الفصل الرابع: الإمام الحسين والقيم الرسالية

الفصل الرابع

الإمام الحسين والقيم الرسالية

كل القيم التي سبق ذكرها، يمكن أن يؤديها الوارث للنبوة بنفسه ولنفسه، من غير أن يصاب بأي أذى، أو يتعرض لأي مكروه، أو يحاول الطغاة صده عن طريقهم، لأنها قيم بين العبد ونفسه، أو العبد وربه، أو العبد وعامة الناس.

لكن الأمر في القيم الرسالية مختلف، لأنها تقف في وجه المفاصلة التي يريدها الطغاة من الدين الذي يريدون حصره في علاقة العبد بربه، أو يريدون تدجينه ليتناسب مع طموحهم وأهوائهم، ويحول الرعية إلى سدنة لرغباتهم، وبذلك يتحول الدين إلى أفيون للشعوب، ومخدر لها، كما يتحول إلى أداة بيد الطغاة يمارسون من خلاله شهواتهم في الاستبداد واللصوصية.

ولهذا كان الدور الأكبر والأشهر للإمام الحسين ـ باعتبار الظروف التي مر بها ـ هو في مواجهة الاستكبار والاستبداد والتحريف، ولذلك كانت القيم الرسالية في هذا الجانب أظهر عنده من سائر الجوانب، حتى لا يكاد يعرفه الكثيرون إلا من خلالها.

وقد استطاع ـ بسبب تلك الملحمة التي لم يحصل مثلها في التاريخ ـ أن يحفظ القيم الرسالية حفظا أبديا؛ فيسطر بدمه ودم أهله وأصحابه التعريف الحقيقي للإسلام، وأنه ليس كتلك الأديان التي تحولت إلى أدوات بيد الطغاة والظلمة يستعملونها في الاستخفاف بعقول شعوبهم، وإنما هو دين العدالة والرحمة وكل القيم الإنسانية النبيلة.

لذلك كان للقيم الرسالية التي أحياها الإمام الحسين دورها الكبير في حياة الدين، وثورة الشعوب، والتخلص من نير الاستبداد والاستكبار، كما كان لها دورها في حفظ الدين من التحريف وعلى مدى جميع العصور.

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعريف بأهم الأدوار التي قام بها الإمام الحسين في حفظ الدين الأصيل، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى أربعة أدوار كبرى.

1 ـ دوره في تبليغ الدين الأصيل والقيم المرتبطة به، وذلك عبر رواية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحاديث أبيه ونقلها للأمة عبر أصحابه وأهله.

2 ـ دوره في مواجهة الانحرافات العقدية والسلوكية التي حاول المحرفون من بني أمية وغيرهم إلصاقها بالدين.

3 ـ دوره في مواجهة الاستبداد والظلم والحكم الوراثي الذي أراد من خلاله بنو أمية تحول الإسلامي إلى نظام ملكي امبراطوري مستبد.

4 ـ دوره في حفظ الدين للأجيال القادمة، أو ما يمكن أن يطلق عليه [الامتداد الرسالي]، وذلك عبر تلك الشعائر الكثيرة المرتبط بزيارته والمناسبات المرتبطة بها.

وسنتناول هذه الأدوار الأربعة في المباحث التالية:

أولا ـ الإمام الحسين وتبليغ الدين:

وهي الوظيفة الرسالية الأولى للأئمة، والتي عبر عنها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]

ويمكننا من خلال استقراء ما قام به الإمام الحسين تجاه هذا الدور الرسالي، أن نجد مظهرين مهمين لا يكتمل البلاغ إلا بهما، وسنشرحهما في المطلبين التاليين:

1 ـ التبليغ النظري للدين:

ونقصد به إيصال الرسالة الإسلامية غضة طرية نقية كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عبر حفظ الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونقلها للأجيال التالية.

وانطلاقا من هذا المعنى؛ فإن الدور الذي قام به الإمام الحسين في هذه الجهة كان عظيما جدا، ذلك أن كل ما روي عن أهل بيت النبوة من أحاديث كان للإمام الحسين دور في تبليغه؛ فقد كان ـ بشهادتهم ـ حلقة من حلقاته، ورجلا من رجال سنده، وذلك أكبر رد على من يزعم قلة ما روي عنه، فكل ما تحدث به الأئمة من بعده تلقوه منه، كما تلقاه هو عن أبيه وأخيه وجده.

وقد روي عنه في ذلك أن رجلا لقيه بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الإمام الحسين : من أيّ البلدان أنت؟ فقال: من أهل الكوفة. قال: (يا أخا أهل الكوفة أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل من دارنا ونزوله على جدّي بالوحي، يا أخا أهل الكوفة مستقى العلم من عندنا، أ فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون) ([1])

ولهذا نرى أئمة أهل البيت جميعا يخبرون عن أنفسهم أن كل ما عندهم وراثة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم لا يقولون شيئا من عندهم، بل كل ما عندهم علوم تعلموها من آبائهم وأجدادهم إلى مصدر الرسالة، ومنبع الوحي.

فعن الإمام الباقر أنه سئل عن الحديث يرسله ولا يسنده، فقال: (إذا حدثت الحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي عن جدي عن أبيه عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([2])

وعن الإمام الصادق قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل)([3])

وقال الإمام الرضا : (إنا عن الله وعن رسوله نحدث)([4])

وقال الإمام الكاظم جوابا على بعض المسائل المشكلة: (والله، إني ما أخبرك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن الله عز وجل)([5])

وقبلهم جميعا قال الإمام علي : (ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (إني وأهل بيتي مطهرون، فلا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتخلفوا عنهم فتزلوا، ولا تخالفوهم فتجهلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، هم أعلم الناس كبارا، وأحلم الناس صغارا)([6])

وقبلهم جميعا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله عز وجل، وأهل بيتي عترتي . أيها الناس، اسمعوا وقد بلغت أنكم ستردون علي الحوض، فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)([7])

وفي رواية: (ألا إن أبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلم الناس كبارا، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة)([8])

ولهذا، فإن كل ما روي عنهم من أحاديث هي وراثة نبوية، كما صرحوا بذلك، فقد قال الإمام الباقر : (لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فبينها لنا)([9])

وقال: (إن الله فرض ولايتنا، وأوجب مودتنا . والله، ما نقول بأهوائنا، ولا نعمل بآرائنا، ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل)([10])

وقال الإمام علي مخاطبا الراغبين عن بيت النبوة إلى غيرهم: (واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق)([11])

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الدور الذي كلف به أئمة أهل البيت في الحديث المعروف الذي وراه الفريقان، وهو أنه (لما نزلت عشر آيات من براءة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعانى النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أدرك أبا بكر فحيثما لحقته، فخذ الكتاب منه، فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة، فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله نزل فى شيء، قال: (لا، ولكن جبريل جاءنى، فقال: لن يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك)([12])

والهدف من كل ذلك هو توحيد البلاغ، وحتى لا يقع التناقض والتنافر في الدين، وحتى لا يندس من يريد تشويهه وتحريفه، وقد كان أولى الناس بهذا الدور الإمام علي وأهل بيته الذين عاشوا في بيت النبوة، ولم يتركوها لحظة من اللحظات.

لكن للأسف، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاسر الكثير على هذا الدور، وراحوا يروون الغث والسمين، والمقبول والمرفوض من غير أن يتحاكموا إلى من هم أولى منهم بذلك، ولهذا وقع الاختلاط، وكثرت الأقوال في المسألة الواحدة، ودخل فوق ذلك التجسيم والتشبيه والتحريف في الكثير من المجالات.

ولهذا لم يكن الإمام الحسين ثائرا سياسيا فقط، وإنما كان قبل ذلك محدثا وعالما ومفتيا ومرجعا كبيرا، لا يمكن لمن يريد أن يبحث عن أصول الدين وفروعه ألا يمر عليه، وقد روي أن عبد الله بن الزبير كان يستفتيه في مسائل الدين، ومن ذلك قوله له: يا أبا عبد الله، ما تقول في فكاك الأسير، على من هو؟ فأجابه: (على القوم الذين أعانهم أو قاتل معهم)، وسأله ثانيا: يا أبا عبد الله، متى يجب عطاء الصبي؟ فأجابه: (إذا استهل وجب له عطاؤه ورزقه)، وسأله ثالثا: عن الشرب قائما، فدعا الإمام بلقحة ـ أي ناقة ـ له فحلبت، فشرب قائما وناوله([13]).

ولهذا نجد له روايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المصادر المختلفة، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)، وقوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)([14])

ومنها قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة ـ أو قال: تصيبه مصيبة ـ وإن قدم عهدها، فيحدث لها استرجاعا إلا أحدث الله عنه ذلك، وأعطاه ثواب ما وعده عليها يوم أصيب بها)([15])

ومنها قوله: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها)([16])

ومنها قوله: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من يطع الله يرفعه، ومن يعص الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنيه، ومن يتعزز على الله يذله)([17])

ومنها قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استقى قال: (اللهم اسقنا سقيا واسعة وادعة عامة نافعة غير ضارة، تعم بها حاضرنا وبادينا، وتزيد بها في رزقنا وشكرنا. اللهم اجعله رزق إيمان وعطاء ايمان، إن عطاءك لم يكن محظورا. اللهم أنزل علينا في أرضنا سكنها، وأنبت فيها زينتها ومرعاها)([18])

ومنها قوله: حدثني أبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المغبون لا محمود ولا مأجور)([19])

ومنها روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل التحبب إلى الناس)([20])

ومنها روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت)([21])

ومنها روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار)([22])

ومنها روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه (أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان فيما أوصى به أن قال له: يا علي من حفظ من أمتي أربعين حديثا يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فقال علي: يا رسول الله أخبرني ما هذه الأحاديث؟ فقال: أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وتعبده ولا تعبد غيره، وتقيم الصلاة بوضوء سابغ في مواقيتها ولا تؤخرها فإن في تأخيرها من غير علة غضب الله عز وجل، وتؤدي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إذا كان لك مال وكنت مستطيعا، وأن لا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ظلما، ولا تأكل الربا، ولا تشرب الخمر ولا شيئا من الأشربة المسكرة، ولا تزني، ولا تلوط، ولا تمشي بالنميمة، ولا تحلف بالله كاذبا، ولا تسرق، ولا تشهد شهادة الزور لأحد قريبا كان أو بعيدا، وأن تقبل الحق ممن جاء به صغيرا كان أو كبيرا، وأن لا تركن إلى ظالم وإن كان حميما قريبا، وأن لا تعمل بالهوى، ولا تقذف المحصنة، ولا ترائي فإن أيسر الرياء شرك بالله عز وجل، وأن لا تقول لقصير: يا قصير، ولا لطويل: يا طويل تريد بذلك عيبه، وأن لا تسخر من أحد من خلق الله، وأن تصبر على البلاء والمصيبة، وأن تشكر نعم الله التي أنعم بها عليك، وأن لا تأمن عقاب الله على ذنب تصيبه، وأن لا تقنط من رحمة الله، وأن تتوب إلى الله عز وجل من ذنوبك فإن التائب من ذنوبه كمن لا ذنب له، وأن لا تصر على الذنوب مع الاستغفار فتكون كالمستهزئ بالله وآياته ورسله، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن لا تطلب سخط الخالق برضى المخلوق، وأن لا تؤثر الدنيا على الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، وأن لا تبخل على إخوانك بما تقدر عليه، وأن يكون سريرتك كعلانيتك، وأن لا تكون علانيتك حسنة وسريرتك قبيحة فإن فعلت ذلك كنت من المنافقين، وأن لا تكذب ولا تخالط الكذابين، وأن لا تغضب إذا سمعت حقا، وأن تؤدب نفسك وأهلك وولدك وجيرانك على حسب الطاقة، وأن تعمل بما علمت، ولا تعاملن أحدا من خلق الله عز وجل إلا بالحق، وأن تكون سهلا للقريب والبعيد، وأن لا تكون جبارا عنيدا، وأن تكثر من التسبيح والتهليل والدعاء وذكر الموت وما بعده من القيامة والجنة والنار، وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه، وأن تستغنم البر والكرامة بالمؤمنين والمؤمنات، وأن تنظر إلى كل ما لا ترضى فعله لنفسك فلا تفعله بأحد من المؤمنين، وأن لا تمل من فعل الخير، ولا تثقل على أحد إذا أنعمت عليه، وأن تكون الدنيا عندك سجنا حتى يجعل لك جنة، فهذه أربعون حديثا من استقام عليها وحفظها عني من أمتي دخل الجنة برحمة الله، وكان من أفضل الناس وأحبهم إلى الله عز وجل بعد النبيين والصديقين، وحشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)([23])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي جمعها أبو بشير محمد بن أحمد الدولابي (توفي 320 هـ) في مسند خاص في كتابه [الذرية الطاهرة]([24])

وهكذا روى عن أبيه الأحاديث الكثيرة، ومنها قوله: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم أشراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم)([25])، وقوله: (إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة؛ أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئا من طاعته؛ فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه، فلا تستصغرن شيئا من طاعته؛ فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئا من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبدا من عبيد الله؛ فربما يكون وليه وأنت لا تعلم)([26])، وقوله (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحرث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)([27])

ونحب أن نذكر هنا أن أعداء الإسلام، والنواصب لأهل النبوة وضعوا على لسان الإمام الحسين بعض الأحاديث التي تتنافى مع القيم التي ذكرها القرآن الكريم، أو نص عليها أئمة أهل البيت في أحاديثهم الصحيحة القطعية، ولذلك كان الحكم فيها هو رفضها تطبيقا لما ورد في الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة أهل البيت من عرض كل ما يروى عنهم على القرآن الكريم.

ففي الحديث عن الإمام الصادق ، قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى، فقال : (أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله) ([28])

وعنه قال: (كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) ([29])

وقال: (ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به) ([30])

2 ـ التبليغ العملي للدين:

ونقصد به التنفيذ العملي للقيم الدينية، وقد كانت جميع حركات الإمام الحسين مرتبطة بهذا الدور الرسالي الذي ورثه عن أبيه وأخيه وجده، وأداه مثلما أدوه، حتى استحق ذلك اللقب العظيم الذي استحقوه جميعا، وهو [القرآن الناطق]؛ فقد كانت سلوكاته جميعا تعبر عن القيم القرآنية والسلوك الرفيع أحسن تعبير.

ويدل لهذا تلك الوصايا الكثيرة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنوه به، وتدعو إلى اعتباره إماما وسيدا، ولا يمكن أن يوصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن يرى أنه يمكن أن يزيغ أو يضل، ولو في أبسط سلوك من سلوكاته، وإلا كان أي فعل فعله عرضة للشك والنقد، الذي مارسه للأسف الكثير من أبناء المدرسة السنية، مع تسليمهم بتلك الأحاديث التي وردت في حقه، والتي تعتبره إماما للدين، وسفينة نجاة، وقدوة صالحة يُتأسى بها، ويسير السائرون على هديها، ذلك أن كل النصوص الواردة في حق أهل البيت تنطبق عليه، بإجماع المسلمين جميعا، بالإضافة للنصوص الخاصة به.

بل إن القرآن الكريم يشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، وقد رأينا سابقا النصوص الكثيرة الدالة على كون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة هم أصحاب الكساء، والإمام الحسين أحدهم، والآية واضحة الدلالة على الطهارة بجميع نواحيها.

ومثل ذلك قوله تعالى في الإخبار عن صفات الأئمة الذين يختارهم الله تعالى لهداية خلقه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، فالآية الكريمة تشير إلى أن هذا المنصب الإلهي الرفيع لا يمكن أن يناله الظالمون لأنفسهم، وكل معصية ـ ولو صغرت ـ ظلم للنفس.

بناء على هذا، فقد كان الإمام الحسين من صغره الباكر يمارس هذا الدور الرسالي عبر سلوكه وأخلاقه وتعلميه العملي للدين، ومن الأمثلة على ذلك تلك القصة المعروفة في تعليم الوضوء، والتي تعطي أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله، وتعليم شعائر الدين، فقد روي أن الحسن والحسين عليهما السلام، مرا على شيخ يتوضأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع يقول كل واحد منهما : أنت لا تحسن الوضوء، فقالا : أيها الشيخ كن حكما بيننا، يتوضأ كل واحد منا، فتؤضآ، ثم قالا: أيّنا يحسن الوضوء؟ قال : (كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجأهل هو الذي لم يكن يُحسن وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما، وشفقتكما على أمة جدكما)([31])

وهكذا نرى تلاميذه والصادقون في صحبته يتبعون كل حركة من حركاته، ويسجلونها بدقة لتكون قدوة للأمة جميعا، ومن الأمثلة على ذلك ما سجله بشر وبشير ابنا غالب الأسدي من حركات الإمام ودعائه يوم عرفة، فقد قالا : (كنّا مع الحسين بن علي عشيّة عرفة، فخرج من فُسطاطه متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً حتّى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، ثمّ قال..)([32]) وذكرا الدعاء.

وفي آخر الدعاء، قالا: (ثم رفع رأسه وبصره إلى السماء وعيناه ماطرتان كأنّهما مزادتان، وقال بصوتٍ عالٍ: (يا أسمع السامعين يا أبصر الناظرين ويا أسرع الحاسبين وياأرحم الراحمين صل على محمد وآل محمد السادة الميامين، وأسألك اللهم حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرني ما منعتني وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني ؛ أسألك فكاك رقبتي من النار لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شي قدير يارب يارب )وكان يكرر قوله : (يارب)، وشغل من حضر ممن كان حوله عن الدعاء لانفسهم وأقبلوا على الاستماع له والتأمين على دعائه ثم علت أصواتهم بالبكاء معه وغربت الشمس وأفاض الناس معه ([33]).

ولا تزال هذه الصورة المعبرة للإمام الحسين يوم عرفة حية في نفوس المؤمنين يعيشونها، ويتعلمون منها العبودية والأدب والافتقار والتواضع وكل الأخلاق الكريمة.

ومثل ذلك ما روي عن الإمام السجاد أنه قال: (جاء أهل الكوفة إلى علي فشكوا إليه إمساك المطر، وقالوا له: استسق لنا، فقال للحسين : قم واستسق فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (اللهم معطي الخيرات، ومنزل البركات، أرسل السماء علينا مدرارا، واسقنا غيثا مغزارا، واسعا، غدقا، مجللا سحا، سفوحا، فجاجا تنفس به الضعف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك، آمين رب العالمين)، فما فرغ من دعائه حتى غاث الله تعالى غيثا بغتة، وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال: تركت الأودية والآكام يموج بعضها في بعض)([34])

ومثل ذلك ما روي عن يحيى بن نعمان، قال: كنت عند الحسين إذ دخل عليه رجل من العرب متلثما أسمر شديد السمرة، فسلم فرد عليه الحسين فقال: يا ابن رسول الله مسألة، فقال: هات، قال: كم بين الايمان واليقين ؟ قال: أربع أصابع، قال: كيف؟ قال: الايمان ما سمعناه واليقين ما رأيناه، وبين السمع والبصر أربع أصابع قال: فكم بين السماء والأرض قال: دعوة مستجابة، قال: فكم بين المشرق والمغرب ؟ قال: مسيرة يوم للشمس، قال: فما عز المرء ؟ قال: استغناؤه عن الناس، قال: فما أقبح شئ ؟ قال: الفسق في الشيخ قبيح، والحدة في السلطان قبيحة، والكذب في ذي الحسب قبيح، والبخل في ذي الغناء، والحرص في العالم، قال: صدقت يا ابن رسول الله فأخبرني عن عدد الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل)([35])

ثانيا ـ الإمام الحسين ومواجهة التحريفات:

كما رأينا في الفصول السابقة، من أن الشيطان استعمل الكثير من الأدوات التي حاول بها أن يحرف الدين الأصيل، ويحوله من دين إلهي ممتلئ بالقيم النبيلة إلى دين بشري ممتلئ بالأهواء والخرافات والضلالات، ولذلك كان من أهم الأدوار التي قام بها الإمام الحسين ، مثلما قام بها سائر الأئمة مواجهة تلك التحريفات، لأنها من ضمن المسؤوليات الموكلة لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)([36])

ولا يمكننا هنا أن نحصر الأدوار التصحيحية التي قام بها الإمام الحسين في مواجهة التحريفات التي طالت الدين، فذلك كثير، ولكن يمكن حصرها في ناحيتين:

الأولى: مواجهته للتحريفات المرتبطة بأصول الدين وفروعه وقيمه.

الثانية: مواجهته للتشويهات المرتبطة بالقائمين بالدين وأئمته ومراجعه.

وسنشرح الدور الذي قام به الإمام الحسين في هاتين المواجهتين باختصار في المطلبين التاليين:

1 ـ مواجهة التحريفات المرتبطة بالقيم الدينية:

يمكن اعتبار كل ما مر ذكره في الفصول السابقة من قيم دينية مواجهة من الإمام الحسين للتحريفات التي طرأت على الدين بسبب عزل من أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم والرجوع إليهم.

فقد وقف الإمام الحسين ضد التجسيم والتشبيه وكل التحريفات العقدية التي أدخلها علماء البلاط الأموي إلى العقيدة الإسلامية، ووقف ضد الانحلال الأخلاقي والفساد السياسي، وكل تلك التشويهات التي عرضت للقيم الإسلامية في مجالاتها المختلفة.

وبما أن حب الدنيا والانشغال بها، والبعد عن التقوى هي السبب في كل ما حصل من تحريفات، نرى أن أكثر مواعظه كانت تحذيرا من الاغترار بالدنيا، والركون إلى أهلها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه: (أوصيكم بتقوى الله واحذركم أيّامه وأرفع لكم أعلامه، فكان المخوف قد أفد بمهول وروده، ونكير حلوله، وبشع مذاقه، فاعتلق مهجكم وحال بين العمل وبينكم، فبادروا بصحّة الأجسام في مدّة الأعمار كأنّكم ببغتات (جمع بغتة) طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها، ومن علوّها إلى سفلها، ومن اُنسها إلى وحشتها، ومن روحها وضوئها إلى ظلمتها، ومن سعتها إلى ضيقها، حيث لايزار حميم، ولا يعاد سقيم، ولا يجاب صريخ. أعاننا الله وإيّاكم على أهوال ذلك اليوم، ونجّانا وإيّاكم من عقابه، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.. عباد الله فلو كان ذلك قصر مرماكم ومدى مظعنكم كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه، ويذهله عن دنياه، ويكثر نصبه لطلب الخلاص منه، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن باكتسابه، مستوقف على حسابه، لا وزير له يمنعه، ولا ظهير عنه يدفعه، ويومئذ لاينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، قل انتظروا إنّا منتظرون.. اُوصيكم بتقوى الله فإنّ الله قد ضمن لمن اتّقاه أن يحوله عمّا يكره إلى مايحبّ، ويرزقه من حيث لايحتسب، فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد من ذنوبهم، ويأمن العقوبة من ذنبه، فإنّ الله تبارك وتعالى لايخدع عن جنّته ولاينال ماعنده إلاّ بطاعته إن شاء الله)([37])

وقال في موعظة أخرى: (عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، وأولى بالرضاء، وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء؛ فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر، والمنزلة بلغة، والدار قلعة؛ فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى)([38])

وكتب إلى رجل طلب منه أن يعظه بموعظة موجزة: (مَن حاول أمراً بمعصية الله تعالى كان أفوت لِما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر)([39])

وكتب إلى آخر يسأله عن خير الدنيا والآخرة يقول: (أمّا بعد، فإنّ مَن طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله اُمور الناس، ومَن طلب رضى الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس، والسّلام) ([40])

وعندما زار أبا ذر الغفاري الذي نفي إلى الربذة في عهد عثمان، قال له ـ وهو يعلم أن كلماته ستصل إلى آذان عامة الناس ـ : (يا عماه، إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغير ما قد ترى، إن الله كل يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر واستعذ به من الجشع والجزع؛ فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقا، والجزع لا يؤخر أجلا)([41])

وهكذا وقف ضد تشويه شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي حرص الأمويون على إشاعتها في مقابل المبالغة في تقديس الصحابة، متوهمين أنهم بذلك يمكنهم أن يضربوا أهل بيت النبوة ، مما لا نزال نرى الكثير من آثاره في التراث السني إلى اليوم.

ومن الأمثلة على ذلك رده على بعض المعاصرين ممن ذكروا أن تشريع الآذان كان بسبب رؤيا رآها الصحابي عبد الله بن زيد؛ فأخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر صلى الله عليه وآله وسلم به، وقد أنكر الإمام الحسين ذلك بشدة، وقال: (الوحي يتنزّل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد، والأذان وجه دينكم) ([42])

2 ـ مواجهة التشويهات المرتبطة بأئمة الدين:

استعمل الأمويون وغيرهم كل الوسائل لصرف الناس عن أهل بيت النبوة ، باعتبارهم مرجعا ضروريا للدين، ولذلك كثر في عهدهم من نصبوا أنفسهم مشايخ وأساتذة وعلماء، وأعانتهم السلطات الحاكمة على ذلك، لينمحي في وسطهم ذلك التراث النقي الصافي الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لورثته الحقيقيين الذين لم يخلطوا دينهم بغيره.

ولذلك كان من الأساليب التي اعتمدها الإمام الحسين في مواجهة هذا النوع من التحريف هو التعريف بفضائل أهل البيت وبيان مكانتهم، وخاصة الإمام علي الذي استعمل بنو أمية كل الوسائل لتشويهه، بل شرعوا سبه على المنابر، وقتلوا في سبيل ذلك كل من رفض الانصياع إليهم .

ولهذا نرى أحاديث كثيرة للإمام الحسين تبين الدور الموكل للإمام علي في حفظ الدين وتبليغه، وإعطاء الصورة الصحيحة له، فقد كان من أهم ما قام به الإمام الحسين هو مواجهة تلك التشويهات، والتعريف بالقيمة الحقيقية للإمام علي، وكونه المرجع الأكبر للدين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن الأمثلة على ذلك تلك الخطبة الحوارية الشهيرة التي قالها في منى([43])، والتي تشكل أساسا من الأسس الكبرى التي يقوم عليها الولاء لأهل بيت النبوة، واعتبارهم مرجع الدين الأكبر، وسفينة النجاة التي يغرق في الضلالة من لم يركبها، خاصة وأن الإمام الحسين لم يكتف فيها بالوعظ وإقامة الحجة، وإنما دعاهم إلى الدعوة إلى ما دعا إليه وتبليغه.

فقد روي أن الإمام الحسين جمع بني هاشم والصحابة في فترة الحج؛ فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد فإنَّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقتُ فصدقوني وإن كذبتُ فكذبوني، وأسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرابتي من نبيكم لما سيرتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم من أمنتم من الناس)

وفي رواية أخرى بعد قوله: (فكذبوني: اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب، ﴿وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]، وما ترك شيئا مما أنزل الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره، ولا شيئا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم، وقد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة، فقال: أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه)

وقد ذكر سليم بن قيس الهلالي([44]) بعض تفاصيل تلك الخطبة، ولأهميتها، نذكرها هنا بطولها؛ فقد قال: (فكان فيما ناشدهم الحسين وذكرهم أن قال: أنشدكم الله! أتعلمون أنَّ علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة. قالوا: اللهم نعم!

قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه، ثم ابتنى فيه عشرة منازل، تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدَّ كل باب شارع إلى المسجد غير بابه فتكلم في ذلك من تكلم، فقال: ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد، ومنزله في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وله فيه أولاد، قالوا: اللهم نعم!

قال: أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه، ثم خطب، فقال إنَّ الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه. قالوا: اللهم نعم.

قال:أنشدكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصبه يوم غدير خم، فنادى له بالولاية، وقال: ليبلغ الشاهد الغائب. قالوا: اللهم نعم.

قال:أنشدكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له في غزوة تبوك: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت ولي كل مؤمن بعدي . قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المبأهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه، قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله! أتعلمون أنه دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتحها الله على يديه. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أن رسول الله بعثه ببراءة وقال: لا يبلغ عني إلا أنا، أو رجل مني. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل به شدة قط إلا قدمه لها ثقة به، وأنه لم يدعه باسمه قط إلا يقول: يا أخي! وادعوا لي أخي. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال: يا علي! أنت مني وأنا منك، وأنت ولي كل مؤمن بعدي. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنه كانت له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم خلوة، وكل ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه. قالوا: اللهم نعم.

قال:أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليها السلام:زوجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما. قالوا: اللهم نعم .

قال:أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا سيد ولد بني آدم، وأخي علي سيد العرب، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة، والحسن والحسين ابناي سيدا شباب أهل الجنة. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بغسله وأخبره أن جبرئيل يعينه عليه. قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في آخر خطبة خطبها: إني تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي، فتمسكوا بهما لن تضلوا. قالوا: اللهم نعم.

قال سليم بن قيس الهلالي: (فلم يدع شيئا أنزله الله في علي بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا ناشدهم فيه، فيقول الصحابة: اللهم نعم، قد سمعنا، ويقول التابع: اللهم قد حدثنيه من أثق به فلان وفلان، ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه يقول: من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد كذب ليس يحبني ويبغض عليا، فقال له قائل: يا رسول الله! وكيف ذلك. قال:لأنه مني وأنا منه، من أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، فقالوا: اللهم نعم، قد سمعنا وتفرقوا على ذلك)([45])

ثالثا ـ الإمام الحسين ومواجهة الاستبداد:

وهي من أهم الأدوار التي أنيطت بالأئمة باعتبارهم ورثة للرسل ، ذلك أن من أهم وظائف الرسل ـ بعد التعريف بالله والدعوة إلى تقواه ـ الدعوة إلى تحقيق العدالة، ورفض الاستبداد والظلم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]

وقال مبينا الجزاء الذي كان يقابل به من يدعو إلى ذلك من الرسل أو من روثتهم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]

ولهذا كان من العلامات الكبرى للإمام، أو الوارث له، عدم الركون للظلمة، أو السكون لهم، أو الرضا بأفعالهم، وإنما مواجهتهم بكل ما أتيح لهم من أساليب.

ولهذا مارس كل أئمة أهل البيت ابتداء من الإمام علي كل ما أتيح لهم من أساليب للمواجهة إلى أن لقوا الله تعالى جميعا شهداء في هذا الطريق، كما عبر الإمام الرضا عن ذلك بقوله: (والله، ما منا إلا مقتول شهيد)([46])

وعندما سمع بعضهم يشكك في قتل الإمام الحسين ، ويذكر أنه شبِّه لهم، قال: (والله، لقد قتل الحسين، وقتل من كان خيراً من الحسين، أمير المؤمنين، والحسن بن علي، وما منا إلا مقتول، وإني ـ والله ـ لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني)([47])

ثم رد على من اعتمد على قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141] لنفي قتل الإمام الحسين بقوله: (لن يجعل الله لكافر على مؤمن حجة، ولقد أخبر الله عز وجل عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا من طريق الحجة)

وروي أن الإمام الحسن بن علي قال في مرضه الذي توفي فيه : (والله، إنه لعهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلا مسموم، أو مقتول)([48])

وكل ذلك بسبب ذلك الوقوف الشديد في وجه الجور الظلم والاستبداد وكل من يمثلهم، لحفظ دين الله من أن يصبح أداة من أدوات الظلمة مثلما حصل في الأديان الأخرى.

وهذا ما يرد على تلك الشبهات التي تصور الإمام الحسين باعتباره الوحيد الذي وقف في وجه الاستبداد؛ فكل الأئمة فعلوا ذلك، ولكن بطرقهم الخاصة، مراعاة لظروف المكان والزمان.

أما الإمام الحسين ؛ فقد أنيطت به مهمة خاصة في منتهى الألم والخطورة، وهي أن يضحي بنفسه وأهله وكل ما يملك في سبيل تلك المواجهة ليبقى ما حدث له عبرة للأجيال، وليتحقق عن طريقه انتصار الدم على السيف.

ولهذا كانت تلك الملحمة الكبرى درسا للمسلمين جميعا، بل للعالم جميعا في أن الإسلام هو دين العدالة، وأن الذين مارسوا الظلم والاستبداد مارسوه بأسمائهم، لا باسم الإسلام، وبذلك حفظ الإسلام النقي الصافي من أن يصبح لعبة بيد الحكام الظلمة والمستبدين.

ولهذا نجد في النصوص الكثيرة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار بما سيحصل للإمام الحسين ، ولوم الأمة عليه، لا لوم الإمام الحسين ، بل إن فيها إشارات صريحة بكونه مكلفا من الله تعالى للقيام بتلك التضحية العظيمة.

ففي الحديث الوارد في مصادر الفريقين عن أنس بن مالك، قال: (استأذن مَلَكُ القَطْرِ ربه أن يزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له، فكان في يوم أم سلمة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احْفَظِي علينا البابَ لا يَدْخُلُ علينا أحَدٌ)، فبينا هي على الباب إذ جاء الحسين بن علي، رضي الله عنهما، فظفر فاقتحم ففتح الباب فدخل فجعل يتوثب على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل النبي يتلثَّمه ويقبِّله، فقال له المَلَك: أتحبه؟ قال: نعم، قال: أما إن أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه. قال: نعم. فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه فأراه إياه فجاءه بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها. قال ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء)([49])

وفي حديث آخر عن أم سلمة، قالت: (ثم كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي، فنزل جبريل فقال: يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك. فأوما بيده إلى الحسين، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضمه إلى صدره، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وديعة عندك هذه التربة)، فشمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (ويح كرب وبلاء) قالت: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم سلمة، إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل)، قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة، ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: (إن يوما تحولين دما ليوم عظيم)([50])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تدل على أن الإمام الحسين ـ في تلك المواجهة التي قام بها أمام أعتى سلطة استبدادية ـ لم يكن يتصرف إلا من خلال العهود التي عهدت إليه، والوظائف التي وكلت له، ليبقى دمه في عنق الأمة جميعا، تطالب بثأره أمام كل ظالم مستبد، فكل مظلوم يصبح في ذهنها حسينا، وكل ظالم يصبح في وعيها يزيدا.

وقد عبر الإمام الحسين عن هدف تلك المواجهة؛ فقال ـ في وصيته إلى أخيه ابن الحنفيّة ـ: (هذا ما أوصى به الحُسين بن علي إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، إنّ الحُسين يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله جاء بالحقّ مِنْ عنده، وأنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وإنّي لمْ أخرج أشِرَاً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين. وهذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب)([51]) (1)

انطلاقا من هذا؛ فقد اتخذت مواجهة الإمام الحسين للاستبداد طابعا خاصا مر بمجموعة مراحل، ولكل مرحلة دورها الكبير في حفظ الإسلام، وعدالته:

1 ـ الدعوة للمواجهة العامة:

كان في إمكان الإمام الحسين أن يختصر الطريق لنفسه، ويسير مباشرة للأرض التي وُعد بأنه سيتقتل فيها، بناء على الدعوات التي وجهت له، لكنه لم يفعل، وإنما راح يبشر بالمبادئ التي يريد التضحية من أجلها، حتى لا يذهب دمه هدرا، وحتى يسمع العالم جميعا عن القضية التي سيتحرك من أجلها؛ فالشهادة عنده ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لحفظ الإسلام وقيمه من أن يمسها التحريف الذي يريده الأعداء.

ولذلك كتب لأهل الكوفة الذين طلبوا منه التحرك بعد نقض معاوية لبنود الهدنة التي وقعها مع الإمام الحسن ، يخبرهم بأن التوقيت غير مناسب، بل دعاهم إلى الإحتراس والتكتم والانتظار، ومما قاله لهم: (فالصقوا رحمكم الله بالأرض واكتموا في البيوت واحترسوا من الظنة مادام معاوية حيا، فان يحدث الله شيئا وأنا حي كتبت اليكم رأيي)([52])

وقد استغل الإمام الحسين كل تلك الفترة بعد وفاة أخيه لتحضير الأمة للمواجهة الكبرى، ولذلك لم يكن يدع مناسبة إلا ويبين فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثورة على الظلم والاستبداد، ومن ذلك قوله في بعض خطبه: (اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 63]، وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78، 79]، وإنما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله يقول: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44]، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71] )([53])

وبعد أن سرد هذه الآيات الكريمة الواضحة في الدلالة على وجوب مواجهة المنكر من أي مصدر صدر، راح يفسرها لهم، ويبين أغراضها والنواحي العملية المرتبطة بها، فقال: (فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها؛ وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها) ([54])

ثم راح يخاطب عقولهم وعواطفهم وتلك العهود التي عاهدوا الله بها من خلال إسلامهم؛ فقال: (أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة؛ يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله، وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة؛فأما حق الضعفاء فضيعتم؛ وأما حقكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالا بذلتموه، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله) ([55])

ثم راح يذكرهم بالجنة والنار، والعذاب الذي ينتظر الساكتين عن المنكر ومواجهته، فقال: (أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله، وأمانا من عذابه، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها، ومن يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون! وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون! وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة، والعمى والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون! ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعينون! وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون!) ([56])

ولم يكن يكتفي بتلك المواعظ العامة، وإنما كان يفصل المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه الأمة في حكمها وسياستها وكل شؤونها، وهو أن تكل الأمور لأهل العلم والولاية، لا غيرهم ممن لا يعرف حكم الله، ولا يستطيع مراعاتها؛ وقد قال لهم في تلك الخطبة: (وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك؛ بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤونة في ذات الله، كانت امور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات) ([57])

ثم بين لهم المنهج الذي يمكن أن يسلكوه للتخلص من القيود التي وضعها الظلمة على رقابهم، وأولها حرصهم على الحياة، وخوفهم من الموت، وكأنه بذلك يهيئهم للمواجهة الكبرى التي تحققت في كربلاء، ليقيم عليهم الحجة بنفسه، بعد أن أقامها عليهم بكلماته، فقد قال: (سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم؛ فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم؛ اقتداء بالأشرار، وجرأة على على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، القاضي بحكمه فيما شجر بيننا)([58])

2 ـ الدعوة للمواجهة الخاصة:

لم يكن الإمام الحسين يكتفي بخطاباته للعامة محرضا لهم على المواجهة والتصحيح، وإنما كان يتنقل لخاصة الناس وأعيانهم والمشهورين فيهم، ليخبرهم عن مواقفه عساهم يلحقون به فيها، وينضمون إلى صفه.

وعندما عاين الأمويون تلك التحركات راحوا يعترضونها؛ فقد حجب والي المدينة حينها الوليد بن عتبة أهل العراق عن زيارة الإمام الحسين ، فقال له الإمام: (يا ظالما لنفسه، عاصيا لربه علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقي ما جهلته أنت وعمك؟!)، فقال الوليد: (ليت حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك فلا تخطر بها فتخطر بك، ولو علمت ما يكون بعدنا لأحببتنا كما أبغضتنا)([59])

وربما يكون لتلك الرسالة أو غيرها من مواقف الإمام الحسين تأثيرها في شخصية الوليد بن عتبة، والذي كان رغم ولائه الأموي، يشعر بحرج شديد تجاه أي أوامر تصدر إليه تطالبه بالتشدد على الإمام الحسين .

ومن الأمثلة على ذلك ما رواه المؤرخون عنه أنه قال يـخـاطـب نـفـسـه بـعـد قراءة كتاب يزيد الذي أمره فيه بأخذ الإمام الحسين أخذا شـديـدا لارخـصـة فـيه: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون، يا ويح الوليد ابن عتبة، من أدخـله فـي هـذه الامـارة!؟ مالي وللحسين بن فاطمة!؟)([60])

وقوله أمام مروان: (يا ليت الوليد لم يـولد ولويـكـن شـيـئا مـذكـورا!) وقـوله لمـروان: (فـليـس مـثـل الحـسـيـن يـغـدر، ولايـقـول شـيـئا ثـمّ لايـفـعـل). وقـوله له: (ويـحك، أشرت عليّ بـقتل الحسين، وفي قتله ذهاب ديني ودنياي، والله ماأحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وأنّي قتلتُ الحـسـيـن بـن عـلي، ابـن فـاطـمـة الزهـراء، والله مـاأظـنّ أحـدا يـلقـي الله بـقـتـل الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان عندالله يوم القيامة لاينظر إليه ولايزكّيه وله عذاب أليم)

وقـوله لمّا ورد عليه كتاب يزيد الثاني الذي أمره فيه أن يبعث إليه برأس الإمام الحسين مـع الجـواب: (لاوالله، لايـرانـي الله قـاتـل الحـسـيـن بـن عـليّ، وأنـا لاأقـتـل ابـن بـنـت رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو أعـطاني يزيد الدنيا بحذافيرها)

وقـوله لمـّا ظـنّ أنّ الإمام الحسين خرج من المدينة: (الحمدلله الذي لم يطالبني الله عزّ وجلّ بدمه)

ولذلك كـان لتولي الوليـد بـن عـتـبـة ـ رغم ولائه الأموي ـ على المدينة المنورة فرصة للإمام الحسين للتحرك، والالتقاء مع عامة الناس وخاصتهم وتهيئة الأجواء للثورة.

