الفصل الأول: الإمام الحسين والقيم الإيمانية

الفصل الأول

الإمام الحسين والقيم الإيمانية

تعتبر القيم الإيمانية الأساس الذي تبنى عليه جميع القيم الروحية والأخلاقية والرسالية، وغيرها، ذلك أنها تشكل التصورات المرتبطة بالوجود والكون والحياة، ومنها تتشكل التصورات المرتبطة بسائر القيم.

ولهذا لم تكن الحركة الحسينية في كربلاء وقبلها، متوجهة للثورة على الظلم والاستبداد فقط، وإنما كانت متوجهة قبل ذلك للحفاظ على القيم الإيمانية التي أراد بنو أمية تحريفها، وتحويل الإسلام إلى الوثنية التي تحولت إليها اليهودية والمسيحية وكل الأديان السماوية، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]

وقد عبر الإمام الحسين عن أهمية هذا النوع من القيم، وكونه الهدف الأكبر من حركته وحركة أبيه وأخيه وسائر الأئمة الراشدين بقوله ـ لمن سأله عن عن قول الله عز وجل: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19]: (نحن وبنو أمية اختصمنا في الله عز وجل، قلنا، صدق الله وقالوا: كذب الله، فنحن وإياهم الخصمان يوم القيامة)([1])

وذلك أن هدف الدين الأساسي هو تعريف الخلق بالله، وعبادتهم له، والتي لا يمكن أن تتحقق من دون معرفة صحيحة، وقد روي أن الإمام الحسين خرج ذات يوم على أصحابه؛ فقال بعد حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيّها الناس إنّ الله ـ والله ـ ما خلق العباد إلّا ليعرفوه؛ فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)([2])

وهكذا عبر سائر الأئمة عن هذا المعنى؛ فكلهم متفقون على أن الهدف الأكبر من الدين هو التعرف على الله، والتواصل الروحي معه، وأن كل ما عد ذلك وسائل وأساليب لتحقيق هذا المقصد العظيم؛ فعن الإمام الصادق أنه قال: (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم مما يطوونه بأرجلهم، ولنَعِمُوا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله) ([3])

ثم فصل بعض آثار ذلك بقوله: (إن معرفة الله عز وجل أنْسٌ من كل وحشة، وصاحبٌ من كل وحدة، ونورٌ من كل ظلمة، وقوةُ من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم) ([4])

وقال قبله الإمام علي : (أولُ الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به توحيدُه، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة)([5])

وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن سائر الأئمة تدعو إلى الاهتمام بالبحث الجاد عن المعرفة الإلهية من سبلها الصحيحة المعصومة، حتى لا يحيق بهذه الأمة ما حاق بغيرها من الأمم.

ذلك أن من عادة الشيطان ـ كما يخبر القرآن الكريم ـ أن يبدأ بالسعي في تشويه هذه المعرفة في حياة الأنبياء، أو بعدهم؛ فإن تمكن من ذلك لا يبالي بعدها بشيء، لأنه بتشويه القيم الإيمانية، والحقائق العقائدية، تتشوه كل القيم، وكل الحقائق، وتتشوه بعدها كل السلوكات الشخصية والاجتماعية.

وقد أخبر القرآن الكريم عن نموذج لذلك، وهو ما حصل لبني إسرائيل بمجرد خروجهم من مصر؛ فقد كان أول ما طلبوه ـ بغواية من الشيطان ووسوته ـ أن يجعل لهم موسى إلها كالآلهة التي تعبدها الأمم من حولهم، لأنه عز عليهم أن يعبدوا إلها لا يتمكنون من رؤيته، قال تعالى مشيرا إلى ذلك: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 55]

وهكذا ذكر القرآن الكريم حرصهم على الرؤية الجهرية الحسية لله، حتى عوقبوا على ذلك([6])، ومع ذلك لم تثنهم تلك العقوبة عن البحث عن إله حسي يمكنهم أن يروه ويلمسوه، ولذلك بمجرد أن غاب موسى صنعوا إلها من ذهب، وصاروا يعبدونه غير مراعين لتلك التوجيهات التي كان هارون يقوم بها مع الثلة القليلة الذين معه.

وما حصل في بني إسرائيل حصل مثله ـ للأسف ـ في هذه الأمة، حين ضيعت وصية نبيها صلى الله عليه وآله وسلم في البعد عن كل ما يمكن أن يحرف هذا الدين، ويشوه جمال عقائده، ولهذا دخلت الكثير من التحريفات في القيم الإيمانية، بعد تقريب السلطة الأموية لليهود الذين أسلموا، وإفساح المجال لهم لتعليم الناس قيم الدين، بل أُفسح المجال لهم لتفسير القرآن الكريم، ولهذا كان من الأدوار الكبرى التي قام بها الأئمة ـ بمن فيهم الإمام الحسين ـ مواجهة تلك التحريفات لتبقى العقيدة الإسلامية صافية بعيدة عن كل ما يشوهها.

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعريف بدور الإمام الحسين في مواجهة التحريف الذي حصل للقيم الإيمانية، والتي صنفها علماء الكلام إلى قسمين:

1. قيم التنزيه: وهي تلك القيم التي تحفظ عقيدة المؤمن من أن يتسرب إليها ما لا تتناسب مع جلال الله وعظمته، كالتشبيه والتجسيم والتعدد والحدوث والعجز ونحوها، ويطلق على الصفات المرتبطة بها (صفات سلبية)، أو (جلالية)

2. قيم الكمال: وهي القيم التي تتضمن صفات الكمال والجمال لله، والتي يطلق عليها (الصفات الثبوتية الذاتيّة)، أَو (الصفات الجمالية)، مثل كون الله حيا قادرا سميعا بصيرا له الأسماء الحسنى.

وقد أشار إلى كلا القسمين قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، (فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير، وصفة الإِكرام ما تكرمت ذاته بها وتجملت)([7])؛ فلذلك يوصف الله بالكمال، وينزّه بالجلال.

وسنحاول ـ من خلال هذين النوعين من القيم ـ بيان كيف دعا الإمام الحسين إلى هذين الأصلين من أصول القيم، وكيف واجه تلك التحريفات التي حاولت أن تنحرف بالعقيدة الإسلامية إلى ما انحرفت إليه سائر الأديان السماوية، وسنرى كذلك مدى صلة ما طرحه بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وما ذكره الأئمه قبله وبعده، لنين من خلال ذلك كله مدى انسجام هذه المصادر المقدسة في تعبيرها القيم الإيمانية وحقائق العقيدة الإسلامية، مقارنة بتلك التحريفات التي حاول الشيطان أن يحدثها في هذه الأمة، والتي لا يزال لها وجود بينها للأسف.

أولا ـ الإمام الحسين وقيم التنزيه [الجلال الإلهي]:

عند التأمل في القرآن الكريم والسنة المطهرة وأحاديث أئمة أهل البيت نجد تركيزا شديدا على التنزيه، وكل ما يرتبط به، ذلك أنه لا يمكن أن تتحقق معرفة الله لمن سقط في أوهام التشبيه والتجسيم والشرك، أو وصف الله بما لا يليق به، ذلك أن وصفا واحدا من تلك الأوصاف، يمكنه أن يحطم كل الكمالات، ويزرع الشك في جميع العقول.

ولهذا اعتبر القرآن الكريم نسبة الولد لله، كما يدعي النصارى وغيرهم، شيئا عظيما، ينهد له كل شيء، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)﴾ [مريم: 88 ـ 93]

وقد رد في الحديث أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يا رسول الله: علمني من غرائب العلم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟)، فقال الأعرابي: ما رأس العلم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (معرفة الله حق معرفته)، فقال الأعرابي: وما معرفة الله حق معرفته؟، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرفه بلا مثل، ولا شبه، ولا ند، وأنه واحد أحد، ظاهر باطن، أول آخر، لا كفو له ولا نظير، فذلك حق معرفته)([8])

ولهذا نجد في الروايات الواردة عن الإمام الحسين اهتماما كبيرا بقيم التنزيه، والرد على ظاهرة التجسيم والتشبيه التي اهتم بها بنو أمية، ووفروا الدعاة لها، من أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما.

وقد روي عنه نصان مهمان جدا، يؤسسان لقيم التنزيه، ويعطيان القواعد المرتبطة بذلك، والتأمل فيهما وحده كاف للرد على كل تلك المدارس التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، والتي شوهت العقيدة الإسلامية، وسربت إليها الكثير مما حصل لعقائد الأمم السابقة، حتى وصل الأمر إلى إدخال كل صور التشبيه والتجسيم والوثنية في العقائد الإسلامية.

أما النص الأول، فقوله ـ في خطاب له يشير به إلى تلك الظاهرة التي وفر لها بنو أمية كل أسباب الرعاية: (أيها الناس! اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سمي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم، إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب؛ لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه. ليس برب من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء، هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها، ليس بقادر من قارنه ضد أو ساواه ند، ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمن في السماء احتجابه كمن في الأرض، قربه كرامته وبعده إهانته، لا يحله (في)، ولا توقته (إذا)، ولا تؤامره (إن)، علوه من غير توقل([9])، ومجيئه من غير تنقل، يوجد المفقود ويفقد الموجود، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت، يصيب الفكر منه الإيمان به موجودا، ووجود الإيمان، لا وجود صفة، به توصف الصفات لا بها يوصف، وبه تعرف المعارف لا بها يعرف، فذلك الله لا سمي له، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)([10])

وأما النص الثاني، فهو ما روي أنه بينما كان ابن عباس يحدث، إذ قام إليه نافع بن الأزرق، فقال: يا ابن عباس! تفتي في النملة والقملة؟! صف لنا إلهك الذي تعبده. فأطرق ابن عباس إعظاما لله عز وجل، وكان الحسين بن علي جالسا ناحية، فقال: (إلي يا ابن الأزرق)، فقال: لست إياك أسأل. فقال ابن عباس: يا ابن الأزرق، إنه من أهل بيت النبوة، وهم ورثة العلم. فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين، فقال له الإمام الحسين : (يا نافع، إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق، أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه؛ لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يوحد ولا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال)([11])

وانطلاقا من تحليل هذين النصين، نحاول في هذا المبحث بيان مقتضيات التنزيه ـ كما يصفها الإمام الحسين ـ ودورها في مواجة الانحرافات العقدية، وقد رأينا أنه يمكن جمعها في نوعين:

  1.  تنزيه الله عن الإدراك والحدود.
  2.  تنزيه الله عن التشبيه والتجسيم.

وسنتناول قيمة هذه المعاني، ودورها في حفظ العقيدة الإسلامية من التحريف والتبديل والوقوع في الوثينة والشرك من خلال ذينك النصين، وغيرهما من كلماته.

1 ـ تنزيه الله عن الإدراك والحدود:

وهو ما أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم، إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب؛ لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه. ليس برب من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء) ([12])

وقوله في نفس الحديث: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمن في السماء احتجابه كمن في الأرض)

وقوله: (يصيب الفكر منه الإيمان به موجودا، ووجود الإيمان، لا وجود صفة، به توصف الصفات لا بها يوصف، وبه تعرف المعارف لا بها يعرف، فذلك الله لا سمي له، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)

وقوله في حديثه مع ابن الأزرق: (يا نافع، إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق، أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه؛ لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس) ([13])

وهذه نصوص عظيمة تؤصل لقيم التنزيه، وكان يمكنها ـ لو أعطيت الأهمية التي تستحقها ـ أن تحمي العقائد الإسلامية من كل تلك التشويهات والتحريفات التي حصلت لها، والتي لا نزال نعيش آثارها إلى اليوم.

وسنحاول هنا ـ باختصار ـ أن نذكر بعض المعاني المرتبطة بها، والتي لها أهميتها في حماية القيم الإيمانية من التحريف والتبديل.

أ ـ تنزيه الله تعالى عن الحدود:

وهي من المعاني التي لا يمكن قيام التنزيه إلا عليها؛ فالمحدود محاط به، والمحدود معدود، والمحدود قاصر، وهكذا يمكن من خلال النظر في الالتزامات العقلية للحد أن ننفي كل كمال للمحدود، وأن نلصق به كل نقص، وقد أشار الإمام الحسين إلى تنزيه الله عن الحدود بقوله: (ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم) ([14])

وأشار إليه قبله والده الإمام علي في وصف الله تعالى بقوله: (ليس له [سبحانه وتعالى ] حدّ ينتهي إلى حدّه)([15])، وقال: (من زعم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود)([16])، وقال: (من حدّه [تعالى ] فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله)([17])

وهكذا نص جميع أئمة أهل البيت على استحالة محدودية الله؛ فقد روي أن بعض الناس طلب من الإمام علي بن موسى الرضا أن يحدّ الله تعالى له، فقال له الإمام: لا حدّ له. قال الرجل: ولم؟ قال الإمام: (لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّء) ([18])

وفي مقابل هذه النظرة التنزيهية التي نص عليها أئمة أهل البيت ، نجد نظرة أخرى مختلفة تماما، وهي تلك التي تبنتها السلطة الأموية، ونشرتها، ولا تزال تتبناها إلى اليوم المدرسة السلفية، والتي تقوم عقيدتها على محدودية الله تعالى، والتي اعتبروها من العقائد الأساسية التي يكفر جاحدها بتهمة التجهم.

ومن الكتب المؤلفة في هذا ما كتبه الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثبات الحد لله عز وجل، وبأنه قاعد وجالس على عرشه]، والذي لقي العناية الكبيرة من السلفية الحديثة تحقيقا وطبعا ونشرا.

وقد نقل ابن تيمية في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] الكثير من الروايات عن سلفه من العصر الأموي، فمن بعدهم، والتي تدل على اعتبار الحد لله من العقائد الأساسية التي يقتضيها الإيمان، ومن تلك النقول ما نقله عن الدارمي ـ مقرا له ـ في كتابه (نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد) قال فيه: (باب الحد والعرش: وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله تعالى لاشيء، لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدًا موصوف لامحالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء)([19])

وهكذا نقل عن الخلال وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل السنة ([20]) النقول الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرفة الإلهية إثبات الحد لله، ومن تلك الروايات ما رواه الخلال عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك ـ وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ـ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد. فقال أحمد: هكذا هو عندنا([21])

ومنها ما رروه عن حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق بن راهويه: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد.

ومنها ما رووه عن ابن المبارك أنه قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد)([22])

وقد علق ابن تيمية على هذه الروايات بقوله: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا. أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات، فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه، وذكر الحد. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد)([23])

وبناء على هذا الذي ذكره ابن تيمية وغيره من السلف، فإن البناء المعرفي عند السلفية في هذا الجانب ينطلق من اعتقاد تحديد الله، ولهذا أولوا هذا الأمر أهمية كبرى، واعتبروه من أصول العقائد التي تفرق بين السني والبدعي، بل بين المؤمن والكافر؛ فالمؤمن عندهم والسني هو الذي يقول بمحدودية الله، والكافر والبدعي هو من يقول بعدم محدوديته.

وابن تيمية وغيره من السلفية يستندون في هذا لتلك الروايات التي أسس لها كعب الأحبار وغيره من اليهود، والذين كان يجلس إليهم الكثير من الصحابة والتابعين، ثم يخلطون رواياتهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في نفس الوقت الذي يعرضون فيه عن الإمام الحسين ، وجميع أئمة أهل البيت الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارهم مرجعا وسفينة نجاة.

وذلك الفكر الممتلئ بالتجسيم والتشبيه ووصف الله بالمحدودية والقصور هو الذي وصف الإمام الحسين أهله بقوله: (أيها الناس! اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب) ([24])

ب ـ تنزيه الله تعالى عن الرؤية:

وهو التنزيه الذي أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمن في السماء احتجابه كمن في الأرض) ([25])

وقوله في دعاء قنوت الوتر: (اللهم إنك ترى ولا تُرى، وأنت بالمنظر الأعلى، وإن إليك الرجعى، وإن لك الآخرة والأولى، اللهم إنا نعوذ بك من أن نذل ونخزى)([26])

وقوله في بعض تسبيحاته: (سبحان الرفيع الأعلى، سبحان العظيم الأعظم، سبحان من هو هكذا ولا يكون هكذا غيره، ولا يقدر أحد قدرته سبحان من أوله علم لا يوصف وآخره علم لا يبيد، سبحان من علا فوق البريات بالإلهية فلا عين تدركه ولا عقل يمثله، ولا وهم يصوره، ولا لسان يصفه بغاية ما له من الوصف، سبحان الملك المقتدر، سبحان الملك القدوس، سبحان الباقي الدائم) ([27])

وهي العقيدة التي دل عليها العقل والنقل، فالله تعالى يقول: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]، وهي آية تقرر أن الله تعالى أعظم من أن يدرَك بأي مدرك من المدارك الحسية والمعنوية، لأن الإدراك ـ كما قال علماء اللغة ـ (هو لحوق الشئ بالشئ ووصوله إليه)([28])،كما قال تعالى: ﴿ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ [النمل: 66] أي أن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم.

ولهذا قال تعالى قبل الآية الكريمة التي قررت استحالة إدراك الله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَا إله إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: 102]، فكما أنه لا يمكن إدراك كل شيء، وهو مخلوق محصور محدود، فكيف يمكن إدراك غير المحدود والمحصور؟

ولهذا أخبر الله تعالى موسى أنه يستحيل أن يراه، وقد ذكر ذلك بصيغة النفي المؤبد، وعلق إمكانية الرؤية على شيء مستحيل لم يتحقق، فدل على أن رؤية الله التي تحيط به مستحيلة استحالة مطلقة، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143]

والإشارة القرآنية في مسارعة موسى إلى التسبيح والتنزيه بعد الإفاقة([29]) هو علمه أن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، ولهذا نزه الله سبحانه وتعالى عنها.

بل إن الله تعالى يذكر في القرآن الكريم غضبه الشديد على من طلب الرؤية الحسية، فقال: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]

وبذلك تصبح هذه الآيات محكمة يرد إليها كل ما تشابه من النصوص، وخاصة ذلك النص القرآني الذي يستدل به السلفية، مع أنهم يقولون بتأويله، وهو قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، فالنظر هنا لا يعني الرؤية الحسية، بدليل أنه ذكر الوجوه، والإنسان يرى بعينه لا بوجهه.. وبدليل أن الآية الكريمة تذكر موقف الانتظار في الآخرة قبل دخول الجنة.. وبأدلة أخرى كثيرة ذكرها أهل اللغة الذين هم أعرف الناس بألفاظ القرآن الكريم.

وقد ذكر الزمخشري الوجه الصحيح لذلك وهو أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، يريد معنى التوقع والرجاء. كا روي أن امرأة سمعت مستجدية بمكة تقول: (عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم)، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه([30])

بالإضافة إلى ذلك، فإن في الرؤية الحسية مستلزمات كثيرة خطيرة منها: أن الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقق إلا إذا كان الشيء مقابلا، أو حالا في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء، أو حسب العلم الحديث([31])، وذلك مما يستحيل على الله على الله تعالى لأنه ليس بجسم ولا في جهة،والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة،وما شأنه هذا لا يتعلق إلا بالمحسوس لا بالمجرد.

وبهذا أجاب الإمام الصادق من سأله: هل يرى الله في المعاد؟ فقال: (سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا ً كبيرا، إن الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون وكيفيّة، والله خالق الألوان والكيفيّة)([32])

وسئل الإمام الرضا : جعلت فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية، فقال: (من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على لله، قال الله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103] ([33])

أما ما ورد في القطعة المنسوبة للإمام الحسين في دعاء يوم عرفة، وقوله فيها: (عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا)([34])؛ فليس المقصود منها الرؤية الحسية، وإنما المقصود الرؤية القلبية، والتي اتفق جميع أئمة أهل البيت على أنها الرؤية الوحيدة الممكنة، لأنها رؤية تتوجه إلى المعاني لا إلى الحس، وإلى اللطائف لا إلى الكثافات.

ولهذا أجاب الإمام علي الحبر الذي سأله: هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره)، قال: وكيف رأيته؟ فقال: (ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)([35])

وهكذا فسر الإمام الصادق الرؤية التي اتخذها المجسمة دليلا على التجسيم، فعن هشام بن سالم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد $ إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، على أي صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسم ثم قال: (يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه، ثم لايعرف الله حق معرفته) ! ثم قال : (يا معاوية إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم ير الرب تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين، رؤية القلب، ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شبه الله بخلقه فقد كفر) ولقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي قال: سئل أمير المؤمنين فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: (وكيف أعبد من لم أره، لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان)، وإذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولابد للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إذا محدثا مخلوقا، ومن شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا)([36])

هذا موقف أهل بيت النبوة من الرؤية، ورفض الحسي منها لمخالفته الصريحة لما ورد في القرآن الكريم، وما دل عليه العقل من اقتضاء الرؤية للتجسيم، أما موقف المناوئين لهم، والذين تبنوا المنهج الأموي، فقد بالغوا في الرؤية الحسية لدرجة جعلتهم يقعون في التشبيه المحض المخالف لكل أدلة النقل والعقل.

ومن الأمثلة على ذلك ما يحرص السلفية على روايته كل حين من أن سعيد بن المسيب، لقي أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد: أو فيها سوق؟ قال: نعم. أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون الله في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم، وما فيهم دني، على كثبان المسك والكافور، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا)، قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (نعم، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟) قلنا: لا. قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة، حتى يقول: يا فلان بن فلان بن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، فيذكره بعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى. فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال: فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط، ثم يقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتم، قال: فيأتون سوقا قد حفت بها الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم تخطر على القلوب. قال: فيحمل لنا ما اشتهيناه، ليس يباع فيه شيء ولا يشترى، في ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال: فيقبل ذو البزة المرتفعة، فيلقى من هو دونه، وما فيهم دني، فيروعه ما يرى عليه من اللباس والهيئة، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. قال: ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا بحبنا، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول: (إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا)([37])

ومن الروايات التي يوردونها في هذا ما يروونه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم،فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة،قال: وذلك قول الله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]،قال: فينظر إليهم وينظرون إليه،فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) ([38])

هذه بعض المشاهد التي يحرص السلفية على ذكرها في كل محل، وهي لا تختلف كثيرا عن المشاهد التي نقرؤها في كتب التاريخ والأساطير عن مجالس الملوك والأمراء، حيث يقربون ندمانهم، ثم يصلونهم بأنواع الصلات، وهي علاقة مادية صرفة لا مجال فيها للمشاعر السامية، ولا للعواطف الجياشة التي نجدها عند المنزهة.

ومن العجب الذي نراه في أمثال هذه الرويات هو إسكانهم لله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون جميعا في دار من دور الجنة ليجاورهم، ويصلهم، وتزداد صورهم حسنا بذلك، وكأن الله تعالى لم يخلق سواهم، ولا له تدبير لغيرهم.

ومن العجب الأكبر هو أحاديثهم عن جمال الله تعالى، وهي أحاديث عن الجمال الحسي، لا عن الجمال العظيم الذي لا يمكن الإحاطة به، ومن أمثلة ذلك ما قاله الهرَّاس، فقد قال: (أما جمال الذات؛ فهو ما لا يمكن لمخلوق أنَّ يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه، وحسبك أنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقدر قدرها، إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله؛ نسوا كل ما هم فيه،واضمحل عندهم هذا النعيم، وودوا لو تدوم لهم هذه الحال، ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال،واكتسبوا من جماله ونوره سبحانه جمالاً إلى جمالهم،وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته،حتى إنهم يفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب)([39])

وهو في هذا الكلام الذي يشبه كلام العارفين في ألفاظه، إلا أنه لا يرقى إلى مقاصدهم؛ فالجمال عنده هو جمال صورة الله الحسية التي لم يتصوروا إمكانية معرفة الله من دونها.

ج ـ تنزيه الله تعالى عن القياس:

وهو ما أشار إليه الإمام الحسين في حديثه مع ابن الأزرق، وقوله له: (يا نافع، إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق، أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه؛ لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس) ([40])

فهذا المقطع العظيم يؤصل لقواعد عظيمة في تنزيه الله تعالى لو أن المتكلمين في العقائد، وخصوصا السلفية منهم، عملوا بها لأخلوا عقائدهم من كل صنوف التشبيه والتجسيم والوثنية التي أوقعوا أنفسهم فيها.

فهم يخضعون العقائد في الله لتصوراتهم المبنية على التجسيم، ويتصورون أنه لا يمكن أن يكون هناك وجود لخلاف تلك التصورات، وبذلك يقعون في القياس المحض.

وقد قال الشيخ ابن العثيمين، وهو من علمائهم المعاصرين الكبار ـ مبينا استحالة معرفة الله من دون كيفية ولا قياس: (السلف لا ينفون الكيف مطلقاً، لأن نفي الكيف مطلقاً نفي للوجود، وما من موجود إلا وله كيفية لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا.. وعلى هذا فنثبت له كيفية لا نعلمها.. ونفي الكيفية عن الاستواء مطلقاً هو تعطيل محض لهذه الصفة لأنا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية الصفات)([41])

وما ذكره الشيخ من أن الكيفية غير معلومة لنا نوع من الاحتيال لأن كتبهم العقدية الكثيرة صورت ذلك تصويرا لا يحتاج الخيال إلى غيره ليرسم صورة الاستواء أو غيره مما يعتبرونه من صفات الله تعالى، أو كما عبر عن ذلك الزمخشري بقوله عنهم([42]):

جماعة سموا هواهم سنة

   وجماعة حمر لعمري موكفة

قد شبهوه بخلقه وتخوفوا

  شنع الورى فتستروا بالبلكفة

 ومثل الشيخ ابن عثيمين أبو عمر ابن عبد البر الذي اعتبر الأمة كلها ـ ما عدا أهل الحديث ـ نافين للمعبود، فقال: (وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود)([43])

وقد علق عليه الذهبي بقوله: (صدق والله! فإنَّ من تأوَّل سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الربِّ، وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة!)([44])

وهكذا أصبح الله ـ بعظمته وقدسيته وجلاله ـ عند السلفيين مثل النخلة لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة سعفها وكربها ورطبها، ولهذا فإن أعرف العارفين عندهم من جمع أكبر قدر من روايات التجسيم والتشبيه ليرسم صورة أكثر دقة عن ربه سبحانه وتعالى.

ولهذا فإن ما ينتصر به المعاصرون منهم لأنفسهم من نفي تهمة التجسيم عنهم نوع من الاحتيال والمصادرة على المطلوب، ذلك أنهم ـ من خلال النصوص التي يوردونها عن سلفهم ـ لا ينفون حقيقة التجسيم ومعناه، وإنما ينفون فقط إطلاق اسم الجسم على الله، أو اعتبار الجسم صفة من صفات الله، لكون التسمية والوصف توقيفية.. أما حقيقة التجسيم التي تعني الحيز والحدود والمكان والجهة والتركيب والوزن والحجم وغير ذلك.. فهم لا ينكرون اتصاف الله بذلك.

وكمثال على ذلك ما أورد ابن تيمية في كتبه العقدية المختلفة من النصوص الدالة على عدم الحرج في وصف الله بكونه جسما من الأجسام، بناء على المعنى، لا على اللفظ..

فعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)([45])

ومراد ابن تيمية من التعطيل والتحريف ـ في هذا النص ـ هو تنزيه الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.. أو كما أشار إلى ذلك في قوله في كتابه (منهاج السنّة): (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه.. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً)([46])

فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه.. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام.. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً.. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى.. فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول..

بل إن ابن تيمية يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، يقول في ذلك: (فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه. ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود)([47])

وهكذا يضعنا ابن تيمية وأصحابه من أعلام المدرسة السلفية بين أمرين: إما أن نجسم الله، أو نقول بعدمه.. فالوجود عندهم قاصر على الأجسام.. وهو نفس ما قاله فرعون والملاحدة واليهود.

بل إن ابن تيمية يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله سبحانه وتعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا)([48])

وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) يكاد يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً)([49])

بل إن ابن تيمية وأعلام المدرسة السلفية عند حديثهم عن كمال الله تعالى ينطلقون من النظرة التجسيمية الحسية المادية؛ فهم يرون أن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أعطى لعباده بعض الكمالات الحسية، فهو أولى أن يتصف بها، قال ابن تيمية يوضح ذلك: (كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه…وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها)([50])

وإلى هنا فإن المعنى مقبول عند جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أولى بصفات الكمال من عباده، ولكن ابن تيمية لا يقصد ذلك فقط، بل يقصد التجسيم وما يقتضيه التجسيم، فقد قال بعد ذلك الكلام المقبول بانيا عليه: (وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائماً بنفسه أو موصوفاً أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به إلا يكون بحيثِ غيره وأن لا يكون معدوماً بل ما أوجب أن يكون قائماً بنفسه مبايباً لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم، فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد)([51])

وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض، لأنه يتصور أن الكمال في احتياج الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي لا يقتضي ذلك..

وكل ما وقع فيه ابن تيمية ومن قبله ومن بعده من السلفية وغيرهم من هذه الانحرافات ناتج عن موقفهم من أئمة أهل البيت ، وتصورهم أنهم مثل غيرهم يؤخذ منهم ويرد؛ فلذلك سارعوا لرد كل ما ورد عنهم من قيم التنزيه، في نفس الوقت الذي أقبلوا فيه على كل من راح ينشر قيم التجسيم والتشبيه.

2 ـ تنزيه الله عن التشبيه والتجسيم:

وهو ما أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (أيها الناس! اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير) ([52])

وقوله في نفي الافتقار إلى المحل: (هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها)، وقوله: (قربه كرامته وبعده إهانته)، و(هو قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص)، و(لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث)، و(ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه)، و(لا يحله (في)، ولا توقته (إذا)، ولا تؤامره (إن)، علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل)

ومنها ما روي أن أهل البصرة كتبوا إليه يسألونه عن الصمد، فكتب إليهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وأنه سبحانه قد فسر الصمد، فقال: (﴿ الله أَحَدٌ (1) الله الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 1، 2])، ثم فسره فقال: (لم يلد): لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات، كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف، و(لم يولد): لم يتولد منه شيء، ولم يخرج من شيء، كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر، لابل هو الله الصمد الذي ﻻ من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء. بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئة، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ولم يكن له كفوا أحد)([53])

وكل هذه النصوص ترد على تلك الظاهرة التي انتشرت في ذلك الحين برعاية السلطة الأموية، وعلماء السلاطين التابعين لها، والذين راحوا يصفون الله سبحانه وتعالى بكل صفات المخلوقين؛ فوقعوا في كل ما وقعت فيه الديانات المحرفة من التشبيه والتجسيم.

وقد أشار إلى بعض مظاهر هذه الظاهرة ومصدرها الإمام الباقر حين قال ـ مخاطبا جابر بن يزيد الجعفي: (يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله عز وجل، يزعمون أن الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذه مصلى، يا جابر إن الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، وجل عن أوهام المتوهمين، واحتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الأفلين، ليس كمثله شئ وهو السميع العليم)([54])

وليس مقصود الإمام الباقر بأهل الشام المنطقة الجغرافية فقط، بل المقصود منها تلك الرعاية الأموية للمشبهة والمجسمة، والذين أتيحت لهم كل المنابر العلمية والإعلامية والروائية، حتى صاروا مصدرا للتفسير والحديث والفقه والعقائد وكل العلوم الدينية.

بناء على هذا سنحاول هنا باختصار بيان بعض مقتضيات هذه القيمة الإيمانية من خلال النصوص التي أوردناها عن الإمام الحسين ، وهي أربع مقتضيات كبرى:

أ ـ تنزيه الله عن الجهة والمكان:

وهو التنزيه الذي أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها)، وقوله: (قربه كرامته، وبعده إهانته)، وقوله: (هو قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص)، وقوله: (لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث)، وقوله: (ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه)، وقوله: (لا يحله (في)، ولا توقته (إذا)، ولا تؤامره (إن)، علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل) ([55])

وقوله في تفسير الصمد: (بل هو الله الصمد الذي ﻻ من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء) ([56])

وكل هذه الكلمات البليغة تعني أن الله تعالى أعظم من أن يشار إليه، أو أن تكون له جهة تحصره، أو مكان يحده؛ فالله أعظم وأجل وأقدس من ذلك كله، ذلك أن مجرد اعتباره في جهة حد لعظمته، وتقييد لإطلاقه، وحبس له في عالم الحدود والقيود والجسمية، ومجرد اعتباره في مكان حصر له، بل قول بإمكانية تعدده؛ فمن حدد فقد عدد.

ولهذا نجد اهتماما كبيرا من جميع أئمة أهل بيت النبوة بالرد على تلك الظاهرة التي وفر لها الأمويون كل صنوف الرعاية؛ فراحت تزعم لله الجهة والمكان، كما زعمت له المحدودية والتقدير، ومن ذلك قول الإمام علي : (إنّ الله جلّ وعزّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان…) ([57])، وقال: (كان الله ولا مكان) ([58])

وروي عن الإمام الصادق قوله: (ولا يوصف [عزّ وجلّ ] بكيف ولا أين.. وكيف أصفه بأين، وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أيناً، فعرفت الأين بما أيّنه لنا من الأين)([59])

وسئل الإمام الكاظم : لأيّ علّة عرج الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، ومنها إلى سِدرَة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يوصف بمكان؟ فقال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبّهون، سبحان الله وتعالى عما يشركون) ([60])

وكل هذه النصوص مقتبسة من محكمات القرآن الكريم؛ فالله تعالى ينفي الجهة عنه؛ فيقول: ﴿وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، فهذه الآية الكريمة كافية في الدلالة على استحالة الجهة على الله، وهي تحصن الأمة من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من التجسيم، وقد نقل الفخر الرازي عن بعضهم قوله في مناسبة نزولها لتغيير القبلة: (.. لأن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال: إن الجنة له لا لغيره، فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك.. فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق، فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق)([61])

والله تعالى يذكر في آيات كثيرة أن له معية وحضورا مع كل شيء، وهو ما يكفي لنفي الجهة والمكان عن الله، ومن أمثلتها قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]، وقوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُم﴾ [النساء 108]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد 4]، وقوله: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ [التوبة 40]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق 16]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إله وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف 84]، وقوله: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾ [الأنعام3].

وقد كانت هذه الآيات وأمثالها من الآيات التي يستعملها المتكلمون المنزهة لإيقاع المجسمة في الحرج، لأنهم إما أن يقولوا بمقتضياتها، فينفوا الجهة عن الله، وينفوا معها الجسمية ومقتضياتها، وإما أن يصرفوها عن ظاهرها، وحينها يتخلون عن اعتبارهم التأويل تعطيلا.

يقول إمام الحرمين الجويني: (ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها حتى إذا سلكوا مسلك التأويل عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع. فمما يعارَضون به قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4] فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر حلوا عقدة إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل، وإن حملوا قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾على الإحاطة بالخفيات فقد تسوغوا التأويل)([62])

وهكذا نجد الأحاديث الصحيحة الموافقة للمعقول والمنقول، والتي لم تتلطخ بتشويهات المجسمة والمحرفة تنص على هذا، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للصحابة لما رأى رفعهم لأصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)([63])

وهكذا نرى اتفاق العقل والنقل والروايات على ما ذكره الإمام الحسين وجميع أئمة أهل البيت من تنزيه الله عن الجهة والمكان والمحل، وكون ذلك من مقتضيات الجسمية، والتعدد والشرك.

ولو أن السلفية الذين يزعمون لأنفسهم اتباع السنة تمسكوا بما قاله الإمام الحسين في المسألة، وتركوا ما قاله كعب الأحبار وغيره، لما أوقعوا أنفسهم في ذلك التدنيس للذات الإلهية بحصرها في المكان والجهة.

وخطورة الموقف السلفي ليس فيما يعتقدونه من عقائد فقط، وإنما في موقفهم من المخالف لهم في هذا المسألة، والذي لو طبقناه على مقولات الإمام الحسين المرتبطة بنفي الجهة والمكان، لكانوا من أول المكفرين له، ولأبيه ولجميع الأئمة ؛ فقد قال ابن خزيمة (ت 311 هـ) ـ والذي يعتبرونه إمام أئمتهم: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) ([64])

وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين)([65])

ولست أدري كيف يذكر هؤلاء عن أنفسهم أنهم يحترمون أئمة أهل البيت ويجلونهم، ويعتبرون أنفسهم أبعد الناس عن النصب والعداوة لهم، ومع ذلك يلغونهم إلغاء تاما وفي أخطر المسائل العقدية؛ فلا يعتبرون أقوالهم، ولا يعتبرونهم من سلفهم الذين يمكنهم الرجوع إليهم، في نفس الوقت الذي يقربون فيه كل من حكموا عليه بالكذب والتحريف مثل كعب الأحبار وغيره.

ب ـ تنزيه الله عن التنقل والحركة:

وهو التنزيه الذي أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه)، و(لا يحله (في)، ولا توقته (إذا)، ولا تؤامره (إن)، علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل) ([66])

وهو نص صريح في نفي حاجة الله تعالى وافتقاره للحركة والتنقل، لأن ذلك من دلائل العجز والافتقار، وهو من مقتضيات المحدودية والحاجة للمحل، والله تعالى ليس محدودا، ولا محتاجا إلى محل.

وما ذكره الإمام الحسين في تنزيه الله تعالى عن ذلك هو نفس ما ذكره جميع أئمة أهل البيت ، فعن الإمام علي أنه قال: (لا تجري عليه [تعالى ] الحركة والسكون، وكيف يجرى عليه ما هو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتدأه، إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه)([67])

وسئل الإمام الصادق : لم يزل الله متحرّكاً؟ فقال: (تعالى الله عن ذلك، إنّ الحركة صفة محدثة بالفعل) ([68])، وقال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان، ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً) ([69])

وقال الإمام الكاظم : (كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنّ بالله الظنون هلك)([70])

وهذا المعنى المتفق عليه عند أئمة أهل البيت من المعاني التي صرح بذكرها القرآن الكريم، واعتبرها من عقائد التنزيه الأساسية، ذلك أن كل النصوص الواردة في نفي نسبة المحل إلى الله تنفي نسبة التنقل إليه، لأن التنقل هو انتقال من محل إلى محل.

وقد أشار القرآن الكريم في قصة سليمان مع أصحابه إلى أن الحركة والانتقال شأن الضعفاء، أما القادر فهو الذي يقضي مصالحه في طرفة عين من غير معاناة حركة ولا حمل، ولا أي شيء، قال تعالى: ﴿ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)﴾ [النمل: 38 ـ 40]، فإذا كان هذا شأن العبد الذي أوتي بعض الكتاب.. فكيف بشأن الرب سبحانه وتعالى؟

ولهذا، فإن الله تعالى يذكر قربه من كل شيء، من غير حاجة إلى تنقل؛ فالله تعالى أقرب إلى خلقه من أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، وقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]

بل إن الله تعالى يخبر عن حضورة المطلق مع كل شيء، بل عن تصريفه لكل شيء، بل عن كونه هو الفاعل الوحيد لكل حركة أو سكنة في الوجود، فيقول: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) ﴾ [الواقعة: 63 ـ 74]

ولهذا؛ فإن القرب والدنو ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ لا يعني القرب الحسي، وإنما يعني قرب المعرفة والمحبة والتواصل مع الله، كما قال تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 19]، فالسجود بكل الكيان لله هو أقرب طريق للقرب الإلهي، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده)([71])

ونفى القرآن الكريم ذلك القرب الوهمي الذي يخطر على المستغرقين في الدنيا، فقال: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37]

وقد عبر الإمام الحسين عن هذا المعنى بعبارة جامعة مختصر؛ فقال: (قربه كرامته، وبعده إهانته) ([72])

وهي العبارة التي أعاد صياغتها بعد ذلك كل المنزهة، ومن جميع المدارس الإسلامية، حيث قال الشيخ عبد الغني النابلسي موضحا معنى القرب الإلهي: (إن قرب الكائنات منه تعالى قرب أثر من مؤثر، وقرب معلوم من عالم به لا يعزب عن علمه شيء، وبعد الكائنات منه تعالى عدم مناسبتها له وعدم مشابهتها له ولا بوجه من الوجوه)([73])

وقال الشيخ أحمد زروق: (قرب المسافات والنسب والمداناة: وهو قرب الأجسام، وسائر المحدثات، فلا يليق بالحق سبحانه، ولا يجوز عليه)([74])

وقال الغزالي: (القرب منه ليس بالمكان، وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان. وأن كمال النفس بالعلم والعمل، والاطلاع على حقائق الأمور، مع حسن الأخلاق)([75])

وقال ابن عطاء الله: (ما احتجب الحق عن العباد إلا بعظيم ظهوره، ولا منع الأبصار أن تشهده إلا قهارية نوره فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب)([76])

وغيرها من التقريرات التي تعبر عن تنزيه الله تعالى عن الجسمية وكل مقتضياتها، وهي ناتجة عن ذلك التمسك بمحبة أئمة أهل البيت والرجوع إليهم، على اختلاف درجاتهم في ذلك الرجوع، لكن الذين والوا أعداءهم من بني أمية سقطوا في مستنقع التشبيه والتجسيم؛ فلذلك راحوا ينسبون إلى الله تعالى ما لا يليق به من الحركة والتنقل والنزول والصعود والجري والهرولة وغيرها من الأوصاف التي لا تليق بجلال الله، ولا تنسجم مع ضرورات العقل والنقل.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن القيم في تقريره لعقائد الاتجاه السلفي صاحب الهوى الأموي، والذي يعتبر تنزيه الله تعالى عن الحركة والانتقال حكما عليه بالإعدام، حيث قال: (وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة.. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له، وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة) ([77])

وهكذا راح ابن تيمية يستعمل القياس مع الله، ليثبت أن على الله تعالى أن يتحرك ويتنقل حتى يحصل على الكمال، وإلا كان خلقه المتحرك أكمل منه، يقول: (وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل القائم به كالإتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما أن لايقبله: فإن لم يقبله كانت الأجسام التى تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه؛ فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك وما يقبل الحركة أكمل ممن لايقبلها)([78])

وقد استمر هذا القول إلى الآن باعتباره من العقائد الكبرى المقررة في المدارس السلفية، يقول ابن عثيمين: (النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة) ([79])

بل إن الغلو في التجسيم والتشبيه وصل بهم إلى حد اعتبار [الهرولة] صفة من صفات الله تعالى، وقد سئلت اللجنة الدأئمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية عنها، فأجابت: (نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به قال تعالى: (إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني ماشياً أتيته هرولة) رواه: البخاري ومسلم)([80])

وقد أثبتها كل السلفية المعاصرين من أمثال عبدالرزاق عفيفي وابن عثيمين وابن غديان وابن قعود وغيره؛ فقد سئل ابن عثيمين عن عن صفة الهرولة، فأجاب بقوله‏:‏ (صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، فذكر الحديث وفيه‏:‏ ‏(‏وإن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه فوجب علينا قبولها بدون تكييف)([81])

وقال محمد ناصر الدين الألباني: (لكن الهرولة، الهرولة كالمجيء والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها إذا خصصناها بالله عز وجل؛ لأن هذه الصفات ليست صفة نقص حتى نبادر رأساً إلى نفيها)([82])

ج ـ تنزيه الله عن التركيب والأعضاء:

وهو ما أشار إليه الإمام الحسين بقوله في تفسير سورة الإخلاص: (تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف، و(لم يولد): لم يتولد منه شيء، ولم يخرج من شيء، كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر، لا بل هو الله الصمد الذي ﻻ من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء)([83])

وهو ما ذكره كل أئمة أهل البيت ومنهم الإمام الصادق الذي سئل: كيف هو الله واحد؟ فأجاب بقوله: (واحد في ذاته، فلا واحد كواحد؛ لأنّ ما سواه من الواحد متجزّئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزّئ، ولا يقع عليه العدّ)([84])

وسُئل الإمام الرضا : (الله واحد والإنسان واحد، فليس قد تشابهت الوحدانية؟)، فقال: (إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا في الأسماء فهي واحدة، وهي دلالة على المسمّى، والإنسان نفسه ليس بواحد؛ لأنّ أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء مجزّأة، فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى، والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره)([85])

وقبلهم قال إمام الأئمة الإمام علي في تفسير معنى واحدية الله تعالى: (إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام؛ فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفّر من قال: ثالث ثلاثة.. وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ)([86])

وهو من مقتضيات تقديس الله تعالى عن الحدود والمقادير وما يلزم عنهما، ويرتبط بهما، لأن التركيب تعدد، والتعدد شرك، والمركب فقير، والله غني.

فالجزء في التركيب مقدّم على الكل، وكلّ جزء من المركّب مغاير لغيره، وبذلك يكون المركّب مفتقراً إلى أجزائه، وغنى الله تعالى المطلق يحيل عليه كل أنواع الافتقار.

ثم إنه لو افتقرت الذات الإلهية إلى التركيب، فإنّ الأجزاء التي ستركب منها لا تخلو من أن تكون أجزاء قديمة، فيلزم تعدّد القدماء، وهذا باطل، أو أن تكون أجزاء حادثة، فيلزم تركيب الواجب من أجزاء غير واجبة، وهذا باطل.

وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن المركّب بحاجة إلى من يركّبه، وهو منفي عن الذات الإلهية، لأنها بذلك لن تبقى ذاتا إلهية..

ثم إن الكل المركب من أجزاء لابد أن يكون كل جزء من أجزائه عالما خاص، ويكون مختلفا عن سائر الأجزاء اختلافا كليا، وهو بذلك يكون منعدما عن الأجزاء الأخرى، ويكون بجوانبه الأخرى منعدما عن هذا الجانب؛ فيلزم هذا الأمر النقص في جميع الجوانب، وبالتالي يستوجب هذا الأمر النقص والقصور في الذات الإلهية، وهذا باطل.

ثم إنه لو كان الله تعالى مركّباً من الأجزاء لكان علمه وقدرته ثابتة لكلّ واحدة من أجزائه المتغايرة، فيكون كلّ جزء من الله عالماً قادراً، فتتعدّد الآلهة، وهذا باطل([87]).

هذه بعض الوجوه العقلية البديهية التي تدل على استحالة التركيب على الله، وهي ما أشار إليها قوله تعالى مخبرا عن تنزهه وغناه المطلق: ﴿وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ [محمد: 38]، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]

ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، وقد قال الفخر الرازي في وجه دلالتها على هذا النوع من التنزيه: (احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثله شيء في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما)([88])

ويدل عليه دلالة خاصة قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1) ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، فاسم الله الأحد يشير إلى الوحدانية المطلقة لله في جميع جوانبها.

بالإضافة إلى هذا، فإن الرؤية التنزيهية لله تنزه الله تعالى عن الحاجة إلى الجارحة أو أي آلة، فهو يسمع من غير حاجة إلى أذن، ويبصر من غير حاجة إلى عين، وهكذا يفعل كل شيء من غير حاجة لأي شيء، لأنه الغني بذاته عن كل شيء، فلا يحتاج إلى شيء.

لكن هذه العقيدة البديهية الواضحة التي دل عليها القرآن الكريم، ودلت عليها كل البراهين العقلية، خالفتها المدارس التي لم تعتبر أئمة أهل البيت مراجع لها، فلذلك راحت تتلقى عقائدها من أعدائهم من علماء السلطة الأموية، والذين زجوا بهم في متاهة التجسيم والتشبيه والوثنية.

ومن الأمثلة على ذلك تلك الرواية التي يستندون إليها في جواز التركيب على الله، وهي ما رووه عن عكرمة قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها)([89])

وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية، بل اعتبر ما ورد فيها من العقائد التي أثبتها في نونيته المشهورة التي لا يزال السلفيون يحفظونها، ويحرصون عليها، فقد جاء فيها([90]):

وزعمت أن الله أبدى بعضه

   للطور حتى عاد كالكثبان

لما تجلى يوم تكليم الرضى

  موسى الكليم مكلَّم الرحمن

 وقد استشهد ابن تيمية بهذه الرواية على صحة إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف ـ وهو يريد في الحقيقة بأن العضو بعض الجسم ـ فيقول: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره، فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانُهم. وإذا حُقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظياً أو اعتبارياً، فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظٍ واعتبار واختلافِ اصطلاحٍ في مسمى (بعض) و(غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة.. فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا. وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين)([91])

ثم نقل الرواية التي ذكرناها، ثم قال: (وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وفي قصة داود: قال: يدنيه حتى يمس بعضه. وهذا متواتر عن هؤلاء)([92])

مع العلم أن راوي هذه الرواية، أو ملفقها هو عكرمة الذي اتفق أكثر علماء الجرح والتعديل على تجريحه في عقيدته واتهامه في سلوكه؛ فقد ذكر المترجمون له أنّه كان من أشد فرق الخوارج تشددا وتكفيرا ([93])، وقد روي أنه وقف على باب المسجد، فقال: ما فيه إلاّ كافر([94]) بناء على قول الخوارج بتكفير المسلمين.

وروى مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح عن معن بن عبد الرحمن، بسنده، قال: حدث عكرمة بحديث، فقال: سمعت ابن عباس يقول كذا وكذا، قال: فقلت يا غلام هات الدواة والقرطاس؟ فقال: أعجبك؟ قلت: نعم. قال: تريد أن تكبته؟ قلت: نعم. قال: إنما قلته برأيي([95]).

وهكذا روي عن مالك بن أنس؛ فقد قال إسحاق بن عيسى ابن الطباع: سألت مالك بن أنس، قلت: أبلغك أن ابن عُمَر، قال لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على عبد الله بن عباس؟ قال: لا، ولكن بلغني أن سَعِيد بن المُسَيَّب قال ذلك لبرد مولاه([96]).

وبناء على تلك الروايات المنقولة من عكرمة ومقاتل بن سليمان وكعب الأحبار، وغيرهم، راحوا يصفون الله تعالى بكونه مركبا من أعضاء لا تختلف عن الأعضاء التي يتركب منها الإنسان، وليس من فرق بينهما إلا أننا نرى أعضاء الإنسان، بينما لا نرى أعضاء الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

ولهذا نرى ما يسمى بكتب التوحيد والسنة والصفات مشحونة بالتجسيم المحض، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه أحد أعلامهم الكبار، وهو القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) صاحب كتاب [إبطال التأويلات لأخبار الصفات]، وهو مطبوع ومحقق ومنتشر على النت بكثرة، ومن ضمن العناوين الرئيسية الواردة فيه: (فصل في إطلاق القول بأنه خلق آدم على صورته وأن الهاء راجعة على الرحمن.. فصل في إثبات رؤيته لله سبحانه في تلك الليلة.. فصل وضع الكف بين كتفيه.. فصل جواز إطلاق تسمية الصورة عليه.. فصل إثبات صفة الساق لربنا سبحانه.. فصل إثبات صفة الشخص والغيرة لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة اليد واليمين والقبض لله تعالى.. فصل إثبات الرجل والقدم لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة الضحك لربنا، تبارك وتعالى.. فصل صفة العلو لربنا، تبارك وتعالى.. فصل إثبات صفة الفرح لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة العجب لربنا، تبارك وتعالى.. فصل إثبات صفة النزول لربنا، تبارك وتعالى.. فصل بيان أن الله تعالى حجابه النور أو النار.. فصل إثبات رؤية المؤمنين لربهم جل وعز في الآخرة.. فصل إثبات صفة الكف للرحمن جل شأنه.. فصل إثبات صفة الأصابع للرحمن سبحانه.. فصل إثبات صفة القبض والبسط لربنا تعالى.. فصل إثبات السمع والبصر لله تعالى.. فصل إثبات صفة العينين لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة الحياء لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة النفس لربنا جل شأنه.. فصل في المقام المحمود لنبينا k)

وحتى لا يتصور القارئ أن الفصل الأخير لا علاقة له بالتجسيم، وأنه يذكر فقط مكانة رسول الله k والمقام المحمود الذي خصه به، نذكر الروايات التي أوردها المؤلف في هذا الفصل لنعلم من خلالها أن التجسيم والوثنية السلفية دخلت في كل محل..

فمن الروايات التي أوردها ما رواه عن ابن عمر، عن النبي k في قوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] قال: (يجلسه معه على السرير)([97])

وروى عن عائشة قالت: سألت رسول الله k عن المقام المحمود فقال: (وعدني ربي القعود على العرش) ([98])

وروى عن عن عبد الله بن سلام أنه قال: (إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم k فأقعد بين يدي الله تعالى على كرسيه)، قال: فقلت: يا أبا مسعود إذا كان على كرسيه أليس هو معه؟ قال: (ويلكم هذا أقر حديث في الدنيا لعيني)، قال حجاج في حديثه: (إذا كان يوم القيامة نزل الجبار جل اسمه على عرشه، وقدماه على الكرسي، ويؤتي بنبيكم k، فيقعد بين يديه على الكرسي، فقالوا للحسن: إذا كان على الكرسي هو معه؟ قال: نعم، ويلكم هو معه هو معه) ([99])

وقد علق الشيخ أبو يعلى على هذه الروايات وغيرها بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأنه يجلسه معه على عرشه وسريره بمعنى يدنيه من ذاته ويقربه منها)([100])

ومن خلال كل هذه الروايات وغيرها كثير رسم السلفية لإلههم صورة لا تختلف عن صورة البشر، بل إنهم يصرحون بذلك، بل يصرحون بكونه شابا أمرد، وقد كتب في ذلك بعض علمائهم المعاصرين، وهو الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري كتابا سماه [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، وهو منتشر كثيرا، واعتنى به السلفية المعاصرون، بل قدم له شيخهم الكبير عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وقال في تقديمه له: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن.. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة رحمه الله في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى)([101])

وقد ذكر التويجري الدوافع لتأليفه، وهي دوافع لا تختلف كثيرا عن تلك الدوافع التي كان ينطلق منها الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)([102])

وهو يقصد بالجهمة هنا كل منزهة الأمة، لأنهم جميعا، حتى مع تصحيح الحديث لا يقولون بمقتضاه الظاهر، بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويلات.

د ـ تنزيه الله عن الانفعالات:

وهو ما أشار إليه الإمام الحسين بقوله: (لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث)([103])، وقوله في تفسير قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ [الإخلاص: 3]: (لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات، كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء والرغبة والسأمة، والجوع والشبع)([104])

وهذه المعاني التي لا تتناسب مع جلال الله وعظمته، وقع في أكثرها كل الذين أعرضوا عن أخذ الدين عنه وعن سائر الأئمة من أهل البيت، وراحوا إلى أعدائهم من اليهود وغيرهم، ليأخذوا منهم قيمهم الإيمانية؛ فوقعوا في التشبيه المحض.

ومن الأمثلة على ذلك اعتبار السلفية لـ [العجب والضحك] ونحوهما صفات كمال لا يجوز أن يخلو الله عنها، ولذلك نراهم يتنافسون في إثباتها، مثل مسارعتهم في إثبات مختلف أنواع الانفعالات لله، بل نراهم يصورونها تصويرا تشبيهيا تجسيميا محضا.

ومن ذلك ما ورد في (الرسالة الأكملية) لابن تيمية، حيث قال: (وقول القائل: إن الضحك خفة روح، ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه.. ثم قول القائل: (خفة الروح) إن أراد به وصفًا مذمومًا فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان؛ أحدهما: يضْحَك مما يُضْحَك منه، والآخر: لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني)([105])

وبهذا المنطق حاول ابن تيمية أن يثبت ضحك الله، بل وجميع الانفعالات التي تجري على الإنسان، ومن الروايات التي أوردها في ذلك: (ينظر إليكم الرب قَنِطِين، فيظل يضحك، يعلم أن فَرَجَكُم قريب)، فقال له أبو رَزِين العُقَيْلِي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ ! قال: نعم، قال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا)([106])

وقد علق ابن تيمية على الرواية بقوله: (فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العَبُوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه ﴿يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10])([107])

ولنتصور مبلغ ذلك التشويه لرحمة الله تعالى التي شملت كل شيء، وكيف حولها السلفية إلى نوع من السخرية؟ فالرواية التي أعجب بها ابن تيمية، تصور الله، وهو يضحك على معاناة خلقه واكتئابهم؟.. وهي صورة تدل على تأثر من صوّرها بصورة أولئك الملوك الجبارين الظلمة الذين ركن لهم السلفية وأحبوهم، وباعوا كل شيء من أجلهم.

ومما أورده ابن تيمية من الأدلة على ما يسميه صفة الضحك لله تعالى قوله: (والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزمًا لشىء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام، فليس حقيقة الضحك مطلقًا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدًا وألا تكون له ذات)([108])

ولو طبقنا هذا المقياس الذي ذكره ابن تيمية على الله، لسوينا الله بعباده، ولجعلنا كمالاتنا الوهمية كمالات له.

وما ذكره ابن تيمية هو نفس ما ذكره المتقدمون والمتأخرون من السلفية الذين اعتبروا ضحك الله صفة من صفاته، يقول ابن خزيمة: (باب: ذكر إثبات ضحك ربنا عَزَّ وجلَّ: بلا صفةٍ تصفُ ضحكه جلَّ ثناؤه، لا ولا يشبَّه ضَحِكُه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك؛ كما أعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جلَّ وعلا، إذ الله عَزَّ وجلَّ استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك؛ فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مصَدِّقون بذلك، بقلوبنا منصتون عمَّا لم يبين لنا مما استأثر الله بعلمه)([109])

ومثله قال أبو بكر الآجري: (باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجلَّ يضحك: اعلموا ـ وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ـ أنَّ أهل الحق يصفون الله عَزَّ وجلَّ بما وصف به نفسه عَزَّ وجلَّ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم. وهذا مذهب العلماء مِمَّن اتّبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به؛ أنَّ الله عَزَّ وجلَّ يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن صحابته؛ فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق)([110])

وهكذا قالوا في الصفة التي نسبوها لله [صفة العجب]، فقد قال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني: (وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يَعْجَبُ: (وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يَعْجَبُ؛ لأن العَجَب ممَّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: )بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ(؛ على أنه إخبار من الله عَزَّ وجلَّ عن نفسه)([111])

وقــال ابن أبي عـاصم: (باب: في تَعَجُّبِ ربنا من بعض ما يصنع عباده مما يتقرب به إليه.. لأن العَجَب ممَّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: ﴿ بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾؛ على أنه إخبار من الله عَزَّ وجلَّ عن نفسه)([112])

وهكذا قالوا في الصفة التي سموها صفة [البشبشة]، فقد رووا فيها حديثا عن أبي هريرة؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)([113])

قال أبو يعلى الفراء عند ذكره لإثبات صفة الفرح لله تعالى: (وكذلك القول في البشبشة؛ لأن معناه يقارب معنى الفرح، والعرب تقول: رأيت لفلان بشاشة وهشاشة وفرحاً، ويقولون: فلان هش بش فرح، إذا كان منطلقاً، فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح)([114])

وقال الدارمي: (وبلغنا أنَّ بعض أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؛ مثل: سفيان عن منصور عن الزهري، والزهري عن سالم، وأيوب بن عوف عن ابن سيرين، وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أشبهها؟)) قال: ((فقال المريسي: لا تردوه تفتضحوا، ولكن؛ غالطوهم بالتأويل؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف؛ كما فعل هذا المعارض سواء.. وسننقل بعض ما روي في هذه الأبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه.. (ثم ذكر أحاديث في صفة الحب ثم البغض ثم السخط ثم الكره ثم العجب ثم الفرح، ثم حديث أبي هريرة السابق في البشاشة، ثم قال) وفي هذه الأبواب روايات كثيرة أكثر مما ذكر، لم نأت بها مخافة التطويل)([115])

وهكذا قالوا فيما يسمونها صفة [الفرح]، والتي رووا فيها حديثا عن أبي هريرة وغيره يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جاء فيه: (لله أفرح بتوبة عبـده)، وفي رواية: (أشد فرحـاً)([116])

وقد قال ابن القيم ساخرا من الذي أولوا هذا الحديث من باب تنزيه الله تعالى عن الانفعالات الدالة على القصور والعجز: (وأيضاً فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته)، قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه.. فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته، وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه، فعليك بوادى الخفا، وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا فى شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم ولا لجؤوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل)([117])

وهكذا أصبح منزه الله ـ في معيار السلفيين ـ محرفا، وأصبح المجسم معظما ومنزها.

ومثله قال الشيخ محمد خليل الهرَّاس ـ وهو من كبار المعاصرين المتبنين لهذا المنهج التجسيمي ـ عند شرحه للحديث السابق، فقد قال: (وفي هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله عَزَّ وجلَّ، والكلام فيه كالكلام في غيره من الصفات؛ أنه صفة حقيقية لله عَزَّ وجلَّ، على ما يليق به، وهو من صفات الفعل التابعة لمشيئته تعالى وقدرته، فيحْدُث له هذا المعنى المعبَّر عنه بالفرح عندما يُحدِثُ عبدُهُ التوبةَ والإنابَةَ إليه، وهو مستلزمٌ لرضاه عن عبده التائب، وقبوله توبته، وإذا كان الفرح في المخلوق على أنواع؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وطرب وقد يكون فرح أشر وبطرٍ؛ فالله عَزَّ وجلَّ مُنَزَّه عن ذلك كله، ففرحهُ لا يشبه فرح أحد من خلقه؛ لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته؛ فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين، وأما تفسير الفرح بلازمه، وهو الرضى، وتفسير الرضى بإرادة الثواب؛ فكل ذلك نفيُ وتعطيلٌ لفرحه ورضاه سبحانه، أوجبه سوءُ ظنِّ هؤلاء المعطِّلة بربهم، حيث توهَّموا أن هذه المعاني تكون فيه كما هي في المخلوق، تعالى الله عن تشبيههم وتعطيلهم)([118])

هذه مجرد أمثلة عن نسبة السلفية الانفعالات لله، وهو ما لا يليق بجلال الله وقدسه، وما تدل الأدلة العقلية والنقلية على استحالته، ولكن بسبب إعراضهم عن كلمات بيت أهل النبوة وقعوا فيما وقعوا فيه.

ثانيا ـ الإمام الحسين وقيم الكمال [الجمال الإلهي]:

لا تقتصر القيم الإيمانية على قيم التنزيه، ذلك أنها ـ مع أهميتها ـ لاتفعل سوى أن تنفي عن الله ما لا يتناسب مع جلاله وعظمته، بالإضافة إلى كونها قيما يمكن للعقل المجرد إثباتها، بل إن الكثير من الفلاسفة استطاعوا أن يتوصلوا إليها من غير اعتماد على أي مصدر نقلي، ولهذا نرى المتكلمين لا يقتصرون في البرهنة عليها على المصادر النقلية، بل يضيفون إليها المصادر العقلية أيضا.

ولهذا يدعو القرآن الكريم إلى استعمال العقل المجرد لتنزيه الله عن الشريك، قال تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22]

أما ما وقع فيه المخالفون لها من هذه الأمة أو غيرها، فهو ناتج عن عزل العقل في التأمل فيها، ولذلك راحوا يقيسون الله على أنفسهم، ويتصورون أن الكمال هو ما يتصفون به؛ فوصفوا الله بما يتصورون أنه كمال مع كونه عين النقص.

ولذلك كان الاهتمام بالتنزيه مقدمة أساسية لإثبات كمال الله وجماله وعظمته التي لا تحد، ذلك أنه لا يمكن إثبات الكمال لعقل ممتلئ بالتشبيه والتدنيس، وإلا أصبح الكمال نفسه نقصا، لاختلاطه مع التشبيه والتجسيم، وهو ما وقعت فيه المدارس التي عزلت أئمة أهل البيت ، حيث أصبح الكمال عندها مشوبا بالتجسيم والتشبيه والنقص الذي لا يليق بجلال الله وعظمته.

ومن الأمثلة على ذلك أنهم يوردون عند بيان قدرة الله المطلقة هذه الرواية التي أوردها أبو الشيخ في العظمة يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة)([119])

ومنها ما ذكره ابن تيمية في (الرسالة العرشية)، حيث قال: (والحديث مروي فى الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا وفى بعض ألفاظه قال: قرأ صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 67]، ثم قال: (مطوية فى كفه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة). وفى لفظ (يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد)، وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما، فما ترى طرفاهما بيده)([120])

وقال: (وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وهو يقول: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟)([121])

والعجب أنهم – بما يروونه من خرافات وأساطير – صاروا يعتقدون أن الأرض تساوي السماوات في ضخامتها، ولهذا تجدهم يصححون الروايات التي تصور أن الله يضع الأرض في يد والسموات بما فيها من نجوم وكواكب وغيرها في يد أخرى، لقد قال ابن القيم يشرح ذلك، أو يصوره: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب)([122])

هذا مثال عن تصور السلفيين لقدرة الله، والتي أثر فيها التجسيم والتشبيه، وحولها إلى عجز محض، وهكذا نراهم عندما يتحدثون عن عظمة العرش، فهم لا يتحدثون عنه باعتباره آية من آيات قدرة الله، وإنما باعتباره محلا لجلوس الله تعالى، وبقدر الجالس يكون الكرسي، وبقدر الراكب يكون المركب، ولها نراهم يبالغون في وصف عظمة العرش، ويؤلفون فيه الرسائل والكتب، لا ليثبتوا قدرة الله، وإنما ليثبتوا عظمة حجم الذي يقعد عليه.

مع العلم أن تلك الأرقام التي يوردونها لا تساوي شيئا أمام ما اكتشفه العلم الحديث من عظمة الكون، بل هي لا تكاد تتجاوز المجموعة الشمسية في أحسن أحوالها، ولهذا نراهم يبغضون العلوم الحديثة، وخصوصا [علم الفلك الحديث]

وفي مقابل الاتجاه السلفي التجسيمي نرى كذلك سائر المدارس الإسلامية من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وغيرهم، بالغوا في التنزيه على حساب قيم الكمال؛ فلذلك راحوا يقيدون صفات الكمال، ويحصرونها في عدد محدود؛ وهو وإن كان من مقتضيات التصنيف العلمي إلا أنه أحدث آثارا سلبية على قيم الكمال، بالإضافة إلى مخالفته للمنهج القرآني.

وفي هذا الإطار تظهر قيمة أطروحات أئمة أهل البيت ، والتي تبنت المنهج القرآني في الدعوة للعقيدة الإسلامية، وما يرتبط بها من قيم، والتي تجنبت أسلوب التصنيف الكلامي الممتلئ بالقصور والعجز، والذي قد يغلب العقل المجرد القاصر، وإنما تبنت التعريف بالحقائق على الطريقة القرآنية.

ولهذا نجد المعارف العظيمة لهم مضمنة في أدعيتهم؛ فهي تشمل حقائق الجلال والجمال الإلهي، وبأحسن عبارة، وأدق إشارة، وبلغة جميلة بسيطة يفهمها العامة والخاصة، كل بحسبه، بالإضافة إلى كونها معراجا يتواصل المؤمن من خلاله مع الله تعالى، ولا يكتفي بوصفه وصفا مجردا عن المشاعر.

ومن أجمل تلك الأدعية، وأكثرها اهتماما بمعارف الكمال الإلهي دعاء الإمام الحسين يوم عرفة، فهو وحده مدرسة عقدية كاملة، لو أن الأمة اهتمت بها بدل اهتمامها بتلك المتون العقدية، لبنت علاقة إيمانية مع الله، تختلف عن ذلك الجدل والتحريف الذي وقعت فيه.

ومن الأمثلة على ذلك أنه عند مطالعة المقطع الأول من الدعاء، والذي يبدأ بقول الإمام الحسين : (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع)([123])، وينتهي بقوله: (وليس كمثله شي‏ء، وهو السميع البصير، اللطيف الخبير، وهو على‏ كل شي‏ء قدير) نرى الكثير من المعارف المتعلقة بالكمال الإلهي، والمصاغة بطريقة لا يمكن أن نجد مثلها في المتون، ولا كتب العقائد التي صاغها المتكلمون والممتلئة بالجفاف.

فهو يذكر إرادة الله وقضاءه الذي لا يمكن لأحد أن يدفعه: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع)، وهو يرد بذلك على كل التيارات التي حدت من إرادة الله، أو تصورت إمكانية معارضتها.

وهو يذكر جود الله وكرمه المنبني على قدرته المطلقة: (ولا لعطائه مانع)، (وهو الجواد الواسع)

وهو يذكر قدرة الله وإبداعه في صنعه: (ولا كصنعه صنع صانع.. فطر أجناس البدائع، وأتقن بحكمته الصنائع)

وهو يذكر رقابة الله وسمعه وبصره وحضوره مع كل شيء، وعدم غياب شيء عنه: (لا يخفى‏ عليه الطلائع)

وهو يذكر خلق الله تعالى للخلق ورحمته ورأفته بهم وهدايته لهم: (وهو للخليقة صانع، وهو المستعان على الفجائع، جازي كل صانع، ورائش كل قانع، وراحم كل ضارع، ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع)

وهو يذكر أفعال الله المرتبطة بخلقه، وسماعه لأدعيتهم، ورفعه لكرباتهم، ومجازاته للمسيئين منهم: (وهو للدعوات سامع، وللدرجات رافع، وللكربات دافع، وللجبابرة قامع، وراحم عبرة كل ضارع، ودافع‏ ضرعة كل ضارع)

وهكذا لو تأملنا هذا المقطع وحده وجدنا فيه الكثير من المعارف الإلهية المرتبطة بالأسماء الحسنى، والتي تدل على مدى حضور المنهج القرآني في عرض القيم الإيمانية في أدعية الإمام الحسين ، مثله مثل سائر أدعية الأئمة .

بناء على هذا، وبناء على صعوبة تصنيف ما ورد في الدعاء من كمالات الله من خلال مقاطعه وفقراته؛ فسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد فيه من معارف إلهية على سبيل الاختصار:

1 ـ حياة الله:

وهي من أول صفات كمال الله، وقد أشار إليها الإمام الحسين في دعاء عرفة بقوله: (يَا حَيّاً حينَ لا حَيّ)، وهي الصفة التي رتب عليها القرآن الكريم كل صفات الكمال، ذلك أنه لا يمكن لأي صفة كمال أن تكون بدونها، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إله إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65]، وقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]

وقد أشار إلى هذه الصفة، وأهميتها في معرفة الله تعالى كل أئمة أهل البيت ، فقد قال الإمام الباقر : (إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره.. حيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً)([124])، وقال: (كان حيّاً بلا كون موصوف)([125])

وكلهم نص على أن حياة الله عين ذاته، فعن الإمام علي قال: (كان إلهاً حيّاً بلا حياة)([126])، وقال: (اللهم إنّك.. حيّ لم ترث الحياة من حي)([127])، وقال الإمام الباقر : (لم يزل حيّاً بلا حياة)([128])، وقال: (كان حيّاً بلا حياة حادثة)([129])

2 ـ علم الله:

وهو من صفات الكمال الكبرى التي تترتب عليها الكثير من الكمالات، وقد أشار الإمام الحسين في دعاء عرفة إلى سعة علم الله، وارتباطه بأدق التفاصيل، وكأنه يرد بذلك على الفلاسفة الذين قصروا علم الله على الكليات دون التفاصيل، فقد قال في دعائه ـ عند عده لنعم الله تعالى عليه: (وأنا اشهدك‏ يا إلهي بحقيقة إيماني، وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي، وباطن مكنون ضميري، وعلائق مجاري نور بصري، وأسارير صفحة جبيني، وخرق‏ مسارب‏ نفسي، وخذاريف‏ مارن عرنيني‏، ومسارب صماخ‏ سمعي، وما ضمت وأطبقت عليه شفتاي، وحركات لفظ لساني، ومغرز حنك‏ فمي وفكي، ومنابت أضراسي، وبلوغ حبائل بارع‏ عنقي، ومساغ‏ مطعمي‏ ومشربي، وحمالة أم رأسي، وجمل حمائل حبل وتيني، وما اشتمل عليه تامور صدري، ونياط حجاب قلبي، وأفلاذ حواشي كبدي، وما حوته شراسيف‏ أضلاعي، وحقاق مفاصلي، وأطراف أناملي، وقبض عواملي، ودمي وشعري، وبشري وعصبي، وقصبي وعظامي، ومخي وعروقي، وجميع جوارحي، وما انتسج على‏ ذلك أيام رضاعي، وما أقلت الأرض مني، ونومي ويقظتي، وسكوني وحركتي، وحركات ركوعي وسجودي)([130])

فهذه القطعة من الدعاء تشير إلى معان كثيرة جدا كلها تترتب على علم الله الواسع والمحيط بأدق التفاصيل؛ فهي تشير إلى قدرة الله المطلقة، وتصميمه البديع، وعنايته بعباده، ورحمته بهم، وكل هذه المعاني مترتبة على علم الله.

وكأن الإمام الحسين يرد على الفلاسفة الذين يقصرون علم الله على الكليات دون الجزئيات، بقوله: (إن هذه النعم التي نراها، ونوقن بأن الله خلقها، لم تكن لتوجد لولا قدرة الله المرتبطة بعلمه، فعلمه بالحاجة إليها هو الذي دعا القدرة لإخراجها من العدم إلى الوجود)

والمنهج الذي استعمله الإمام الحسين في إبراز هذه الحقيقة هو نفس المنهج القرآني الذي يعتمد ذكر الأمثلة والنماذج التي يعبر عنها بالآيات، كما قال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، وقال:﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ (فصلت:47)، وقال:﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ (سـبأ:2)، وقال:﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (يونس:61)، وقال:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (المجادلة:7)

وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة التي يذكر الله تعالى فيها علمه الواسع المحيط بكل شيء، وبأدق التفاصيل، وهو نفس المنهج الذي استعمله كل أئمة أهل البيت ؛ فالإمام علي يقول في وصف الله تعالى: (لا يعزب عنه عدد قطر السماء، ولا نجومها ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفي الأحداق)([131])، ويقول: (الحمد لله الذي يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات)([132])، ويقول: (قد علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء)([133])

وقال الإمام الصادق : (إنما سمي الله تعالى عليما لأنه لا يجهل شيئا من الأشياء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء)([134])

وقال الإمام الرضا : (إنما سمي الله عالما؛ لأنه لا يجهل شيئا)([135])

وقال الإمام الجواد : (قولك عن الله عالم، إنما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه)([136])

3 ـ إرادة الله:

وهي من صفات كمال الله، والتي وقع الخلاف في كونها من الصفات الذاتية أو من صفات الأفعال، كما وقعت خلافات كثيرة في علاقتها بالعلم والقدرة، ونحن لا يعنينا هنا كل تلك الخلافات، وإنما يعنينا منهج الإمام الحسين في التعريف بها وطرحها، فقد أشار إليها في دعاء عرفة في مواضع منه، ومنها قوله في بداية الدعاء: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع)

وقوله عند بيانه لنعم الله على عباده: (سبحانك لا إله إلا أنت، اللهم إنك تجيب المضطر، وتكشف السوء، وتغيث المكروب، وتشفي السقيم، وتغني الفقير، وتجبر الكسير، وترحم الصغير، وتعين الكبير، وليس دونك ظهير، ولا فوقك قدير، وانت العلي الكبير)، فكل هذه الأفعال الإلهية تفتقر إلى الإرادة مثل افتقارها إلى القدرة.

وقال في دعاء القنوت: (اللهم منك البداء ولك المشيئة، ولك الحول، ولك القوة، وأنت الله الذي لا إله إلا أنت، جعلت قلوب أوليائك مسكناً لمشيتك وممكناً لإرادتك، وجعلت عقولهم مناصب أوامرك ونواهيك. فأنت إذا شئت ما تشاء حرّكت من أسرارهم كوامن ما ابطنت فيهم، وأبدأت من إرادتك على ألسنتهم ما أفهمتهم به عنك في عقودهم بعقول تدعوك، وتدعو اليك بحقائق ما منحتهم وإنِّي لأعلم مما علمتني من أَنّك أنت، المشكور على ما منه أريتني وإليه آويتني.اللهم واني مع ذلك كله عائذ بك، لائذ بحولك وقوتك راض بحكمك الذي سقته إليَّ في علمك جار بحيث اجريتني، قاصد مما اممتني غير ضنين بنفسي فيما يرضيك عني إذ به قد رضيتني ولا قاصر بجهدي عما إليه ندبتني، مسارع لما عرفتني، شارع فيما أشرعتني، مستبصر ما بصرتني، مراع ما أرعيتني، ولا تخلني من رعايتك، ولا تخرجني من عنايتك ولا تقعدني عن حولك، ولا تخرجني عن مقصد أنال به إرادتك، واجعل على البصيرة مدرجي، وعلى الهداية مهجتي، وعلى الرشاد مسلكي، حتى تنيلني وتنيل بي أمنيتي، وتحل بي على ما به أردتني وله خلقتني وإليه أويت بي، وأعذ أولياءك من الافتتان بي، وفتنهم برحمتك لرحمتك في نقمتك تفتين الاجتباء والاستخلاص بسلوك طريقتي، واتباع مهجتي، والحقني بالصالحين من آبائي، وذوي لحمتي) ([137])

وهكذا قال في القطعة المنسوبة إليه في دعاء عرفة: (إلهي قد علمتُ باختلاف الآثار، وتنقّلات الأطوار، أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء؛ حتّى لا أجهلك في شيء)، وهو نص يبين أن مراد الله من عباده هو التعرف عليه وعبادته، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56، 57]

وهو ما نص عليه الحديث القدسي الذي يذكر فيه الله تعالى الهدف والغاية من خلق الموجودات، وهي معرفته تعالى، ففيه: (كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف)([138])

ومن المسائل التي ثار حولها الجدل الكثير في عهد الإمام الحسين علاقة إرادة الله بإرادة الإنسان، وهل إرادة الله تلغي إرادة الإنسان، أم أن إرادة الإنسان تلغي إرادة الله، وقد أجاب على هذا الإشكال الإمام الحسين في رسالة أرسل بها إلى الحسن البصري يجيبه فيها عن سؤال حول القدر، ومما جاء فيها: (فاتبع ما شرحت لك في القَدَر ممّا أُفضي إلينا أهل البيت، فإنه من لم يؤمن بالقَدَر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد افترى على الله افتراء عظيماً، إنَّ الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يُعصى بغَلَبة ولا يُهمِل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، والقادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة، لم يكن الله صادّاً عنها مبطئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء ان يَمُنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل. وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسراً، ولا كلفهم جبراً بل بتمكينه إياهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم، طوقهم ومكنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم، وترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه. ولترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه، الحمد لله الّذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة، وما نهاهم عنه. وجعل العذر لمن يجعل له السبيل حمداً متقبلاً فأنا على ذلك أذهب وبه أقول. والله وأنا وأصحابي أيضاً عليه وله الحمد)([139])

وفي هذه الرسالة توضيح جلي لمسألة القضاء والقدر، وعلاقتها بعلم الله وإرادته وقدرته، وعلاقتها كذلك بسلوك الإنسان، والتكليف المناط به.

وهي حل لتلك الإشكالات التي وقعت فيها بعض المدارس الإسلامية بسبب مواقفها من القضاء والقدر، نتيجة سوء فهمها لعلم الله وإرادته وقدرته، حيث نجد فريقين متنازعين، كلاهما أخطأ الطريق المستقيم بسبب هجره لحقائق القرآن الكريم والممثلين لها.

أما أولهما: فغلب التوحيد على العدل، فاعتقد أن الله تعالى أجبر عباده على ما يفعلون، ثم يحاسبهم على ذلك، لأنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، وهو المذهب الذي اعتبره القرآن الكريم مذهب المشركين؛ فقال: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148]، وقال: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28]، وقال: ﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 20]

وأما الفريق الثاني؛ فذهب إلى عكس ذلك، فتوهم أن العباد يتصرفون خلافا لما أراد الله تعالى، وبذلك يكون الله عنده مكرها وجأهلا وعاجزا، ولهذا قال الإمام الحسين : (إنَّ الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يُعصى بغَلَبة ولا يُهمِل العباد في الهلكة)

وهذا الذي ذكره الإمام الحسين وعالج به أخطر القضايا العقدية، وأكثرها تأثيرا في الواقع هو الذي اتفق عليه جميع أئمة أهل البيت ، فقد روى الأصْبَغ بن نُباتة أن الإمام علي عَدَل من حائط مائل إلى حائط آخر؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين أتَفرّ من قضاء الله؟ قال: (أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل)([140])

وروي أنه لما انصرف من صفين أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام، أبقضاء الله وقدره؟ فقال: أجل يا شيخ، ما علوتم من تلعة ولا هبطتم من واد إلاَّ بقضاء من الله وقدر؛ فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: مه يا شيخ! فوالله لقد عَظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطري؛. فقال الشيخ: كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؛ فقال أمير المؤمنين: أوَ تظن أنَّه كان قضاءً حتماً، وقدَراً لازماً؟ إنَّه لو كان كذلك لبطل الثَّواب والعقاب، والأمر والنهي، والزَّجر من الله تعالى، وسقط معنى (الوعد والوعيد) ولم تكن لأئمة للمذنب، ولا مَحْمَدَةٌ للمحسن، ولكان المُذْنِب أولى بالإِحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب.. وتلك مقالة إخوان عَبَدَةَ الأوثان، وخصماء الرحمان، وحزب الشيطان، وقَدَرِيّة هذه الأُمة ومجوسها، وإنَّ الله كلف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطَعْ مكرهاً، ولم يملك مفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار)([141])

وقال: (لا تقولوا وكلهم الله إلى أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه، ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشر بخذلان الله، وكلّ سابقٌ في علم الله)([142])

وقال الإمام الصادق : (كما أنَّ بادئ النعم من الله عز وجل وقد نحلكموه، كذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره)([143])

وقال الإمام الرضا : (لا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، وعلى ما سطر في كتابه ماضون، لا يعملون خلاف ما علم منهم، ولا غيره يريدون)([144])

وهكذا جمعت هذه المقولات بين الإيمان بتوحيد الله وعظمته وإرادته المطلقة وقدرته النافذة في كل شيء، مع الحرية الإنسانية التي يقتضيها التكليف.

وهي كلها مستنبطة ومتوافقة ومتناسقة مع ما ورد في القرآن الكريم، حيث نجده يعقب على أفعال العباد المكتسبة بأنها لم تحصل خارجة عن مشيئة الله، بل هي في إطار مشيئته، ليجمع القلب على التوحيد بعد تذكيرهم بمسؤوليتهم في عالم الأسباب.

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات ضرر السحر الذي هو فعل المكلف:﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ (البقرة: 102)، ثم تعقيبه بعدها بأن هذا الضرر لا يحصل إلا بإذن الله:﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله ﴾ (البقرة: 102)

ومن ذلك قوله تعالى إثبات كسب المخالفين والمعادين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾ (الأنعام: 112)، ثم قوله بعدها في إثبات التوحيد:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ (الأنعام: 112)

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات كسب المشركين من قتل أولادهم التشنيع عليهم بذلك:﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُم﴾ (الأنعام: 137)، ثم التعقيب على ذلك بالرد إلى التوحيد:﴿ وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ ﴾ (الأنعام: 137﴾ (الاَنعام 6: 137)

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات وقوع الشرك من المشركين بنسبتهم إلى الشرك:﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 106)، ثم قوله بعدها في إثبات أن شركهم لا يخرج عن مشيئة الله:﴿ وَلَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكُوا﴾ (الأنعام: 107)

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات كسب العبد لمشيئة الاستقامة:﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ (التكوير:28)، ثم تعقيبه بعدها بما يقتضيه التوحيد من إرجاع مشيئة العبد إلى مشيئة الله:﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (التكوير:29)

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات كسب العبد ومشيئته في السلوك إلى الله:﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الانسان:29)، ثم تعقيب ذلك بإرجاع المشيئة إلى الله:﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (الانسان:30)

ومن ذلك قوله تعالى في إثبات كسب العباد في التذكر بالقرآن الكريم:﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)﴾ (المدثر)، ثم تعقيبه على ذلك بإرجاع المشيئة إلى الله إثباتا للتوحيد:﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَةِ ﴾ (المدثر:56)

وهكذا نرى مدى التوافق بين القرآن الكريم وكلمات أئمة أهل البيت ، ذلك أنه يستحيل أن يختلف الثقلان في أي مسألة، وكيف يختلفان، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض.

4 ـ قدرة الله:

وهي التي أشار إليها الإمام الحسين في مواضع كثيرة من دعاء يوم عرفة، ومنها قوله: (ولا كصنعه صنع صانع)، وقوله: (فطر أجناس البدائع([145])، وأتقن بحكمته الصنائع)، وقوله: (وهو على كل شيء قدير)([146])

وقوله عند ذكر بعض تفاصيل القدرة المرتبطة بخلقه: (ابتدأتني بنعمتك قبل ان أكون شيئا مذكورا، وخلقتني من التراب، ثم اسكنتني الأصلاب.. فابتدعت خلقي من منى يمنى، وأسكنتني في ظلمات ثلاث، بين لحم ودم وجلد)([147])، وغيرها من المقاطع التي ذكر فيها نعم الله تعالى عليه؛ فكلها نعم دالة على قدر الله تعالى.

ونلاحظ فيها مثلما لاحظناه سابقا من استخدام المنهج القرآني في التعريف بقدرة الله، وهو منهج يعتمد الآيات الدالة على القدرة، وكونها تتسع لكل شيء، فالله تعالى يعدد آيات قدرته، ليبرهن بها على كون القدرة صفة من صفاته الذاتية، قال تعالى: ﴿الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]

ومن الأمثلة على ذلك قوله عند بيانه لقدرته على البعث: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]

وهو دليل واضح على أن من قدر على كل هذه الآيات البديعة قادر على غيرها؛ قال تعالى:﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 78 ـ 82]

وهذا المنهج هو الذي اعتمده أئمة أهل البيت في الدلالة على قدرة الله، والرد على تلك المقولات والتشكيكات التي تحاول أن تبحث في محدودية قدرته تعالى([148])، ومن ذلك قول الإمام علي : (فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه)([149])، وقوله: (وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته)([150])، وقوله: (فأقام من الأشياء أودها، ونهج حدودها ولاءم بقدرته بين متضادها)([151])، وقوله: (و أقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته)([152])

وهكذا قال الإمام الصادق في جواب بعض الملاحدة: (كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك)([153])

5 ـ عدل الله:

وهو الذي أشار إليه الإمام الحسين في قوله في دعاء عرفة: (وأنك الحكم العدل الذي لا يجور، وعدلك مهلكي، ومن كل عدلك مهربي، فإن تعذبني فبذنوبي يا مولاي‏ بعد حجتك علي، وإن تعف عني‏، فبحلمك وجودك وكرمك)([154])

وهذه القطعة من الدعاء ـ بالإضافة إلى احتوائها على قيم العبودية الخالصة لله والممتلئة بالأدب الرفيع والشفافية الروحية العالية ـ تدل كذلك على أن من صفات كمال الله عدله المطلق الذي لا حدود له، وهو من المفاهيم التي وقعت فيها الكثير من الأخطاء في المدارس الإسلامية، ولهذا نجد في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت تصحيح تلك المفاهيم التي انحرفت عن المعاني القرآنية.

وأول من أشار ذلك الإمام علي عندما طرحت المسألة في عصره؛ فسئل عن التوحيد والعدل؛ فأجاب بعبارة جامعة بقوله: (التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه)([155])، وهي عبارة تلخص الكثير من القيم الإيمانية التي حرص أئمة أهل البيت على الدعوة إليها.

وقد أشار ابن أبي الحديد إلى قيمة تلك العبارة الجامعة، ومدى تأثيرها في عقائد المعتزلة، على عكس ما يشاع من تأثر الإمامية بالمعتزلة؛ فقال: (هذان الركنان هما ركنا علم الكلام، وهما شعار أصحابنا المعتزلة لنفيهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري وأصحابه، ولتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح، ومعنى قوله: (أنْ لا تتوهمه): أنْ لا تتوهمه جسماً أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئاً لكل الجهات، كما ذهب إليه قوم، أو نوراً من الأنوار، أو قوة سارِيّة في جميع العالم كما قاله قوم، أو من جنس الأَعراض التي تحل الحالّ أو تحل المَحَل وليس بعَرض، كما قاله النصارى، أو تحله المعاني والأعراض فمتى تُوُهّم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد.. وأما الركن الثاني فهو (أنْ لا تتهمه): أي أَنْ لا تتهمه في أنَّه أَجبرك على القبيح ويعاقبك عليه، حاشاه من ذلك ولا تتهمه في أنَّه مكّن الكذّابين من المعجزات فأضل بهم الناس، ولا تتهمه في أَنَّه كلّفك ما لا تطيقه وغير ذلك من مسائل العدل التي يذكرها أَصحابنا مفصلة في كتبهم، كالعوض عن الأَلم فإِنه لا بدّ منه، والثواب على فعل الواجب فإِنه لا بد منه، وصدق وعده ووعيده فإِنه لا بد منه)([156])

ثم ذكر مدى تأثير الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت في مفهوم العدل وما يرتبط به من مفهوم الحسن والقبح وغيرهما في عقائد المعتزلة؛ فقال: (و جملة الأمر أَنَّ مذهب أَصحابنا في العدل والتوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين وهذا الموضع من المواضع التي قد صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه وفي فرض كلامه من هذا النمط ما لا يحصى)([157])

وهكذا روي عن الإمام الصادق الجمع بين التوحيد والعدل، حيث قال: (أَمّا التّوحيدُ فَأَنْ لا تُجَوِّزَ عَلى رَبِّك ما جازَ عليكَ، وأمّا العَدْل فَأَنْ لا تَنْسبَ إلى خَالِقِكَ ما لاَمَكَ عَلَيْهِ)([158])

وكل هذه الروايات التي يجتمع فيها العدل مع التوحيد، نجدها مستنبطة ومتفقة مع القرآن الكريم الذي يعتبر اقتران العدل بالتوحيد اقترانا ضروريا لا انفصال لأحدهما عن الآخر؛ فالعدل يقتضي التوحيد، والتوحيد يقتضي العدل.

أما اقتضاء العدل للتوحيد، فإن الشخص إن كلف تكاليف مختلفة من جهات متعددة، ثم حوكم في محاكم مختلفة من قضاة متناقضين كان ذلك منتهى الجور، ولكن العدل الإلهي مستند إلى التوحيد الإلهي، فالعبد لا يكلف إلا من رب واحد، وهو الذي يتولى جزاءه، فلا يخاف ظلما ولا هضما.

أما اقتضاء التوحيد للعدل، فإن من أعظم أسباب الجور فقر الجائر لمن جار له بأي نوع من أنواع الافتقار، أو بغضه للمجور لعلة من العلل، والله تعالى الغني عن عباده، لا يفتقر لأحد منهم، وينزه عن العلل التي يقع بسببها الجور والظلم.

ولهذا ورد في النصوص الجمع بين التوحيد والعدل، ومن ذلك قوله تعالى حاكيا قول هود u لقومه:﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (هود:56)، فهذه الآية الكريمة تجمع بين العدل والتوحيد، بل تسند أحدهما للآخر:

أما التوحيد الذي هو أساس التوكل كما أنه أساس العدل، فقد عبر عنه بقوله:﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ أي لا يخرج أي شيء عن قهره وسلطانه.

وأما العدل، والذي جاء مستدركا لما قد يفهم خطأ من التوحيد، فقد عبر عنه بقوله:﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي هو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم.

وهكذا نرى النصوص القرآنية الكثيرة التي توضح معنى العدل، وأنه امتناع الظلم عن الله، كما قال تعالى:﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران:182)، وقال تعالى:﴿ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ﴾ (غافر: 31)، وقال تعالى:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصلت:46)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (يونس:44)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء:40)، وقال تعالى:﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً﴾ (طـه:112)، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم أن يعاقب بذنوب غيره، وكلاهما مما يتنافى مع العدل.

وكل تلك الآيات الكريمة، ومثلها الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت تدل على أن المراد من العدل والظلم هو نفس ما نفهمه في تعابيرنا العادية من معانيهما؛ فالعدل أن توضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها، والظلم أن توضع في غير مواضعها.

أما من حرف هذا المعنى، ففسر العدل بالممكن، واعتبر أن كل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل، وفسروا الظلم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وأحالوا بذلك ـ عقلا ـ إمكانية الظلم على الله تعالى باعتباره ممتنعا لذاته، فلا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الرب تعالى على ما يسمى (ظلما) حتى يقال ترك الظلم وفعل العدل([159]).

فهذا لا يتناسب مع ما يفهم من ظواهر النصوص القرآنية والنبوية والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ، وعلى قولهم ذلك لا يمدح الله بالعدل، ولا يحمد على ترك الظلم، لأنه لا يحمد على ترك المستحيل لذاته.

بل إن القول بهذا، وخاصة ما يشاع تردده بأن من عدالة الله أن يدخل التقي المؤمن جهنم، ويدخل العاصي الكافر الجنة([160]) نوع من أنواع الجراءة على الله والمناقضة لما ورد في النصوص، زيادة على الآثار العملية الخطيرة لهذا القول.

وفي مقابل هؤلاء من وضعوا قانونا للعدالة أرادوا فرضه على الله، واعتقدوا التعارض بين عدل الله وتوحيده، فنفوا التوحيد لأجل العدل، كما نفى من قبلهم العدل لأجل التوحيد؛ فكلا الطرفين ابتعد عن الحق بقدر ابتعاده عن النصوص المعصومة أو تغليب بعضها على بعضها، أو إعمال بعضها وإهمال الآخر.

6 ـ رحمة الله:

وهي التي أشار إليها الإمام الحسين في مواضع كثيرة من دعاء عرفة وغيره، ومنها قوله في دعاء عرفة: (تقدست وتعاليت، من رب عظيم كريم رحيم، لا تحصى آلاؤك، ولا يبلغ ثناؤك، ولا تكافئ نعماؤك)([161])

وقوله في الجمع بين القدرة والرحمة الإلهية: (اللهم إنك تجيب دعوة المضطر إذا دعاك، وتكشف السوء، وتغيث المكروب، وتشفي السقيم، وتغني الفقير، وتجبر الكسير، وترحم الصغير، وتعين الكبير، وليس دونك ظهير، ولا فوقك قدير، وأنت العلي الكبير، يا مطلق المكبل الأسير، يا رازق الطفل الصغير، يا عصمة الخائف المستجير، يا من لا شريك له ولا وزير)([162])

وقوله في الجمع بين العلم والرحمة الإلهية: (يا خير من سئل، ويا أرحم من استرحم، يا من لا يخفى‏ عليه إغماض الجفون، ولا لحظ العيون، ولا ما استقر في المكنون، ولا ما انطوت عليه مضمرات القلوب، الا كل ذلك قد أحصاه علمك، ووسعه حلمك) ([163])

بل إنه يمكن قراءة جميع الدعاء من نافذة هذه الصفة العظيمة من صفات الله تعالى، فكل شيء في الكون نابع من الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (الأعراف:من: 156)، وقال:﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام:147)

فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.

7 ـ حكمة الله:

وهي التي أشار إليها الإمام الحسين في مواضع من دعاء عرفة، ومنها قوله عند تعداد بعض مظاهر الرحمة الخاصة به، والممتلئة بكل أنواع الحكمة: (لم تخرجني لرأفتك بي، ولطفك لي، وإحسانك إلي، في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك، وكذبوا رسلك، لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى، الذي له يسرتني، وفيه أنشأتني، ومن قبل رؤفت بي بجميل صنعك، وسوابغ نعمك، فابتدعت خلقي من منى يمنى، وأسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إلي شيئا من أمري، ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تآما سويا، وحفظتني فى المهد طفلا صبيا، ورزقتني من الغذآء لبنا مريا، وعطفت على قلوب الحواضن، وكفلتني الأمهات الرواحم، وكلأتني من طوارق الجآن، وسلمتني من الزيادة والنقصان، فتعاليت يا رحيم يا رحمن، حتى إذا استهللت ناطقا بالكلام، أتممت على سوابغ الأنعام، وربيتني آيدا في كل عام) ([164])

وفي هذا النص وغيره نرى الكثير من المعاني التي توضح مفهوم الحكمة الإلهية، وتصحح تلك التحريفات التي وقعت حولها؛ فالحكمة تطلق على الإتقان والإحكام في الصنعة، وهي التي وردت في القطعة التي ذكرناها كما وردت في مقاطع أخرى، منها قوله في بداية الدعاء: (فطر أجناس البدائع، واتقن بحكمته الصنائع) ([165])

ومنها كون كل الأفعال الإلهية في منتهى اللطف، وأنه يستحيل عليها العبثية، وقد قال الإمام الحسين معبرا عن هذا المعنى في الدعاء: (يا مقيض الركب ليوسف في البلد القفر ومخرجه من الجب، وجاعله بعد العبودية ملكا، يا راد يوسف على يعقوب بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فهو كظيم، يا كاشف الضر والبلاء عن أيوب، يا ممسك يد إبراهيم عن ذبح ابنه بعد أن كبر سنه وفنى عمره، يا من استجاب لزكريا فوهب له يحيى ولم يدعه فردا وحيدا، يا من أخرج يونس من بطن الحوت، يا من فلق البحر لبني إسرائيل فأنجاهم وجعل فرعون وجنوده من المغرقين، يا من أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته، يا من لا يعجل على من عصاه من خلقه، يا من استنقذ السحرة من بعد طول الجحود وقد غدوا في نعمته يأكلون رزقه ويعبدون غيره وقد حادوه ونادوه وكذبوا رسله) ([166])

وأول الثمار التي يجنيها المؤمن من هذه القيمة ـ كما يظهر في دعاء الإمام الحسين ـ هو ذلك الرضا عن الله في جميع أفعاله؛ ذلك أنه يعلم أن كل ما في الكون مؤسس على حكمة الله وقائم بها وقائم عليها، فلا ينكر فعلا من أفعال الله، بل يستدل بأفعال الله على الله.

وبهذا يعيش المؤمن بصحبة الله الحكيم الذي يضع الأمور دقيقها وجليلها في موضعه الذي يليق به، فلا فطور في الكون ولا نشاز، بل كل شيء ينطق بالحكمة، ويخبر عن دقة الصنع وإتقانه.

ولهذا نجد في القرآن الكريم اقتران اسم الله (الحكيم) بخلق الله وأمره، لينبهنا إلى أن مصدر هذا الخلق أو ذاك الأمر هو حكمة الله وتدبيره العجيب، لا العشوائية أو الصدفة:

فتصوير الإنسان في الأرحام، وتوفير كل ما يحتاجه صادر من حكمة الله، قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إله إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران:6)

وإحياء الموتى كبدء الحياة كلاهما صادران من حكمة الله، قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة:260)

ولهذا تقترن أسماء الله المرتبطة بالخلق بحكمة الله، كما قال تعالى:﴿ هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الحشر:24)

ولهذا أيضا يقترن اسم الله (العزيز) باسم الله (الحكيم)، فالعزة تعني كمال القدرة والتصرف، والحكمة تعني وضع ذلك في موضعه المناسب.

ولهذا كان من أدب المسيح u قوله في ختم إجابته لربه:﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة:118)، فلم يقل (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن المقام يقتضي عزة الرب وحكمته لا مغفرته ورحمته.

هذه نماذج عن بعض القيم الإيمانية التي يمكن استنباطها من أقوال الإمام الحسين وأدعيته، وهي وحدها كافية لصد كل تلك التحريفات التي وقعت في العقائد، بسبب الإعراض عن الإمام الحسين وغيره من أئمة أهل البيت .


([1]) الخصال: ٤٣ ح ٣٥، بحار الأنوار: ج٣١ ص٥١٧.

([2]) علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ط 1386، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف: ٩ ح ١، كنز الفوائد، الشيخ القاضي أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي، المحقق : عبد الله‏ نعمة، دار الذخائر، 1410 (ص ١٥١ )، بحار الأنوار: ( ٥ / ٣١٢ ح ١، و٢٣ / ٨٣ ح ٢٢).

([3]) الكافي:8/247.

([4]) المرجع السابق :8/247.

([5]) نهج البلاغة، الإمام علي ، الشريف الرضي، مركز البحوث الإسلامية، 1395 ه‍ قم، 1/14.

([6])  وقد ورد في الكتاب المقدس ما يشير إلى هذه النزعة التجسيمية، ففي سفر الخروج [الإصحاح 32، 1]: (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا)، وفيه [13/20، 1.]: (وارتحلوا من سكوت ونزلوا في طرف البرية وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلاً في عمود نار ليضيء لهم..)، وفي [سفر الخروج 24/9-11]: (صعد موسى وهارون.. وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف.. لكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

([7]) الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الأربعة، الملا صدرا صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الرابعة 1990م، ج 6، ص 118.

([8]) بحار الأنوار، 3 / 269.

([9]) توقل في الجبل: صعد فيه.

([10]) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ط الثانية عام 1404، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، (ص ١٧٣)، بحار الأنوار: (٤/٣٠١ ح ٢٩)

([11]) التوحيد: ٧٩ ح ٣٥، بحار الأنوار: ٤ / ٢٩٧ ح ٢٤، و٢ / ٣٠٢، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الطبع الجديد، المحدث النوري، تحقيق مؤسسة آل البيت % لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1407 ه‍ مشهد، ١٧ / ٢٦١ ح ٢١٢٨٧.

([12]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١ ح ٢٩.

([13]) التوحيد: ٧٩ ح ٣٥، بحار الأنوار: ٤ / ٢٩٧ ح ٢٤، و٢ / ٣٠٢، مستدرك الوسائل: ١٧ / ٢٦١ ح ٢١٢٨٧.

([14]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١ ح ٢٩.

([15])  التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 35.

([16])  المرجع السابق ، ص 77.

([17])  نهج البلاغة، ص 278 ـ 279

([18])  التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 246

([19])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة: الأولى، 1426هـ، (2/ 605)

([20])  المرجع السابق، (2/ 612)

([21]) إبطال التأويلات لأخبار الصفات، القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء، المحقق : محمد بن حمد الحمود النجدي، دار إيلاف الدولية – الكويت، (1/151)، وأورده ابن تيمية في نقض تأسيس الجهمية (1/428)

([22]) نقض تأسيس الجهمية (2/34).

([23]) المرجع السابق (1/442-443).

([24]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١ ح ٢٩.

([25]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١ ح ٢٩.

([26]) كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين عليّ المتّقي بن حسام الدين الهندي البرهان‏فوري، بيروت: مؤسّسة الرسالة، 1413 هـ، ( 8: 82 حديث 21992)

([27]) الدعوات، سعيد بن هبة الله (قطب الدين) الراونديّ، قم، مدرسة الإمام المهديّ ، 1407هـ، ( 92 ضمن الحديث 228)

([28])  معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ – 1979م، (2/ 366)

([29])  بناء على القول بتنزيه الأنبياء % وعصمتهم المطلقة، فإني أميل في هذه المسألة إلى ما ذكره الزمخشري في قوله عن موسى : (ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا. وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله (لَنْ تَرانِي) ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407 هـ، (2/ 153)

([30])  الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 662)

([31]) القدماء كانوا يفسرون الرؤية على اعتبار خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء، ثم انعكاسه عن الأشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية، لكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتحقق الرؤية، وعلى كل تقدير فالضرورة قاضية على أن الإبصار بالعين متوقف على حصول المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة،كما في رؤية الصور في المرآة، وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة،فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل، انظر: رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل الصريح، الشيخ جعفر السبحاني، دار مشعر، الطبعة: الأولى، ص 34.

([32])  بحار الأنوار، 4/ 31.

([33])  المرجع السابق، 4/ 53.

([34]) دعاء عرفة في [البلد الأمين] يبدأ بفقرة (الحمد لله الذى ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع)، وينتهي بـ (وكان يكرر قوله يا رب وشغل من حضر ممن كان حوله عن الدعاء لأنفسهم وأقبلوا على الاستماع له والتأمين على دعائه، ثم علت أصواتهم بالبكاء معه وغربت الشمس وأفاض الناس معه)، وزاد السيد ابن طاووس في الإقبال بعدها هذه الزيادة: (إلهي انا الفقير في غناي فكيف لا اكون فقيرا فى فقري) إلى قوله: ( كيف تخفى وانت الظاهر، ام كيف تغيب وانت الرقيب الحاضر، انك على كل شىء قدير، والحمد لله وحده)، وقد علق العلامة المجلسي عليها بقوله: (لم يوجد هذه الورقة في بعض النسخ العتيقة من الإقبال أيضا، وعبارات هذه الورقة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين أيضا وإنما هي على وفق مذاق الصوفية، ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الورقة من مزيدات بعض مشايخ الصوفية ومن إلحاقاته وإدخالاته. وبالجملة هذه الزيادة إما وقعت من بعضهم، أولا في بعض الكتب، وأخذ ابن طاووس عنه في الإقبال غفلة عن حقيقة الحال، أو وقعت ثانيا من بعضهم في نفس كتاب الإقبال، ولعل الثاني أظهر… والله أعلم بحقائق الأحوال) [بحار الأنوار، 95/227]

([35])  أصول الكافي، 1، 98.

([36]) بحار الأنوار، 36/ 406.

([37]) السنة، أبو بكر بن أبي عاصم الشيباني، حققه محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى، 1400، (1/ 258).

([38]) رواه ابن ماجه، رقم ( 184 )

([39]) شرح القصيدة النونية المسماة «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية»، الدكتور محمد خليل هراس، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الثانية /1415 هـ، (2/64)

([40]) التوحيد: ٧٩ ح ٣٥، بحار الأنوار: ٤ / ٢٩٧ ح ٢٤، و٢ / ٣٠٢، مستدرك الوسائل: ١٧ / ٢٦١ ح ٢١٢٨٧.

([41]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/194 وانظر المحاضرات السنية لابن عثيمين 1/232

([42]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 156)

([43])  التمهيد (7/145).

([44])  العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، المحقق: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الرياض، الطبعة: الأولى، 1416هـ – 1995م، (ص 250)

([45])  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1406 هـ – 1986 م، 2/225.

([46]) المرجع السابق، 1 / 180.

([47]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 364)

([48]) المرجع السابق، (2/ 370)

([49]) المرجع السابق، 1/101.

([50]) المرجع السابق، (2/ 350)

([51]) المرجع السابق (2/ 327)

([52]) التوحيد: ٧٩ ح ٣٥، بحار الأنوار: ٤ / ٢٩٧ ح ٢٤، و٢ / ٣٠٢، مستدرك الوسائل: ١٧ / ٢٦١ ح ٢١٢٨٧.

([53]) التوحيد: ٩٠ ح ٥، تفسير نور الثقلين، الحويزي، عبد علي بن جمعة، قم، إيران، مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر، ط4، 1412 هـ (٥/ ٧١١ ح ٧٠ و٧١٣ ح ٧٦)، البرهان في تفسير القرآن، البحراني، هاشم بن سليمان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2، 1427هـ/2006م (٤: ٥٢٥ ح ٩)، بحار الأنوار ٣: ٢٢٣ ح ١٤.

([54]) الصدوق في التوحيد: 179، تفسير العياشي، العياشي، محمد بن مسعود، تحقيق: السيد هاشم الرسولي، طهران، إيران، طبع ونشر السيد محمود الكتابجي وأولاده، د.ت (1/59)، وبحار الأنوار: 102/ 270.

([55]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١.

([56]) التوحيد: ٩٠ ح ٥، بحار الأنوار ٣: ٢٢٣.

([57])  بحار الأنوار، ج 57، ص 83.

([58])  الإرشاد، الشيخ المفيد، قم، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، 1413 هـ، ج 1، ص 201.

([59])  الكافي، ج 1، ص 103 ـ 104. التوحيد، الشيخ الصدوق: ص 111 ـ 112.

([60])  التوحيد، الشيخ الصدوق: ص 170.

([61])  مفاتيح الغيب (تفسير الرازي، التفسير الكبير)، الفخر الرازي، محمد بن عمر، بيروت، لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1401 هـ/1981م، (4/ 19)

([62]) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، التحقيق: الدكتور محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي – مصر، مطبعة السعادة – مصر، 1950، ص161.

([63])  رواه البخاري: 13/372.

([64])  نقلا عن: درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، 1411 هـ – 1991 م، 6/ 264.

([65])  المرجع السابق، (7/27)

([66]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١.

([67]) التوحيد، الصدوق: ص 41 .

([68]) الكافي، الكليني: ج 1، ص 107.

([69]) بحار الأنوار: ج 3، ص 330.

([70]) الكافي، ص 125.

([71])  رواه الترمذي رقم (3574)

([72]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١ ح ٢٩.

([73]) شرح ديوان ابن الفارض، بدر الدين حسن البوريني، وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي، جمعه : رشيد بن غالب اللبناني، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى – 2003م، ج 1 ص 228 .

([74]) شرح الحكم العطائية، الشيخ أحمد زروق، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ص 319 0

([75]) ميزان العمل، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، حققه وقدم له: الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة: الأولى، 1964 هـ، ص 293 .

([76]) لطائف المنن في مناقب سيدي الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشيخ أبي الحسن، أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندرى، المكتبة الأزهرية، ج 1 ص 44 .

([77]) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، اختصره: محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان البعلي شمس الدين، ابن الموصلي، المحقق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1422هـ – 2001م، ص473.

([78]) مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، 8/23.

([79])  إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار، محمد بن صالح العثيمين، دار طيبة، الرياض، 1402، (ص 32)

([80])  فتاوى اللجنة الدائمة، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء – الإدارة العامة للطبع – الرياض، (3/142).

([81])  مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، جمع وترتيب : فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن – دار الثريا، 1413 هـ، 1/182.

([82])  سلسلة الهدى والنور شريط رقم (756/1).

([83]) التوحيد، ص 90.

([84]) الاحتجاج، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، النجف الأشرف: مكتبة النعمان، 1386ه.ج 2، ص 217.

([85]) التوحيد، الشيخ الصدوق: ص 61..

([86]) التوحيد، الشيخ الصدوق: ص 81 .

([87])  انظر في الردود على التركيب معظم كتب الكلام، ومنها: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر، تعليق: حسن زاده الآملي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 14، 1433 هـ: ص 405، وغيره من كتب العقائد.

([88])  مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 582)

([89]) الفردوس بمأثور الخطاب، شيرويه بن شهردار بن شيرو يه بن فناخسرو، أبو شجاع الديلميّ الهمذاني، المحقق: السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية – بيروت، (1/248(961) وعزاه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/87 إلى الطبراني في كتاب السنة.

([90]) متن القصيدة النونية، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1417هـ، ص30.

([91]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1408هـ – 1987م، (5/85-92 )وانظر كلام الفراء في إبطال التأويلات 2/340.

([92]) الفتاوى الكبرى، 5/85-92 .

([93]) ميزان الاعتدال 3 / 95.

([94]) المرجع السابق 3 / 95.

([95]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال، (20/ 286)

([96]) المرجع السابق، (20/ 280).

([97]) إبطال التأويلات (ص: 476)

([98]) المرجع السابق (ص: 476)

([99]) المرجع السابق (ص: 477)

([100]) المرجع السابق (ص: 479)

([101])  عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، حمود بن عبد الله بن حمود بن عبد الرحمن التويجري، دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، 1409 هـ – 1989 م، ص7.

([102])  المرجع السابق، ص6.

([103]) تحف العقول: ١٧٣، بحار الأنوار: ٤ / ٣٠١.

([104]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 90.

([105]) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية، القاهرة، مصر، الطبعة: 1403هـ/1983م، ص: 55.

([106]) رواه ابن ماجة (181)، وأحمد (16187)

([107]) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 55)

([108]) المرجع السابق (ص: 56).

([109])  كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، المحقق: عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد – السعودية – الرياض، الطبعة: الخامسة، 1414هـ – 1994م، (2/563)

([110])  الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، حققه الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ، 1999 م.، (ص 277)

([111])  الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي الملقب بقوام السنة، المحقق: محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي، دار الراية – السعودية / الرياض، الطبعة: الثانية، 1419هـ – 1999م، 2/457.

([112])  المرجع السابق: 2/457.

([113])  رواه ابن ماجه (صحيح سنن ابن ماجه/652). وأحمد (8332)، والحاكم (1/213). ابن خزيمة (1503)

([114])  إبطال التأويلات: 1/243.

([115])  نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، حققه وضبط نصه: أبو عاصم الشوامي الأثري، المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1433 هـ – 2012 م، ص 200.

([116])  رواه البخاري (6308 و6309)، ومسلم (4927- 4933)

([117])  طريق الهجرتين وباب السعادتين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، الناشر: دار السلفية، القاهرة، مصر، الطبعة: الثانية، 1394هـ، (ص: 234).

([118])  شرح العقيدة الواسطية، محمد بن خليل حسن هرّاس، ضبط نصه وخرَّج أحاديثه ووضع الملحق: علوي بن عبد القادر السقاف، دار الهجرة للنشر والتوزيع – الخبر، الطبعة: الثالثة، 1415 هـ، (ص 166)

([119]) العظمة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني، حققه رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408، 2/445(136)

([120]) الرسالة العرشية، تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المطبعة السلفية، القاهرة، مصر، الطبعة : الأولى، 1399هـ، (ص: 18)

([121]) المرجع السابق، (ص: 17)

([122]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، المحقق: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1408هـ، 4/1364 .

([123]) انظر الدعاء كاملا في: البلد الامين والدرع الحصين، الشيخ تقي الدين ابراهيم بن علي بن الحسن بن محمد العاملي الكفعمي، قدم له وعلق عليه: علاء الدين الاعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، الطبعة: الاولى 1997، ص251، بحار الأنوار: 95/217.

([124]) الكافي 1: 88، ح 3.

([125])المرجع السابق 1: 89، ح 3.

([126])المرجع السابق 8: 31، ح 5.

([127]) مهج الدعوات ومنهج العبادات، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسيني، قدم له وعلق عليه: الشيخ حسين الاعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، الطبعة: الاولى المصححة 1994، ص 142.

([128]) الكافي 1: 89، ح 3.

([129])المرجع السابق 1: 89، ح 3.

([130]) البلد الامين ص 251، زاد المعاد ص 146 .

([131]) نهج البلاغة، خطبة 178.

([132])المرجع السابق ، خطبة 198.

([133]) نهج البلاغة، خطبة 86.

([134]) بحار الأنوار،: ج 3، ب 5، ص 194.

([135]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص183.

([136]) المرجع السابق، ص 188.

([137]) مهج الدعوات: 48، بحار الأنوار 85 / 214.

([138]) بحار الأنوار، 87: 199.

([139]) الفقه المنسوب للإمام الرضا ، المحقق: مؤسسة آل البيت b لإحياء التراث ـ قم، المؤتمر العالمي للامام الرضا .٤٠٨ ح ١١٨، بحار الأنوار: ٥ / ١٢٣.

([140]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 369.

([141])المرجع السابق ، ص 380

([142]) بحار الأنوار، 15/114.

([143]) المرجع السابق.

([144]) المرجع السابق.

([145]) أصناف المخلوقات.

([146]) البلد الأمين، ص251.

([147])المرجع السابق ، ص251.

([148]) من ذلك قول ابراهيم النَّظّام (ت 231 هـ): (إِنَّه تعالى لا يقدر على القبيح)، وقال عَبَّاد بن سليمان الصَّيْمُري (ت 317 هـ): (لا يقدر على خلاف معلومه)، وقال أبوالقاسم الكعبي (ت 317 هـ): (لا يقدر على مِثْل مقدور عبده)، وقال الشيخ أبو علي محمد بن عبدالوهاب (ت 303 هـ)، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد (ت 321 ه): (لا يقدر على عَيْن مقدور العبد)

([149]) الاحتجاج للطبرسي: 1 / 199، نهج البلاغة، ص 40.

([150]) نهج البلاغة، ص184.

([151]) المرجع السابق، ص186.

([152]) المرجع السابق، ص360.

([153]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 91.

([154]) البلد الأمين، ص256.

([155]) نهج البلاغة، ص892.

([156]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1386 ه‍، بيروت، ج 20، ص 227.

([157]) المرجع السابق، ج 20، ص 227.

([158]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 96.

([159]) القائلون بذلك هم الاشاعرة، فقد عرفوا الظلم بأنه: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، ولهذا يعتقدون بأن الظلم بالنسبة لله تعالى غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجودا معدوما.

وبناء على هذا يقولون: لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه.

وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم، انظر: (منهاج السنة: 1/ 90، 2/ 232)

([160]) من الأمثلة على ذلك قول أبي عبد الله محمد بن عرَفة في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٠]: (هذا من قبيل: الحائطُ لا يُبْصِر، أي: لا يقبل الإبصار؛ لأن الظلم: هو التصرُّف في ملْكِ الغير جَبْراً، والكلُّ ملْكٌ لله تعالى، فيستحيل عليه وَصْفُ الظلم. وبهذا نفهم مذهب أهل السنة في أنه يجوز في حق الله تعالى أن يثيب الكافر الشقي وينعمه، ويعذب الطائع التقي؛ لأن الكل عبيده)(انظر: درر المعرفة من تفسير الإمام ابن عرفة، ج1/ص110).

([161]) البلد الأمين، ص257.

([162])المرجع السابق ، ص257.

([163])المرجع السابق ، ص257.

([164])المرجع السابق ، ص252.

([165])المرجع السابق ، ص251.

([166])المرجع السابق ، ص254.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *