المقدمة

المقدمة

يحاول هذا الكتاب أن يتعرف على بعض أسرار تلك النصوص التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق الإمام الحسين ، والتي تدل على أن له مكانة خاصة في الدين لا ينبغي تجاوزها، أو الاستهانة بها، أو التقليل من شأنها، ذلك أن الذي نطق بها هو من لا ينطق عن الهوى، ومن لا يحابي أحدا أو يجامله.

ومن أهم تلك النصوص، وأكثرها دلالة على ذلك الدور ومحوريته في الدين، قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي اتفق على روايته الأمة جميعا: (حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط)([1])

فهذا الحديث بأجزائه الأربعة يدل على معاني عميقة ترتبط بهذا الإمام، وتجعل له حضورا خاصا في الدين:

فهو أولا يذكر العلاقة التي تجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإمام الحسين ، والتي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (حسين مني)، وهي عبارة لا يمكن اختصارها في ذلك المعنى المحدود البسيط الذي فسره به بعضهم؛ فقال: (معنى الحديث والله أعلم كأنه صلى الله عليه وآله وسلم علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم، أعني يزيد بن معاوية وأميره عبيد الله بن زياد، وما جرى من يزيد وأميره على الحسين من تلك الوقعة المشهورة التي أسفرت عن قتل الحسين سنة إحدى وستين هجرية، فلذلك خصه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر، وبين أنه والحسين كالشيء الواحد في المحبة وحرمة التعرض له ومحاربته، وأكد ذلك بقوله: (أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط) أي من أولاد أولاده، لأنه ابن فاطمة رضي الله عنها، أي هو أمة من الأمم في الخير والصلاح)([2])

بل هو يدل فوق ذلك على أن الإمام الحسين يمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصدق تمثيل لأنه منه، وبكل أجزائه وجوانبه، وبلاغة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن تريد بذلك النسبة الطينية، فهي نسبة معروفة، لا يحتاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكرها أو يؤكدها.

وبما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الممثل الحقيقي للدين، وهو القرآن الناطق، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي لا يتحرك حركة إلا وفق مرضاة الله؛ فإن من ضرورات تلك النسبة أن يكون للإمام الحسين كل تلك الأوصاف، لأنه يستحيل أن يكون منه، ثم يكون بعد ذلك مخالفا له، وإلا لم يصدق ذلك الوصف عليه.

وبذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحديث لم يكن يخاطب الإمام الحسين فقط، وإنما كان يخاطب الأمة جميعا، ويخبرها أن الإمام الحسين يحمل نسخة أصلية من الدين الأقوم، وأنه في حال غيابه، أو في حال الحاجة، أو في حال اختلاط الملل والنحل، يمكن العودة إليه لتجنب الدين المزيف الأعوج الذي يريد الشيطان أن يجر إليه هذه الأمة، مثلما فعل مع سائر الأمم.

وانطلاقا من هذا فإن هذا الجزء من الحديث يدعو كل عاقل إلى البحث عن سيرة هذا الإمام، والقيم التي كان يحملها، والتصورات التي كان يعتقدها، والسلوك الذي كان يسلكه، ليجعل منه معيارا وميزانا يميز به الطيب من الخبيث، والأصيل من المزيف.

والجزء الثاني من الحديث، وهو لا يقل عن جزئه الأول أهمية هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأنا من حسين)، وهي عبارة تحمل دلالات كثيرة وعميقة، لعل أولها هو أن الإمام الحسين امتداد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالإمامة امتداد للنبوة، وللقيم التي تحملها، وهذا يعني أن ما أصابه من كل أنواع البلاء أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، بل إن القتل الذي حصل في كربلاء، والذبح الذي حصل بعده، لم يكن للإمام الحسين فقط، وإنما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا.. ولذلك عظمت المصيبة، واشتدت الرزية، وكان المصاب أعظم من أن يُعبر عنه.

وهو كذلك يشير إلى أن للإمام الحسين دورا في امتداد الدين الأصيل، وهو ما عبرت عنه تلك العبارة المشهورة (الاسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء)([3])، وقد كان ذلك بالفعل؛ فثورة الإمام الحسين وحركته كان لها تأثيرها في جميع التاريخ؛ فهي التي كانت ولا زالت منبعا ثريا للثورة ضد الظلم والطغيان والتحريف، كما أنها منبع لكل القيم الأصيلة والأخلاق العالية والتضحية العظيمة.

وقد عمق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذين المعنيين بالمقطع الثالث من الحديث، والذي قال فيه: (أحب الله من أحب حسينا)، وهو مقطع يتسق مع المقطعين السابقين، ويبين أن خط الإمام الحسين ليس خطا نبويا فقط، وإنما هو خط إلهي أيضا، بل هو خط الولاية نفسها.

ذلك أن الولي ـ حسب ما تدل عليه النصوص المقدسة ـ ليس الذي يحب الله فقط، وإنما الذي يحبه الله، كما ورد ذلك في الحديث المتفق على روايته في المصادر السنية والشيعية، والذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)([4])

فهذا الحديث يشير إلى المرتبة الخاصة التي ينالها من يحب الإمام الحسين ، وهي محبة الله، والتي تعتبر أرقى درجة في سلم الولاية، ذلك أنه لا ينالها ـ كما ورد في الحديث ـ إلا من أدمن على الطاعة، ولازمها، وامتلأ بمحبة الله، وبعدها ينال شرف محبة الله له.

وبما أن المحبة ليست مشاعر عاطفية مجردة فقط، وإنما هي انسياق تام وراء المحبوب، وتبعية مطلقة له، كما وضح ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله﴾ [آل عمران: 31]، فإن هذا الجزء من الحديث يشير إلى ضرورة التبعية المطلقة للإمام الحسين ، لأنه لا يصح في عالم الحب أن يجادل المحب محبوبه.

ولذلك فإن الذين يتحدثون عن الإمام الحسين بتلك النبرة الاستعلائية، والتي تجعلهم يناقشون حركاته وسلوكاته وتصرفاته، ويزنونها بما يتوهمونه من أوهام، وما يضعونه من موازين، لم تغب عنهم الحقائق الشرعية فقط، إنما غاب عنهم قبل ذلك وبعده تلك المشاعر العاطفية الجياشة التي دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُعامل بها الإمام الحسين ، لا لكونه حفيده صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما لكونه يمثل الحقيقة والقيم التي أرادها الله، ولا يصح أن نناقش الله فيما أراد.

ذلك أن الحب في حقيقته ـ كما ينص على ذلك علماء النفس المسلمون وغيرهم ـ هو اعتقاد كمال المحبوب من كل النواحي، ولذلك يستحيل على من يحب شخصا أن يرى عيبا من عيوبه، بل إنه يرى العيوب نفسها كمالا، هذا بالنسبة للأشخاص العاديين؛ فكيف بمن حظي بتلك النسبة الشريفة، فكان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه.

وبذلك فإن هذا الجانب العملي من هذا الجزء من الحديث لا يدعو فقط إلى البحث عن القيم التي ارتبطت بالإمام الحسين لالتزامها والعمل بها، وإنما يدعو قبل ذلك إلى التعامل مع الإمام الحسين بالعاطفة المشحونة بمشاعر الحب، ذلك أن تلك المشاعر هي الكفيلة بغرس كل القيم الرفيعة؛ فالحب أعظم مدرسة تربوية، ذلك أن صفات المحبوب تنتقل بسلاسة وسهولة إلى المحب، وبقدر المحبة التي امتلأ بها قلبه.

وأما الجزء الأخير من الحديث؛ فهو جزء لا يقل عن سابقيه دلالة، ذلك أنه يشير إلى أن الأمة ستنقسم إلى أسباط وفرق ونحل كثيرة، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين، والنصارى مثل ذلك، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)([5])، ويشير في نفس الوقت إلى أن الإمام الحسين سيكون سبطا من الأسباط، وفرقة من الفرق، ولذلك من أراد الدين الأصيل، وقيمه الرفيعة؛ فعليه باتباعه، وسلوك سبيله.

وهو في ذلك يشبه قوله تعالى في حق إبراهيم : ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]؛ فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصد تلك النظرة السطحية التي فسر بها الحديث، والتي تقصره على كونه سبطا نسبيا، ذلك أن هذا النوع من السبطية لا يحوي أي ثناء أو مدح، لأنه متحقق لكل الناس، فالكثير منهم يمكن أن يصير سبطا، وليس عليه لأجل تحقيق ذلك سوى الإكثار من الذرية.

وربما يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر السبطية بدل الأمة، لأن الإمام الحسين تابع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومتمثل بالهدي الذي جاء به، وهو بذلك يكون مرآة صافية تعكس هديه، وصراطا مستقيما يوضح منهجه النظري، ليحوله إلى واقع عملي.

فهذا الحديث بأجزائه جميعا، والذي لا يمكن أن يكون مجرد مجاملة ـ كما يصور البعض ـ يشير إلى أن للإمام الحسين دورا مركزيا في الدين، لا يصح أن نتجاهله، أو نغض الطرف عنه، وإنما علينا أن نبحث عنه، وفي أعماقه، لنصل من خلاله إلى الدين الأصيل، ونفر من خلاله من كل اعوجاج وانحراف للدين.

وبناء على هذا كان هذا الكتاب محاولة للبحث عن القيم الأصيلة التي مثلها الإمام الحسين ، والتي استحق بها كل ذلك الثناء العطر، الذي صدر من مشكاة النبوة، ليقلده منصب الإمامة الرفيع.

ولم يكن ذلك النص وحده ما يشير إلى تلك الإمامة؛ ففي مصادر الفريقين السنة والشيعة نجد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)([6])؛ فهذا الحديث يتجاوز البشارة الغيبية المرتبطة بالآخرة، ليدل على بشارة أخرى ترتبط بالدنيا، وهي مضمنة في كلمة [السيد] والتي تعني في اللغة العربية الاتباع ([7])، أي أن الإمام الحسين وأخاه سيدان أي مُتبعان، يتبعهما شباب أهل الجنة.. وهو بشارة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن يتخذ هذين الإمامين الجليلين سيدين له بالجنة، وهو يدل على صوابية ذلك الاتباع، وكونه أشرف وأرقى أنواع الاتباع.

وهكذا يمكن أن تفسر كل النصوص التي وردت في حق الإمام الحسين ، أو في حق أخيه الإمام الحسن ، فهي نصوص لا تعبر عن عاطفة الأبوة ـ كما يذكر بعضهم ـ وإنما تعبر عن حقائق وجودية شرعية؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يدخل عاطفة الأبوة في قضايا الدين، وكيف يفعل ذلك وقد أنزل الله عليه خبر هلاك بابن نوح وامرأته، وأنزل عليه معها حال أبي لهب عمه صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن ـ للأسف ـ مع كل تلك النصوص المقدسة الواضحة المتفق عليها نجد تهوينا كبيرا في حق الإمام الحسين إلى درجة جعلته عند بعضهم لا يساوي درجة أدنى الصحابة وأصغرهم، ذلك أنهم كلما يوردون حادثة كربلاء، يذكرون معها نصيحة عبد الله بن عمر، ليستنتجوا بعدها أن رأي ابن عمر كان أكثر حكمة وصلاحا، في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه ابن عمر من صغار الصحابة.. وبذلك صار الإمام الحسين في أذهان عامة الناس من المدرسة السنية أدنى حالا، وأقل حكمة من صغار الصحابة.

بل إن أكثر عوام الناس في هذه المدرسة للأسف لا يتجاوز الإمام الحسين عندهم مرحلة صباه الباكر، حينما كان يصعد مع أخيه الإمام الحسن على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصلي، ويذكرون ذلك لا في فضائله وفضائل أخيه، وإنما في رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعطفه على الصغار، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحديث نفسه يشير إلى الدور المحوري المنوط به وبأخيه، فقد ورد فيه: (دعوهما بأبي هما وأمي من أحبني فليحب هذين)([8])

فهذا الحديث يضم إلى الأحاديث السابقة في بيان ضرورة اتباع هذا الإمام الجليل، لأنه لا يمكن أن تتحقق المحبة من دون أن يكون معها الاتباع، فالاتباع ثمرة المحبة، وعلامة صدقها، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من شرط محبته محبة هذين الإمامين الجليلين.

انطلاقا من هذه النصوص المقدسة نحاول في هذا الكتاب التعرف على القيم التي كان يمثلها الإمام الحسين ، والتي دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البحث عنها، لتقويم ديننا بحسبها؛ فهي قبلة الدين الأصيل، وهي المعيار الذي نحتكم إليه عند الاختلاف.

فالإسلام مثل سائر الأديان له جانبان: جانب نظري تمثله نصوصه المقدسة، وجانب عملي يمثله الهداة ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهاء بمن أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم باعتبارهم منه، وهو منهم.

ولذلك فإن البحث في الإمام الحسين ، ينبغي أن يتجاوز المنهج التاريخي المرتبط بالمكان والزمان، ذلك أن الإمام الحسين ـ كما تذكر الروايات ـ يتجاوز المكان والزمان، لأنه يمثل الدين الأقوم، والسراط المستقيم، الذي تحتاج كل الأجيال للاستنارة به، والاهتداء بهديه.

وبناء على هذا، حاولنا في هذا الكتاب أن نتعرف على القيم الرفيعة التي مثلها الإمام الحسين ، والتي هي في حقيقتها قيم الدين الأصيل الذي عاش حياته كلها من أجله، وختمها بالاستشهاد في طريقه.

وقد رأينا من خلال الاستقراء أربع قيم كبرى، لا يمكن لشخص يريد أن يطبق وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق الإمام الحسين أن يتجاوزها، أو لا يهتم بها، وهي:

القيم الإيمانية: ونقصد بها ما يتعلق بحقائق العقائد، والضوابط التي تحميها من أن تقع فيما وقعت فيه معتقدات الملل والنحل من التحريف والتبديل.

القيم الروحية: ونقصد بها التوجه إلى الله بالعبودية ظاهرا وباطنا، وأسرار المعاني المرتبطة بها.

القيم الأخلاقية: ونقصد بها تلك الملكات الراسخة التي تبرز من الباطن إلى الظاهر، لتعبر عن الكمال المعنوي للإنسان وعلاقاته الإيجابية مع كل شيء.

القيم الرسالية: ونقصد بها مواجهة الطواغيت والظلمة والانحرافات بكل قوة وشجاعة وبذل وتضحية، كما نقصد بها ذلك الامتداد الذي يتجاوز به الإمام المكان والزمان لينتشر هديه في كل الأزمنة والأمكنة، لتتحقق على يديه الهداية العامة الشاملة، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]

وهذه الأصول الأربعة للقيم هي التي سنحاول إن شاء الله دراستها في هذا الكتاب من خلال المصادر الروائية التي جُمعت فيها مقولات الإمام الحسين وأفعاله، لا لنعيد سردها، وإنما لنستنبط منها منهج الحياة الإيمانية كما يرسمها الإمام الحسين ، والتي تمثل الدين الأصيل.

ونحب أن ننبه في آخر هذه المقدمة إلى ثلاث ملاحظات مرتبطة بمصادر النصوص التي ننقلها عن الإمام الحسين أو الأحداث التاريخية المرتبطة بسيرته العطرة:

أولها ـ أنه بسبب نقص الروايات الواردة في المصادر السنية عن هذا الإمام الجليل، اعتمدت في أكثر الأحيان على المصادر الشيعية، باعتبارها المصدر الأكبر لأغلب الروايات الواردة عنه.

وهذه الروايات ـ مع كونها لم ترو في المصادر السنية ـ إلا أنه لا يمكن لأي سني نزيه أن يرفضها ذلك أنها تتوافق ـ أولا ـ مع القرآن الكريم، الثقل الأكبر، والمصدر الأعظم لحقائق الإسلام، وتتفق ثانيا مع الأحاديث الصحيحة القطعية التي يتفق على روايتها السنة والشيعة.

ولذلك فإن التقصير الذي حصل في الرواية عن الإمام الحسن في المصادر السنية، في نفس الوقت الذي أشبعت فيه تلك المصادر بالرواية عن كعب الأحبار ووهب بن المنبه، وغيرهما،لا يعفي من يريد أن يلتزم بتلك التعليمات النبوية الواردة في حق الإمام الحسين ، من الاعتماد على المصادر الشيعية، خاصة وأنها تتوافق مع المصادر الأصلية التي يعتمدها.

أما رفض تلك الروايات بحجة روايتها عن الشيعة؛ فهو استعلاء، وتكبر ذلك أن كل من كان يحيط بالإمام الحسين كانوا من أصحابه الذين صُنفوا في كتب الرجال بكونهم شيعة، ثم وضعوا في كتب الجرح والتعديل ضمن المبتدعة الذين لا تصح الرواية عنهم.

وهل يمكن لعاقل أن يتصور الرواية عن الإمام الحسين من أصحاب معاوية ويزيد وزياد بن أبيه الذين كانوا لا يخفون عداوتهم لأهل البيت، وفي نفس الوقت ضمنت لهم كل التشريفات في كتب الجرح والتعديل، باعتبارهم ثقاة وأئمة للدين، وكل ما ينقلونه مقبول وصحيح، وأولهم عمر بن سعد قائد الجيش الذي قاتل الإمام الحسين ، والذي قال فيه العجلي: (عمر بن سعد بن أبي وقاص مدني ثقة كان يروي عن أبيه أحاديث، وروى الناس عنه، وهو الذي قتل الحسين، قلت: كان أمير الجيش ولم يباشر قتله)([9])

وقال عنه ابن حجر: (عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني نزيل الكوفة صدوق، ولكن مقته الناس لكونه كان أميرا على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي)([10])

فهل يمكن لمن يضع أصحاب الإمام الحسين في زمر المبتدعة المجروحين، ويضع عمر بن سعد وغيره في زمر الموثوقين أن نجد عنده أي نصوص يمكن من خلالها التعرف على شخصية الإمام الحسين والقيم العظيمة التي جاء بها.

ولو أننا طبقنا ذلك المقياس الذي وضعوه، وطبقنا معه ما يوردونه كل حين من تحريم الحديث في كربلاء باعتبارها من الفتن، أو باعتبارها إرثا شيعيا، لما أمكن لأحد في الدنيا أن يكتب كتابا واحدا عن الإمام الحسين ، بل ولا فقرة واحدة عنه، لأنهم ـ للأسف ـ يكتفون بذكر احترامة المجرد بناء على علاقته النسبية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس باعتباره إماما من أئمة الدين، لم ينل الإمامة بتلك النسبة الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وإنما نالها بتقواه وصبره وتضحيته وتمثله لكل قيم الدين، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]

وثانيها ـ هو أن الكثير من أتباع المدرسة السنية يعترضون على بعض الروايات الواردة عن الإمام الحسين ، بكونها جاءت بلغة لا تتناسب مع أساليب التعبير التي كانت معتمدة في ذلك العصر([11])، وهذا اعتراض غير وارد، لأسباب متعددة منها:

1 ـ أن الكثير من أصحاب المدرسة السنية ـ بسبب تأثرهم بأطروحات الأمويين وانتقاصهم من أهل البيت ـ راحوا يتصورون الإمام علي والإمام الحسين وسائر الأئمة مثل سائر معاصريهم في بلاغتهم وعلومهم، وهذا خطأ كبير؛ فشتان بين من ربي بين أحضان القرآن الكريم، وفي بيت النبوة، وبين غيرهم، مهما كان فضلهم وعلمهم.

2 ـ أن رواة أحاديث الإمام الحسين وغيره من الأئمة قد لا ينقلون الروايات بألفاظها، وإنما يتصرفون فيها، مع الحفاظ على المعاني، وهذا وارد أيضا في الكثير من الروايات الواردة في المصادر السنية، بل هم متفقون على جواز الرواية بالمعنى، فقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه [الكفاية في علم الرواية]، وهو من أهم مصادر علوم الحديث في المدرسة السنية فصلا تحت عنوان: [باب ذكر من كان يذهب إلى إجازة الرواية على المعنى من السلف، وسياق بعض أخبارهم في ذلك]([12])

ومن النصوص التي ساقها لإثبات ذلك ما رواه عن مكحول، قال دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا: يا أبا الأسقع، حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليس فيه وهم ولا نسيان، فقال، هل قرأ أحد منكم الليلة من القرآن شيئا؟ قالوا: نعم، قال: فهل زدتم ألفا أو واوا أو شيئا؟ فقلت: إنا لنزيد وننقص، وما نحن بأولئك في الحفظ؟ فقال: فهذا القرآن بين أظهركم وأنتم تدرسونه بالليل والنهار، فكيف ونحن نحدث بحديث سمعناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة أو مرتين، إذا حدثتكم على معناه فحسبكم) ([13])

ومنها ما حدث به عن أبي سعيد، قال: (كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث، فما منا اثنان يؤديانه على حرف، غير أن المعنى واحد) ([14])

ومنها ما حدث به عن عائشة أنها قالت لهشام بن عروة: (يا بني، إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه)، فقال لها: أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره، فقالت: هل تسمع في المعنى خلافا؟ قلت: لا، قالت: لا بأس بذلك) ([15])

وهكذا نرى أئمة أهل البيت يجيزون للرواة عنهم الرواية بالمعنى، فعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص. قال: (إن كنت تريد معانيه فلا بأس)([16])

وعن داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله : إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيئ ذلك، قال: فتتعمد ذلك؟ قلت: لا. قال: تريد المعاني؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس ([17])

ثالثها ـ أننا لم ندقق كثيرا في أسانيد الروايات، بل جعلنا القيم هي معيارنا الأول؛ فكل نص أو رواية لا تتعارض مع القيم النبيلة التي ذُكرت في القرآن الكريم، ورأينا أن معناها يتناسب مع النصوص المقدسة الواردة في القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو الأقوال الأخرى لأئمة أهل البيت ، قبلناها، مع الإشارة إلى مصادرها ليتحقق في أسانيدها من شاء ذلك.

وبناء على هذا ذكرنا بجنب كل قيمة بالإضافة إلى ما ورد عن الإمام الحسين بشأنها، ما ورد في القرآن الكريم أو الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار.

وقد فعلنا ذلك لسببين:

الأول: حتى لا يصبح الكتاب مملوءا بالأبحاث الحديثية التي وقع في معظمها الخلاف بين المحدثين أنفسهم.

الثاني: اعتقادنا أن الإمام الحسين وغيره من الأئمة يمثلون القيم القرآنية أحسن تمثيل؛ فلذلك كانت كل رواية تؤكد ذلك، رواية يمكن الاستفادة منها، لعدم ضررها، حتى لو رويت بأسانيد ضعيفة.


([1]) رواه جمع كبير من المحدثين، منهم: 15- الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256ه)، حققه محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 – 1989، (ص133، رقم 364)، وسنن الترمذي، محمّد بن سورة الترمذي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، (5/658، رقم 3775) وقال : حسن، وابن ماجه (1/51، رقم 144)، المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، دار الفكر، 1398 ه‍، بيروت (3/194، رقم 4820)، وقال: صحيح الإسناد، مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، دار الفكر، بيروت، (4/172، رقم 17597)، المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، تقديم كمال يوسف الحوت، 7 مجلدات، دار التاريخ، الطبعة الأولى، بيروت (6/380، رقم 32196)، وانظر: بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسيّ، بيروت، مؤسّسة الوفاء، 1403ق:( 43 / 261 / 1 وص 264 / 16)

([2]) مكنون الفتاوى والدرر، أحمد بن حجر، ص35.

([3]) قائل هذه العبارة هو العلامة الشيخ محمد حسين كاشف كما نسبها إليه الحاج حسين الشاكري، انظر: الكشكول المبوب، الحاج حسين الشاكري، المطبعة: ستارة، الطبعة: الخامسة، ١٤١٨، ص 44.

([4]) صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري، دمشق وبيروت: دار ابن كثير واليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، 1414، (4 / 231)، وقد روي الحديث في المصادر الشيعية بهذه الصيغة: (قال الله عز وجل: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته) انظر: الكافي، أبو جعفر الكليني، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، 1363 ه‍ ش، طهران ( 2 / 352 )، المحاسن، ابن جعفر محمد بن خالد البرقي، دار الكتب الاسلامية، طهران (1 / 454 / 1047 )، بحارالأنوار (70 / 22 / 21)

([5]) رواه أحمد (2/332)، وسنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار إحياء السنّة النبويّة. (4596)، وسنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حققه محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. (3991)، والترمذي (2640)، وقال: حديث حسن صحيح.

([6]) رواه أحمد في المسند، (3/62، 82) وفي (3/64) وفي (3/80) والترمذي (3768)، انظر: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي، المحقق: عبد الصمد شرف الدين، طبعة: المكتب الإسلامي، والدار القيّمة، الطبعة2، 1403هـ، 1983م، (4134)

([7]) انظر في معنى كلمة السيد: لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور، دار صادر – بيروت، الطبعة3- 1414 هـ (3/ 228)

([8]) السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر البيهقي، حققه محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات، الطبعة 3، 1424 ه – 2003 م (2/263)، وتاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 هـ – 1995 م. (4/257/1 – 2) و[14/160]

([9]) معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم، أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلى الكوفى، المحقق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار – المدينة المنورة – السعودية، الطبعة: الأولى، 1405 – 1985، ( 2/ 166)، وانظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر، بيروت، (3/ 198)

([10]) تقريب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، المحقق: محمد عوامة، دار الرشيد – سوريا، الطبعة: الأولى، 1406 – 1986، (1/ 717)

([11]) من الأمثلة على ذلك ما ورد في كتاب [التوحيد، الشيخ الصدوق، صححه وعلق عليه: السيد هاشم الحسيني الطراني، دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت لبنان، ص 90] قول الإمام الحسين في تفسير قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ [الإخلاص: 3]: (لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات، كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء والرغبة والسأمة، والجوع والشبع)

([12]) الكفاية في علم الرواية، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي، المحقق: أبو عبدالله السورقي , إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية – المدينة المنورة، (ص: 203).

([13]) المرجع السابق، ص: 204.

([14]) المرجع السابق، ص: 205.

([15]) المرجع السابق، ص: 205.

([16]) الكافي، 1 / 51.

([17]) المرجع السابق، 1 / 41.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *