتطلعون لنشر الإسلام في العالم. إنهم، وقبل أن تنطلق هذه النهضة كانوا يخافون من الإسلام وأتباعه، لذلك حاولوا تحقير جميع الأديان بنظر الناس، وكانوا يقولون بأن الدين مخدر للمجتمع، وقصدهم بأن هذه الأديان هي من إبداع السلاطين وأصحاب النفوذ لتخدير الناس، مثل الأفيون تماماً، حتى يستولوا على ثرواتهم دون أي مقاومة. وكانوا ينعتون علماء الدين‏ بوعاظ السلاطين وأنهم من صنع الإنجليز)([91])

ثم بين لهم أن المؤامرة التي تستهدفهم لا تزال قائمة، بل إنها تشتد، خاصة بعد أن تحقق النصر، فقال: (لقد رأوا بأم أعينهم في هذه النهضة كيف أن الإسلام يملك القدرة الكافية للنصر على القوى العظمى حتى ولو كان أعزلًا، وأن رجال الدين يحظون بدعم الشعب وتأييدهم، وبوسعهم القيام بأي عمل يريدون القيام به. والآن بعد أن شاهدوا هذا بأم أعينهم، تضاعف خوفهم مئات المرات وشرعوا يتخبطون ويحاولون الإساءة إلى سمعتكم أمام الناس كي ينفضوا عنكم، وليظهروكم بأنكم لم تكونوا شيئاً، والآن بعد أن أصبحت السلطة في أيديكم لم يتغير فيكم شيء. فهدفهم أن يقولوا بأن رجال الدين لم يستطيعوا يوما فعل شيء، والآن بعد أن أصبح كل شيء في أيديهم فإنهم أعجز من أن يفعلوا شيئاً!! فإذا سرتم خطوة واحدة على المسار غير الصحيح حاولوا تضخيم الأمر مئات المرات، وذكروا ذلك في وسائل إعلامهم وصحفهم في الخارج والداخل معاً)([92])

وفي خطاب آخر له ذكر المخططات الاستعمارية الموجهة لعزل العلماء عن السياسة، حتى يتسنى لهم تمرير كل مشاريعهم، فقال: (قامت الأيدي المشبوهة للمستعمرين من خلال أشخاص ومجموعات نفذت إلى الفئات المختلفة للشعوب الإسلامية وقامت بتنفيذ برامج طيلة سنوات طويلة. ومع الأسف فقد تم وقدّم ثماره الخبيثة إلى الشعوب. وهو أن علماء الدين يجب أن يعزلوا في المساجد والحجرات والزوايا وكل همهم أن يذهب شيوخهم من المنـزل إلى المسجد ومن المسجد إلى المنـزل، وأن يكونوا منفصلين عن المجتمع لا يهمهم ما يجري فيه من أمور. حتى أن التدخل في الأمور الاجتماعية والسياسية للبلاد كان عاراً يخالف عدالة ومنـزلة علماء الدين! وكان واجب علماء الدين الشبان هو القعود في زوايا المدارس والغرف الرطبة والاقتصار على تحصيل العلوم، والعلوم التي لا ترتبط بالمجتمع، ولا ترتبط بسياسة المجتمع. حتى أن لباس العسكرية كان من جملة الأشياء التي لو أن رجل الدين لبسها لأخرجه عن العدالة! والتدخل في الأمور السياسية كان قد روّج له أنه يخالف منـزلة علماء الدين؛ وفلان إذا كان سياسياً يجب إخراجه من مجموعة علماء الدين. كان هذا أمراً خطط له من أجل عزل علماء الدين وجرهم إلى زوايا الانعزال وغرف المدارس وزوايا المسجد واقتنع به أكثر علماء الدين، والأكثرية الساحقة للأمة. وإذا كان هناك أمر يتعلق بالسياسة أو المجتمع أو المشاكل السياسية والاجتماعية للإسلام والبلد الإسلامي؛ فلا يجوز لرجل الدين أن يتدخل فيه! هذا الأمر أخذ من أوروبا لأن هؤلاء أيضاً قاموا بعزل علماء دينهم من أجل أن يقوموا بأي عمل في حق الشعوب دون أن يوجد من يقول لهم لماذا قمتم بهذا العمل. هنا أيضاً في بلدنا، وفي البلاد الإسلامية الأخرى، نفس المخطط. لو تدخل علماء الدين في أمر سياسي معين فان الشعب كان يؤاخذهم، ونفس علماء الدين يؤاخذونهم. يجب أن يكونوا منعزلين عن السياسة وعن مصائب الإسلام والمسلمين ويجب أن توكل هذه الأمور إلى السلاطين وعمالهم. كانت هذه خطة رسمت منذ فترة طويلة واستفادوا منها فوائد كبرى)([93])

ثم بين لهم دور الثورة الإسلامية الإيرانية في إحباط هذه المؤامرة بسبب تلك المواقف الطيبة الشجاعة من العلماء، فقال: (اليوم حصل في شعبنا تغير كبير، وقد تفضل الله بعنايته فأوجد هذا التحول بقدرته وقد حدث مثل هذا التحول عند علماء الدين. الآن هم يشاركون في الجهاد إلى جانب المجاهدين ويقدمون الضحايا والشهداء ويظهرون بين حشود الناس بالسلاح وقد زال حاجز عدم تدخل علماء الدين بالأمور الاجتماعية والسياسية والحربية. بحمد الله أنتم أيها السادة وجميع علماء البلاد وجميع طلاب العلوم الدينية وعلماء الدين موجودون في ساحة الأحداث وتشاركون إخوانكم في الحرس وإخوتهم، في الجيش، في الجبهات وتضحون) ([94])

ب ـ التحذير من تشويه علماء الدين:

ونلاحظ هذا كثيرا في خطب الإمام الخميني وبياناته، وهو يعتبرها من أخطر الوسائل التي يستعملها المغرضون الحاقدون لينفروا من العلماء، أو ليصوروهم بصورة المستبدين، أو كما عبر بعض الإعلاميين العرب عن ذلك بقوله في برنامج له ببعض القنوات الفضائية التي تبث سمومها وحقدها على إيران: (ذهبت القبعات وجاءت العمائم)

وقد أشار الإمام الخميني إلى دوافع ذلك التشويه، والذي تولى كبره المستعمرون والمستبدون، فقال: (من جهة ثانية أمعن أولئك الخبراء في دراسة نفسية الناس فرأوا أن أبناء الشرق سيما المسلمين وبالأخص الشيعة يولون علماء الدين احتراما خاصا ويتبعونهم. فماذا يفعلون حتى يفصلوا علماء الدين عن الناس؟ وضعوا خطة تقضي بإسقاط هيبة علماء الدين أمام الناس) ([95])

ثم ذكر لهم ما مارسه الشاه من أساليب التشويه، فقال: (أنتم لم تكونوا في عهد رضا شاه، أكثركم لم يكن موجودا، أما أنا فقد أدركت ذلك العهد ومن هم في عمري الآن يتذكرون ذلك العهد ويتذكرون كيف أنهم وطبقا لخطة وضعت في الخارج حاصروا عالم الدين إلى حد أنه لم يكن قادرا حتى التنفس، وقد رسمت لعالم الدين صورة جعلت الناس لا يقبلون حتى أن يقلوه بسياراتهم! لقد فصلوا بين الناس وبين علماء الدين. غاية ما في الأمر أن مخططهم لم ينجح، أرادوا أن يحققوا ذلك ولكنهم عجزوا عنه رغم كل مساعيهم ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]، ولكن خطتهم نجحت في مجال آخر وهو فصل علماء الدين عن الجامعات، فلم يكن يحق لعالم الدين التحدث عن الجامعة حتى فيما بيننا، ولم أر جامعيا يذهب إلى علماء الدين، فهو يرى في عالم الدين موجودا مضرا جاء به الإنجليز إلى هنا.. لقد كنت شاهدا على مثل هذه الأمور. فذات مرة وقبل عدة سنوات كنت مع اثنين من أبناء العلماء المحترمين في حافلة يستقلها آخرون وسمعت احدهم يقول لصاحبه لم أر مثل هذه الأجساد منذ مدة مشيرا إلينا، ثم قال له بعد ذلك بان هؤلاء قد جاء بهم الإنجليز إلى النجف والى سائر الأماكن كي يضلوا الناس.. فالجامعي يرى بان علماء الدين إما أن يكونوا وعاظ للسلاطين أو مرتبطين بالإنجليز! ولا أدري ما هو رأيكم في هذا الجامعي هل هو متغرب.. لقد فصلوا فئات الأمة بعضها عن بعض وحققوا أغراضهم من عملية الفصل هذه)([96])

وأشار الإمام الخميني إلى بعض تلك المحاولات إلى تشويهه، وتصويره بصوره المستبد، فقال ـ في خطابه للعلماء محذرا لهم من أن يعطوا الذريعة لأمثال هؤلاء ـ: (البارحة التقيت إحدى المراسلات الصحفيات، وكان أحد السادة يقترح أن تأتي للقائي لأوضح لها بعض الأمور، فهي تريد أن تؤلف كتاباً ـ كانت امرأة أجنبية ([97]) ـ وأحد الأمور التي سألت عنها وأجبتها، قالت: إنني حين أراك أراك إنساناً هادئاً، ولا يبدو أنك غير ذلك، ولكنهم في الخارج يصورونك بشكل آخر، فقلت لها بأني أعرف بأنهم يقولون: إنني هتلر، واليوم أحضروا لي صورة لهتلر وهو يقف واضعاً يديه على خصره، وقاموا بتلفيق صورة لي وأنا شاهر سيفي عالياً لكي أقطع الرقاب.. قلت لها: أعلم كل هذا وقد قالوا عني غير ذلك، وبإمكانك أن تذهبي إلى الناس وتسأليهم عن صحة هذه القصص.. بعدها قالت: ألستم متأسفين لأنهم كتبوا هذه الأشياء عنكم.. فقلت: أنا متأسف من هذه الناحية وهي كيف يمكن لإنسان، من المفترض أن يكون لديه إنسانية، أن يكون ضالًا إلى هذه الدرجة ويكتب أشياء لا أساس لها من الصحة لأجل مصالحه، فهذا مدعاة للتأسف بالفعل، والإسلام قد جاء ليرشد الجميع ويهديهم، الإرشاد بالطبع لطريق الصواب، وأنا متأسف لأن الناس هم هكذا، ولكن في الوقت نفسه نحن لا نتوقع منهم أن يكتبوا عنا غير هذه الأشياء. فقد أوقفناهم عن سرقة ثرواتنا.. إن أبناء الجمهورية الإسلامية الإيرانية قطعوا دابر هؤلاء عن ثرواتنا، ولهذا فإننا لا نتوقع منهم الثناء والمديح، فليقولوا ما يشاؤون، ونحن ليس علينا إلا أن نواصل طريقنا)([98])

وفي خطاب آخر له ذكر المؤامرات التي تستهدف العلماء، لتقضي على الدين بالقضاء عليهم، فقال: (أعزائي، إخوتي، أخواتي! لتنتبه جميع فئات الشعب إلى التيارات المنشغلة بالعمل على تصوير علماء الدين في أعين الناس بشكل آخر والتي تعمل على فصل الناس عن علماء الدين وفصل الجامعة عن علماء الدين وتحقيق أهدافها. ولو من خلال إيجاد نظام يحكم الشعب بأساليب ماكرة؛ نظام له مظهر إسلامي بحيث يصيح أكثر منكم، ولكن هو في الباطن منافق يعمل خلافاً لمصالح البلاد.. اليوم الحيل الشيطانية للقوى الكبرى تعمل لفصل الشعب عن علماء الدين وفصل علماء الدين عن الشعب وعن الجامعة وعن الشباب. وهذه هي الخطة التي يريدون من خلالها عزل علماء الدين في الحجرات والمساجد ليتسنى لهم القيام بما يحلو لهم.. هؤلاء الذين ينتقدون علماء الدين أين هم، وفي أي زاوية؟ الذين هجموا عند الثورة على مخازن الأسلحة ليسرقوها، والآن الأسلحة في أيديهم وعندما بدأت الحرب فانهم جلسوا جانباً ينتظرون أن ينتصر العراق أو دولة أخرى ليلتحقوا بهم.. علماء الدين عندنا حاضرون دائماً في الساحة. شهداؤهم الآن في مقابل عيني حاضرون. ونفس علماء الدين الشبان قد رجعوا من الجبهة بأسلحتهم. هؤلاء الذين ينتقدون علماء الدين، في أي جبهة هم؟ ومن من الشهداء قدّموا؟ فليأتوا وليعرضوه.. لقد قاموا بنهب الأسلحة وجلسوا جانباً ينتظرون أن تتم هزيمة إيران. وصالحوهم ـ إذا كان بينهم صالح ـ يريدون الاستفادة لصالحهم وأن يتنحى هؤلاء الذين قدموا الدماء جانباً ليتسنى لهم الحصول على المكاسب التي حققها أولئك. المنحرفون لا يعتقدون بالإسلام ولا بعلماء الدين ولا الجامعة)([99])

وهكذا يرد في الكثير من خطبه على تلك المقولات التي يرسلها الشيوعيون وغيرهم من أن الدين أفيون الشعوب، وأن العلماء جنود السلطان، ومن ذلك قوله في بعض خطبه: (يوجد الآن الكثير من الأمور التي تستطيع شغل فكر شبابنا اليوم، ومن هذه الأمور تشويه صورة الإسلام في نظر الشباب، لأنهم يخشون دور الدين في تقوية هؤلاء الشباب. ولأن علماء الدين يقفون في مواجهة هؤلاء المغرضين لذا راحوا يهاجمونهم متهمينهم بأنهم وعاظ السلاطين. بيد أن البلاط هو الذي كان يعمل على إيجاد هؤلاء المعممين كي يتسنى له نهب ثروات الشعب ويقوم هؤلاء بالمدح والثناء له. وكانوا يفعلون كل ذلك من أجل إبعاد الناس عن الإسلام وعن علمائه، ويجرونهم من هاتين القوتين)([100])

ثم ضرب الأمثلة الكثيرة التي تدل على خطأ أمثال هذه المقولات، فقال: (إن كل التحركات المعارضة للسلاطين التي ظهرت خلال المئة سنة الأخيرة كان منشؤها علماء الدين. ولابد أنكم تذكرون أن قضية (التنباك ـ التبغ) كانت في بداياتها من قبل علماء الدين في إيران والعراق وفتوى المرحوم الميرزا الشيرازي التي لاقت أصداءً واسعة لدى العلماء في طهران وكذلك الناس الذين أظهروا ميلهم وولائهم لعلمائهم والالتزام بالفتوى والضغط على النظام المستبد للعودة إلى مرحلة المشروطة، وطبعاً لم يتسن لمرحلة المشروطة أن تتحقق كما كان يتطلع إليها الشعب. وفي عهد رضا شاه كما أذكر ويذكر ذلك الشخص (يشير إلى أحد الموجودين) والقليل منكم، كانت هناك محاولات كثيرة للقيام على الحكم، وكل تلك المحاولات قام بها علماء الدين. كما أن الثورة التي حدثت في أذربيجان كانت على يد علماء الدين، ولكن على كل حال كانت القوة والقدرة في أيديهم، وقاموا بنفي كل من حاول القيام عليهم وفي الفترات الأخيرة أسقط عنهم حكم النفي، وكان أحدهم المرحوم السيد الميرزا آغا صادق الذي أتى إلى قم وبقى فيها حتى وفاته. وكان هناك محاولة أخرى قام بها جمع من علماء خراسان وعرفت باسم قضية مسجد كوهر شاد، ولكن تم اعتقالهم ونقلوا إلى طهران حيث حوكموا فيها وسجنوا. ومحاولة أخرى قام بها علماء أصفهان حين أتوا إلى قم ودعوا كافة الأطراف إلى الانضمام اليهم، القدرة كانت في أيدي السلاطين حيث قضوا على هذه المحاولة أيضاً. ففي تلك الفترة لم يكن الوعي قد أخذ شكله الصحيح في نفوس الشعب. حتى في أيامنا هذه، تعرضت المدارس العلمية للهجوم، وهذه المدرسة الفيضية تعرضت عدة مرات للهجوم، كسروا الأبواب والنوافذ وأحرقوا الكتب والعمائم، وتعاملوا بوحشية مع كل من كان فيها، وقد حدث كل ذلك من اجل إبعاد الشعب عن الإسلام وعلمائه)([101])

ج ـ تحذير العلماء من تشويه الإسلام:

ونلاحظ هذا كثيرا في خطب الإمام الخميني وبياناته، وبناء عليه كان يدعو العلماء كل حين إلى مراعاة تصرفاتهم، حتى لو كانت ضمن دائرة المباحات، والأشياء العادية، حتى لا يعطوا الفرصة للمغرضين، ومن ذلك قوله في خطابه لهم: (مثلما أن مقامكم رفيع وعظيم، فإن مسؤوليتكم عظيمة أيضاً وجسيمة بقدر عظمة منـزلتكم وسموها، فإذا افترضتم أن لجنة ما تعمل تحت إشراف بعض السادة وكان أحد السيئين في هذه اللجنة، فإن خصومنا لن يقولوا إن شخصاً سيئا في هذه اللجنة، بل إن علماء الدين لا يقولون إن هذه حال اللجنة وإنما عالم الدين هو هكذا، لذلك فإن مصداقية عالم الدين مرهونة بأعمالنا، طبعاً هي كذلك دائماً ولكن اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ فقد كانت موجودة في زمان الطاغوت، ونحن لم نقم بأي شيء وأنتم كذلك وقد كنا نقبع تحت مظلة الظلم، وأن المظلوم محبوب، وكانت المظلومية تجلب المحبة. والآن أقيمت الجمهورية إسلامية، وزال نظام الطاغوت، ومن المفترض أن النظام قد أصبح إنسانياً إسلامياً. وأنتم تصدون لبعض الأمور لكي تساعدوا هذه النهضة، فالآن ليس كما كان عليه الوضع سابقاً بأنه إذا حققنا شيئاً فلأننا كنا مظلومين، فلقد كنا مظلومين ومحبوبين، والناس لم‏ يكونوا يجرؤون على النقاش. أما الآن فقد تغير الوضع، وأصبح الناس يناقشون الأمور، فإذا ما ترأس أحدكم لجنة ما وقام أحد أعضاء اللجنة بعمل غير لائق فإن المخالفين لأهل العلم سيقولون بأن عالم الدين هو هكذا، سيقولون إن رجال الدين جميعهم هكذا. وسوف تصدق الناس الشائعات والدعايات عندما يعاد تكرارها باستمرار)([102])

وفي خطاب آخر له بتاريخ 9 شعبان 1399 هـ وجهه للعلماء والحرس الثوري، باعتبارهما الحامي الأكبر للثورة الإسلامية، أشار إلى هذا المعنى، فقال: (يحضر في هذا المجلس الحرس والعلماء والطبقات الأخرى ويقلقني ذلك الشيء الذي إذا قُلته سيُقلق السادة الحاضرين، وهو أنه في هذا الوقت الذي أوصلت فيه همة جميع الطبقات والفئات هذه الثورة إلى هذه المكانة، ودحرت العدوّ وكفّت يد الأجانب يواجهنا خطر أسوأ من تلك الأخطار المحدقة بنا. وذلك الخطر يأتينا من طائفتين هما الشيوخ والحرس الذين يعدّ رجال الدين جزءاً منهم أيضاً فأولئك هم حرس الإسلام كذلك، والآخرون حرسه أيضاً، بل كلّ الأمّة يجب أن تكون حرس الإسلام كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.. ذلك الخطر الذي يقلقني الآن ـ وأنا أكرّرهُ على كل جماعة تأتي إلى هنا ـ ليس هو أن نهزم، فالهزيمة ليست خطراً، فأكثرهم باءوا بالهزيمة في المعارك حتى الرسول نفسه غُلِب أحياناً، وهُزِمَ أمير المؤمنين في الحرب مع معاوية.. ولو أن ذاك النظام الذي كان وثرنا عليه وقمتم عليه هُزِمنا ـ فرضاً ـ لما كان به بأس، ولو كانوا قد قتلونا من أجل الإسلام، لما فاتنا شيء)([103])

ثم بين لهم أن الخوف أكبر من أن يرتبط بالهزيمة ذات المصدر الخارجي، وإنما الخوف من الهزيمة ذات المصدر الداخلي، حين يتحول العلماء والحرس إلى أداة لتشويه الدين، قال: (ما يوجب القلق الآن ينبع من هاتين الطائفتين، وهم علماء الدين الذين هم حرس الإسلام والقرآن من صدر الإسلام حتّى الآن، والحرس الإسلامي أضيفوا إليهم اللجان ومحاكم الثورة الإسلامية، فلو لا سمح الله صدرت أعمال مخالفة للمألوف في نظر العالم عن هؤلاء الذين هم في نظام الإسلام الآن.. لو صدر عنا أو عنكم أو عن اللجان أو المحاكم الثورة الإسلامية هذه الأعمال، لصارت سبباً لأولئك المعادين لنا وهم كثرة كاثرة في الخارج، وفي الداخل أيضاً، وهم يبحثون عن زلّة نـزلّها، ويجعلون الواحدَ علينا ألفاً، ويُذيعونه في صحف الخارج ومجلاته، ويشيرون إليه في الداخل قائلين: هذا هو النظام الإسلامي، هؤلاء حرّاسه، وهؤلاء شيوخه، وهؤلاء العاملون في أسواقه، وهذه طبقاته، ويُزلزلون مدرستنا. ويُعرفون الإسلام بأن هؤلاء هم حرس الإسلام، وأن اليوم جمهورية إسلامية، ولكنها لا تختلف عن النظام السابق، ففي ذلك الوقت كان محمد رضا بهلوي ومنظّمة الأمن يخالفون، والآن الشيوخ والحرس ومحاكم الثورة واللجان يخالفون، ومن هذا يظهر أن الإسلام مثل سائر الأنظمة أيضاً. لا يقولون بأنني خالفتُ، أو أن السيّد خالف أو أنتم خالفتم. يقولون: الآن نظام إسلامي وجمهورية إسلامية)([104])

ثم بين لهم أن تشويه الثورة أخطر من كل أنواع الهزائم، لأنه لا يرتبط بالمشوهين فقط، وإنما بالإسلام جميعا، قال: (هذا خطر هو مصيبة من أدْهى المصائب. ما كان في قتل سيّد الشهداء من إشكال، لأنّه رآهم يقضون على الدّين، فأحياهُ بشهادته، استشهد هو، وأحيا الإسلام، ودفن النظام الطاغوتي لمعاوية وابنه.. وإذ رأى سيد الشهداء هؤلاء يكدّرون الإسلام، ويرتكبون الخلاف ويظلمون باسم الخلافة الإسلامية، ويتردّد هذا في الدنيا أن خليفة رسول الله يرتكب هذه الأعمال رأى واجبه أن يُقبل على الشهادة ويمحو آثار معاوية وابنه. فالقتلُ، الشهادةُ لسيد الشهداء لم تكن شيئاً مضرّاً بالإسلام، بل كان نفعاً له، فقد أحيا الإسلام. فلو قُتلنا نحن جميعاً في هذه الثورة التي ثرناها وهذا السبيل الذي سلكناهُ معارضة ونضالًا، لما كان في ذلك إشكال لأننا سلكنا سبيلنا الذي يجب وقتلنا في سبيل الإسلام. ما كان الإسلام في خطر، بل كان يزداد حيوية. أما الآن وقد آل إلينا وطردتم الخصم، وقبضتم على مقاليد بلادكم، فإنّه لو صدر عنكم خلاف الشرع ـ لا سمح الله ـ واختلف الشيوخ فيما بينهم في البلاد، وعارض بعضهم بعضاً، واختلف الحرس، وشهر أحدهم بندقيته على الآخر، واختلفت اللجان، ولم تقبل المحاكم على القضايا على ما يجب، فإنّ الناس لا يقولون اليوم: هذا سافاكي فعل كذا، وإنما يقولون: هذا شيخ، وهؤلاء هم الشيوخ. وهذا هو استبداد العمامة والمداس، ويشان ديننا لا أنفسنا، نحن لسنا مهمّين، المهمّ إلا يلوّث ديننا.. فهؤلاء الذين يضعوننا تحت النظر وضعاً غاية في كمال الدقة وهم أعداؤنا وأعداء الإسلام أيضاً لا يقولون: فلان ارتكب سوءاً، وإنما يقولون: صار النظام الآن إسلامياً، وهؤلاء الذين يدعون قائلين: نحن حرس الإسلام وحماته، رجال الدين يقولون أيضاً: نحن حرس الإسلام، وهذا وضعهم، وهو يدلّ على أن الإسلام هكذا، يظهرون الأمر بأن هذا هو الإسلام، وأن الشيوخ كانوا يكذبون في أن الإسلام دين التقدّم. هذه هي الغُصّة)([105])

وهكذا نراه يردد وصيته للفقهاء، والتي يذكرها كثيرا، والتي يحذرهم فيها من استغلال فرص ما يعطى لهم من الولايات في البعد عن التواضع والزهد والورع، فيقول: (إياكم والانحراف عن خطّكم هذا والانخراط في مجالات أنتم بغنى عنها كأن يتخذ كل عالم دين أربعة من الحراس الشخصيين أو أن يؤسس مكتباً ويتخذ له عدداً من الحراس ويقوم بفعل ما يشاء. لو فعلتم ذلك ستكون الفتنة الكبرى ويكون الأوغاد قد نجحوا في حرفكم عن المسير الصحيح وبهذا سيتذمر الكثيرون من وجودكم في المؤسسات والمحاكم. وستصبح نظرتهم سوداوية تجاهكم ولن يروا إلّا أخطاءكم فحسب)([106])  

وهو لا يكتفي بذلك، بل يدعو إلى أن يلتزم العلماء وخصوصا من أنيطت بهم بعض المسؤوليات، بتحري الزهد والورع، وألا يراهم الناس بصورة الظلمة والمستبدين، ففي خطاب له بتاريخ 27 شوال 1405 هـ في الاجتماع السنوي الثالث لمجلس الخبراء قال: (من أهم المسائل التي أريد التذكير بها هي المسألة التي ترتبط بالروحانيين والمسؤولين في البلاد وتقلقني دائماً وهي أن لا يقلق منا هذا الشعب الذي ضحى بكل شيء وخدم الإسلام ومنّ علينا بذلك، بسبب أعمالنا، لأن ما توقعه الناس منا وما يزالون يتوقعونه ومن أجله ساروا وراءنا ووراءكم وروجوا الإسلام وأقاموا الجمهورية الإسلامية وأزاحوا الطاغوت وقضوا عليه، هو كيفية معيشة أهل العلم بحيث لو رأى الناس لا سمح الله أن السادة قد غيّروا أوضاعهم وأنشأوا العمارات وصارت تحركاتهم غير مناسبة لشأنهم فسيزول ما كانوا يحسونه في قلوبهم نحو علماء الدين، وأن هذا الزوال يساوي زوال الإسلام والجمهورية الإسلامية. ولا يخفى أن‏ هناك مجموعة معرّضة لخطر فعليهم المحافظة على أنفسهم، فلا تتصوروا أنكم عندما تأتون مصحوبين بعددٍ من السيارات تزداد منـزلتكم عند الناس، إن ما يجلب انتباه عامة الناس ويوافق أمزجتهم وأذواقهم هو بساطة عيشكم كما كان زعماء الإسلام والنبيّ وأمير المؤمنين وأئمتنا يعيشون عيشة بسيطة وعادية بل دون العادية، وأولئك الذين أقاموا الجمهورية الإسلامية هم الناس العاديون وأما أولئك الذين يجلسون في البروج فلم يكن لهم أي دور في هذه الأمور، فأصحاب السوق، المزارعون وعمّال المصانع والطبقات الضعيفة في الحساب الدنيوي والأقوياء في الحساب الأخروي ينتظرون منا أن نعيش هكذا، فلو انحرفت نفوس الناس عنا لا سمح الله فلن يلحق الضرر بنا وحدنا بل بالإسلام أيضا، وعلينا أن نحافظ على الذين حافظوا على الجمهورية الإسلامية وسيحفظونها فيما بعد، وأن‏ حفظها يتم بأن نعيش بشكل عادي بسيط وأولئك الذين يريدون أن يحافظوا على أنفسهم عليهم أن يعلموا بأنهم يمكنهم بواسطة سيارة (پيكان) أن يحفظوا أنفسهم أفضل من أية سيارة أخرى، إما أئمة الجمعة والجماعة فمن الممكن أن يتعرضوا للاعتداء فيما لو خرجوا بشكل اعتيادي فيجب حفظهم بالمقدار الذي لا يتجاوز الحدّ بحيث أن أراد إمام الجمعة الخروج فالشوارع تخلى من المارة ويثار الضجيج، فمثل هذه الأمور تحطّ من كرامتهم لدى الناس)([107])

ثم خاطبهم خطاب العارف الزاهد، فقال: (إن كرامتكم وعظمتكم أيها السادة ليست بالدنيا بل بالآخرة وأن تكونوا وجهاء عند الله وهذا أمر مهم في حفظ الجمهورية الإسلامية، وعلينا أن نكون حذرين، وعلى أهل العلم ورجال الدولة والمسؤولين أن يكونوا أكثر حذراً، لأنَّ الجميع يبحثون عن نقطة ضعف لدينا وخصوصاً لدى أهل العلم ليذيعوها في كل مكان، وعلينا أن نعيش بشكل لو سلبناه فلا نتحسر عليه لا مثل رئيس جمهورية أمريكا الذي لو سلبه لمات من الحسرة غمّاً) ([108])

د ـ التحذير من علماء السوء:

ذلك أن كل الثورات ابتليت بهذا النوع من العلماء، والذين لا يكتفون بعدم الانضمام لصفوف الثوار، أو السكوت عن مناصرتهم، أو الوقوف موقف الحياد، وإنما يضيفون إلى ذلك كله الانضمام إلى صفوف الأعداء، قبل الثورة، وبعدها.

ولهذا حظي هذا الصنف باهتمام كبير من قادة الثورة الإسلامية، بل إن الإمام الخميني كتب بعض كتبه في الرد عليهم، وخاصة على أولئك الذين يدعون الفقهاء إلى اعتزال السياسة، أو يعتبرون عدم شرعية الولي الفقيه.

بل إن بعضهم ـ كما يذكر تاريخ الثورة الإيرانية ـ راح ينضم إلى صفوف أعداء الثورة، ويزكيهم، على الرغم من انتماءاتهم للمعسكرات الغربية، في نفس الوقت الذي يشتد فيه على إخوانه من العلماء الفقهاء، وخاصة الإمام الخميني.

وقد سمى الإمام الخميني هذا النوع من العلماء بالقشريين، حيث يقول عنهم: (إن المجتمع الإسلامي اليوم مُبتلى بمجموعة من القشريين كذباً والذين يعملون على إيقاف مسيرة الإسلام والمسلمين، يوجّهون الضربات للإسلام باسم الإسلام نفسه)([109])

وسماهم [وعاظ السلاطين]، كقوله في نداء له قبل الانتصار بتاريخ 21 شعبان 1398 هـ مخاطبا الشعب الإيراني: (على أئمة الجماعة ـ دامت بركاتهم ـ أن يدعوا الخطباء الملتزمين والمحبِّين للحركة الإسلامية، ليتولوا تنوير الناس بأهداف نبيلة، ويتجنبوا دعوة وعاظ السلاطين ومن يختارون مواضيع تنصبّ في مصلحة النظام الظالم سواء عن علم أو جهل، ليحجبوا بذلك عن الشعب قضاياه المصيرية الراهنة، ويبتعدوا عن الخطباء الذين يختارهم عملاء الحكومة، ويجعلوا التضحية في سبيل الإسلام ومصالح المسلمين في رأس أعمالهم)([110])

وهو يعتبرهم أخطر من سلاطين الجور أنفسهم، فيقول: (لقد أصبح بعض العملاء المخلصين للقوى الكبرى الغافلين عن الله، يمثلون أمريكا المجرمة وسائر القوى الناهبة، حيث يهاجمون هذا الشعب المظلوم من الداخل والخارج بأسلحتهم وبأشياء أسوأ من السلاح الناري ويريدون الإطاحة بالثورة الإسلامية والإجهاض على الإسلام الغالي ولا يتورعون عن إلصاق أية تهمة أو افتراء إلى الشعب الذي لا يفكر إلّا بأحكام الإسلام والقرآن الكريم. وقاموا بقمع هذه الثورة الإسلامية بذرائع واهية، أن من يمتلك السلاح الناري من بينهم مثل صدام حسين يهاجمنا بهذا السلاح ومن لا يملكون هذا السلاح يهاجمون شعبنا المظلوم بأقلامهم السامة التي تفوق السلاح الناري في الإجرام ـ أن إيجاد الاختلاف بين المسلمين من الجرائم التي تنتفع بها القوى الكبرى وقد تم التخطيط لإيجاد هذه الخلافات بين المذاهب الإسلامية على أيدي عملاء القوى الكبرى الغافلين عن الله ومن ضمنهم وعاظ السلاطين الذين هم أسوأ حالًا من سلاطين الجور أنفسهم حيث يوسعون كل يوم دائرته ويتشدقون به ويقدمون في كل مرحلة مشروعاً لإيجاد الخلاف بهدف تقويض وحدة المسلمين من الأساس)([111])

وهكذا نجده يعتبرهم أحفادا لـ (بلعم بن باعوراء)، حيث يقول في العلماء الذين وقفوا مع الاستكبار العالمي ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية: (في منطق الاستكبار العالمي كل من يحاول أن يتبرأ من الكفر والشرك سوف يتهم بالشرك، ويفتي أصحاب الفتيا من أحفاد (بلعم بن باعوراء) بكفره وقتله؛ ففي النهاية يجب أن يتجلى في تاريخ الإسلام سيف الكفر والنفاق الذي تستر وراء لباس الإحرام الكاذب لليزيدين والمأجورين من بني أمية عليهم لعنة الله وأمعن في قتل وسحق أفضل أبناء نبي الإسلام الصادقين، سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأنصاره الأوفياء، أن يتجلى ثانية من أكمام الوارثين لبني سفيان ليحز الحناجر الطاهرة والمطهرة لأنصار الحسين عليهم السلام في ذلك الطقس الحار في كربلاء الحجاز وفي مذبح الحرم. وأن يكيلوا لهم الاتهامات ذاتها التي كالها اليزيديون إلى أبناء الإسلام الصادقين حيث نعتوهم بالخوارج والملحدين والمشركين واهدروا دمائهم)([112])

ويقول في موضع آخر: (واليوم حيث تحاول طائفة من المسلمين، من إيران وغيرها، استغلال هذا الاجتماع العام لطرح القضايا الإسلامية وتداول هموم المسلمين ومعاناتهم وبحث القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعنيهم، والمتاعب التي أوجدتها القوى الكبرى لهم والمعاناة التي خلقتها الحكومات لهم؛ فإننا نجدهم يعارضونها بكل ما أوتوا من قوة. لقد أظهروا الحج في صورة هزيلة، واقنعوا الناس بأن الأمر لا يتعدى هذه المناسك الصورية. حتى أن بعض وعاظ السلاطين يحاول تكفير إيران واعتبار الإيرانيين غير مسلمين لأنهم يعارضون أميركا. لأنه في تصوره ليس هناك ذنب يخرج الإنسان من الإسلام أكبر من التطاول على أمريكا وإسرائيل.. هذه هي معاناتكم أيها المسلمون)([113])

ويقول في موضع آخر: (إن الكتّاب والخطباء ووعاظ السلاطين يقدمون العون للقوى الكبرى في تحقيق أهدافها فيما يجلس المسلمون يتفرجون.. أليس من واجب المسلمين الاعتراض على كل ذلك؟ هل المسلمون وحدهم؟ ألا ينبغي أن نتعظ من تاريخ رسول الله حيث كان رجلًا واحداً واستطاع أن ينجز كل هذه الأعمال العظيمة؟ ألا ينبغي لنا أن نتعظ من التاريخ، حيث نهض موسى وفعل ما فعل مع فرعون؟. يجب أن نتعظ. فيوم واجه رسول الله الأعداء كان وحيداً، حتى عشيرته كانت تعاديه. غير أن الاتكال على الله تعالى والفناء في الله، هما اللذان مكّناه من تحقيق أهدافه. فليس بوسع الإنسان أن يكون أنانياً وعبداً لله في وقت واحد. لا يمكن أن ينظر الإنسان إلى مصالحه ومصالح الإسلام في وقت واحد. فلا بد من الاختيار إما أن يكون ربانياً أو شيطانياً. إنهما طريقان، وعليكم أن توعوا الناس للتخلص من هذه الأهواء النفسانية)([114])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي لا تقل عن حملته الشديدة على الاستبداد والاستكبار العالمي، ذلك أن علماء السوء يمثلون مددا خطيرا لكليهما.

2 ـ دور النخبة المثقفة في الثورة:

لم يكتف قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالاهتمام بالعلماء، وتوجيههم لخدمة الثورة، والدعوة لها، والحفاظ عليها، وإنما أضافوا إليهم إشراك كل المثقفين سواء كانوا أدباء أو فنانين أو غيرهم، لعلمهم أنه لا يمكن أن يكتمل دور العلماء ما لم يسانده دور هذه الطبقة من المثقفين، والتي قد يكون لها من الحضور في بعض الأوساط الجماهيرية ما لا يكون للعلماء أنفسهم.

ولهذا نشطت في إيران قبل الثورة وبعدها ما يمكن أن يطلق عليه [الثورة الثقافية]، وهي ثورة تواجه المشاريع الثقافية الأمريكية والبريطانية، والتي كانت تهدف إلى استعمال الثقافة وسيلة لتحقيق التبعية الغربية، فقد كان (لأمريكا الحصة الأكبر من عدد الطلبة الإيرانيين الدارسين في الخارج)

وقد كان الهدف من رعاية هؤلاء الطلبة والاهتمام بهم، تحضيرهم ليصبحوا المتحكمين في إيران، مثلما يتحكم أصحاب الجنسيات المزدوجة في غيرها من البلاد.

لكن الثورة الإسلامية قطعت عليهم هذا الطريق، حيث تبنت الثقافة والمثقفين، وحولتهم إلى جنود يخدمون الثورة، ويضحون في سبيلها.

ومن أهم الشهادات في ذلك ما قاله الإمام الخميني في نداء له بتاريخ 9 صفر 1409 هـ، قال فيه: (إن الدماء الطاهرة لمئات الفنانين الحكماء، التي أريقت في جبهات العشق والشهادة والشرف والعزة؛ ثروة لا تنضب للفن الذي ينبغي له دائماً وبما يتناسب مع عظمة وجمالية الثورة الإسلامية، أن يعطّر مشام أرواح طلاب جمال الحق، العاشقة للجمال) ([115])

ثم ذكر في النداء أن الشريعة الإسلامية لا تتعارض مع الفن، بل هو وسيلة من وسائل تبليغه وشرحه والدعوة إليه، يقول: (إن الفن الذي يحظى بموافقة القرآن هو الذي يجسد الإسلام المحمدي الأصيل، إسلام أئمة الهدى عليهم السلام، إسلام ممن تلوت على ظهورهم السياط طوال تاريخ الحرمان المؤلم والمخجل.. إن الفن الجميل والطاهر هو الذي يدحض الرأسمالية الحديثة والشيوعية مصاصة الدماء، والذي يناهض إسلام الرخاء والتجمل، إسلام الالتقاط، إسلام المساومة والعبودية، إسلام المرفهين عديمي الألم، وبكلمة واحدة الإسلام الأميركي) ([116])

ثم بين المضامين التي يحملها الفن الإسلامي، وهي المضامين التي حققتها السينما الإيرانية في إبداعاتها الكثيرة والمتواصلة، فقال: (الفن في مدرسة العشق يهدي إلى النقاط العمياء المبهمة للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.. الفن في العرفان الإسلامي تجسيد واضح للعدالة والشرف والإنصاف وتجلي لآلام الجياع المغضوب عليهم من قبل أصحاب السلطة والثروة.. الفن في نهجه الواقعي تصوير للطفيليين الذين يتلذذون بامتصاص دماء الثقافة الإسلامية الأصيلة، ثقافة العدالة والصدق.. فلا بد من التوجه إلى الفن الذي يعلّم مقارعة الناهبين الدوليين الشرقيين والغربيين وعلى رأسهم أميركا وروسيا) ([117])

ثم دعا الفنانين إلى أداء هذا الدور في خدمة الثورة الإسلامية، فقال: (إن بوسع فنانينا الاضطلاع بمسؤولياتهم وأداء الأمانة الملقاة على عاتقهم، عندما يطمئنوا إلى أن أبناء شعبهم حققوا حياتهم الخالدة في إطار دينهم فقط وفقط ودون الاتكاء على الغير) ([118])

ثم قدم شهادتهم في حقهم، فقال: (وهكذا كان فنانونا في جبهات دفاعنا المقدس، حتى التحقوا بالرفيق الأعلى. حيث قاتلوا في سبيل الله ومن أجل عزة وسعادة شعبهم، وفضحوا من خلال تحقيقهم النصر للإسلام العزيز، جميع أدعياء الفن الذين لا يعرفون معنىً للألم. حشرهم خالقهم إلى جوار رحمته)([119])

 وهكذا نجده في خطابات كثيرة يشيد بالفن الإسلامي والثقافة الإسلامية الأصيلة، ويدعو إلى إحيائهما، وهو خلاف ما كان يتصوره المغرضون الذين كانوا يتوهمون أن الدولة التي يحكمها الفقهاء دولة جافة ـ مثل دولة طالبان وداعش ـ لا تعترف بالفنون، ولا بالثقافة.‏

ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب له بتاريخ 11 ذي الحجة 1399 هـ: (أيها العاملون على تربية جيل الشباب وتنشئته، ليكن جل اهتمامكم غسل أدمغة وعقول هؤلاء الشباب مما علق فيها من الغرب وحضارته المزيفة. أفهموهم بأنكم أنفسكم أصحاب مفاخر، أصحاب حضارة، ولديكم كل شيء. أفهموهم بأن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في صنع كل شيء، فالذي نصنعه بأيدينا وإن كان قليل الجودة، فهو أفضل من أن نمد يدنا إلى أعدائنا لنحصل على الكامل.. كلي أمل بأن يستيقظ شبابنا وأساتذة الجامعات وكتابنا ومفكرونا، ونعوض عما فاتنا.. لقد استغفلنا الأجانب وغيّروا عقولنا، لذا علينا أن نعمل معاً على نصرة هذه الثورة، الكتّاب بما يكتبون، والخطباء بما يتحدثون، والصحف والمجلات بنشرها مواضيع تنفع الشعب والبلاد، لا كما نجده في بعض الصحف ـ التي أطالع بعضها أحياناً ـ فإنك تجدها من أولها إلى آخرها مليئة بالمواضيع المسيئة لتطلعات الشعب.. إن ثمة جماعة لا تريد للثورة أن تواصل مسيرتها وتحقق أهدافها، لأن منافعهم ومصالحهم مرتبطة بهيمنة الغرب وإدارة البلاد على يد جماعة من الخونة والأوغاد، أمّا بالنسبة لمجموعة الكتاب والمفكرين وأساتذة الجامعات والمعلمين وكل من يشاطرهم الرأي، لا سيما شريحة الشباب، ممن يحرصون على مستقبل هذا البلد واستقلاله، فلا بد لهم أن يستحضروا في أذهانهم هذا المعنى، وهو أننا بشر، ولنا ثقافتنا وحضارتنا، وأننا قادرون على أن نربي ونعلّم، ونبني ونصنع ونعمل. والآن وقد قطعت أيدي هؤلاء الخونة وأسيادهم من المستعمرين الطامعين، فقد أن الأوان لأن نصلح أنفسنا، ونربي ونعد شبابنا لأنهم عماد هذه البلاد ومن سيحفظونها ويديرون شؤونها في المستقبل. يجب تربيتهم وإعدادهم جيداً)([120])

وعلى هذا المنهج في الاهتمام بالثقافة والفن سار الإمام الخامنئي الذي وصلت إيران في عهده إلى أوج انتصاراتها الثقافية والفنية، وقد قال في خطاب توجيهي له إلى رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وعدد من المخرجين والكتّاب والفنانين بتاريخ 20/ 07/1431هـ مبينا الدور العظيم الذي تقوم به هذه المؤسسة في خدمة الثورة: (التلفزيون والإذاعة بنظري وخصوصاً قسم البرامج التمثيلية ـ المسلسلات والأفلام ـ هو اليوم بالنسبة لنا أكثر أهمية من أي وقت مضى.. فالفنون التمثيلية مهمة جداً، ومدى التأثير الذي تحدثه وبناؤها للثقافة واسعٌ جداً، ونحن اليوم كأمّة حيّة لها كلمتها وتشعر بهويتها ووجودها لنا أعداء كبار ونواجه عداوات من مختلف الأنواع وبأساليب متعددة، منها ما يتعلق باستخدام الفنون وأكثرها الفنون التمثيلية. وهذا يدلّ على أهمية أن نولي كأمة حيّة وكجماعة لها كلمتها في العالم وهدفها قضية الفنون التمثيلية الاهتمام الكافي لها ونبذل لأجلها الرساميل المادية والمعنوية. لهذا فإنني في الحقيقة أولي أهمية لهذا الموضوع. اليوم للإذاعة والتلفزيون دورٌ مهم، وكذلك يقع على عاتقهما تكليف كبير. وأنتم أصدقائي الأعزاء الذين تتولون أحد أكثر القطاعات في الإذاعة والتلفزيون حساسية، لديكم دورٌ مهم جداً في حاضر ومستقبل بلدكم. إننا نعتبر التلفزيون والإذاعة أساس مركز الهداية الفكرية. وما قاله الإمام إنها الجامعة الكبرى للبلد لم يكن من موقع المجاملة، فهذا الأمر هو هكذا في الحقيقة، إنها جامعة كبرى)([121])

ثم بين المضامين التي ينبغي أن تحملها الثقافة والفنون في ظل الثورة الإسلامية، فقال: (نحن نريد أن يفيض من هذه القمّة وهذا المنبع زلال المعارف الإلهية والإنسانية والسياسية الصحيحة ودروس الحياة المتنوعة على الشعب، هذا ما نتوقعه من الإذاعة والتلفزيون) ([122])

ثم ضرب لهم نموذجا على ذلك، فقال: (انظروا إلى مسلسل كمسلسل النبي يوسف، وهو مسلسل أُنتج وتمت مراعاة جميع الجهات الشرعية وغيرها فيه، فإنه يبيّن سيرة أحد الأنبياء وأساس العمل فيه مبنيّ على العفاف، وليس على الأساس الرائج في الأفلام العالمية، من العشق والشهوة وأمثالهما. وفيما بعد يتم الإقبال عليه بهذا الشكل في أنحاء العالم الإسلامي ـ ولعله في بعض مناطق غير العالم الإسلامي) ([123])

وبعد أن قدم الكثير من التوجيهات المرتبطة بالجوانب الفنية والرسالية، شهد لهم بخدمتهم للثورة الإسلامية ومبادئها، فقال: (إنني مدرك لقيمة وقدر العمل التمثيلي. وأعلم أن وراء كل دقيقة بل كل ثانية من هذا الفيلم أو ذاك المسلسل الذي أنتجتموه الكثير من الفكر والابتكار والإبداع والفن والسعي والتعب وأحياناً السهر الطويل. وبالطبع فإن أغلب من يشاهدون هذه الأفلام لا يعلمون ذلك، يشاهدون هذا الفيلم مدة ساعة أو عدة ساعات أو يُعرض عليهم هذا المسلسل، ولكن وراء هذه الساعة أو الساعات عالم كبير من الأعمال المنجزة ومن ابتكار الشخصية إلى كتابة الفيلم إلى إيجاد المخرجين والاتفاق معهم وإلى العاملين في الإنتاج والماكياج واللباس والديكور والتصوير وما إلى ذلك وإلى المرحلة الأخيرة والعرض. فكم من عاملٍ فني قد شارك هنا، وكم من يدٍ وأنامل فنان تعمل هناك، وكم من ذهنٍ خلاق في حال شغل، هذا ما نعرفه.. وفي الواقع إن مقتضى تكليفنا هو التقدير والشكر لكم) ([124])

وفي لقاء له مع مدراء وفناني الدفاع المقدس ذكر الكثير من الشهادات الدالة على المدى الذي ساهموا به في خدمة الثورة الإسلامية، ومن ذلك قوله: (أرحب بالإخوة والأخوات الأعزاء ومقاتلي الجبهة الثقافية للدفاع المقدس والأعزاء الذين حملوا أرواحهم وأفكارهم وفنّهم وقلوبهم وطاقاتهم الثقافية إلى هذه الساحة إضافة إلى التضحية بأبدانهم وأجسادهم في ساحة هذا الاختبار العظيم للشعب الإيراني، وزادوا ثروة الشعب الإيراني ورصيده أكثر فأكثر)([125])

ثم بين دور الثورة وما بعدها في ظهور الكثير من الطاقات المبدعة في المجالات المختلفة، فقال: (مرحلة الحرب هذه خلقت لنا الكثير من الفنانين والشخصيات البارزة! إن مسؤولية هذا الركب العظيم تعود مرة أخرى بعد انتهاء الحرب وهنا لا تقتصر المسؤولية على ثمانية أعوام فحسب، بل یمکنها أن تمتد إلی ثمانين عاماً أخری أيضا)([126])

أما بخصوص مواجهة الحرب الناعمة، فقد اعتبر أن الفنانین والمفكرين فيها أشبه بالقوات المسلحة في الحرب العسكرية، ولذلك دعا وسائل الإعلام الإسلامية والإعلاميين والفنانين الإسلاميين إلى رفع كفاءة وجاذبية الفن والإعلام الإسلامي الأصيل كي يضاهي ما تقدمه وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، موجها نحو تقديم نموذج إسلامي للحياة الطيبة المتوازنة معنويا وماديا بمواجهة نموذج الاستهلاك والإباحية الذي تقدمه أمريكا والذي يروج عبر المسلسلات التلفزيونية والإنترنت، كما أوجب العمل على تأسيس وتصميم نماذج واستراتيجيات إعلامية، وأن لا يبقى العمل بعقلية رد الفعل والتكتيك، أي عقلية الدفاع ورفع الظلم فحسب([127]).

هذه نماذج عن استثمار قادة الثورة الإسلامية لكل أطياف المجتمع، سواء قبل الانتصار أو بعده، ولذلك نرى الجميع يشارك الآن في استمرارية الثورة، ومواجهة كل أصناف الحروب الموجهة لها، حتى صار لأبسط الناس في المجتمع الإيراني إرثه الخاص به من الثورة، مصداقا لقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]


([1]) صحيفة الإمام، ج‏6، ص: 226.

([2]) بحار الأنوار : 60 / 216، وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب تاريخ قم لمؤلفه الحسن بن محمد الحسن القمي الذي ألفه قبل أكثر من ألف سنة.

([3]) رواه الترمذي، ح(3260)

([4]) تفسير ابن كثير، (8/ 116)

([5]) رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 11) ، والديلمي (2/ 332)

([6]) رواه أبو نعيم في ذكر أصبهان، ص 12.

([7]) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج : 20 / 284.

([8]) صحيفة الإمام، ج10 ، ص69 وكتاب نداء الثورة / ص198.

([9]) المرجع السابق، ج10 ،  ص65 وكتاب (الخميني والثورة) / ص102.

([10]) صحيفة الإمام، ج‏21، ص: 368.

([11]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 368.

([12]) رواه مسلم (220)

([13]) انظر: شرح كتاب رياض الصالحين، د. خالد بن عثمان السبت.

([14]) انظر نص الخطاب كاملا في: كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني، شبكة المعارف الإسلامية.

([15]) المرجع السابق.

([16]) المرجع السابق.

([17]) المرجع السابق.

([18]) المرجع السابق.

([19]) رواه أبو داود في سننه في الأدب برقم (4842)، وروي عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله a أَنْ نُنْزِلَ الناسَ منازِلَهم)، وذكره الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث) ص (49)، وروي مثله في المصادر الشيعية عن فقد روي أن رجلا جاءه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة. فقال: اكتبها في الأرض، فإني أرى الضر فيك بينا، فكتب في الأرض: أنا فقير محتاج، فقال الإمام علي: يا قنبر اكسه حلتين. فأنشأ الرجل يقول:

كسوتني حلة تبلى محاسنها … فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة … ولست تبقي بما قد نلته بدلا

إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه … كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به … فكل عبد سيجزى بالذي فعلا

فقال الإمام علي: أعطوه مائة دينار، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لقد أغنيته، فقال: إني سمعت رسول الله a يقول: أنزلوا الناس منازلهم، ثم قال الإمام علي: (إني لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم!) [روضة الواعظين (ص 358)]

([20])  صحيفة الإمام، ج‏15، ص: 94.

([21]) المرجع السابق.

([22]) المرجع السابق، ج‏15، ص: 337.

([23]) صحيفة الإمام، ج‏15، ص: 337.

([24]) انظر: كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني، شبكة المعارف الإسلامية.

([25]) من حديث في جمع من نساء قم، بتاريخ 6/ 3/1979، المرأة في فكر الإمام الخميني (ص: 5)

([26]) الكلمات القصار صفحة 285..

([27]) صحيفة الإمام، ج‏7، ص: 255.

([28]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 255.

([29]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 255.

([30]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 248.

([31]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 251.

([32]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 252.

([33]) خطاب للإمام الخامنئي بتاريخ ١٦/١/١٩٩٠.

([34]) المرجع السابق.

([35]) المرجع السابق.

([36])  صحيفة الإمام، ج‏7، ص: 248.

([37])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 248.

([38]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 249.

([39]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 82.

([40]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 351.

([41]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 353.

([42])  خطابات الخامنئي 2010، ص165.

([43]) صحيفة الإمام، ج‏7، ص: 78.

([44]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 78.

([45]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 80.

([46]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 81.

([47]) المرجع السابق، ج‏14، ص: 154.

([48])  خطابات الخامنئي 2012، ص174.

([49])  المرجع السابق،  ص377.

([50])  المرجع السابق،  ص377.

([51])  المرجع السابق،  ص391.

([52]) كلمة الإمام الخامنئي في لقاء قادة قوات التعبئة على أعتاب يوم التعبئة في حسينية الإمام الخميني، 25/11/2015.

([53]) المرجع السابق.

([54]) المرجع السابق.

([55]) التعبئة (ص: 11)

([56]) المرجع السابق، ص10.

([57]) كلمة الإمام الخامنئي في لقاء قادة قوات التعبئة على أعتاب يوم التعبئة في حسينية الإمام الخميني، 25/11/2015.

([58]) المرجع السابق.

([59]) المرجع السابق.

([60]) المرجع السابق.

([61]) المرجع السابق.

([62]) المرجع السابق.

([63]) المرجع السابق.

([64]) المرجع السابق.

([65]) أسبوع التعبئة: إحدى المناسبات التي يتم إحياؤها سنويا من خلال الأنشطة والأعمال المختلفة ومن ضمنها اللقاء السنوي بالقائد الأعلى الإمام الخامنئي، وقد كان لقاء سنة 2013 استثنائيا، حيث احتشد أكثر من خمسين ألف قائد تعبوي في مصلى الإمام الخميني والمساحات المحيطة به، واستغرقت كلمة القائد ساعة وعشرين دقيقة.

([66])  خطابات الخامنئي 2013 (ص: 626)

([67])  المرجع السابق، (ص: 626)

([68])  المرجع السابق، (ص: 626)

([69])  المرجع السابق، (ص: 627)

([70]) صحيفة الإمام، ج‏21، ص: 179.

([71]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 179.

([72]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 179.

([73]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 179.

([74]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 179.

([75]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 179.

([76]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 181.

([77]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 182.

([78]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 183.

([79]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 334.

([80]) المرجع السابق، ج‏7، ص: 276.

([81])  قضايا الجمهورية الإسلامية، مرتضى مطهري (ص: 33)

([82])  المرجع السابق، (ص: 34)

([83])  المرجع السابق، (ص: 35)

([84])  المرجع السابق، (ص: 35)

([85]) صحيفة الإمام، ج‏2، ص: 143.

([86]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 143.

([87]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 389.

([88]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 389.

([89]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 389.

([90]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 389.

([91]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 390.

([92]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 391.

([93]) المرجع السابق، ج‏14، ص: 148.

([94]) المرجع السابق، ج‏14، ص: 148.

([95]) المرجع السابق، ج‏6، ص: 44.

([96]) المرجع السابق، ج‏6، ص: 44.

([97]) هي السيدة فالاجي الصحفية الإيطالية المعروفة.

([98])  صحيفة الإمام، ج‏9، ص: 391.

([99]) صحيفة الإمام ، ج‏14، ص: 149.

([100])  المرجع السابق، ج‏9، ص: 137.

([101]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 138.

([102]) المرجع السابق، ج‏9، ص: 392.

([103]) المرجع السابق، ج‏8، ص: 317.

([104]) المرجع السابق، ج‏8، ص: 318.

([105]) المرجع السابق، ج‏8، ص: 319.

([106])  المرجع السابق، ج‏13، ص: 19.

([107]) المرجع السابق، ج‏19، ص: 282.

([108]) المرجع السابق، ج‏19، ص: 282.

([109]) المرجع السابق، ج10 / ص361.

([110]) المرجع السابق، ج‏15، ص: 150.

([111]) المرجع السابق، ج‏15، ص: 150.

([112])  المرجع السابق، ج‏21، ص: 74.

([113])  المرجع السابق، ج‏17، ص: 168.

([114])  المرجع السابق، ج‏17، ص: 171.

([115]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 134.

([116]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 134.

([117]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 134.

([118]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 134.

([119]) المرجع السابق، ج‏21، ص: 134.

([120]) المرجع السابق، ج‏10، ص: 321.

([121])  خطابات الخامنئي 2010، ص231.

([122])  خطابات الخامنئي 2010، ص232.

([123])  المرجع السابق، ص232.

([124])  المرجع السابق، ص233.

([125])  كلمة الإمام الخامنئي إلى مدراء و فنانين الدفاع المقدس، موقع الإمام الخامنئي.

([126]) المرجع السابق.

([127]) رؤية الإمام الخامنئي في مواجهة الحرب الناعمة (ص: 59)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *