المقدمة

يحاول هذا الكتاب التعرف على الأسباب الموضوعية لانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، واستمرار ذلك الانتصار، بل تصاعده طيلة أربعة عقود على الرغم من كل أنواع الحروب العالمية التي شنت على إيران وثورتها الإسلامية، والتي شملت الحروب العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بل حتى الدينية، حيث ترك الكثير ممن يزعمون لأنفسهم الوصاية على الدين كل مشاريعهم في تربية المجتمعات وتهذيبها، وتفرغوا لتشويه إيران وحربها.
وقد اهتممنا بالجانب الموضوعي الذي دلت عليه الوثائق التاريخية المنصفة والمحايدة، ودل عليه قبل ذلك تراث قادة الثورة الإسلامية ومؤسسيها، باعتبارها المصادر الأساسية التي تعرف بحقيقة الانتصار من الداخل، لا من الخارج، ذلك أن أهل مكة أدرى بشعابها.
وقد دعانا إلى هذا قسمان من الدوافع:
القسم الأول: مرتبط بما قدمته الثورة الإسلامية الإيرانية للمحيط الداخلي والخارجي من خدمات أثرت فيه بطرق مباشرة وغير مباشرة، ومن جملة هذه التأثيرات:
1. تأثيرها على العالم الإسلامي، وخصوصا القضية الفلسطينية، حيث أنها ظهرت في وقت خطير جدا، كانت الصهيونية فيه قد أعدت عدتها، مع حليفها الأكبر أمريكا للقيام بتطبيع شامل مع الدول العربية، يكون مقدمة بعدها ذلك لتطبيعها مع العالم الإسلامي.. لكن شاء الله أن يكون ذلك العنفوان الذي حصل للصهيونية في تلك الفترة ميلادا للانتصار الذي صار يهددها وجوديا.
2. تأثيرها على العالم، وعلى المتدينين فيه، وخصوصا المسلمين، حيث أنها ألغت تلك المقولة التي كان يرددها الشيوعيون حينها، والتي تنص على أن الدين أفيون الشعوب، حيث اكتشف العالم قدرة الدين ورجل الدين على أن يخلص الناس من الاستبداد والقهر والظلم من غير أن يكسب لنفسه أي مكاسب، ولهذا، حصل ذلك الشرخ الكبير للاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل الشيوعية حينها، والذي سرعان ما انهار بعده.
3. تأثيرها على الحركات الإسلامية بمختلف أشكالها، والتي دفعها ذلك الانتصار للانتشار والتمدد في المجتمعات الإسلامية، ولو أن الحظ حالفها، فتحالفت مع الثورة الإسلامية لكان وضعها الآن مختلفا، لكنها للأسف استجابت للمخططات الصهيونية والأمريكية، وبدل أن تستعين بانتصار الثورة، راحت إلى الخندق المواجه لها.
4. تأثيرها الداخلي على الإيرانيين الذي ذاقوا طعم النصر لأول مرة في تاريخهم الطويل؛ فلأول مرة تحكم إيران في ظل جمهورية إسلامية، للشعب فيها كامل حريته في تحقيق مطالبه وتنفيذها، وقد كان لذلك أثره الكبير في الانطلاقة الحضارية الجديدة، والتي لم يشهد الإيرانيون، ولا العالم الإسلامي نظيرا لها من قبل.
القسم الثاني: مرتبط بمحاولة الاستفادة من نجاح هذه الثورة في التعرف على أسباب الانتصار التي يمكن تعميمها للخروج من حالة الهزيمة التي عاشتها كل الثورات في العالم الإسلامي.
ذلك أن الثورة الإسلامية تعتبر من أحسن النماذج التاريخية لانتصار القيم العقدية على كل القيم المادية، فالإيرانيون استطاعوا بصبرهم على الحصار والحروب التي فرضت عليهم، أن يبرزوا مدى دور العقيدة في تحقيق الانتصار والصبر عليه، وتحقيق المنجزات في ظله.
وفوق ذلك تمكنوا من إعطاء نموذج للحكم الإسلامي، لا يوجد له نظير في جميع التاريخ الإسلامي، ولذلك يمكن اعتبار الثورة الإسلامية الإيرانية نموذجا تاريخيا مميزا لا نجد له نظيرا في التاريخ جميعا، الإسلامي وغير الإسلامي.
وفوق ذلك كله تلك الضمانات الكبرى التي استطاع قادة الثورة الإسلامية بمعونة شعبهم أن يكفلوها، وهي الحصانة التامة من كل أنواع الحروب الصلبة والناعمة، ولذلك لم تستطع كل جحافل الأعداء المتربصين بهم أن تحرك ساكنا يؤثر فيهم.
وقد رأينا من خلال استقراء الأسباب التي قام عليها انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، أن نكتشف خمسة أسباب كبرى، يمكن اعتبارها أركانا أساسية لا يمكن أن تنجح أي ثورة من دونها، وهي:
1. القيادة الرشيدة: ذلك أن كل ثورة تحتاج إلى إمام يحركها، ويقوم بتوجيهها، ولا يمكن أن تنجح أي ثورة من دون قائد أو إمام، وقد حظيت الثورة الإسلامية الإيرانية بشخصيات فذة، جمعت كل صفات القيادة الحكيمة، وهي شخصية إماميها الخميني والخامنئي، اللذين بدأ أولهما مسيرة قيادة الثورة، وأكملها الثاني، بكل وفاء، وبنفس المبادئ والقيم.
2. الطاقات البشرية: ذلك أن الجماهير هي التي تمارس ـ تحت توجيهات قيادتها الرشيدة ـ كل الأساليب والوسائل، وتقدم كل التضحيات التي تساهم في انتصار الثورة، وبقدر تنوع تلك الطاقات، ونفوذها في المحال المختلفة، بقدر نجاح الثورة في تحقيق مطالبها، وفي أقصر مدة.
3. المطالب الشرعية: ذلك أن المطالب إن لم تكن معقولة، ولا واضحة، ولا في خدمة الثائرين، لن تحرك فيهم دوافع الثورة.
4. الأساليب الحكيمة: ذلك أنها إن لم تكن مضبوطة ودقيقة ومستوعبة لكل الاحتمالات، فستفشل الثورة لا محالة.
5. الحفاظ على المكاسب: ذلك أن الثورة قد تنتصر انتصارها المبدئي والجزئي، لكنها إن لم تكن تحمل مشروعا كاملا يضمن لها البقاء، فستنقطع بها السبل، ولا يتحقق لها الانتصار الحقيقي الكامل والشامل والمستمر.
بناء على هذه الأسباب قسمنا هذا الكتاب إلى خمسة فصول تناولنا في كل فصل تحليلا للسبب وأهميته، بناء على ما ورد في القرآن الكريم من ذكر أسباب النصر، ثم حاولنا تطبيقها على الواقع الإيراني إبان الثورة وبعدها.
بالإضافة إلى ذلك، وبناء على ما ذكرناه في القسم الثاني من الدوافع، فقد حاولنا أن نقارن بين الثورة الإسلامية الإيرانية وغيرها من الثورات في كل جانب من الجوانب، لنبين أسباب النصر والهزيمة، لأن الغاية من الكتاب كما ذكرنا تتجاوز التجربة الإيرانية، لتحاول تعميمها على سائر بلاد العالم الإسلامي، ليتخلص من كل أسباب الهزيمة، ويتحقق بكل أسباب النصر.