ومن الشخصيات البارزة في ذلك العصر، والتي حرص الإمام الحسين على الالتقاء بها، لإقامة الحجة عليها، شخصية عبد الله بن عمر، والذي يتخذه الكثير من أبناء المدرسة السنية أسوة ونموذجا لهم؛ فهم بمجرد أن تذكر كربلاء، والإمام الحسين ، وما حصل فيها من المآسي يتأسفون، لا على تخلف الأمة على إمامها وخذلانها له، وإنما على أن الإمام لم يتبع عبد الله بن عمر وغيره، الذي يتصورون أنهم كانوا أعرف بالشريعة والواقع من الإمام الحسين .

ولذلك سنورد حادثة لقائه به هنا بطولها ـ كما ذكرها المؤرخون ـ ونعقب عليها، لنبين من خلالها أنواعا أخرى من الابتلاء تعرض لها الإمام الحسين قبل مسيره لكربلاء، وربما لا تقل عما حصل له فيها.

فقد روى المؤرخون ([61]) أنه لما دخل الإمام الحسين مكة في ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: 22]، فرح به أهلها فرحا شديدا، وكان ذلك فرصة للصحابة المقيمين في مكة المكرمة، لأن يستثمروا ذلك الفرح، ويوجهوا المؤمنين لاتباع إمامهم ونصرته، لتتشكل نواة دولته فيها، ويكفيهم لذلك أن يقرؤوا لهم ما ورد في حقه من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم للأسف لم يفعلوا، بل إن بعضهم حزن لذلك الفرح، مثل عبد الله بن الزبير، لانه كان يطمع أن يبايعه أهل مكة، فلما قدم الإمام الحسين شق ذلك عليه، لأنه يعلم أنه لا يبايعه أحد من أهل مكة والإمام الحسين فيها.

ويروي المؤرخون أنه أقام بمكة باقي شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة، وبمكة يومئذ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب، فأقبلا جميعا حتى دخلا عليه، وقد عزما على أن ينصرفا إلى المدينة، فقال له ابن عمر ـ وهو من الكبار الذين يستند إليهم للأسف الكثير أبناء من المدرسة السنية، ويتصورون أنه كان أنضج فكرا من الإمام الحسين ـ: (أبا عبد الله! رحمك الله اتق الله الذي إليه معادك! فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إياكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء؛ فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير، فانى قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله الى يوم القيامة)، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين)

وهذا كلام عجيب من ابن عمر، وخاصة مع روايته الحديث الذي يخبر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخذلان الأمة للإمام الحسين ، وكان الأصل أن يكون دافعا له، لا إلى دعوة الناس إلى بيعته باعتباره الإمام المنصوص عليه من طرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو ظاهر الحديث، وإنما للقيام هو نفسه ببيعته واتباعه والجهاد معه، حتى لا يتحقق فيه ما ورد في الحديث من الخذلان.

لكن للأسف؛ فإن ابن عمر مع روايته للحديث، ومعرفته بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، وأن إخباره بقتل الإمام الحسين سيتحقق لا محالة، ولذلك لم يكن هناك أي معنى لنهيه عنه، ولو كان أحد من الناس جدير بأن ينهاه لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهه، وإنما نهى الأمة عن خذلانه.

والعجيب أن أكثر المدرسة السنية مال إلى ما يسميه نصيحة ابن عمر، واعتبره حكيما، في نفس الوقت الذي اعتبروا فيه الإمام الحسين مقصرا في قبول النصيحة، كما عبر عن ذلك ابن تيمية في محال كثيرة من كتبه، ومنها قوله: (ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل. وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج. وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى)([62])

ولم يكتف بهذه التلميحات القاسية التي تصور الإمام الحسين بصورة الجاهل بالأحكام الشرعية، وبالواقع، وأنه محتاج لنصيحة غيره وتوجيهه، وإنما راح يزيد الطين بلة بقوله: (فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببا لشر عظيم. وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن) ([63])

ولم يكتف بكل هذه التقريعات للإمام الحسين ، بل راح ينكر كل تلك الأحاديث التي وردت في فضله، والمخبرة عن دوره العظيم في هذا الدين بقوله: (وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحسن بقوله: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة) ([64])

وهو بقوله هذا يتنكر لكل تلك الأحاديث التي وردت في فضل الإمام الحسين ، زيادة على كونه لم يفهم سر ما فعله الإمام الحسن ، وأنه ما فعله إلا اضطرارا عندما رأى تخاذل المسلمين عن نصرته، وكان الأولى بابن تيمية أن يلوم المتخاذلين، لا أن يوبخ أهل بيت النبوة الذين لا يحتاجون إلى من يعلمهم أو يوجههم، وكيف يحتاجون إلى ذلك، وكل ما يصدر منهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، كما وردت بذلك الروايات الكثيرة.

وهكذا نرى للأسف ابن خلدون الذي راح يرمي الإمام الحسين بعدم قبول النصيحة، وبالجهل بالواقع؛ فيقول بكل جرأة: (فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك، وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكروا عليه ولا أثمّوه، لأنه مجتهد وهو أسوة للمجتهدين به)([65])

وهو يصور الأمر مثل غيره بحسابات الربح والخسارة، لا بحساب التكاليف الشرعية، وما تحمله من معان قد لا يمكن فهمها، مثلما حصل مع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام؛ فيقول: (إنّ هزيمة الحُسين كانت أمراً محتّماً؛ لأنّ الحُسين لمْ تكن له الشوكة التي تمكّنه مِنْ هزيمة الاُمويِّين؛ لأنّ عصبية مضر في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف في بني أُميّة، فعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه)([66])

وهكذا راح أكثر المتأثرين بابن تيمية وابن خلدون يرددون مقالتهما ومقالة ابن عمر، ويهونون من شأن الإمام الحسين الذي يصورونه بصور لا تليق بأبسط الناس وأجهلهم؛ فكيف بسيد شباب أهل الجنة؟

ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ محمد الخضري بك: (إن الحسين أخطأ خطأ عظيما في خروجه هذا الذي جرّ للأمة وبال الفرقة والاختلاف: وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا)([67])

وقال الدكتور أحمد شبلي: (نجيء إلى الحسين لنقر ـ مع الأسف ـ أن تصرفاته كانت في بعض نواحي هذه المشكلة غير مقبولة فهو ـ أولا ـ لم يقبل نصح الناصحين وخاصة عبد الله بن عباس، واستبد برأيه، وثانيا ـ نسي أو تجاهل خلق أهل الكوفة وما فعلوه مع أبيه وأخيه وهو ـ ثالثا ـ يخرج بنسائه وأطفاله كأنه ذاهب إلى نزهة خاوية أو زيارة قريب ويعرف في الطريق غدر أهل الكوفة ومع هذا يواصل السير إليهم وينقاد لرأي بني عقيل ويذهب بجماعة من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ليأخذ بثأر مسلم يا لله قد تكون ولاية يزيد العهد عملا خاطئا، ولكن هل هذا هو الطريق لمحاربة الخطأ والعودة إلى الصواب؟)([68])

وقال محمد النجار: (أما أحقية الحسين بالخلافة فهي فكرة تنطوي عليها قلوب الغالبية من الناس، ولكن ما قيمة هذه القلوب اذا لم تؤيدها السيوف وهي مع ذلك لا تقتضي الخروج، فان امامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة، وقد كان علي بن أبي طالب يعتقد أحقيته بالخلافة ولم يخرج على أحد)([69])

وهكذا نسمع الخطب والدروس الكثيرة التي تعج بها مساجد المدرسة السنية للأسف، والتي تنهل من أمثال أولئك العلماء، وهي تلوم الإمام الحسين ، وتعتب عليه، لكونه لم يسمع نصيحة ابن عمر.

والعجب الأكبر من ذلك كله هو أن ابن عمر الذي يعتبره هؤلاء ناصحا، ومخلصا في نصيحته امتنع عن مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رغم مبايعة غالبية الصحابة له، في نفس الوقت الذي بايع فيه معاوية بن أبي سفيان وبايع من بعده يزيد بن معاوية، ودعا الناس إلى بيعته، ولهذا يستدل السلفية على موقفه هذا في تصحيح ما يسمونه [خلافة يزيد]

ويذكر المؤرخون أنه عندما ثار ابن الزبير، واستقرت له السيطرة على العراق عدا الكوفة والحجاز والمشرق توقف ابن عمر عن بيعة ابن الزبير، وكان يحرض الناس على الوقوف إلى جانب بني أمية، فقد روى البخاري عن نافع قال : ( لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه)([70])

وقد ورد هذا الحديث في صحيح البخاري، ويستدلون به على صحة بيعة هؤلاء الفسقة والمجرمين والمحرفين للدين، في نفس الوقت الذي يروون فيه أحاديث عن مناقب أهل البيت ، وعن ظلم الأمة لهم، ومع ذلك يعتبرونها من الفضائل التي لا ينجر عنها أي عمل.

وهكذا عندما قامت دولة بني مروان والتي كان على رأسها عبد الملك بن مروان كان ابن عمر من المسارعين إلى بيعتهم، ومد يد الطاعة لهم، وقد روى البخاري بإسناده عن عبد الله بن دينار قال : ( لما بايع الناس عبد الملك كتب إليه عبد الله بن عمر : إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك)([71])

وقد بقي ملتزما بتلك البيعة والطاعة المطلقة لبني مروان حتى بعد تلك الجرائم العظيمة التي قاموا بها، من رمي الكعبة الشريفة بالمنجنيق وغيرها، ولذلك كان مقربا من عبد الملك بن مروان، وأمر الحجاج بأن يصلي خلفه([72]).

ولهذا لم يجد الإمام الحسين أن يجيب من هذا حاله، إلا بقوله: (أبا عبد الرحمن، أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أبيه ما قال؟!)([73])

وهذا جواب كاف لابن عمر وغيره، إن أرادوا الوفاء ببيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والممتدة لكل الأزمنة، ذلك أن تلك الأحاديث التي أخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما سيحل بالأمة بعده، لم تكن مجرد إخبار بالغيب، وإنما كانت توجيهات نبوية، تحذر من أن يحصل في الأمة التبديل والتغيير الذي حصل في غيرها، والذي نص عليه قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]، وقوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [الجاثية: 17]

ونص عليه في خصوص هذه الأمة قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]

وقد ورد الحديث بتفسير ذلك، والتحذير منه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلؤون([74]) عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)([75])

وفي رواية في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بينا أنا قائم على الحوض، إذ زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)([76])

وهذا الحديث وغيره من الأحاديث يبين قيمة الثبات في الدين، وأن العبرة في الاستمرار على المنهج الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس الارتداد عنه، أو تركه لأي غاية من الغايات، وقد ورد في الحديث الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)([77])

3 ـ انتقاء الأصحاب الرساليين:

وهي من أهم الأهداف التي سعى الإمام الحسين كل جهده لتحقيقها من خلال لقاءاته العامة والخاصة، حتى يوفر لكربلاء ـ والتي يعلم أن مأساتها حاضرة لا محالة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ الكثير من مشاهد الصدق والثبات والإخلاص التي تحول منها ملحمة فريدة في التاريخ.

فكان شأنه في ذلك مثل شأن المخرج السينمائي الذي يريد أن يمثل فيلما ناجحا ومؤثرا؛ فلذلك يحاول أن يضع فيه أكبر قدر من المشاهد التي تستطيع أن تؤثر في الجمهور.

وهكذا كان الإمام الحسين يعلم تماما المصير الذي سيصير إليه، ولكنه كان يعلم أيضا أن ذلك المصير لن يذهب هدرا، بل سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الدم على السيف، وينتصر فيه الحق على الزيف، وتصبح كل مشاهد كربلاء أشعة هداية للأمة لتنصره من جديد، بعد أن خذله أهل عصره.

بناء على هذا سنذكر هنا نماذج عن بعض الصادقين الذين انتقاهم الإمام الحسين على عينه لصحبته أو لتبليغ رسائله، والذين أدوا أدوارهم البطولية أحسن أداء.

النموذج الأول ـ مسلم بن عقيل:

وهو نموذج للسفير المغامر الفاني في من أرسله، مع علمه بالأخطار الشديدة التي تنتظره، ولكنه مع ذلك لم يبال، ولم يحسب حسابات الربح والخسارة التي حسبها المتخاذلون، لسبب بسيط، وهو علمه أن الإمام الحسين إمام منصب من الله تعالى، وأنه لا يفعل شيئا من عنده، وأن كل ما يفعله عهد عُهد به إليه.

ولهذا راح إلى الكوفة، واستعمل كل الوسائل ليطبق التعليمات التي وكلت إليه بكل دقة إلى أن شرف بأن يكون أول شهداء تلك الملحمة؛ فنال حظه من الشرف العظيم الذي لا يدانيه شرف، والذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض نبوءاته، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أجاب الإمام علي عندما سأله عن سر حبه لعقيل بن أبي طالب، فقال: (إي والله! إني لأحبه حبين، حباً له، وحباً لحبِّ أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون)، ثم بكى صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي)([78])

وقد شهد له جميع المؤرخين بالشجاعة والصدق والثبات وكل صفات النبل التي اجتمعت في أصحاب الإمام الحسين ، فقد قال عنه الدينوري واصفا شجاعته: (وخرج ولد عقيل مع الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فقتل منهم تسعة نفر. وكان مسلم بن عقيل أشجعهم. وكان على مقدّمة الحسين فقتله عبيد الله بن زياد صبراً)([79])

وذكروا أنه (لما قُتل هاني بن عروة بلغ خبره مسلم بن عقيل فخرج بمن بايعه إلى حرب عبيد الله بن زياد، فتحصن منه بقصر دار الإمارة، واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم، وجعل أصحاب عبيد الله الذين معه في القصر يتشرفون منه ويحذرون أصحاب مسلم، ولكي يفرّقوا أنصاره من حوله أخذوا يتوعدونهم بأجناد الشام، فلم يزالوا كذلك حتى جاء الليل)([80])

وحينها (جعل أصحاب مسلم يتفرقون عنه، ويقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم، فلم يبق معه سوى عشرة أنفس، فدخل مسلم المسجد ليصلي المغرب فتفرق العشرة عنه، ولمّا رأى مسلم ذلك خرج وحيداً في دروب الكوفة حتى وقف على باب امرأة يقال لها طوعة، فطلب منها ماءً فسقته، ثمّ استجارها فأجارته، فعلم به ولدها فوشى الخبر بطريقة إلى ابن زياد، فأحضر محمد بن الأشعت وضم إليه جماعة وأنفذه لاحضار مسلم) ([81])

وعندما وصلوا الى دار طوعة، وسمع مسلم وقع حوافر الخيل لبس درعه وركب فرسه وجعل يحارب أصحاب عبيد الله حتى قتل منهم جماعة، فناداه محمد بن الأشعث وقال: يا مسلم لك الأمان. فقال مسلم: وأي أمان للغدرة الفجرة؟! ثمّ أقبل يقاتلهم ويرتجز:

أقسمت لا أقتل إلا حراً

  وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا

أكره أن أخدَع أو أغرّا

  أو أخلط البارد سخناً مرّا

كلّ امرئ يوماً يلاقى شرّا

  أضربكم ولا أخاف ضرّا

 وتكاثروا عليه وقد أثخن بالجراح، فطعنه رجل من خلفه فخر إلى الأرض فأُخذ أسيراً([82]).

وقد شاء الله أن يكون أسره مثل جهاده رمزا للبطولة والشجاعة والصدق والثبات، فقد روي أنه لما أدخل على ابن زياد لم يسلم عليه، فقال له الحرس: سلّم على الأمير، فقال له: اسكت، ويحك، والله ما هو لي بأمير، فقال ابن زياد: لا عليك، سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول، فقال له مسلم: (إن قتلتني فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خير منّى، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لا أحد أولى بها منك)

وهكذا ابتهل تلك الفرصة ليجري حوارا مع ابن زياد، لا يزال مثالا على الشجاعة والرسالية والصدق، وسننقله هنا ـ كما ذكره المؤرخون([83]) ـ لنرى فيه الفرق بين الصادقين من أصحاب الإمام الحسين والثابتين معه، وأولئك المثبطين المتخاذلين الراكنين للدنيا، والذين دعتهم أهواؤهم إلى التخلف عنه.

فقد روي أن ابن زياد قال له: يا عاق يا شاق خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألحقت الفتنة.

فقال مسلم: كذبت يا بن زياد! إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألحقها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بنى علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريته.

فقال ابن زياد: منتك نفسك أمراً حال الله دونه، وجعله لأهله.

فقال مسلم: ومن يا ابن مرجانة؟

فقال: أهله يزيد بن معاوية.

فقال مسلم: الحمد لله رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

فقال ابن زياد: أتظن أنّ لك في الأمر شيئاً.

فقال مسلم: والله ما هو الظن، ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد: أخبرني يا مسلم بماذا أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئم فشتّت أمرهم بينهم وفرقت كلمتهم؟

فقال مسلم: ما لهذا أتيت، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف وتآمرتم على الناس بغير رضى منهم، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف، وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنا أهل ذلك.

فجعل زياد يشتمه ويشتم علياً والحسن والحسين .

فقال مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة، فاقض ما أنت قاض يا عدو الله.

فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله، فصعد به وهو يسبح الله تعالى ويستغفره ويصلّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب عنقه.

وهذا الحوار كاف لمن تأمله في معرفة الرسالة الحسينية، ومدى وعي أصحابه بها، وكان في إمكان المتخاذلين من الذين عاصروا الإمام الحسين ، أو من الذين لا يزالون يكيلون اللوم له، أن يطالعوا أمثال هذه النصوص ليعرفوا في أي صف يقفون، ذلك أن مقولاتهم هي نفس مقولات ابن زياد ويزيد وكل الظلمة، والذين اعتبروا حركة الإمام الحسين حركة انشقاق على الأمة، وليست حركة تصحيحية لمسارها.

وقد شاء الله أن يختم لمسلم بن عقيل بالشهادة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد استشهد في التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، ونصب ابن زياد رأسه على الخشب بالكوفة وهو أول رأس نصب في الإسلام ([84]).

وقد شاء الله كذلك أن يبقى قبره منارة للعاشقين والمحبين والموالين لآل بيت النبوة ، يزورونه ويذكرونه ويتبركون به كل حين، في نفس الوقت الذي يلعنون فيه الظلمة، ويتبرؤون منهم.

ومن الزيارات المتوارثة التي لا يزال زواره يرددونها عند قبره الشريف: (سلام الله وسلام ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين، والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل، أشهد لك بالتسليم ولتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين، وعن فاطمة، والحسن، والحسين أفضل الجزاء، بما صبرت واحتسبت وأعنت فنعم عقبى الدار، فلعن الله من خذلك وغشك، اشهد أنك قتلت مظلوما، وأن الله منجز لكم ما وعدكم، جئتك يا عبد الله وافدا إليكم وقلبي مسلم لكم، وأنا لكم تابع، ونصرتي لكم معدة حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لا مع عدوكم، إني بكم وبآبائكم من المؤمنين وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والالسن)([85])

إلى آخر الزيارة التي يعبر فيها المؤمنون عن مدى اعترافهم بفضل مسلم بن عقيل، وهي زيارة يتذكر فيها المؤمنون تلك التضحية العظيمة التي قدمها مسلم، لينهل منها، ويستفيد، ويوطن نفسه على أن يقف نفس المواقف.

النموذج الثاني ـ أبو الفضل العباس:

الملقّب بقمر بني هاشم، وهو نموذج للأخ البطل المواسي لأخيه في أحلك الظروف، وهو الذي شهد له المؤرخون أنه (صاحب المنزلة التي يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة، ونافذ البصيرة، وصلب الإيمان، والعبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين ) ([86])

وقد كان في واقعة كربلاء صاحب لواء أخيه الحسين، وكان له الفضل في كسر الحصار يومي السابع والعاشر من محرم بعد أن حُرِم المخيّم من شرب نهر الفرات، فتمكّن من جلب الماء لمعسكر الحسين في المحاولة الأولى فلقّب بالسقّاء، واستشهد في طريق عودته من المحاولة الثانية، وهو يأبى أن يشرب دون الحسين ومخيّمه، فقطعت يداه.

ومن مواقفه الشجاعة فيها أنه لما جاء شمر بن ذي الجوشن بكتاب الأمان عصر التاسع من المحرم ونادى: (أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟)، فأعرضوا عنه، فقال الحسين: (أجيبوه ولو كان فاسقا)، قالوا: (ما شأنك؟ وما تريد؟)، قال: (يا بني أختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد)، فقال له العباس: (تبت يداك ولعن ما جئت به من أمانك يا عدو الله! أتامرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة ، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! أتؤمننا وابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أمان له؟!)([87])

وقبل ذلك، وفي اليوم السابع من المحرم وعندما حوصر الإمام الحسين ومن معه، ونفذ ما عندهم من الماء، وكل الإمام الحسين أخاه العباس بالسقاية؛ فأمره أن يستقي للحرائر والصبية، وضم إليه ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين، ثم صاح نافع بأصحابه: إملأوا قربكم، وشد عليهم أصحاب ابن الحجاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل، فجاءوا بالماء وليس في القوم المناوئين من تحدثه نفسه بالدنو منهم، فرقا من العباس([88]).

وقد شرف الله تعالى العباس بالشهادة في يوم العاشر من المحرم، بعد أن أبلى بلاء حسنا، واختلف المؤرخون في ذكر كيفية ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه (برز إلى الميدان، فحمل على الأعداء مرتجزا، وبعد أن قتل وأصاب عددا منهم سقط شهيدا، فجاءه الحسين ، ووقف عليه، وهو يقول: الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي) ([89])

وذهب آخرون إلى أنه (لما اشتد العطش بالحسين ركب المسناة يريد الفرات والعباس أخوه بين يديه فاعترضه خيل ابن سعد… ثم اقتطعوا العباس عنه، وأحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه قدس الله روحه، فبكى الحسين لقتله بكاء شديدا) ([90])

وذهب آخرون إلى أنه مضى يطلب الماء، فحملوا عليه وحمل عليهم حتى ضعف بدنه، فكمن له حكيم بن طفيل الطائي السنبسي، فضربه على يمينه، فأخذ السيف بشماله، وحمل وهو يرتجز:

يا نفس لا تخشي من الكفار

  وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

  قد قطعوا ببغيهم يساري

 فأصلهم يا رب حر النار

فضربه لعين بعمود من حديد فقتله([91]).

وقد كانت له مواقف سابقة في الشجاعة في حياة أبيه، ومنها ما روي أنه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين شاب على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يقدّر عمره بالسبع عشر سنة، يطلب المبارزة، فهابه الناس، وندب معاوية إليه ابن الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي، وكانوا سبعة، وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك ابن الشعثاء وأغضبه، ولمّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين من هذه البسالة التي لاتعدو الهاشميين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولما رجع إلى مقرّه دعا أبوه أمير المؤمنين ، وأزال النقاب عنه، فإذا هو قمر بني هاشم ولده العبّاس ([92]).

ولذلك كله شرف بذكر الأئمة له، وثنائهم عليه، فقد قال عنه الإمام السجاد : (رحم الله عمّي العبّاس بن علي، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه، فأبدله الله عزّوجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، إنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة)([93])

وقال عنه الإمام الصادق : (كان عمّي العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً…. أشهد، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه) ([94])

وقد قال عنه في الزيارة المنسوبة إليه: (فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت، واحتسبت، وأعنت فنعم عقبى الدار )([95])

ومثل ذلك ورد ذكره في زيارة الناحية المقدسة، والتي يقول فيها الزائر: (السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه) ([96])

النموذج الثالث ـ علي الأكبر:

وهو نموذج للأب الذي يقدم ابنه العزيز عليه شهيدا في سبيل الله، ليعيد بذلك إحياء تضحية إبراهيم بابنه امتثالا للأمر الإلهي.

وعلي الأكبر هو أحد ثلاثة أبناء سماهم الإمام الحسين باسم أبيه المظلوم الذي راح بنو أمية يجرمون التسمية باسمه، ويستعملون كل الوسائل لتشويهه ([97])، وقد كان أشبه الناس بجدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، فقد وصفوه بأنه كان (معتدل القامة، عريض المنكبين، أبيض اللون مشروب بحمرة، أسود العينين، كث الحاجبين، إذا مشى كأنه ينحدر من الأرض، يلتفت بتمام بدنه، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، وتفوح منه رائحة المسك والعنبر)([98])

ولهذا قال الإمام الحسين عندما خرج علي الأكبر للقتال يوم عاشوراء: (اللهمّ اشهدْ على هؤلاء القوم فقد برزَ إليهم غُلامٌ أشبهُ النّاسِ خَلْقَاً وخُلُقاً ومَنْطِقاً برسولك)([99])

وقد روي أنه لما كان في آخر الليلة التي بات بها الإمام الحسين عند قصر بني مقاتل، أمر بالاستسقاء من الماء، ثم أمر بالرحيل، فلما ارتحلوا من قصر بني مقاتل وساروا ساعة، خفق الحسين برأسه خفقة، ثم انتبه وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين)، قال ذلك مرّتين أو ثلاثاً. فأقبل إليه علي بن الحسين على فرس له، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، يا أبت جعلت فداك مم حمدت الله واسترجعت؟) قال: (يا بني إني خفقت برأسي خفقة، فعنّ لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا)، قال له : يا أبت لا أراك الله سوءً ألسنا على الحق؟ قال: بلى والّذي إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذاً لا نبالى أن نموت محقين، فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده)([100])

وقد كانت كلماته أثناء القتال تدل على ذلك الوعي الرسالي الكبير الذي كان يحمله كل من كان مع الإمام الحسين ، وهي رسائل للأجيال لتنهل منها، وتسير على هديها، فقد روي أنه قال مرتجزا([101]) :

أنا علي بن الحسين بن علي

  نحن وربّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

  أضرب بالسيف أحامي عن أبي

 ضرب غلام هاشمي قرشي

وقد كان الإمام الحسين ـ على حسب ما تدل الروايات ـ متأثرا كثيرا لما سيحصل لابنه الشبيه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روي أنه كان يصيح في الأعداء قائلا: (يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسلط عليك من يذبحك على فراشك)([102])

وكان يقول: (اللهم اشهد على هؤلاء، فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلي رُؤيةِ نَبيك نَظرنا اِليه)([103])

ثم يقول: (للهم امنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا)([104])

ثم يرفع صوته، ويتلو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]([105])

وقد روي في المقاتل الكثير من مشاهد بطولته وشجاعته التي لا تزال مدرسة لتلاميذ كربلاء ينهلون منها قيم الشجاعة والصدق والثبات، وقد روي أنه بعد أن قتل عددا كبيرا من الأعداء، رجع إلى أبيه وقال: (يا أبت العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل؟)، فقال له الإمام الحسين : (قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها)([106])

وروي أنه في احتضاره، وقبل أن يستشهد راح يقول مخاطبا أباه: (يا أبتاهُ هذا جَدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سَقاني بكأسه الأوفى شِرْبةً لا أظمأ بعدها أبداً وهو يقولُ العَجَل العَجَل فإنّ لك كأساً مذخورة)، ثم فاضت روحه الطاهرة ([107]).

وروي أن الإمام الحسين وقف عليه، ووضع خدّه على خدّه، وهو يقول: (قَتَل اللهُ قَوْماً قتلوك ما أجْرأهُم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرْمَةِ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قال: (على الدّنيا بَعْدَك العَفَا)([108]

وروي أنه أخذ بكفه من دمه، ورمى به نحو السماء فلم يسقط منه قطرة ([109])، وإلى ذلك الإشارة بما ورد في زيارة الإمام الصادق ، والتي يقول فيها: (بأبي أنت وأمّي، دمك المرتقى به إلى حبيب الله، بأبي أنت وأمّي من مقدّم بين يدي أبيك يحتسبك، ويبكي عليك محترقاً عليك قلبه، يرفع دمك إلى عنان السماء لا يرجع منه قطرة)([110])

النموذج الرابع ـ حبيب بن مظاهر:

وهو نموذج العابد المجاهد الصادق، وهو من أشهر أصحاب الإمام الحسين ، وكان من السبعين رجلا الذين نصروه في كربلاء وصبروا على البلاء حتى قتلوا معه، وكان عابداً ورعا تقيا ومراعيا لحدود الله تعالى، حافظا للقرآن الكريم، وكان يختمه في كل ليلة من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر([111]).

وكان قد أرسل إليه الإمام الحسين رسالة يقول فيها: (إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر: أما بعد، يا حبيب! فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت أعرف بنا من غيرك، وأنت ذو شيمة وغيرة، فلا تبخل علينا بنفسك، يجازيك جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة)([112])

وكان حبيب ـ حين وصلته الرسالة ـ جالسا مع زوجته، وبين أيديهما طعام يأكلان، إذ وصلته الرسالة، فاستشار زوجته، فحثته على نصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعندما وصل إلى الإمام الحسين ، ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه، قال له: إن هاهنا حيّا من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم وأن يدفع بهم عنك! فأذن له الحسين؛ فسار إليهم حتى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم وقال لهم: (يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين، وقد أطافت به اعداؤه ليقتلوه، فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه)، فخرجوا معه، فعارضهم عمر بن سعد ليلا ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم، فلما علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل وتحملوا عن منازلهم، وعاد حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان، فقال : ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله ﴾ [التكوير: 29]، ولا حول ولا قوة إلا بالله)([113])

وفي صباح العاشر من المحرم جعل الإمام الحسين زهير بن القين على الميمنة، وحبيب بن مظاهر على الميسرة ووقف في القلب وأعطى الراية لأخيه العباس، ولما دعا الإمام الحسين براحلته فركبها ونادى بصوت عال يسمعه جلهم: (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم عليّ.. أو لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!)، فرد عليه الشمر قائلا: (هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول)، فقال له حبيب بن مظاهر: (والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك)([114])

وقد روي أنه قاتل قتالا شديدا، ثم حمل عليه بُديل بن صُرَيم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير على أمّ رأسه بالسيف؛ فوقع ونزل بديل فاجتز رأسه وأخذ فعلقه في عنق فرسه، فقال الإمام الحسين : (عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي)([115])، وفي رواية قال : (لله دَرُّكَ يا حبيب، لقد كنتَ فاضلاً تختم القرآن في ليلة واحدة)([116]).

وقد شرفه الله تعالى بأن يدفن في جوار الإمام الحسين ، ذلك أن بني أسد دفنوه على بعد عشرة أمتار من رأس الحسين، حيث قبره الآن في الرواق الشرقي من الروضة الحسينية، وقد ورد ذكره في زيارة الناحية المقدسة وزيارة الإمام الحسين في النصف من شعبان وغيرها ([117]).

النموذج الخامس ـ مسلم بن عوسجة:

هو نموذج الشيخ الذي لم يمنعه كبر سنه ولا مكانته من قومه من نصر إمامه، وقد شرفه الله تعالى بأن يكون أول شهيد من أنصار الحسين بعد الحملة الأولى، على الرغم من كونه كان شيخاً كبير السن، وشخصية بارزة في قومه، بل شخصية بارزة في الكوفة، وكان فوق ذلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن رواة حديثه ([118]).

وكان فوق ذلك كله شجاعاً وجريئاً شارك في الكثير من حروب المسلمين، وشهد مع الإمام علي كلّ غزواته، وكان في الكوفة يأخذ البيعة من الناس للحسين بن علي ، وقد جعله مسلم بن عقيل حين ثار بالكوفة على رأس طائفة من مذحج وأسد، وكان ينهض بجمع المال والسلاح والأنصار.

وقد صدق مسلم فيما ذكره، وشهد له الإمام الحسين بالصدق والثبات على العهد، فعن عمروبن الحّجاج أن الحسين حمل من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة الأسدي، وانصرف عمرو ومسلم صريع، فمشي إليه الحسين وبه رمق فقال: (رحمك الله يا مسلم بن عوسجة، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23])([119])

وقد روي أنه بعد إصابته، وفي آخر لحظات حياته قدم إليه الحسين ومعه حبيب، فقال حبيب: عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أَبشر بالجنّة! فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير. فقال حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في إثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببتُ أن توصي إليَّ بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت له أهل من الدين والقرابة؛ فقال له: بلى، أوصيك بهذا رحمك الله! وأومأ بيديه إلى الحسين أنْ تموت دونه! فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة. وفي رواية لأنعمنك عيناً. ثم مات([120]).

وروي أنه لما استشهد تنادى أصحاب عمرو ابن الحجّاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسديّ، فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: (ثكلتكم أمّهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّلون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والّذي أسلمت له لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سَلَقِ أذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل تتامّ خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون)([121])

ولذلك شرف بذكره في زيارة الناحية المقدسة، والتي يقول فيها الزائر: (السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف: أنحن نخلى عنك؟! وبم نعتذر عند الله من أداء حقك)

وهكذا ورد ذكره في زيارة الشهداء يوم عاشوراء، والتي يلعن فيها الزائر قتلة مسلم بن عوسجة([122])، وغيرها من الزيارات التي حفظت ثباته وصدقه وجعلته نموذجا للموالين الثابتين الصادقين.

النموذج السادس ـ زهير بن القين:

وهو نموذج التائب الصادق في توبته، وقد كان من كبار شيوخ قبيلة بجيلة في الكوفة، وكان قبل ذلك عثمانيا، وله موقف سلبي من الإمام الحسين ، ولكن العبرة بالصدق والإخلاص، لا بالأسبقية.

وقد روى المؤرخون أنه عندما بعث الإمام الحسين إليه رسولا يستدعيه، كره الذهاب إليه، فقالت له زوجته دلهم بنت عمرو: يا سبحان الله أيبعث اليك الحسين بن فاطمة ثم لا تأتيه، ما ضرك لو أتيته فسمعت كلامه ورجعت، فذهب زهير على كره، فما لبث أن عاد مستبشرا ضاحكا وقد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه فقلع، وضم فسطاطه بركب الإمام الحسين ، ثم ودع زوجته، وقيل أنه قال لها: (أنت طالق، فتقدمي مع أخيك حتى تصلي إلى منزلك، فإني قد وطنت نفسي على الموت مع الحسين )([123])

وقال لمن كان معه من أصحابه: (من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فانه آخر العهد)، ثم قال: (إني سأحدتكم حديثا: غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي: (أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟)، فقلنا: نعم، فقال لنا: (إذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم)، فأما أنا فإني أستودعكم الله([124]).

وروي أنه قال بعد سماعه خطابا للإمام الحسين : (قد سمعنا ـ هداك الله ـ يا ابن رسول الله مقالتك، والله لو كانت الدنيا باقية وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها)؛ فدعا له الحسين ، وقال له خيرا ([125]).

وروي أنه قال لعزرة بن قيس([126]) : (اتق الله يا عزرة؛ فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن لا تكون ممن يعين أهل الضلالة على قتل النفوس الزكية)، فقال له عزرة: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت على غير رأيهم؟)، فقال زهير: (أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم، أما والله ما كتبت إليه كتابا قط، ولا أرسلت إليه رسولا، ولا وعدته نصرتي، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه عدوه، فرأيت أن أنصره، وأن أكون من حزبه، وأجعل نفسي دون نفسه لما ضيعتم من حق رسوله)([127])

وهكذا استمر يناضل عن الإمام الحسين إلى آخر لحظات حياته، وقد أجاب الإمام الحسين عندما طلب من أصحابه الفرار بأنفسهم بقوله: (والله لوددت أني قتلت، ثم نشرت، ثم قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك)([128])

وقد وفى بعهده، وثبت عليه، وقد روي أن الإمام الحسين جعله على الميمنة، وحبيب بن مظاهر على الميسرة ووقف في القلب وأعطى الراية لأخيه العباس، وبعد أن فرغ الإمام الحسين من وعظ معسكر ابن سعد، خرج زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح فقال: (يا أهل الكوفة بدار (نذار) لكم من عذاب الله بدار (نذار) إن حقا على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا السوء عمر سلطانهما كله، إنهما يسملان أعينكم، ويقطعان يديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه)؛ فسبوه وأثنوا على ابن زياد، فقال لهم: (يا عباد الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فلعمري إن يزيد يرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين )

حينها رماه شمر بسهم، وقال: (اسكت، أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك)، فقال زهير: (يا ابن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، وأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم)، فقال شمر: (إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة)، فقال: (أفبالموت تخوفني! والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم)

ثم رفع صوته وقال: (عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي، فوالله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوما أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتوا من نصرهم وذب عن حريمهم. فأمره الحسين فرجع)([129])

وهكذا ظل ينتصر للإمام الحسين إلى أن حانت صلاة الظهر يوم عاشوراء، حينها أمر الإمام الحسين زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف، ولما فرغ من الصلاة، تقدم زهير فجعل يقاتل قتالا شديدا إلى أن استشهد، وحينها وقف عليه الإمام الحسين ، وهو يقول: (لا يبعدنك الله يا زهير، ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير)([130])

وهو أحد الذين شرفوا بالذكر في زيارة الناحية المقدسة؛ ففيها يقول الزائر: (السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف: لا والله، لا يكون ذلك أبدا! أ أترك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيرا في يد الأعداء وأنجو أنا، لا أراني الله ذلك اليوم)([131])

النموذج السابع ـ سعيد بن عبد الله الحنفي:

وهو صاحب الشعار العظيم الذي لا يزال الحسينيون يرددونه، فقد قال ليلة عاشوراء جوابا لطلب الإمام الحسين من أصحابه الانصراف عنه، والفرار بأنفسهم: (لا والله لا نخلّيك حتى يعلم الله إنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيته فيك، والله لو قتلت ثم أُبعث حيّاً، ثم أحرق، ويفعل بي ذلك سبعين مرة ما تركتك وحدك، وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة وقتلة واحدة ثم بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)([132])

وسعيد بن عبد الله الحنفي الذي قال تلك الكلمات النيرة، والتي لا زالت شعارا يردده الحسينيون، كان آخر الرسل الذين قدموا إلى الحسين بكتب أهل الكوفة، وكان من الوجوه المعروفة فيها، وكان له دوره في نصرة مسلم بن عقيل، وهو الذي سار بكتاب مسلم إلى الحسين بمكّة، وسار برفقته إلى الكوفة، إلى أن حلَّ يوم الطفّ، وفي ظهيرة عاشوراء لمّا وقف الحسين للصلاة، تقدم أمامه سعيد بن عبدالله الحنفي، وكلّما أخذ الحسين يمينا وشمالا قام بين يديه، فما زال يرمي به حتّى سقط إلى الأرض، فوُجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح([133]).

وقد شرف بذكره في زيارة الناحية المقدسة مع الكلمات النيرة التي قالها بين يدي الحسين ليلة عاشوراء، ففيها يقول الزائر: (السلام على سعد بن عبدالله الحنفي، القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف: لا والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لو أعلم أني أقتل ثم أحيا، ثم أحرق ثم أذرى، ويفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك، حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي موتة أو قتلة واحدة، ثم هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ؟! فقد لقيت حمامك، وواسيت إمامك، ولقيت من الله الكرامة في دار المقام، حشرنا الله معكم في المستشهدين، ورزقنا مرافقتكم في أعلى عليين)([134])

4 ـ تقديم كل أنواع التضحية:

لا يمكن لأحد أن يفهم سر تلك التضحيات العظيمة التي قام بها الإمام الحسين دون أن يعرف سر الإمامة، وكونها امتدادا للنبوة، ووراثة لها، وكون صاحبها لا يفعل شيئا من عنده، وإنما هو يطبق كل ما عُهد إليه بدقة، وبعيدا عن إدخال اجتهاده أو رأيه أوعقله، وهو ما صرح به الإمام الحسين في مواضع كثيرة قبل عاشوراء، وعندها.

أما من لا يفهم ذلك؛ فهو يسارع إلى النقد، لأنه يحسب الأمور بالحسابات البشرية العادية، والتي تستبعد الجانب الغيبي، وتصور الأمور بصورة سطحية تفتقد لأدنى درجات العمق.

وكمثال يقرب ذلك: التعامل مع تصرفات إبراهيم مع زوجته وهاجر وابنه إسماعيل ، والذي على أساسه قامت الكثير من الشعائر التعبدية التي أمر الله بتعظيمها، والذي لا يزال أثره وذكره باقيا إلى اليوم.

فلو أن أحدا لم يؤمن بأن إبراهيم رسول من الله تعالى، وراح يزن تصرفاته كما يزن تصرفات أي بشر عادي؛ فسيحكم عليه بأحكام لا تتناسب أبدا مع ذلك التقديس والتعظيم الذي عبر عنه القرآن الكريم، بل قد يصفه بالجنون أو الإهمال، أو أي صفة شاء من الصفات.

لكن عندما يؤمن بأن الذي فعل ذلك هو رسول الله وخليله ومصطفاه، وأنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، وإنما كان يطبق كل ما يؤمر به بدقة عالية، كما قال تعالى مخبرا عن نجاحه في كل الكلمات التي ابتلي بها: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124]، فإنه في ذلك الحين يسلم له، ويعلم أن الله تعالى لا يأمر بالعبث، وأن كل ما حصل رسائل إلهية لعباده.

وهكذا الأمر مع الإمام الحسين ، ومع كل ما حصل له في كربلاء؛ والذي وردت الأحاديث بالإخبار عنه قبل حصوله، وهو ما يدل على أنها كلمات ابتلي بها الإمام الحسين ليكون لها أثرها المستقبلي البعيد، مثلما كان لحركة إبراهيم أثرها المستقبلي في هذه الأمة.

وعند النظر إلى ما فعله الإمام الحسين بهذه الرؤية تصبح كل حركة من حركاته شعيرة من الشعائر المقدسة، مثل تلك الشعائر التي نشأت عن حركة هاجر وهي تبحث عن الماء لابنها إسماعيل، أو مثل تلك الحركات التي قام بها إبراهيم ، وهو يرجم الشيطان، أو هو يقدم ابنه في سبيل الله.

والأدلة على هذه الرؤية كثيرة جدا في مصادر السنة والشيعة، فكلهم يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بقتله، بل بمكانه، ولم ينهه عن ذلك، بل ذكر مناقبه وكونه سيد شباب أهل الجنة، وكونه منه، وهو ما يدل على أن تلك الحركة حركة نبوية.

وقد ذكر العلماء الكثير من النصوص التي يخبر فيها الإمام الحسين بالتضحية التي طلب منه أن يقدمها، ليحمي دين هذه الأمة من أن يستبد به المستبدون أو يحرفه المحرفون، ومنها:

1 ـ خطبته التي خطبها حين عزم على مغادرة الحجاز والتوجه الى العراق، والتي يقول فيها: (كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى)([135])

فهذا نص صريح الدلالة على علمه بدقة لما سيحصل له، وقوله فيه: (لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته) دليل على أن ما قام به من تضحية هو تنفيذ لأوامر إلهية، ووصايا نبوية.

2. عدم أخذ الإمام الحسين بنصيحة عمر بن عبد الرحمن بن الحارث له بمكة مع اعتذاره إليه، واعترافه بنصحه، فقد قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: (لما تهيأ الحسين للمسير إلى العراق، أتيته فد خلت عليه فحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت: أما بعد، فاني أتيتك يابن عم لحاجة أريد ذكرها نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني، وإلا كففت عما اريد أن أقول)، فقال الحسين : (قل فوالله ما أظنك بسئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل)، قال: إنه قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق واني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه. فقال الحسين : (جزاك الله خيرا يا ابن عم، فقد والله علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح)([136])

3. جوابه لمحمد بن الحنفية حين أشار عليه بعدم الخروج إلى العراق، فوعده النظر، ثم ارتحل في السحر، فعن الإمام الصادق قال: (سار محمد بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكة فقال: يا اخي إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم وأمنعه. فقال : يا اخي قد خفت ان يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت، فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فسر الى اليمن أو بعض نواحي البر، فإنك امنع الناس به ولا يقدر عليك أحد؛ فقال : (أنظر فيما قلت). ولما كان السحر ارتحل الحسين ، فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا اخي ألم تعدني النظر فيما سألتك. قال : (بلى). قال: فما حداك على الخروج عاجلا. فقال : (اتانى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج فإن الله، قد شاء ان يراك قتيلا)، فقال له ابن الحنفية: إنا الله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ ! فقال له: (قد قال لي: (إن الله قد شاء ان يريهن سبايا) وسلم عليه ومضى([137]).

وهذا نص صريح؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه لا يتمثل به الشيطان، وخاصة إن كان الرائي له حبيبه وسبطه وريحانته الإمام الحسين ، وهذا ما يقرب ما حصل له بما حصل لإبراهيم .

4. تصديقه لكل من أخبره بما سيحصل له من الذين دعوه من الغدر، ومع ذلك تحرك وفق تكليفه الشرعي، غير مبال بما توقعوه، وبما كان يعلمه هو نفسه، ومن الأمثلة على ذلك ما روي أنه عندما بلغ ذات عرق([138])لقيه رجل من بني أسد يقال له بشر بن غالب، فقال له الإمام الحسين : (ممن الرجل) ؟ قال: رجل من بني أسد. قال: (فمن أين أقبلت يا أخا بني أسد؟) قال: من العراق، فقال: (كيف خلفت أهل العراق؟) قال: يا ابن بنت رسول الله خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية! فقال له الإمام: (صدقت يا أخا العرب ! إن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد)، فقال له الأسدي: يا ابن بنت رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]؟ فقال الإمام: (نعم يا أخا بني أسد هم إمامان: إمام هدى دعا الى هدى، وإمام ضلالة دعا الى ضلالة، فهدى من أجابه الى الجنة، ومن أجابه الى الضلالة دخل النار)([139])

ومثله ما روي عن الزبير بن الخريت، قال: سمعت الفرزدق قال: لقيت الحسين بذات عرق وهو يريد الكوفة، فقال له: (ما ترى أهل الكوفة صانعين ؟ فإن معي حملا من كتبهم)، قلت: يخذلونك فلا تذهب، فإنك تأتي قوما قلوبهم معك وأيديهم عليك: فلم يطعني([140]).

5. رفضه لطلب كل من أراد أن يثنيه عن المسير على الرغم من كل ما قدموه له من إغراءات، أو حذروه من البلاء الذي ينتظره؛ فقد كتب عبد الله بن جعفر له بعد خروجه من مكة: (أما بعد، فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فاني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإن هلكت اليوم طفىء نور الارض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فاني في أثر كتابي، والسلام)، ثم طلب من عمرو بن سعيد ـ وهو عامل يزيد يومئذ بمكة ـ أن يكتب للإمام الحسين كتاباً يجعل له فيه الأمان، ويمنّيه فيه البرّ والصلة ويسأله الرجوع، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر، فلحقاه وقرءا عليه الكتاب وجهدا أن يرجع، فلم يفعل([141]).

وهكذا قال له عبد الله بن مطيع إذ اجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب: (أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمةَ الاسلام أن تنهتك، أُنشدك الله في حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنشدك الله في حرمة العرب، فو الله لئن طلبت مافي أيدي بني أمية ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرَّض لبني أمية)، قال: فأبى إلاّ أن يمضي ([142]).

وهكذا روي أنه لقيه في الطريق أحد بني عكرمة ببطن العقبة؛ فقال له: (أُنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلاّ على الاسنة وحدّ السيوف، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فانّي لا أرى لك أن تفعل)، فقال له: (يا عبد الله، إنه ليس يخفى عليّ، الرأيُ ما رأيتَ، ولكن الله لا يُغْلَب على أمره)([143])

وهكذا كان يتعرض في كل محل يسير إليه، أو ينزل به لمن يريد أن يثنيه عن طريقه، ويخبره بالمصير الذي ينتظره، ومع ذلك لم يأبه بهم، لأن الأصل كان أن يتبعوه، لا أن ينصحوه.

ولو فرضنا أنه استجاب لهم، ولم يذهب إلى الكوفة، لجاء أولئك الذين انتقدوه في خروجه إليها، وذكروا أنه جبن عن الخروج، أو كانت فرصته للقضاء على ما فعله بنو أمية ولم يفعل، أو لجعلوها ذريعة لتصحيح حكم بني أمية وتحريم الخروج عليهم.

رابعا ـ الإمام الحسين والامتداد الرسالي:

لا يمكن لأحد أن يعرف قيمة ما قدمه الإمام الحسين من تضحيات ما لم يعرف الدافع الأكبر لذلك، وهو ليس دافعا محصورا في الزمن الذي عاشه، وإنما هو دافع ممتد لكل الأجيال، ليحضرها لأن تصبح أهلا لتلك الصرخة التي صرخها حين قال: (هل من ناصر ينصرنا، هل من معين يعيننا، هل من ذاب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([144])

فهو لم يقصد بذلك نصرته في ذلك الحين، ولا نصرة شخصه، ولا مواجهة يزيد وحده، وإنما قصد بها نصرة الإسلام الذي انتهض من أجله، ومواجهة يزيد الذي يمثل الاستبداد والظلم في كل العصور.

وصرخته تلك تشبه الصرخة التي نادى بها إبراهيم الخليل، عندما راح يؤذن في الناس بالحج بين الرمال والصخور، وقد شاء الله أن يؤتي ذلك الآذان أكله في الوقت المناسب، كما قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]

ولهذا فإن أولئك الذين يضعون ما فعله الإمام الحسين ضمن حسابات الربح والخسارة لم يفهموا حركته أبدا، وكيف يفهمونها، وهم يستعملون عقولهم القاصرة مع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أذن لتلك الحركة أن تكون بذلك الشكل.

ولو أنهم تأملوا في آثارها عبر التاريخ، وكيف أصبح الإمام الحسين رمزا لا يضاهيه أي رمز في مواجهة الطغيان، وفي انتصار الدم على السيف، لعادوا إلى عقولهم، وعرفوا أن الأمر أكبر من أن يكون تخطيط عقول بشرية، وإنما هي خطة إلهية في مواجهة المشاريع الشيطانية، ولذلك كان المتولي لإخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما سيحصل للإمام الحسين ملائكة الله، الذين أرسلوا خصوصا ليخبروا بذلك الحديث العظيم الذي اهتز له كل شيء.

ولذلك؛ فإن أهم المعاني في حياة الإمام الحسين ، وفي نهضته الكبرى، هي تحوله إلى رمز إسلامي يواجه الطغيان والاستبداد، ويمثل العدالة بأسمى معانيها، ويكون بذلك أكبر دليل على فساد مقولة [الدين أفيون الشعوب]

انطلاقا من هذا؛ فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الغرض الأكبر من حركة الإمام الحسين هي تمددها في التاريخ والجغرافية لتصبح أداة تستنهض الهمم للإصلاح ومواجهة الانحرافات بكل أنواعها، ويمكننا من خلال الأحاديث والروايات والواقع أن نرى أربعة تجليات كبرى لذلك الامتداد الذي لا نزال نرى آثاره في عصرنا، وهي:

1. المحبة والمودة للإمام الحسين ولأهل البيت، وهي الوقود العاطفي الذي يحرك صاحبه لاقتفاء آثارهم، والسير على هداهم، والاستنان بسننهم.

2. الزيارة والبكاء، وهي من الشعائر العظيمة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته للأمة لتصبح وسيلة لتربيتها وتطهيرها ومحو العار عنها، كما يصبح وسيلة لاستنهاض الهمم للمواجهة، ومقاومة الطغيان والشعور بالمستضعفين والوقوف في صفهم.

3. النصرة والمواجهة، وذلك عبر استعمال كل الوسائل لإعادة الأمر إلى نصابه، والحق لأهله، لأنه لا يمكن أن تنتصر الأمة، وتتخلص من الران البشري الذي لبس دينها قبل أن تعرف أئمتها ومراجعها الحقيقيين.

4. الحركة والثورة، وهي الوسيلة الأخيرة التي تستعملها الأمة، لتؤدي دورها الحقيقي، والذي ورد في الآثار أن من شعاراته [يا لثارات الحسين]([145])

وسنحاول أن نشرح بعض المعاني والأدلة المرتبطة بهذه التجليات الأربعة في المطالب التالية:

1 ـ المحبة والمودة:

لا يشك أحد من المسلمين مهما كانت مدرسته في تلك الأحاديث الكثيرة التي يحث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حب الإمام الحسين ، بل يضمن محبة الله لمن أحبه، ويضمن مع محبة الله رضوان الله وجنته، ذلك أنه يستحيل أن يسخط الله على من يحبه ويرضى عنه.

وبما أن المحبة تقتضي معرفة واطلاعا وبحثا مفصلا في شخصية المحبوب، حتى يصبح الحب عن قناعة لا عن تقليد؛ فالحب ثمرة المعرفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يدعونا إلى محبته، دعانا إلى معرفته، والبحث عنه، وعن القيم العظيمة التي مثلها، ليكون الحب صادقا وحقيقيا.

وبذلك يكون الحب هو الوسيلة التي تؤسس لكل القيم النبيلة، والأخلاق الرفيعة، ولهذا نرى جميع أئمة أهل البيت يحضون على محبتهم، ويعتبرونها ركنا في التربية، كما أن بغضهم ركن في الانحراف.

وقد روى الإمام الحسين عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله وهو يحبّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينتفع عبد بعمله إلّا بمعرفتنا)([146])

وقسم الإمام علي أصناف الأمة بحسب موقفها من أهل بيت النبوة؛ فقال: (من أحبّنا بقلبه وأعاننا بلسانه وقاتل معنا أعداءنا بيده فهم معنا في درجتنا، ومن أحبّنا بقلبه وأعاننا بلسانه ولم يقاتل معنا في أعدائنا فهو أسفل من ذلك بدرجة، ومن أحبّنا بقلبه ولم يعنّا بلسانه ولا بيده فهو في الجنّة، ومن أبغضنا بقلبه وأعان علينا بلسانه ويده فهو مع عدوّنا في النار، ومن أبغضنا بقلبه ولم يعن علينا بلسانه ولا بيده فهو في النار)([147])

وهذا الذي قاله الإمام علي لم يقله من عنده، وإنما قاله له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الرويات الكثيرة في المصادر السنية والشيعية، ففي الحديث عنه قال: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)([148])

وحدث ابن عمر قال: (ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغضهم عليا ً)

وحدث جابر قال: (ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار إلا ببغضهم لعلي)([149])

وحدث أبو سعيد الخدري قال: (إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم عليا)([150])

وحدث أبو عثمان النهدي، قال: قال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحب عليا ً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله عز وجل، ومن أبغض عليا ً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل) ([151])

وهكذا الأمر مع سائر أئمة أهل البيت ، فالنصب لهم نصب للإمام علي ، وبغضهم بغض للإمام علي ، وقد قال الإمام الصادق : (من أحبّنا لله وأحبّ محبّنا لا لغرض دنيا يصيبها منه، وعادى عدوّنا لا لإحنة كانت بينه وبينه، ثمّ جاء يوم القيامة وعليه من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر غفر الله تعالى له)([152])

وفي آخر وصيّة له لابن النعمان (مؤمن الطاق) قال له فيها: (يا بن النعمان، إنّ الله جلّ وعزّ إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب بطلب الحقّ، ثمّ هو إلى أمركم أسرع من الطير إلى وكره.. يا ابن النعمان، إنّ حبّنا أهل البيت ينزله الله من السماء من خزائن تحت العرش كخزائن الذهب والفضّة، ولا ينزّله إلّا بقدر، ولا يعطيه إلّا خير الخلق، وإنّ له غمامة كغمامة القطر، فإذا أراد الله أن يخصّ به من أحبّ من خلقه أذن لتلك الغمامة فتهطّلت كما تهطّلت السحاب، فتصيب الجنين في بطن أمّه)([153])

وقد أشار الإمام الصادق إلى بعض آثار محبة أهل البيت في الموالين الصادقين لهم، واستعدادهم للتضحية والبذل في سبيلها، عند تقسيمه لأصناف المحبين لهم، فقال: (محبونا على ثلاث طبقات: طبقة أحبّونا في العلانية ولم يحبّونا في السرّ، وطبقة يحبّونا في السرّ ولم يحبّونا في العلانية، وطبقة يحبّونا في السرّ والعلانية)([154])

ثم ذكر أن هؤلاء الذين أحبوهم سرا وعلانية هم (النمط الأعلى، شربوا من العذب الفرات، وعلموا بأوائل الكتاب، وفصل الخطاب وسبب الأسباب، فهم النمط الأعلى، الفقر والفاقة وأنواع البلاء أسرع إليهم من ركض الخيل، مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا وفتنوا، فمن بين مجروح ومذبوح متفرّقين في كلّ بلاد قاصية، بهم يشفي الله السقيم ويغني العديم، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، وبهم ترزقون، وهم الأقلّون عددا، الأعظمون عند الله قدرا وخطرا)

أما النمط الثاني؛ فهو ـ كما يذكر الإمام الصادق ـ (النمط الأسفل أحبّونا في العلانية وساروا بسيرة الملوك فألسنتهم معنا وسيوفهم علينا)

وأما النمط الثالث؛ فهو ـ كما يذكر الإمام الصادق ـ (النمط الأوسط أحبّونا في السرّ ولم يحبّونا في العلانية، ولعمري لئن كانوا أحبّونا في السرّ دون العلانية، فهم الصوّامون بالنهار القوّامون بالليل، ترى أثر الرهبانيّة في وجوههم، أهل سلم وانقياد)

وهذا النص مع نصوص كثيرة يبين المفهوم الحقيقي لمحبة أهل البيت، وأنه ليس مجرد دعوى، وإنما هو قيم رفيعة، لا يمكن أن يدعيها إلا من صدق في محبته، ومثل الأئمة أحسن تمثيل.

ولهذا روي عن أئمة أهل البيت التفريق بين مواليهم، وأنه ليس نسبا وراثيا، وإنما هو تحقق وصدق وتضحية، فعن الإمام الصادق أنه قال: (الشيعة ثلاث: محب واد فهو منا، ومتزين بنا ونحن زين لمن تزين بنا، ومستأكل بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر) ([155])

وقال: (افترق الناس فينا على ثلاث فرق: فرقة أحبونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار، وفرقة أحبونا وسمعوا كلامنا، ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم نارا يسلط عليهم الجوع والعطش، وفرقة أحبونا وحفظوا قولنا، وأطاعوا أمرنا، ولم يخالفوا فعلنا، فاولئك منا ونحن منهم) ([156])

ومثله قال الإمام الباقر : (شيعتنا ثلاثة أصناف: صنف يأكلون الناس بنا، وصنف كالزجاج ينم ([157])، وصنف كالذهب الأحمر كلما ادخل النار ازداد جودة) ([158])، وقال: (الشيعة ثلاثة أصناف: صنف يتزينون بنا، وصنف يستأكلون بنا، وصنف منا وإلينا) ([159])

وهكذا وردت النصوص الكثيرة عن أئمة أهل البيت تبين المنهج الصحيح لإثبات الولاية والمحبة، وهي اتباعهم في سلوكهم وأخلاقهم والقيم التي جاءوا بها، لا اتباع أعدائهم؛ فعن جابر قال: قال لي أبو جعفر : يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فو الله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس، إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء) ([160])

وقال: (يا معشر الشيعة- شيعة آل محمد- كونوا النمرقة الوسطى‏([161]) يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي)، فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: جعلت فداك ما الغالي؟ فقال: قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا فليس أولئك منا ولسنا منهم، قال: فما التالي؟ قال: المرتاد يريد الخير يبلّغه الخير يؤجر عليه) ([162])

وقال: (ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع والتخشع، وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين وتعهد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء) ([163])

وعن جابر بن يزيد الجعفي قال: خدمت سيدنا الإمام أبا جعفر محمد بن علي ثماني عشرة سنة فلما أردت الخروج ودّعته وقلت: أفدني. فقال: بعد ثماني عشرة سنة يا جابر؟ قلت: نعم إنكم بحر لا ينزف ولا يبلغ قعره. فقال: يا جابر بلّغ شيعتي عني السّلام وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجلّ، ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له. يا جابر من أطاع الله وأحبنا فهو وليّنا، ومن عصى الله لم ينفعه حبّنا. يا جابر من هذا الذي سأل الله فلم يعطه؟ أو توكل عليه فلم يكفه؟ أو وثق به فلم ينجه؟ يا جابر أنزل الدنيا منك كمنزل نزلته تريد التحويل عنه وهل الدنيا إلّا دابة ركبتها في منامك فاستيقظت وأنت على فراشك غير راكب، ولا آخذ بعنانها أو كثوب لبسته، أو كجارية وطئتها. يا جابر الدنيا عند ذوي الألباب كفي‏ء الظلال، لا إله إلّا الله إعزاز لأهل دعوته، الصلاة تثبيت للإخلاص، وتنزيه عن الكبر، والزكاة تزيد في الرزق، والصيام والحج تسكين القلوب، القصاص والحدود حقن الدماء، وحبنا أهل البيت نظام الدين، وجعلنا الله وإياكم من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) ([164])

وهكذا اتفقوا جميعا على أنه يستحيل أن تجتمع محبتهم مع محبة أعدائهم؛ فيستحيل على من يدافع عن يزيد أن يحب الإمام الحسين ، ويستحيل على من يدافع على معاوية أن يحب الإمام علي ، كما أنه من المستحيل على من يحب أبا جهل وأبا لهب أن يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث عن الإمام الباقر أنه قيل له: (رجل يحبّ أمير المؤمنين ولا يتبرّأ من عدوّه، ويقول: هو أحبّ إليّ ممّن خالفه)؛ فقال له الإمام الباقر : (هذا مخلط، وهو عدوّ، فلا تصلّ خلفه ولا كرامة إلّا أن تتّقيه)([165])

وعن الإمام الصادق أنه قال: (من أقام فرائض الله واجتنب محارم الله وأحسن الولاية لأهل بيت نبيّ الله وتبرّأ من أعداء الله عزّ وجلّ فليدخل من أيّ أبواب الجنّة الثمانية شاء)([166])

وبذلك؛ فإن محبة الإمام الحسين محبة ممتدة، ولها آثارها التربوية المشهودة في محبيه الصادقين، ذلك أنه يستحيل على من امتلأ قلبه بمحبته، أن يحيد عنه، أو يطلب الهدى عند غيره.

2 ـ البكاء والتأثر:

وهي من الشعائر التي ورد في الروايات الكثيرة المتواترة الترغيب فيها، وهي تدل على صدق المحبة، ولها آثارها التربوية الكبيرة، ذلك أن الدموع التي تنهمر تأثرا لما حصل للإمام الحسين ، ولأهل بيت النبوة، ستنهمر عند قراءة القرآن الكريم، وعند كل موقف من المواقف الإيمانية، وبذلك يصبح الإمام الحسين دواء لقسوة القلوب، وجلاء للران عنها.

وقد ورد في الروايات ما يدل على أن أول من سن سنة البكاء على الإمام الحسين هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق قال: (نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسين بن عليّ عليهما السّلام وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا، ثمّ قال : بأبي قتيل كلّ عبرة، قيل: وما قتيل كلّ عبرة يابن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمن إلّا بكى)([167])

وهكذا تناقل هذه السنة والعمل بها جميع أئمة أهل البيت ابتداء من الإمام علي نفسه، فقد روى الإمام الصادق عنه أنه: (نظر إلى الحسين؛ فقال: (يا عبرة كلّ مؤمن)، فقال: (أنا يا أبتاه؟) فقال: (نعم، يا بنيّ)([168])

وقال: (إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منّا وإلينا)([169])

وقال: (كلّ عين يوم القيامة باكية وكلّ عين يوم القيامة ساهرة، إلّا عين من اختصّه الله بكرامته، وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّد )([170])

وهكذا روى هذه السنة الإمام الحسين نفسه، والذي كان يعلم جيد المصير الذي يصير إليه بكل دقة ووضوح؛ فقد قال: (ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة، أو دمعت عيناه فينا دمعة، إلا بوأه الله بها الجنة حقبا)([171])، وقال مبشرا من يتشرفون بالبكاء عليه: (أنا قتيل العبرة، قتلت مكروبا، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط إلا رده الله إلى أهله مسرورا)([172])

وهكذا روى هذه السنة وطبقها في حياته الإمام السجاد ، فقد روي عنه قوله: (أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليّ دمعة حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنّة غرفا يسكنها أحقابا، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فينا لأذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله بها في الجنّة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار)([173])

ووصف الإمام الصادق كثرة بكائه على أبيه وسنته في ذلك؛ فقال: (بكى على أبيه حسين بن عليّ عليهما السّلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعاما إلّا بكى على الحسين حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك)([174])

وذكر أشرف مولى الإمام السجاد أنه رآه في سقيفة له ساجدا يبكي، فقال له: (يا مولاي يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي)؛ فرفع رأسه إليه، وقال: (ويلك، والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت حتّى قال: يا أسفى على يوسف، إنّه فقد ابنا واحدا، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي)، وقال: وكان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السّلام فأرقّ لهم)([175])

وهكذا روى هذه السنة وطبقها في حياته الإمام الصادق الذي كان يقول: (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن عليّ فإنّه فيه مأجور)([176])

وكان يقول: (نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله)، ثمّ قال: (يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب)([177])

وقال في حديث طويل له: (ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عزّ وجلّ، ولم يرض له بدون الجنّة)([178])

وذكر أبو عمارة المنشد حاله عند ذكر الإمام الحسين ، فقال: (ما ذكر الحسين عند أبي عبد الله في يوم قطّ فرئي أبو عبد الله متبسّما في ذلك اليوم إلى الليل، وكان يقول: الحسين عبرة كلّ مؤمن)([179])

وذكر حاله هارون بن خارجة، فقال: (كنّا عنده فذكرنا الحسين وعلى قاتله لعنة الله، فبكى أبو عبد الله وبكينا، قال: ثمّ رفع رأسه فقال: قال الحسين : (أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلّا بكى وذكر الحديث)([180])

وهكذا روى هذه السنة وطبقها في حياته الإمام الرضا الذي قال مخاطبا ابن شبيب وموصيا له، ومن خلاله يخاطب كل الأمة ويوصيها: (يابن شبيب، إن كنت باكيا لشي‏ء فابك للحسين بن عليّ، فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله.. يابن شبيب، إن بكيت على الحسين حتّى تصير دموعك على خدّيك، غفر الله لك كلّ ذنب أذنبته، صغيرا كان أو كبيرا، قليلا كان أو كثيرا.. يابن شبيب، إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين، فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.. يابن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلا أحبّ حجرا لحشره الله معه يوم القيامة)([181])

وذكر حال والده الكاظم ؛ فقال: (كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذى قتل فيه الحسين )([182])

هذه مجرد نماذج عن مواقف أئمة أهل البيت من البكاء على الإمام الحسين ، وتأثرهم لما حصل له، وهي كافية لمن يعرف قدرهم وشرفهم، ويحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، فهم لم يقولوا ذلك، ولم يفعلوه عبثا، وإنما لأدواره التربوية الكبيرة، والتي نرى بعض آثارها في عشاق الإمام الحسين ومحبيه، والذين يمتلئون بالرحمة واللين واللطف وكل الخلال الكريمة، بخلاف ما نراه في أعدائهم من القسوة والغلظة والخشونة.

وقد ذكر العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه [المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره] الكثير من النصوص والروايات الواردة في المصادر السنية، والتي ترد على المنكرين على هذه الشعيرة، ومنها ([183]) :

1. أنه متواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، إذ علم الناس كافة بكاءه يومئذ على عمه أسد الله وأسد رسوله، حتى قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من استيعابه : (لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق)، وذكر الواقدي ـ كما في شرح نهج البلاغة ـ : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يومئذ إذا بكت صفية يبكي، وإذا نشجت ينشج، قال : وجعلت فاطمة تبكي لما بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([184])

2. ومنها : يوم نعى زيدا وذا الجناحين وابن رواحة، فقد ذكر ابن عبد البر في ترجمة زيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى على جعفر وزيد، وقال: ( أخواي ومؤنساي ومحدثاي)([185])

3. ومنها : يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكى عليه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله ! قال : ( يابن عوف، إنها رحمة )، ثم قال : (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)([186])

4. ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن عمر، قال : اشتكى سعد، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جماعة من أصحابه، فوجده في غشية، فبكى . قال : فلما رأى القوم بكاءه بكوا . الحديث([187]).

وغيرها من الأخبار الكثيرة التي (لا تحصى ولا تستقصى كبكائه صلى الله عليه وآله وسلم على عترته من بعده، وبكائه على علي بن أبي طالب () لما سيلقاه من بعده، وبكائه على الحسين () لما أخبره جبرئيل بما سيجري عليه، وبكائه على شهداء فخ لما أخبره جبرئيل بالواقعة، وبكائه على جده عبد المطلب، وبكائه على أبي طالب، وبكائه على فاطمة بنت أسد، وبكائه على أمه عند قبرها، وبكائه على عثمان بن مظعون، وبكائه على سعد بن ربيع، وغيرها) ([188])

ونحب أن نختم هذه الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة بما ذكره بعض أهل العلم المعاصرين ردا على من يتصور عبثية ذلك البكاء، أو ينكر عليه لمخالفته للشريعة، فقد قال الشيخ عباس الاسماعيلي اليزدي في كتابه [ينابيع الحكمة] بعد أن أورد الكثير من الروايات في فضل البكاء على الإمام الحسين : (ولكن مع الأسف قد أنكر بعض الجهّال هذه الأحاديث، أو أوّلوها بما لا يلائم تلك الأحاديث الشريفة، وزعموا أنّ هذه الأحاديث لو صحّت سينجرّ باقتراف المعاصي وتعطيل الأحكام) ([189])

ثم ذكر أن هذا الموقف المجافي للحقيقة وللإمام الحسين ، ناشئ من عدم إعمال العقل والتدبر في آثار ذلك البكاء، والتي عبر عن بعضها بقوله: (عجبا كيف يتفوّه إنسان بهذه الكلمات الباردة مع العلم بأنّ البكاء على سيد الشهداء من أعظم القربات وأهمّ الموجبات لإفاقة العاصين وتوبتهم وهدايتهم إلى سواء الطريق، وما أكثر الحكايات التي شاهدناها أو نقلت إلينا من القصص الدالّة على توبة عدد غير يسير من الفاسقين الذين لا يتورّعون عن ارتكاب الذنوب، فتابوا وانطووا في عداد الصالحين، أو أفاقوا عن غفلتهم وشرعوا في التفكّر في إصلاح أنفسهم)([190])

ثم بين أن أئمة أهل البيت لم يقصدوا اختصار الشريعة في البكاء، وإنما اعتبروا البكاء وسيلة من وسائل التربية تضاف إلى سائر الوسائل الشرعية ولا تلغيها أو تنوب عنها، فقال: (أضف إلى ذلك أنّ أحدا من العقلاء ما قال: اذنب وابك لتغسل ذنبك! فإذا قال واحد مثلا: (إذا أصبت بالزكام فإن القرص الفلاني يعالجه) ليس معناه: اذهب لتصاب بالزكام؛ فمن أهمّ ما يجب على العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصدّ الناس عن المعاصي، وحيث إنّ اليأس من روح الله يعدّ من الذنوب الكبيرة.. فإنّهم يثيرون الأمل في قلوب العاصين من هذا الطريق كي يعالجوهم، ومن الواضح أنّ تعطيل مجالس العزاء مخافة اغترار الناس بأهل البيت كتعطيل المستشفيات مخافة اغترار الناس بدواعي الأمراض البدنيّة؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبعّد الناس عن الذنوب، كما يبعّدهم نشر مراكز الصحّة عن الأمراض، فإذا ظهرت آثار الأمراض في المجتمع، يكون إيجاد المستشفيات من الضروريّات، وهذا بعينه يصدق في قضيّة البكاء والعزاء على السبط الشهيد) ([191])

3 ـ الزيارات والمجالس:

وهي من الشعائر التي حفظت مسيرة الإمام الحسين ، ولا تزال تحفظها، بل تحولها إلى حركة مقدسة لتشمل جميع التاريخ، وجميع الجغرافية، حيث يلتقي جميع الموالين في رحابه، وهناك تندمج أهدافهم الواحدة لإحياء الأمة، وإعادة تصويب بوصلتها نحو الدين الحق.

ولهذا دأب الأعداء ـ وخصوصا من السلفية الموالين لبني أمية ـ على تحريم الزيارة، بل اعتبارها شركا، وكل ذلك خوفا من أن يصبح ضريح الإمام الحسين منارة هداية للأمة، أو مركزا للثورة على الطغيان، أو تعود ملحمة كربلاء من جديد، ويعود معها الإمام الحسين ، ومعه جميع مناصريه.

ولهذا دأب الحكام المستبدون على ارتكاب الجرائم في حق ضريح الإمام الحسين والمقامات المرتبطة بكربلاء وغيرها، حتى يثنوا الأمة عن زيارتها، خوفا من أن تكون منطلقا للثورة عليهم، وبذلك لم تكن مظلمة الإمام الحسين مظلمة واحدة، بل هي مظلمة ممتدة على مدار التاريخ.

وقد ذكر بعض ما حصل في العصور الأولى من مظالم تتعلق بضريح الإمام الحسين أبو الفرج الأصفهاني (المتوفى: 356هـ) في كتابه [مقاتل الطالبيين]، فقال: (كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره، يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كَرَبَ قبر الحسين وعَفَّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله، أوأنهكه عقوبة)([192])

وذكر سبب ذلك، فقال: (حدثني أحمد بن الجعد الوشاء وقد شاهد ذلك، قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان، فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين. فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست، واستصفى أملاكها) ([193])

وذكر جرائمه في حق المقام، فقال: (وبعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج وكان يهودياً فأسلم، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه، وإخراب كل ما حوله، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله، نحومائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه! وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه) ([194])

وذكر محمد بن جرير الطبري (المتوفى: 310هـ) هذه الجريمة البشعة، فقال: (ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي: وفيها (سنة ٢٣٦) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق [سجن مظلم تحت الأرض]، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه) ([195])

وقد ذم هذه الفعلة الشنيعة كل المسلمين ما عدا الطائفة الوهابية، التي أثنت على المتوكل بسبب هذه الجريمة وغيرها، واعتبروه ناصرا للسنة، وهو على خلاف ما ذهب إليه أهل السنة أنفسهم في ذلك العصر وبعده، فقد قال جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) بعد ذكره للحادثة: (فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك([196]):

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ

  قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله

   هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

  في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما

 لكن مع ذلك، ومع كل تلك التحذيرات والجرائم، ظل المسلمون يزورون القبر الشريف، وكل ما أحاط حوله من مشاهد، ويتحدونه على الرغم من المآسي الكبيرة التي حصلت لهم بسبب ذلك، وقد ذكر الطوسي ذلك، فقال في أماليه: (بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قواده، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً، ليشعب قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره ، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لوقتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها، والإنكفاء إلى المصر! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين ، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة. وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر)([197])

وقد عاصر هذه الأحداث الأليمة الإمام الهادي ، ووقف في وجهها حاضا مواليه على الزيارة، مبينا أهميتها وضرورتها، وقد كان يقول لهم: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)([198])

وعن إبراهيم بن عقبة قال: (كتبت إلى أبي الحسن الثالث: (الإمام الهادي ) أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين ، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفرمحمد بن علي  ببغداد؟ فكتب إليَّ: أبوعبد الله المقدم، وهذان أجمع وأعظم ثواباً)([199])

وهكذا نرى الكثير من الروايات عن سائر الأئمة تدل على مشروعية الزيارة، واستحبابها وكونها من أفضل الأعمال الصالحة([200])، لأنهم كانوا يدركون أنها تمثل امتدادا رسالية لمسيرة الإمام الحسين ، وتبين أنها لم تنته بعد، وأن ما وقع في كربلاء كان البداية، وأنه سيكون صمام أمان للأمة، وموجها نحو نهضتها وثورتها.

بل إن الأئمة ينصون على أن الذي شرع الزيارة، وأمر بها، هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق قال: بينما الحسين بن عليّ عليهما السّلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال له: (يا أبة، ما لمن زارك بعد موتك، فقال: يا بنيّ، من أتاني زائرا بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائرا بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائرا بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائرا بعد موتك فله الجنّة)([201])

وعنه قال: قال الحسين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما جزاء من زارك؟ فقال: (يا بنيّ، من زارني حيّا أو ميّتا أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك كان حقّا عليّ أن أزوره يوم القيامة حتّى أخلّصه من ذنوبه)([202])

وبناء على هذه السنة النبوية نص سائر الأئمة على فضل الزيارة، وكونها من أعظم القربات لله تعالى، ذلك لما لها من أدوار روحية وتربوية كبيرة، وأهمها إثبات صدق الولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأهل بيته، وحفظ وصيته في حقهم، وقد ذكر ذلك الإمام الرضا ، فقال: (إنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعائهم يوم القيامة)([203])

وقال الإمام الصادق : (لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن عليّ عليهما السّلام لكان تاركا حقّا من حقوق الله وحقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ حقّ‏ الحسين فريضة من الله واجبة على كلّ مسلم)([204])

وهكذا شرع جميع الأئمة ما يسمى بالمجالس الحسينية، وهي المجالس التي تستعاد فيها كربلاء، وأحداثها، لتكون عبرة ودروسا للأجيال، وقد قال الإمام الرضا عنها: (من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت‏ القلوب)([205])

وقال الإمام الصادق للفضيل: تجلسون وتتحدّثون؟ فقال: نعم، فقال: (إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر)([206])

ولهذا كانوا يشجعون الشعراء والأدباء على إحياء أحداث كربلاء والتعريف بها، لعلمهم بدورها الكبير في إحياء الأمة، وإعادتها إلى دين الله الأصيل، وقد روي عن محمد بن سهل قال: (دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق في أيام التشريق، فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ قال: إنها أيام عظام، قال: إنها فيكم، قال: هات، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده ـ في رثاء الحسين ـ فكثر البكاء، حتى أتى على هذا البيت:

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم

  فيا آخراً أسدى له الغي أول

 قال: فرفع أبو عبد الله يديه فقال: (اللهم اغفر للكميت ماقدّم وما أخر وما أسرّ وما أعلن حتى يرضى)([207])

وعن عبد الله بن غالب، قال: (دخلت على أبي عبد الله فأنشدته مرثية الحسين ، فلما انتهيت إلى قولي:

لبلية تسقو حسيناً

  بمسقاة الثرى غير التراب

 صاحت باكية من وراء الستر يا أبتاه) )([208])

وعن أبي عمارة قال: (قال لي أبو عبد الله : (يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين)، فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده وهو يبكي، حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال لي: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي (عليهما السلام)فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة)([209])

4 ـ الحركة والثورة:

وهي أعظم مظاهر الامتداد الرسالي لشخصية الإمام الحسين والقيم والتي مثلها في حياته، ولذلك إن قرأنا سيرته ـ وخاصة ما اختص منها بعاشوراء ـ بهذا النوع من القراءة، فسنفهم أسرار كل تلك التضحيات والمواقف، التي لم يرد منها أعيانها، وإنما أراد أن تكون رسائل للأمة تحركها في الوقت المناسب لتستعيد مكانتها في حركة التاريخ، ولتستعيد معها وعيها ودينها الأصيل الذي حاول المحرفون أن يغيروه.

ولهذا، فإن اسم الإمام الحسين بقي يردد في الأجيال جميعا، وبين البشر جميعا كرمز للثورة على الاستبداد والظلم، وكرمز لانتصار الدم على السيف.

ولم يعبر عن هذا الدور الرسالي العظيم المسلمون فقط، بل عبر عنه الكثير من القادة الفكريين والسياسيين في العالم، والذين بهرتهم قصة كربلاء، وعظم التضحيات التي وقعت فيها.

ولا بأس أن نورد هنا بعض شهاداتهم، والتي تدل على مدى الامتداد الرسالي لحركة الإمام الحسين ، والذي شمل الأرض جميعا، وهو رد على أولئك الذين أساءوا فهم حركته، ورموها بما سولت لهم نظرتهم القاصرة من قصور.

فغاندي الزعيم الروحي للهند خلال حركة الاستقلال، ورائد حركة اللا عنف، وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، والتي تمكنت الهند من خلالها من الاستقلال، وألهمت الكثير من حركات الحقوق المدنية والحرية في جميع أنحاء العالم، يذكر أنه استفاد منهجه وحركته وثورته السلمية من خلال مطالعته لقصة الإمام الحسين ، فقد قال: (لقد طالعت حياة الإمام الحسين ، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الإمام الحسين )([210])

ومثله محمد علي جناح، مؤسس دولة باكستان الذي قال: (لا تجد في العالم مثالاً للشجاعة كتضحية الإمام الحسين بنفسه، وأعتقد أن على جميع المسلمين أن يحذو حذو هذا الرجل القدوة الذي ضحّى بنفسه في أرض العراق)([211])

وقال علي خان، أول رئيس وزراء باكستاني: (لهذا اليوم من محرم مغزىً عميقاً لدى المسلمين في جميع أرجاء العالم؛ ففي مثل هذا اليوم وقعت واحدة أكثر الحوادث أُسىً وحزنا في تاريخ الإسلام. وكانت شهادة الإمام الحسين مع ما فيها من الحزن مؤشر ظفر نهائي للروح الإسلامية الحقيقية، لأنها كانت بمثابة التسليم الكامل للإرادة الإلهية. ونتعلم منها وجوب عدم الخوف والانحراف عن طريق الحقّ والعدالة مهما كان حجم المشاكل والأخطار)([212])

وقال تاملاس توندون، الهندوسي، والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي: (هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام) ([213])

وهكذا شهد الكثير من المؤرخين والمفكرين للإمام الحسين بانتصاره بدمه على سيف أعدائه، فقد قال توماس كارليل، الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي: (أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه) ([214])

وقال إدوارد براون، المستشرق الإنجليزي: (وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟ وحتّى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها) ([215])

وقال فردريك جيمس: (نداء الإمام الحسين وأي بطل شهيد آخر هو أن في هذا العالم مبادئ ثابتة في العدالة والرحمة والمودّة لا تغيير لها، ويؤكد لنا أنه كلّما ظهر شخص للدفاع عن هذه الصفات ودعا الناس إلى التمسّك بها، كتب لهذه القيم والمبادئ الثبات والديمومة)([216])

وقال ل.م.بويد: (من طبيعة الإنسان أنه يحب الجرأة والشجاعة والإقدام وعلو الروح والهمّة والشهامة. وهذا ما يدفع الحرية والعدالة الاستسلام أمام قوى الظلم والفساد. وهنا تكمن مروءة وعظمة الإمام الحسين . وأنه لمن دواعي سروري أن أكون ممن يثني من كل أعماقه على هذه التضحية الكبرى، على الرغم من مرور 1300 سنة على وقوعها)([217])

وقال واشنطن ايروينغ، المؤرخ الأمريكي الشهير: (كان بميسور الإمام الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لإرادة يزيد، إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سبباً لانبثاق الثورات في الإسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد خليفة، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لأجل إنقاذ الإسلام من مخالب بني أُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة، بينما سقط جسمه على رمضاء كربلاء اللاهبة، أيها البطل، ويا أسوة الشجاعة، ويا أيها الفارس يا حسين!) ([218])

وقال توماس ماساريك: (على الرغم من أن القساوسة لدينا يؤثرون على مشاعر الناس عبر ذكر مصائب المسيح. إلاّ أنك لا تجد لدى أتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الذي تجده لدى اتباع الحسين، ويبدو أن سبب ذلك يعود إلى أن مصائب المسيح إزاء مصائب الحسين لا تمثل إلاّ قشّة أمام طود عظيم) ([219])

وقال موريس دوكابري: (يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلط ونزوات يزيد. إذن تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة) ([220])

وقال المستشرق الألماني ماربين: (قدّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعز الناس لديه ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيّته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما. لقد أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أن الظلم والجور لا دوام له. وأنّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلاّ أنّه لا يعدو أن يكون أمام الحقّ والحقيقة إلاّ كريشة في مهب الريح) ([221])

وقال جورج جرداق، العالم والأديب المسيحي: (حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، كانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نقتل سبعين مرّة، فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أُخرى أيضاً ) ([222])

وقال انطوان بارا، الكاتب المسيحي:( لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين) ([223])

وقال كيبون، المؤرخ الإنجليزي: (على الرغم من مرور مدّة مديدة على واقعة كربلاء، ومع أننا لا يجمعنا مع صاحب الواقعة وطن واحد، ومع ذلك فإن المشاق والمآسي التي وقعت على الحسين تثير مشاعر القارئ وإن كان من أقسى الناس قلباً، ويستشعر في ذاته نوعاً من التعاطف والانجذاب إلى هذه الشخصية) ([224])

وقال نيكلسون، المستشرق المعروف: (كان بنوا أُميّة طغاة مستبدين، تجاهلوا أحكام الإسلام واستهانوا بالمسلمين، ولو درسنا التاريخ لوجدنا أن الدين قام ضد الطغيان والتسلّط، وأن الدولة الدينية قد واجهت النظم الإمبراطورية. وعلى هذا فالتاريخ يقضي بالإنصاف في أن دم الحسين في رقبة بني أُمية) ([225])

وقال السير برسي سايكوس، المستشرق الإنجليزي: (حقاً أن الشجاعة والبطولة التي أبدتها هذه الفئة القليلة، كانت على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد)([226])

وهكذا شهد الكثير من مفكري العرب والمسلمين ـ الذين لم تؤثر الوهابية على عقولهم ـ على مدى النجاح الذي حققته ثورة الإمام الحسين ، وكونها ثورت عبرت الأجيال جميعا، ليمتد أثرها للعالم أجمع، وفي جميع الأزمنة، ومن تلك الشهادات قول عباس محمود العقاد، الكاتب والأديب المصري: (ثورة الحسين، واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ لم يظهر نظير لها حتى الآن في مجال الدعوات الدينية أو الثورات السياسية؛ فلم تدم الدولة الأموية بعدها حتى بقدر عمر الإنسان الطبيعي، ولم يمضِ من تاريخ ثورة الحسين حتّى سقوطها أكثر من ستين سنة ونيّف) ([227])

وقال عبدالرحمن الشرقاوي، الكاتب المصري: (الحسين شهيد طريق الدين والحريّة، ولا يجب أن يفتخر الشيعة وحدهم باسم الحسين ، بل أن يفتخر جميع أحرار العالم بهذا الاسم الشريف) ([228])

وقال طه حسين، العالم والأديب المصري: (كان الحسين يتحرق شوقاً لاغتنام الفرصة واستئناف الجهاد والانطلاق من الموضع الذي كان أبوه يسير عليه؛ فقد أطلق الحرية بشأن معاوية وولاته، إلى حد جعل معاوية يتهدده. إلا أن الحسين ألزم أنصاره بالتمسك بالحق)([229])

وقال عبد الحميد جودة السحّار، الكاتب المصري: (لم يكن بوسع الحسين أن يبايع يزيدا، ويرضخ لحكمه؛ لأن مثل هذا العمل يعني تسويغ الفسق والفجور وتعزيز أركان الظلم والطغيان وإعانة الحكومة الباطلة. لم يكن الحسين راضياً على هذه الأعمال حتى وأن سبي أهله وعياله وقتل هو وأنصاره) ([230])

وقد كان الإمام الحسين فوق ذلك كله منبعا لثروة عظيمة في عالم الفكر والأدب، وصار مفجرا لأرقى المشاعر المرتبطة بأنبل المعاني الإنسانية، ولهذا لم يعد اسمه مجرد اسم عادي، وإنما صار رديفا لكل القيم الرفيعة التي أشار هذا الكتاب إلى بعضها.

وقد جمع السيد جواد شبر ـ أحد خطباء المنبر الحسيني ـ بعض ذلك في موسوعة بعنوان [أدب الطّف أو شعراء الحسين من القرن الأول الهجري حتی القرن الرابع عشر] وهي موسوعة من 10 أجزاء، ، ذكر فيها المؤلف الشعراء الذين رثوا الإمام الحسينع من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر، حيث ذكر أسماء الشعراء وتراجمهم في بداية كل قرن.

وقد ذكر السيد جواد في مقدمة الموسوعة دور الحركة الحسينية في توفير أرقى المشاعر النبيلة لدى الشعراء، فقال: (هذه الموسوعة تعطيك أوضح الصور عن أدب الشيعة، وعن عقائدهم واتجاهاتهم، وتمثل أصدق العواطف عن أحاسيسهم ومشاعرهم؛ فليس في الدنيا وقعة كوقعة الحسين هزّت العالم هزاً عنيفا، وأثرت أثرها الكبير في النفوس، وأهاجت اللوعة، واستدرت الدمعة، بل هي التي كونت فيهم هذا الأدب الثر، والشعور الفياض، وخلقت منهم أكبر عدد من الشعراء حتى قيل إن الادب شيعي، وقيل : وهل وجدت أديباً غير شيعيّ. ذلك لأن الكبت والألم يدفعان الانسان للنظم وتصوير الحال بلسان المقال، وما دام المرء يشعر بالثأر وحرارة الثكل لا ينام عن ثأره؛ فيندفع يصوّر حاله معدداً آلامه مسامراً أحزانه في لياليه وأيامه وفي خلواته ومجتمعاته)([231])

وذكر أن الموسوعة مع ضخامتها لم تغط إلا جزءا قليلا جدا من الثروة الشعرية التي كتبت في الإمام الحسين، فقال: (ولا اريد أن أجمع كل ما جاء من شعر الشعراء في الامام الحسين ويوم الحسين ولا اقدر أن اقوم بذلك بل غايتي أن أعرض نماذج من شعرهم وأعدّد أسماءهم)([232])

وضرب بعض الأمثلة على ذلك الثراء، فقال: (.. أن شاعراً واحداً وهو الشيخ أحمد البلادي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري نظم ألف قصيدة في رثاء الإمام الحسين ودوّنها في مجلدين ضخمين ـ كما روى ذلك الشيخ الاميني في موسوعته ـ وأن الشيخ الخليعي جمال الدين بن عبد العزيز وهو من شعراء القرن التاسع له ديوان شعر في الامام الحسين ، وإني وقفت على ديوان للشيخ حسن الدمستاني من شعراء القرن الثالث عشركله في يوم كربلاء، وللشيخ محمد الشويكي من شعراء القرن الثاني عشر ديوان في مدائح النبي وآله ، وآخر في مراثيهم اسماه (مسيل العبرات) يحتوى على خمسين قصيدة في أوزان مختلفة وبين ايدينا كتاب (المنتخب) للشيخ محي الدين الطريحي المتوفي في القرن الثاني عشر وفيه عشرات القصائد ولا يعلم قائلها ومثله مئات المقاتل التي تروي قصة الحسين وتثبت شواهد من الشعر الذي قيل في رثائه وبين أيدينا مجاميع خطية في المكتبات العامة والخاصة وفيها المئات من القصائد الحسينية ولم يذكر اسم ناظمها وقائلها) ([233])

وذكر السر في هذه الثروة العظيمة في الأدب والفكر والفن، فقال: (وهكذا كانت ثورة الحسين غطت بسناها المشارق والمغارب، واستخدمت العقول والأفكار؛ فهي نور يتوهج في قلوب المسلمين فيندفع الى افواههم مدحاً ورثاء ، وهي أنشودة العز في فم الاجيال تهز القلوب وتطربها وتحيي النفوس بالعزائم الحية ، ذلك لأن هدف الحسين ما كان هدفاً خاصاً حتى تختص به فئة دون فئة أو يقتصر على طائفة دون طائفة ، بل كان هدفاً عالمياً؛ فعلى كل ذي شعور حي أن يحتفل بذكراه) ([234])

وفوق ذلك كله، فقد كانت ثروة الإمام الحسين مصدرا لأعظم ثورة إسلامية في التاريخ، بل أعظم ثورة في تاريخ العالم أجمع، وهي ثورة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي لم تكن لتنجح ذلك النجاح الباهر لولا ارتباطها بعاشوراء والإمام الحسين ، ولذلك قال قائدها الأكبر: (إنّ ثورتنا هي امتداد لنهضة الحسين وإنّها تبع لتلك النهضة وشعاع من أشعّتها)([235])

وقال ـ مبينا أثرها في نجاح الثورة ـ (أجل إنّ الحقّ منتصر، لكن للنصر مفاتيح ورموزاً ينبغي لنا العثور عليها ومعرفتها.. علينا أن نعرف رمز بقاء الشيعة طوال الزمن الماضي منذ عصر أمير المؤمنين حتّى الآن… إنّ أحد هذه الرموز الكبرى ـ وهو أكبرهاـ قضيّة سيّد الشهداء وإذا أردنا أن يكون بلدنا مستقلّاً وحرّاً ينبغي أن نحفظ هذا الرمز)([236])

ويذكر أثر المجالس الحسينية، وما يرتبط بها في الحفاظ على الإسلام المحمدي الأصيل، وفي التحريض على الثورة، فيقول: (طوال التاريخ كانت مجالس العزاء ـ هذه الوسائل التنظيميّة ـ منتشرة في أرجاء البلدان الإسلاميّة وفي إيران صارت مهداً للإسلام والتشيّع. أخذت هذه المجالس تتحوّل إلى وسيلة لمواجهة الحكومات الّتي توالت على سدّة الحكم ساعية لاستئصال الإسلام وقلعه من جذوره والقضاء على العلماء. فهذه المجالس والمواكب هي الّتي تُمكِّننا من الوقوف بوجهها وإخافتها) ([237])

ويقول: (ولكنّكم ترون كيف أنّ هذه المجالس والمواكب الّتي ربطت الجماهير ببعضهم، هذه المآتم الّتي حرّكت الجماهير يلتئم شملها من جميع الشرائح الاجتماعية المعزّية بمجرّد أن يحصل أمر يستدعي التجمّع وليس في مدينة واحدة بل في كلّ أنحاء البلاد ودون الحاجة إلى بذل أو إعلام واسع النطاق. إنّ الناس يجتمعون على كلمة واحدة لمجرّد أنّهم يعتقدون أنّها خرجت من فم الحسين سيّد الشهداء )([238])

ويذكر الامتداد الرسالي في جانبه السياسي، والذي حرص الأئمة على الدعوة إليه لمواجهة الاستبداد، والدعوة إلى الإسلام الأصيل، فيقول: (الأهمّ من ذلك هو البعد السياسيّ الّذي خطّط له أئمّتنا  في صدر الإسلام كي يدوم حتّى النهاية وهو الاجتماع تحت لواء واحد وبهدف واحد، ولا يُمكن لأيّ شيء آخر أن يُحقّق ذلك بالقدر الّذي يفعله عزاء سيّد الشهداء )([239])

ويذكر أثرها في توفير البيئة الحاضنة للثورة الإسلامية، فيقول: (إنّ هذه المجالس الّتي تُذكر فيها مصائب سيّد المظلومين وتظهر مظلوميّة ذلك المؤمن الّذي ضحّى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله هي الّتي خرّجت أولئك الشبّان الّذين يتحرّقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها) ([240])

ويقول عن دورها في تربية النساء وتوعيتهن: (هذه المجالس هي الّتي خرّجت أمّهات يفقدن أبناءهنّ ثمّ يقُلن بأنّ لديهنّ غيرهم وأنّهنّ مستعدّات للتضحية بهم أيضاً، إنّها مجالس سيّد الشهداء ومجالس الأدعية من دعاء كميل وغيره هي الّتي تصنع مثل هذه النماذج وتبنيها)([241])

وما ذكره الإمام الخميني رحمه الله هو الواقع الذي أيدته كل الأحداث التاريخية التي حصلت قبل الثورة الإسلامية، وبعدها، ولهذا نرى فشل كل الحركات الإسلامية في مشاريعها بسبب عدم تبنيها لهذا المنهج، بخلاف الثورة الإسلامية الإيرانية التي استثمرت أحداث كربلاء في الدعوة إلى الإصلاح والثورة السلمية ضد الظلم والطغيان.

وبذلك نجح الإسلاميون في إيران أن يسقطوا دولة الشاه، ويقيموا دولة ولاية الفقيه، كما عبر الإمام الخميني عن ذلك بقوله: (كل ما عندنا من عاشوراء)، فقد كان الخطباء يحولون في هذه المناسبة وغيرها من الشاه الدكتاتور الطاغية يزيدا، ويحولون من الجماهير أنصارا للحسين، وقد استطاعوا بذلك أن يحيوا روح الثورة في الشعب ليسقط الطاغوت.

في نفس الوقت الذي عجز فيه الإسلاميون في مصر وغيرها ـ رغم طول فترة عملهم ـ من تحقيق مثل ذلك الإنجاز، لأنهم لم يدركوا ـ إدراكا كاملا ـ أن الجماهير لا تحركها الخطابات العقلية الجافة بقدر ما تحركها المؤثرات العاطفية، وخاصة تلك التي تعود لأسباب دينية.


([1]) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد b ، الصفار القمي، إعداد الحاج ميرزا محسن كوجه باغي التبريزي، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404 ه‍، قم: 1/11.

([2]) الإرشاد : 2 / 167، الخرائج والجرائح : 2 / 893، روضة الواعظين : 226 .

([3]) الكافي : 1 / 53 / 14 ، روضة الواعظين : 233.

([4]) رجال الكشّي، محمّد بن الحسن الطوسي، مشهد المقدّسة: جامعة مشهد، 1348ش، الطبعة الاُولى‏، 2 / 490.

([5]) الكافي : 3 / 94.

([6]) تفسير القمي، القمي، علي بن ابراهيم قم،إيران، مؤسسة دار الكتاب للطابعة والنشر، ط3، 1404هـ: 1 / 4.

([7]) الكافي : 1 / 294.

([8]) عيون أخبار الرضا : 1 / 204 ، الاحتجاج : 2 / 436.

([9]) إعلام الورى : 294، الاختصاص : 281.

([10]) الأمالي، المفيد، محمد بن محمد، قم،إيران، منشورات دار المدرسين في الحوزة العلمية، ط2، 1414هـ/1993م: 60 / 4.

([11]) نهج البلاغة : الخطبة 147، الكافي : 8 / 390.

([12]) رواه أحمد:1/151، وعبد الله فى زوائده على المسند، وأبو الشيخ، وابن مردويه، كنز العمال 4400.

([13]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، المحقق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 1992 م، 1/398.

([14]) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 / 201..

([15]) تاريخ ابن عساكر 4 / 312، اسد الغابة 2 / 19، الإصابة 1 / 222..

([16]) تاريخ اليعقوبي 2 / 219..

([17])المرجع السابق 2 / 219..

([18]) عيون الأخبار 2 / 273..

([19]) تاريخ ابن عساكر 4 / 312..

([20]) الخصال، ص 17..

([21])المرجع السابق ، ص 23..

([22]) الأربعين ـ لبهاء الدين العاملي / 111..

([23]) الخصال: 543 / 19، وص 542 / 18، بحار الأنوار 2: 156.

([24]) وقد طبع بتحقيق من سعد المبارك الحسن ، الطبعة الأولى، 1407 هـ، الدار السلفية، الكويت.

([25]) مسند الامام زيد، الامام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ص 185.

([26]) الخصال : 191.

([27]) مسند الفردوس 37 / 27..

([28]) الكافي: 1/60.

([29])المرجع السابق: 1/69.

([30]) مستدرك الوسائل: 17/304.

([31]) بحار الأنوار 43: 319، المناقب لابن شهرآشوب 3: 168،.

([32]) بحار الأنوار: 95/214.

([33]) بحار الأنوار: 95/ 224.

([34]) بحار الأنوار 44: 187 ، العوالم 17: 51.

([35]) كفاية الاثر : ص 232.

([36]) بحار الأنوار: 2 / 92 / 21 وص 93.

([37]) الأنوار البهية، الشيخ عباس القمي، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الأولى، ١٤١٧، 45.

([38]) تاريخ ابن عساكر 4 / 333..

([39]) أُصول الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، ط السادسة عام 1375 هـ ش، دار الكتب الإسلامية، طهران ، 2 / 273.

([40]) الاختصاص 225، أمالي الصدوق 167- 168.

([41]) بحار الانوار 22/ 412.

([42]) دعائم الاسلام 1: 143، مستدرك الوسائل 4: 17 حديث 4062، جامع الأحاديث 4: 623 حديث 1914..

([43]) كتاب سليم بن قيس الهلالي، سليم بن قيس الهلالي ، تحقيق: محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني، قم – إيران، الناشر: الهادي، ط 1، 1405 هـ، ج 2، ص 788 – 793..

([44]) هو أبو صادق سليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي (توفي 79 هـ)، من خواص أصحاب الأئمة الأربعة الأوائل من أئمة الشيعة(ع) ومورد ثقتهم ومقرّب لديهم ومحبوب عندهم وقد أدرك الإمام الباقر (ع)، ويُعَدُّ كتابه أوّل مدون شيعي ذكر فيه فضائل أهل البيت(ع)، ومعرفة الإمام، فضلاً عن ذكر الأحداث التي جرت بعد وفاة النبي(ص)، رجال النجاشي، أحمد بن علي بن أحمد النجاشي، قم المقدّسة: مؤسّسة النشر الإسلامي، 1407ق، الطبعة الاُولى‏، ص 8.

([45]) كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص793.

([46]) بحار الأنوار ج49 ص320 وج27 ص209 والأمالي للصدوق ص120 ، وعيون أخبار الرضا ج2 ص256 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص351 ..

([47]) عيون أخبار الرضا ج2 ص203 وبحار الأنوار ج49 ص285 وج27 ص213 ..

([48]) كفاية الأثر ص226 و227 والصراط المستقيم ج2 ص128 والأنوار البهية ص322 ط سنة 1417 هـ وبحار الأنوار ج27 ص364 وج44 ص139 ..

([49]) ابن حبان في صحيحه (6742)، وقال عنه الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث حسن، أحمد في مسنده (13539)، أبو يعلى (363).

([50]) المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 3/108.

([51]) الفتوح 5 / 33، مقتل الخوارزمي 1 / 188.

([52]) انساب الاشراف 3: 151.

([53]) تحف العقول : 237..

([54])المرجع السابق: 237..

([55])المرجع السابق: 238..

([56])المرجع السابق: 238..

([57])المرجع السابق: 239..

([58])المرجع السابق: 239..

([59]) أنساب الأشراف 3: 156.

([60]) الفتوح، 5: 18، وأنساب الاشراف، 3: 156، حديث 15، الارشاد: 221.

([61]) انظر: الفتوح 5: 26، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 19، مثير الأحزان 41، وغيرها.

([62]) منهاج السنة النبوية (4/ 529)

([63])المرجع السابق (4/ 529).

([64])المرجع السابق (4/ 529).

([65]) ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، المحقق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988 م، 1/270.

([66]) المرجع السابق، 1 /152.

([67]) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، محمد الخضري بك، المحقق: محمد العثماني، دار القلم، 1406 – 1986، 1 / 517.

([68]) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية،أحمد شلبي، مكتبة النهضة ، 2 / 201.

([69]) الدولة الأموية فى الشرق بين عوامل البناء ومعاول الفناء، محمد الطيب النجار، دار الاعتصام للطباعة والنشر والتوزيع، 1977، ص 102 .

([70]) صحيح البخاري (9/ 57)

([71])المرجع السابق (9/ 77)

([72]) البداية والنهاية: 8/334.

([73]) الفتوح 5: 26، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 19، مثير الأحزان 41، وغيرها.

([74]) (فيحلؤون) أي: يدفعون عن الماء، ويطردون عن وروده، ومن رواه «فيجلون» بالجيم، فهو من الجلاء: النفي عن الوطن، وهو راجع إلى الطرد.

([75]) رواه البخاري 11 / 413، ومسلم رقم (247)

([76]) رواه البخاري (8/150)

([77]) رواه البخاري (4/135) وفي (4/161) وفي (8/152) ومسلم (8/44) وفي (8/44 و45)

([78]) الأمالي: الصدوق، ص114.

([79]) المعارف، الدينوري، عبد الله بن مسلم، تحقيق: ثروت عكاشة، القاهرة – مصر، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، 1992 م، ص 204.

([80]) اللهوف، ابن طاووس، ص 34..

([81]) المرجع السابق، ص 34..

([82]) المرجع السابق: ص 35.

([83]) اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص 34 – 36..

([84]) الإرشاد، المفيد، ج 2، ص 66، أعيان الشيعة، الأميني، ج 1، ص 614.

([85]) فضل الكوفة ومساجدها، محمد بن جعفر المشهدي، دار المرتضى – بيروت، (ص: 66)

([86]) الأمين، أعيان الشيعة، ص 429. القمي، نفس المهموم، ص 285.

([87]) كتاب الفتوح، الكوفي، أحمد بن أعثم، تحقيق: علي شيري، بيروت ، لبنان، الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، 1411 هـ، ج5، ص94. الحائري، معالي السبطين، محمّد مهديّ الحائريّ المازندرانيّ، قم، منشورات الشريف الرضيّ، ج1، ص433. أبي مخنف، وقعة الطفّ، لوط بن يحيى الأزديّ، (أبو مخنف) تحقيق محمّد هادي اليوسفيّ، قم، انتشارات جامعة المدرّسين، 1367ش، ص 219-220.

([88]) تاريخ‏ الطبري، ج5، ص412، أعيان الشيعة، ج 7، ص 430، . أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيّين، علي بن الحسين، أبو الفرج الأصفهاني، قم،إيران، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر،ط2، 1385هـ/1965م، ص 78. ابن أعثم، الفتوح، ج 5، ص 92.

([89]) مقتل الحسين، الخوارزمي(ع)، ج 2، ص 34. المقرم، حادثه كربلا در مقتل مقرم، ص 262..

([90]) السيد بن طاوس، اللهوف، ص 117-118. الحلي، مثير الأحزان، ص 257..

([91]) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 108..

([92]) العباس عليه السلام، المُقرّم، السيّد عبد الرزّاق الموسوي، تحقيق: سماحة الشيخ محمّد الحسّون، سلسلة الكتب المؤلفة في أهل البيت عليهم السلام، إعداد مركز الأبحاث العقائدية، د م، د ت، ص153.

([93]) الصدوق، الخصال، ج 1، ص 68..

([94]) ابن عنبه، عمدة الطالب، ص 280. الأمين، أعيان الشيعة، ص 430.

([95]) ابن قولويه القمي، كامل الزيارات، ص 786..

([96]) بطل العلقميّ، عبد الواحد المظفّر، النجف الأشرف، مطبعة دار النشر والتأليف، 1369هـ، ج 2، ص 311.

([97]) الحائري، معالي السبطين، ج 1، ص 206..

([98]) بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 211.؛ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 446.

([99]) ابن طاووس، اللهوف، ص 139.؛ مقتل الحسين، الخوارزمي ، ج 2، ص 34..

([100]) وقعة الطف، أبو مخنف، ص 276.؛ تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 309..

([101]) مقتل الحسين، المقرم، ص 321.؛ الإرشاد، ج 2، ص 106..

([102]) مقتل الحسين، الخوارزمي، ج 2، ص 35..

([103]) اللهوف، ابن طاووس، ص 139، مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص 68..

([104]) مقتل الحسين، الخوارزمي، ج 2، ص35.؛ ابن طاووس، اللهوف، ص 139..

([105]) مقتل الحسين، الخوارزمي، ج 2، ص 35..

([106]) مقتل الحسين، الخوارزمي، ج 2، ص 35..

([107]) مقاتل الطالبين، أبو الفرج الأصفهاني، ص 115.؛ ابن طاووس، اللهوف، ص 49.؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 45، ص 44..

([108]) ابن طاووس، اللهوف، ص 4.؛ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 106.؛ ابن نما الحلي، مثير الأحزان، ص247.؛ أبو مخنف، وقعة الطف، ص 278.؛ ابن طاووس، اللهوف، ص 139.؛ المفيد، الإرشاد، ص 459..

([109]) المقرم، مقتل الحسين(ع)، ص 272.

([110]) ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 416…

([111]) الشيخ عباس القمي، نفس المهموم، ص۱۲۴..

([112]) ابن جرير، الطبري، ج۵، ص۳۵۲، ۳۵۵، ۴۱۶..

([113]) الأمين، أعيان الشيعة، ج۴، ص۵۵۴ ..

([114]) المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 98..

([115]) أبو مخنف، وقعة الطف، ص۲۶۵..

([116]) محمد مهدي الحائري، شجرة طوبى، ج 2، ص 442..

([117]) السيد بن طاوس، أقبال الأعمال، ص 229..

([118]) أنصار الحسين:93.

([119]) الكامل في التاريخ، ج4، ص 76-86 ، تاريخ الأمم والملوك، ج 76 ص 643-363 ؛ الإرشاد، ص 237؛ إعلام الوري، ص 142.

([120]) بحار الأنوار20:45، ابن طاووس، اللهوف، ص 64.

([121]) الطبري، تاريخ الطبري، ج 4، ص 332..

([122]) ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج 3، ص 77..

([123]) تاريخ الطبري، ج 4، ص 396 والشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 72 – 73.

([124]) أنساب الأشراف ج3، ص167- 168. وتاريخ الطبري ج4، ص 298، تنقيح المقال ج1، ص452-453.

([125]) أنساب الأشراف ج3، ص171. وتاريخ الطبري، المجلد 4، ص 305، والملهوف، ص 138.

([126]) عزرة بن قيس بن غزية الأحمسي البجلي الدهني الكوفي، ورد باسم عروة بن قيس في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (الإرشاد 2/ 38 و84 و95 و104)، وهو أحد قادة جيش عمر بن سعد، الذي قاتل الإمام الحسين في كربلاء، ولد قبل الهجرة النبوية الشريفة، وقد بعثه أبو بكر إلى أرض العراق، ثم استعمله عمر بن الخطاب والياً على حلوان، وحاول فتح شهرزور فلم يقدر عليها، وكان أحد الذين كاتبوا الإمام الحسين وطلبوا منه القدوم إلى الكوفة، وبعثه عمر بن سعد رسولاً إلى الإمام الحسين، وهو في نينوى – من أرض كربلاء – فاستحيا أن يأتيه، لأنه كان ممن كاتبه، وقد جعله ابن سعد قائداً على خيل أهل الكوفة التي سارت لقتال الإمام الحسين، وكان أحد الاشخاص الذين حملوا رأس الإمام الحسين  وأصحابه، وقدموا بها إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، انظر: مختصر تاريخ دمشق 17/ 33، تاريخ الطبري 3/ 317 و325، والكامل في التاريخ 3/ 38..

([127]) الفتوح ج 5، ص 177 -178 . أنساب الأشراف ج 3، ص 184 . مقتل الحسين الخوارزمي ج 1، ص 353 – 354 . تاريخ الطبري، المجلد 4، صص 315-316.

([128]) تاريخ الطبري، المجلد 4، ص 318. الأرشاد ج2 ص92. الملهوف، ص 153.

([129]) تاريخ الطبري، المجلد 4، صص 323-324. الكامل في التاريخ ج4، ص63-64. تاريخ اليعقوبي ج2، ص244-245. أنساب الأشراف ج3، ص188-189.

([130]) مقتل الحسين، الخوارزمي ج2، ص23.

([131]) الاقبال ج3، ص77-78.

([132]) أعيان الشيعة 7: 241.

([133]) بحار الأنوار 45: 21.

([134]) بحار الأنوار 45: 70.

([135]) الحدائق الورديّة، حسام الدين المحلّى، صنعاء، جامع النهرين: 1 / 117، مفتاح الافكار (ص 148) كشف الغمة 2 / 241.

([136]) تاريخ الطبري 3: 294، الفتوح 5: 71 ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 215.

([137]) اللهوف: 27، بحار الأنوار 44: 364، العوالم 17: 214، أعيان الشيعة 1: 593..

([138]) مهل أهل العراق، وهو الحدبين نجد وتهامة. وقيل: عرق جبل بطريق مكة، ومنه ذات عرق. معجم البلدان 4: 107.

([139]) الفتوح 5: 77، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 221، مثير الاحزان: 42، اللهوف: 30، بحار الأنوار 44: 367، العوالم 17: 217 ..

([140]) أنساب الاشراف 3: 165 حديث 29..

([141]) تاريخ الطبري 5 / 395..

([142])المرجع السابق 5 / 395..

([143])المرجع السابق 5 / 399..

([144]) اللهوف لإبن طاووس ص:50، اعيان الشيعة للسيد الأمين ج:1 ص:609، نفس المهموم للقمي ص:349.

([145]) ورد هذا الشعار في المصادر المختلفة السنية والشيعية، وقد كان شعار التوابين في ثورتهم، وشعار المختار عند قيامه، وكان من شعارات أهل خراسان في معركة الزابي.[ تاريخ الطبري، ج 4، ص 451، مقتل أبي مخنف، ص 283، ابن قتيبة، أخبار الطوال، ص 291، تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 33، ص 355]

كما أن الإمام الرضا ذكر هذا الشعار لابن شبيب، حين قال: (يا بن شبيب! إن كنت باكياً لشئ، فابك للحسين بن علي بن أبي طالب ، فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبّر إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين) [الصدوق، الأمالي، ص 192، الصدوق، عيون أخبار الرضا ، ص 268]

وورد في الروايات أيضا هذا الشعار باعتباره شعار الإمام المهدي عند ظهوره في آخر الزمان، فقد ورد في زيارته: (السلام على الإمام العالم، الغائب عن الأبصار، والحاضر في الأمصار، والغائب عن العيون، الحاضر في الأفكار، بقية الأخيار، الوارث ذا الفقار، الذي يظهر في بيت الله ذي الأستار، وينادي بشعار يا لثارات الحسين، أنا الطالب بالأوتار، أنا قاصم كل جبار، أنا حجة الله على كل كفور ختار، القائم المنتظر بن الحسن عليه واله أفضل السلام) [المشهدي، المزار، ص 107]

([146]) أمالي المفيد ص 7 م 2.

([147]) بحار الأنوار ج 27 ص 88 ح 39

([148]) مسلم في صحيحه (78)، والترمذي (5/306) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه(114) والنسائي (8/117) وفي خصائص علي (100-102)، وعبد الله بن أحمد في زياداته على الفضائل (1102) وأبو نعيم في الحلية (4/185)

([149]) البزار (كشف الأستار 3/169)، وعبد الله في زيادات الفضائل (1086)

([150]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 579).

([151]) انظر: المستدرك (3/130) الطبراني في المعجم الكبير(23/380/901) عن أم سلمة، وقال الهيثمي في المجمع (9/132): (وإسناده حسن)، وقد علق عليه الشيخ ممدوح بقوله: (فهذا طريقان للحديث كلاهما حسن لذاته، فالحديث: صحيح بهما)

([152]) أمالي الطوسي ج 1 ص 156

([153]) تحف العقول ص 230

([154])المرجع السابق ص 240

([155]) الخصال: 103 / 61

([156]) تحف العقول: 514

([157]) يعني لا يكتم السر ويذيع ما في باطنه من الأسرار

([158]) بحار الأنوار: 78 / 186 / 24

([159]) مشكاة الأنوار: 63

([160]) أصول الكافي 2/ 74.

([161]) النمرقة: الوسادة الصغيرة والتشبيه بها باعتبار أنها محل الاعتماد..

([162]) أصول الكافي 2/ 75.

([163]) تحف العقول، 295.

([164]) الأمالي، الشيخ الطوسيّ، 1/ 302.

([165]) الوسائل ج 8 ص 309 .

([166]) بحار الأنوار ج 27 ص 88 ح 37

([167]) المستدرك ج 10 ص 318 ب 49 من المزار ح 13

([168]) بحار الأنوار ج 44 ص 280 ح 10

([169]) بحار الأنوار ج 44 ص 287 ح 26

([170]) الخصال: 2/625..

([171]) أمالي المفيد 340، أمالي الطوسى 1: 116، المنتخب للطريحي 447، بحار الأنوار 44: 280 حديث 8.

([172]) كامل الزيارات 109، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال 219 حديث 52، بحار الأنوار 44: 279.

([173]) كامل الزيارات، ص 100 ب 32 ح 1

([174])المرجع السابق ، ص 107 ب 35 ح 1

([175])المرجع السابق ، ص 107 ح 2

([176])المرجع السابق ، ص 100 ح 2

([177]) بحار الأنوار ج 44 ص 278 باب ثواب البكاء على مصيبته عليه السّلام ح 4

([178]) كامل الزيارات، ص 100 ح 3

([179])المرجع السابق ، ص 108 ب 36 ح 2

([180])المرجع السابق ، ص 108 ح 6

([181]) الوسائل ج 14 ص 502 ، أمالي الصدوق ص 129 م 27 .

([182]) الوسائل ج 14 ص 504 ح 8

([183]) المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره، السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، تحقيق: فارس الحسّون، سلسلة الأبحاث العقائدية، دت، دط، ص14، فما بعدها.

([184]) مسند أحمد 2 / 40، الفصول المهمة / 92، السيرة الحلبية 2 / 247، الروض الانف 6 / 24 ..

([185]) ذخائر العقبى / 218، أنساب الأشراف / 43.

([186]) ذخائر العقبى / 155، سيرة ابن إسحاق / 270.

([187]) البخاري (1304)، ومسلم (924)

([188]) المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره، ص15.

([189]) ينابيع الحكمة، الشيخ عباس الاسماعيلي اليزدي، مسجد جمكران المقدس، الطبعة: الأولى، 1/299.

([190]) المرجع السابق، 1/299.

([191])المرجع السابق، 1 /301.

([192]) مقاتل الطالبيين (ص: 478)

([193])المرجع السابق (ص: 478)

([194])المرجع السابق (ص: 478)

([195]) تاريخ الطبري (٩ / ١٨٥)

([196]) تاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، المحقق: حمدي الدمرداش، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى: 1425هـ-2004م: ص ٣٧٤.

([197]) أمالي الطوسي / ٣٢٨.

([198]) الحبل المتين: ص ٢٢٨، ومصباح المتهجد: ص ٧٨٨.

([199]) المقنعة، الشيخ المفيد، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1410 ه‍ قم، ص ٤٨٢.

([200]) تحدثنا بتفصيل عن مشروعية زيارة العتبات المقدسة وأدورها التربوية في كتابنا [المزارات الدينية وأدوارها التربوية]

([201]) كامل الزيارات، ص 10 .

([202])المرجع السابق ، ص 11 .

([203])المرجع السابق ، ص 121 .

([204]) كامل الزيارات، ص 122.

([205]) العيون ج 1 ص 229 ب 28 ح 48

([206]) كامل الزيارات: 108، بحار الأنوار 44 / 280.

([207]) كامل الزيارات: 105، بحار الأنوار 44 / 286..

([208]) رجال الكشي: 187..

([209]) ثواب الاعمال: 47، كامل الزيارات: 100 و104، بحار الأنوار 44 / 288..

([210]) موسوعة عاشوراء، الشيخ جواد المحدثي، ترجمة: البيان للترجمة – خليل زامل العصامي، دار الرسول الاكرم – دار المحجة البيضاء، الطبعة: الاولى 1997م، ص290.

([211]) المرجع السابق، ص290.

([212]) المرجع السابق، ص292.

([213]) المرجع السابق، ص294.

([214]) المرجع السابق، ص291.

([215]) المرجع السابق، ص291.

([216]) المرجع السابق، ص291.

([217]) المرجع السابق، ص291.

([218]) المرجع السابق، ص291.

([219]) المرجع السابق، ص292.

([220]) المرجع السابق، ص292.

([221]) المرجع السابق، ص292.

([222]) المرجع السابق، ص293.

([223]) المرجع السابق، ص293.

([224]) المرجع السابق، ص293.

([225]) المرجع السابق، ص294.

([226]) المرجع السابق، ص294.

([227]) المرجع السابق، ص293.

([228]) المرجع السابق، ص294.

([229]) المرجع السابق، ص294.

([230]) المرجع السابق، ص295.

([231]) أدب الطف أو شعراء الحسين، شبر، جواد، بيروت، دار المرتضى، 1409 هـ/ 1988 م، ص17.

([232]) المرجع السابق، ص17.

([233]) المرجع السابق، ص18.

([234]) المرجع السابق، ص18.

([235]) نقلا عن : عاشوراء في فكر الإمام الخميني، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز نون للتأليف والترجمة، شبكة المعارف الإسلامية، 1432هـ، ص49.

([236]) المرجع السابق، ص49.

([237]) المرجع السابق، ص51.

([238]) المرجع السابق، ص52.

([239]) المرجع السابق، ص53.

([240]) المرجع السابق، ص54.

([241]) المرجع السابق، ص55.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *