الفصل الثالث: الإمام الحسين والقيم الأخلاقية

الفصل الثالث

الإمام الحسين والقيم الأخلاقية

تعتبر القيم الأخلاقية نتيجة حتمية لتغلغل القيم الإيمانية والروحية في النفس، ذلك أنه بقدر تعرف المؤمن على الله معرفة صحيحة، وبقدر تعلقه به، وتنفيذه لأوامره وتشريعاته، وتضحيته في سبيله تكون أخلاقه، فالدين ـ كما ورد في الأحاديث والروايات الكثيرة ـ عبارة عن أخلاق عالية رفيعة، تبدأ ممارستها مع الله بالأدب معه وتعظيمه، وتنتهي بالتعامل مع خلقه، وإنزالهم المنازل التي أمر الله أن ينزلوا فيها.

ولهذا كان التحقق بالفضائل الأخلاقية علامة على الكمال الإنساني، كما قال الله تعالى مثنيا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم:4)

ولهذا وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خياركم أحاسنكم أخلاقا)([1])، وقال:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)([2])

بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حسن الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا:(يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال:(المتكبرون)([3])

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)([4])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)([5])، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.

وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال:(تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:(الفم والفرج)([6])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)([7])

وبناء على هذا كانت القيم الأخلاقية من أهم القيم التي دعا إليها جميع أئمة أهل البيت ، ومثلوها في حياتهم أحسن تمثيل، وبإقرار الأمة جميعا، فقد كانوا يدعون إلى نفس ما كان يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل حين؛ ففي الحديث عن الإمام الباقر أنه قال: (إنّ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)([8])

وعن الإمام الصادق أنه قال: (ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه)([9])، وقال: (إنّ الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد)([10])

وبناء على هذا يمكن اعتبار حياة الإمام الحسين جميعا نموذجا جميلا وكاملا للأخلاق العالية الرفيعة، وكيف لا يكون كذلك، وقد رُبي في حجر الطهر والمثل العالية، وقد ورد في الروايات كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي يشرفان على تربيته، وتنمية الأخلاق العالية فيه.

ومن تلك الروايات ما روي أنه قيل له: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتمر من الصدقة، فأخذت منه تمرة فجعلت ألوكها، فأخذها مني بلعابها حتى ألقاها في التمر) وقال: إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة)([11])

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يدرب حفيده على الورع، والذي يعتبر أصلا من أصول الأخلاق، يحمي صاحبه من كل الرذائل، ويلزمه بكل الفضائل.

وكان الإمام الحسين لا يكتفي بتلك التوجيهات، وإنما كان يسأل كل حين والده عن الفضائل التي كان يتحلى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الأحاديث المشهورة له في ذلك ما روي عنه أنه قال: (سألت أبي عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (كان دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه مأذونا له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزّء دخوله ثلاثة أجزاء: جزء الله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزّء جزأه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدّخر عنهم منه شيئا)([12])

ثم راح أبوه الإمام علي يفصل له كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع الناس، فقال: (و كان من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم في ما أصلحهم وأصلح الأمّة، من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ويقول: أبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها، ثبّت الله قدميه يوم القيامة. ولا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. يدخلون روّادا- ولا يفترقون إلا عن ذواق- ويخرجون أدلّة فقهاء)

ثم سأله الإمام الحسين عن مخرجه صلى الله عليه وآله وسلم وكيف كان يصنع فيه، فأجابه الإمام علي بقوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيه، ويؤلّفهم ولا يفرّقهم، وكان يكرم كريم كل قوم ويولّيه عليهم. وكان يحذّر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويهوّنه. معتدل الأمر غير مختلف. لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا. وكان لكل حال عنده عتاد. وكان لا يقصر عن الحق ولا يجوزه. وكان الذين يلونه من الناس خيارهم. وكان أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة لهم)

ثم سأله عن مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابه بقوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جل اسمه، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه منه، حتى لا يحسب من جالسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يرجع إلا بها، أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء، وصدق وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا يوهن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، ترى جلساءه متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب)

ثم سأله عن سيرته في جلسائه صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابه بقوله: (كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه راجيه، ولا يخيّب فيه مؤمّليه. قد ترك نفسه من ثلاث: من المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطّير، فإذا سكت‏ تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه. ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، وكان يقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، وكان لا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام)

ثم سأله عن سكوته صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابه بقوله: (كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما التقدير ففي تسوية النظر، والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شي‏ء ولا يستفزّه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به. وتركه القبيح لينتهى عنه. واجتهاده الرأي في صلاح أمته. والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة) ([13])

فهذا الحديث العظيم الذي حفظه لنا الإمام الحسين موسوعة كاملة في الأخلاق وشمائل النبوة، وهو كاف وحده ليؤسس للقيم الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، ومثلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته خير تمثيل.

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أمهات الأخلاق الحسنة التي تمثلت في شخصية الإمام الحسين ، وكان دائم الدعوة إليها، وكلها مما له علاقة بحركته التصحيحية الكبرى التي حفظت أصالة الدين من أن تحرف.

وقد قسمناها من خلال تلك التصنيفات التي وضعها الإمام علي للأخلاق الحسنة، والتي عبر عنها بقوله: (إنّا لنحبّ من كان عاقلا فهما فقيها حليما مداريا صبورا صدوقا وفيا، إنّ الله خصّ الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك، ومن لم تكن فيه فليتضرّع إلى الله وليسأله إيّاها)، قيل: وما هنّ؟ قال: (هنّ الورع، والقناعة، والصبر، والشكر، والحلم، والحياء، والسخاء، والشجاعة، والغيرة والبرّ، وصدق الحديث، وأداء الأمانة)([14])

وقال في موضع آخر: (المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنّها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحرّ)، قيل: وما هنّ؟ قال: (صدق البأس‏([15])، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل، والمكافاة على الصنائع والتذمّم للجار، والتذمّم للصاحب، ورأسهنّ الحياء)([16])

وذكر الصفات الأساسية للإمام، فقال: (وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجأهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول‏ فيتّخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الامّة)([17])

وذكرها الإمام الرضا ، فقال: (للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس.. ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وامّهاتهم، ويكون أشدّ الناس تواضعا لله عزّ وجلّ)([18])

بناء على هذا رأينا أن هذه الصفات وغيرها يمكن اجتماعها في الأصناف السبعة التالية:

أولا ـ الصبر والرضى:

وهي أول القيم الأخلاقية وأساسها، وقد أخبر الله تعالى أنها من الصفات الأساسية التي لا يمكن للإمامة أن تتم من دونها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]

ذلك أن من سنة الله تعالى في أوليائه، والهداة إليه أن يبتليهم بأصناف البلاء، ليثبتوا عبر اختيارهم وسلوكهم مدى استحقاقهم للإمامة، كما قال تعالى عن إبراهيم : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة على حسب دينه)([19])

وقد ذكر الإمام السجاد للذين تصوروا أن الإمام بحكم مكانته من الله تعالى لن يحتاج إلى البلاء، وأنه في حصوله له يمكنه أن يتخلص منه بما آتاه الله من ولاية تكوينية؛ فقال: (جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تنال إلّا بالتسليم لله جلّ ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبرا لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلّا ما يريده لهم)([20])

ولذلك تعرض الإمام الحسين ـ بحكم إمامته الدينية التي شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للكثير من أنواع البلاء، ومنذ صغره الباكر إلى شهادته؛ وقد استطاع اجتيازها جميعا بنجاح، وأعطى بذلك أعظم الأمثلة في الصبر والرضى، ولذلك كان حقيقا بذلك الوصف الذي وُصف به في زيارة وارث من كونه وارثا لأولي العزم من الرسل، الذين أمر الله تعالى بالاهتداء بصبرهم؛ فقال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]

وقد ورد في الزيارة المعروفة بـ [الناحية المقدسة]([21]) الكثير من مظاهر صبره؛ حيث يقول الزائر فيها: (السلام على المرمل بالدماء، السلام على المهتوك الخباء، السلام على خامس أهل الكساء، السلام على غريب الغرباء، السلام على شهيد الشهداء، السلام على قتيل الأدعياء، السلام على ساكن كربلا، السلام على من بكته ملائكة السماء، السلام على من ذريته الأزكياء)([22])

وفيها يقول معددا بعض أنواع البلاء التي حصلت للإمام الحسين : (السلام على من نكثت ذمته، السلام على من هتكت حرمته، السلام على من أريق بالظلم دمه، السلام على المغسل بدم الجراح، السلام على المجرع بكأسات الرماح، السلام على المضام المستباح، السلام على المهجور في الورى، السلام على من تولى دفنه أهل القرى، السلام على المقطوع الوتين، السلام على المحامي بلا معين. السلام على الشيب الخضيب، السلام على الخد التريب السلام على البدن السليب، السلام على الثغر المقروع بالقضيب، السلام على الودج المقطوع، السلام على الرأس المرفوع)([23])

وفيها يقول معددا الآلام التي أصابت الأمة والدين بعد فقده: (لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا قواعد الإيمان، وحرفوا آيات القران، وهملجوا في البغي والعدوان. لقد اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موتورا، وعاد كتاب الله عز وجل مهجورا، وغودر الحق إذ قهرت مقهورا، وفقد بفقدك التكبير والتهليل، والتحريم والتحليل، والتنزيل والتأويل، وظهر بعدك التغيير والتبديل، والإلحاد والتعطيل، والأهواء والأضاليل والفتن) ([24])

وقد كان الإمام الحسين يقابل كل ذلك البلاء بما آتاه الله من يقين، وفي يوم عاشوراء، وأمام تلك المواقف الصعبة، كان يردد ـ مخاطبا الله تعالى ـ بقوله: (صبرا على قضائك يا رب لاإله سواك، يا غياث المستغيثين، مالي رب سواك ولا معبود غيرك، صبرا على حكمك يا غياث من لا غياث له، يا دائما لا نفاد له، يا محيى الموتى، يا قائما على كل نفس بما كسبت احكم بينى وبينهم وأنت خير الحاكمين)([25])

وقد ذكر الإمام السجاد حديث الإمام الحسين على ما سيصيبه من أنواع البلاء في كربلاء؛ فقال: (لما كان اليوم الذي استشهد فيه أبي، جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم فقال لهم: (يا أهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جملا لكم، وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكروا فيكم، فانجوا رحمكم الله وأنتم في حل وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني)، فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: والله يا سيدنا يا أبا عبد الله لا خذلناك أبدا، والله لا قال الناس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى قتل ونبلوا بيننا وبين الله عذرا ولا نخليك أو نقتل دونك. فقال لهم: (يا قوم اني غدا أقتل وتقتلون كلكم معي ولا يبقى منكم واحد)، فقالوا: الحمدلله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك، أولا ترضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟ فقال : (جزاكم الله خيرا)، ودعا لهم بخير، فقال له القاسم بن الحسن : وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه فقال له (يا بني كيف الموت عندك). قال: يا عم أحلى من العسل، فقال : (أي والله فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلوا ببلاء عظيم وابني عبد الله). فقال: يا عم ويصلون إلى النساء حتى يقتل عبد الله وهو رضيع؟ فقال : (فداك عمك يقتل عبد الله إذ جفت روحي عطشا، وصرت إلى خيمنا؛ فطلبت ماء ولبنا فلا أجد قط فأقول: ناولوني ابني لاشرب من فيه، فيأتوني به فيضعونه على يدي فأحمله لادنيه من في فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يناغي فيفيض دمه في كفي، فأرفعه الى السماء وأقول: اللهم صبرا واحتسابا فيك، فتعجلني الأسنة فيهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكر عليهم في أمر أوقات في الدنيا، فيكون ما يريد الله)([26])

والتأمل هذه الرواية وغيرها من الروايات التي تحكي ما حصل للإمام الحسين وأهل بيته في كربلاء وغيرها، نرى أنه تخلق بما هو أكبر من الصبر، وهو الرضى، ذلك أن الرضى مرتبة أعلى من الصبر؛ فالصبر فيه بعض المعاناة، ذلك أن الصابر يحاول أن يحبس نفسه، ويكفها عن السخط مع وجود الألم الذي يتمنى زواله، بخلاف الرضا الذي يوافق الصبر في حبس النفس، لكنه يزيد عليه بعدم تمني زوال الألم، لأن الراضي يختار ما اختار الله له؛ فلذلك ينشرح صدره بما حصل له من دون ألم.

وقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر ما يعبر عن هذه المرتبة الروحانية العظيمة، فقد روي عنه أنه قال: (مرضت مرضا شديدا فقال لي أبي : ما تشتهي؟ فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا اقترح على الله ربي سوى ما يدبره لي، فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حيث قال له جبرائيل : هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي، بل حسبي الله ونعم الوكيل)([27])

ولهذا نرى الإمام الحسين ـ كما في الرواية السابقة ـ يعلم بدقة ما سيحصل له، ومع ذلك يقدم عليه، ويتجرع كأس البلاء بتلك السعادة التي عبر عنها بقوله في دعاء عرفة: (إلى من تكلني إلى القريب يقطعني، أم إلى البعيد يتجهمني، أم إلى المستضعفين لي، وأنت ربّي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي وبعد داري وهواني على من ملّكته أمري، اللهم فلا تحلل بي غضبك، فإن لم تكن غضبت عليّ فلا أبالي سواك غير أنّ عافيتك أوسع لي، فأسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات وانكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن لا تميتني على غضبك ولا تنزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى قبل ذلك لا إله إلّا أنت)([28])

وقد تحقق له بذلك ما نص عليه قوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، وقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]

فالإمام الحسين باع نفسه لله، وهاجر في سبيله، وقدم كل ما يملك من أهل ومال وعافية قربانا لله تعالى، وطلبا لرضوانه، ومصدر ذلك كله هو يقينه في الله تعالى، فاليقين بالله، وبما عند الله هو الذي يجعل صاحبه راضيا مطمئنا مهما حصل له من أنواع البلاء، ولهذا جمع الله تعالى بين الصبر واليقين عند ذكره للإمامة؛ فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]

وقد ذكر أبو حامد الغزالي علاقة الرضا باليقين، وذلك جوابا لمن تصور أن الرضا خاص بالنعمة، وليس له علاقة بالبلاء، فقال: (اعلم أنّ من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلّا الصبر فأمّا الرّضا فلا يتصوّر فإنّما أتى من ناحية إنكار المحبّة فأمّا إذا ثبت تصوّر الحبّ لله تعالى واستغراق الهمّ به فلا يخفى أنّ الحبّ يورث الرّضا بأفعال الحبيب) ([29])

ثم استدل لذلك بوجهين: أولهما (أن يبطل الإحساس بالألم حتّى يجري عليه المؤلم ولا يحسّ به وتصيبه جراحة وهو لا يدرك ألمها، ومثاله الرّجل المحارب فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها فإذا رأى الدّم استدلّ به على الجراحة بل الّذي يعدو في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه بل الّذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألّم به فإن كان مشغول القلب بمهمّ من مهمّاته فيفرغ المزيّن أو الحجّام وهو لا يشعر به وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه، قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه) ([30])

وأما الثاني، فهو (الرضا به، لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب ورضا له؛ فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد المحب في مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده سرور قلب محبوبه ورضاه ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه كما قيل: (فما لجرح إذا أرضاكم ألم)، وهذا ممكن مع الإحساس بالألم، وقد يستولي الحب بحيث يدهش عن إدراك الألم، فالقياس والتجربة والمشاهدة دالة على وجوده، فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه، فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه) ([31])

وكل هذه الأوصاف التي ذكرها الغزالي تنطبق تماما على الإمام الحسين ، بل هو من أكبر مصاديقها، ذلك أنه كان قد سمع منذ صغره الباكر بتلك الروايات التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها أنه سيقتل، وأنه سيتعرض لبلاء عظيم، ومع ذلك لم يجزع ولم يبدو منه إلا محبة الله، والرضا بما كتب له، بل السرور به، لأنه موافق لمرضاة الله.

أما ما تذكره بعض الروايات من ألمه وحزنه؛ فهو ليس لأجل نفسه، وإنما لأجل الأمة التي راحت تهجره وتستبدله بغيره مع كونه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووراثه، وهو يشبه بذلك الحزن الذي كان يصيب جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]

 بل ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى أن حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه كاد يُهلكه، حتى نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فَاطر: 8]، وقال: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، وقال: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 7]

وهكذا يقال في خروجه من مكة والمدينة وكل البلاد التي يتسلط عليها بنو أمية، والذي بُرر في بعض الروايات بالخشية من الاغتيال، وهو مقصد شرعي، وخوف الإمام الحسين فيه، ليس لأجل نفسه، وإنما لأجل الأمة؛ فهو يريد من موته أن يكون رسالة ممتدة لأجيال الأمة، وليس موتا عاديا، أو قتلة عادية لا تتأثر لها الأجيال، ولا تستفيد منها، ولا تستدل بها على ذلك الظلم الذي وقع للإسلام من المحرفين له، والبغاة على نبيه وأهل بيته.

وقد كان خروجه فوق ذلك امتثالا لأمر الله تعالى للمستضعفين المظلومين بالهرب إلى بلاد الله الواسعة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]

ثانيا ـ الصدق والثبات:

وهي من أعظم القيم التي وصف الله بها عباده المؤمنين الصادقين، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]

وكلاهما مقترنان؛ فالصدق في الإيمان والإرادة والعزم، يؤدي إلى ثبات صاحبه في المواقف وعدم تزحزحه أو فراره، أو ارتداده، والثبات دليل على تغلغل شجرة الإيمان في القلب، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24]

وهذه الآية الكريمة تصف الإمام الحسين أصدق وصف، فهو متغلغل الجذور في الصدق والثبات، ذلك أنه كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جده، ومع أهل الكساء في خيمة الطهارة والعصمة والنبل، وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحصل النقض والنكث والمروق من الذين خانوا العهود، ولم يفوا بها، كان مع أبيه الإمام مواليا له، ومحافظا على ذلك العهد الذي عاهده عليه، وظل يناصره إلى أن كتب الله له الشهادة، وعندما توفي أبوه، حافظ على ولائه لأخيه ، وظل يناصره إلى أن سار في الطريقة الشهادة الذي سار عليه أبوه من قبل.

وعندما جاءت نوبته، وهو يعلم البلاء الخاص الذي ابتلي به من دون سائر المؤمنين، لم يتزحزع عن مواقفه، بل ظل ثابتا، وراح يواجه التحريفات بنفسه، وأتباعه القليلين إلى أن رزقه الله الشهادة الخاصة التي لم يرزق أحد مثلها، ولذلك استحق من جده لقب السيادة؛ فالسيد هو الثابت على الحق، غير الناقض للعهود، ولذلك يستحق أن يكون علما للهداية، وسراطا مستقيما للحق.

وقد ورد في الروايات الكثيرة التي اتفق عليها مؤرخو الفريقين من المدرسة السنية والشيعية أن كثيرا ممن يعتبرون من فضلاء أقوامهم حاولوا أن يثنوا الإمام الحسين عن مسيرته وحركته، ويحذروه من الأخطار التي تنتظره، لكنه ـ مع علمه بكل ذلك ـ لم ينصع لتحذيراتهم، لأنه لا يتلقى تعليماته منهم، وإنما يتلقاها من مصدر الهداية، الذي أعلمه بالرسالة التي كلف بها.

ولذلك قابل كل تحذيراتهم بالسكوت أو بالأسف، لأن موقف المحذرين كان يستدعي التبيعة للإمام، والقيام بالتكليف الشرعي في نصرته، لكنهم استبدلوا موقف التبعية بموقف الأستاذية، وتصوروا أنهم أئمة لإمامهم.

وفي مقابل تلك المواقف الممتلئة بالوهن والعجز والتثبيط نجد موقف أصحاب الإمام الحسين وأهل بيته الذين وقفوا معه على الرغم من إخباره لهم بالمصير الذي سيصيرون إليه، فقد جمعهم قبل المعركة؛ فقال: (إني لا أعلم أصحابا أصح منكم ولا أعدل ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عني خيرا، فهذا الليل قد أقبل فقوموا واتخذوا جملا، وليأخذ كل رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم)([32])

حينها قام أخوه العباس وغيره من أقاربه ليعبروا عن ذلك الصدق والثبات الذي نتج عن ولائهم لأهل بيت النبوة، فقالوا: (لم نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا)، فقال لهم الإمام الحسين : (يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم)، فقالوا: (سبحان الله.. ما نقول للناس؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك)([33])

ثم قام مسلم بن عوسجة، فقال: (أنحن نخلي عنك، بما نعتذر إلى الله في أداء حقك ؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، لا والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك، أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)([34])

وقام زهير بن القين، وقال: (والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك)([35])

وهكذا برهن أصحاب الإمام الحسين عن صدق ولائهم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيت رسوله ، وأحيوا بذلك تلك السنة التي يمثلها الصادقون من أتباع الرسل، كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23] في مقابل أولئك القاعدين الناكثين للعهود، والذين أخبر الله تعالى عنهم، فقال: ﴿ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22]

وتلك المواقف الإيمانية تذكرنا بموقف الصادقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر من أمثال المقداد بن الأسود الذي قام مجيبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس الموقف الذي وقفه الإمام الحسين قائلا: (يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ﴾ [المائدة 24] ولكن اذهب أنت ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه)، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له خيرا ودعا له([36]).

ولذلك استحق الثناء العظيم من أئمة أهل البيت ، لصدقه وثباته، فقد قال فيه الإمام الصادق : (إنما منزلة المقداد في هذه الأُمة كمنزلة ألف في القرآن، لا يلزق بها شيء)([37])

ومما كتبه الإمام الرضا للمأمون في محض الإسلام، وشرائع الدين، والولاية لأمير المؤمنين: (والذين مضوا على منهاج نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغيروا، ولم يبدِّلوا، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمِقداد بن الأسود)([38])

ثالثا ـ الشجاعة والإقدام:

وهي من الصفات التي تمثل الشخصية المتكاملة، والتي وصف الله بها أنبياءه وورثتهم الذين واجهوا أقوامهم بكل قوة، ولم يدخل قلوبهم فزع ولا هيبة ولا جبن، قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 146، 147]

وضرب بعض النماذج عن ذلك، ومنهم داود الذي ذكر أنه كان من النفر القليل الثابتين في جهادهم ضد عدو بني إسرائيل، وأنه كان بشجاعته وإقدامه سبب انتصاراتهم، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: 250، 251]

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثالا للشجاعة والإقدام والبطولة، وقد حدث عن نفسه؛ فقال: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم بأن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل)([39])

وذكر أنس بن مالك بعض مظاهر شجاعته؛ فقال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم على فرس، وقال: وجدناه بحرا)([40])

وذكرها البراء بن عازب حين سأله رجل، فقال له: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: (أشهد على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة. فرموهم برشق من نبل. كأنها رجل من جراد. فانكشفوا. فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته. فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك)([41])

ثم عقب البراء على ذلك بقوله: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([42])

وكان الإمام علي في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده نموذجا حيا ومثاليا لها، حتى أن المؤرخين يؤكدون بالأدلة الدامغة، أنه كان السبب الأكبر في كل الانتصارات التي حصلت للمسلمين، ولذلك بارزه المشركون والطلقاء العداوة.

ومن الأمثلة على تلك الشجاعة ما ذكره الإمام علي في محاجته للمنكرين لحقه، حيث قال لهم في معرض ذلك: (نشدتكم بالله هل فيكم أحد مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه، وأعطاه الراية يوم خيبر فلم يجد حراً ولا برداً غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قتل مرحباً اليهودي مبارزة فارس اليهود غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد احتمل باب خيبر حين فتحها فمشى به مائة ذراع ثم عالجه بعده أربعون رجلا فلم يطيقوه غيري؟ قالوا: لا)([43])

وهكذا ورث الإمام الحسين ـ تلميذ القرآن الكريم ووارث الأنبياء ـ عن أبيه وجده الشجاعة والإقدام، فكان بطلا في كل المعارك التي خاضها، ومنها معركة صفين التي خاضها مع أبيه، ومن مشاهد شجاعته فيها، ما رواه عبد الله بن قيس، قال: كنت مع من غزى مع أمير المؤمنين في صفين، وقد اخذ أبو أيوب الاعور السلمي الماء وحرزه عن الناس، فشكى المسلمون العطش، فأرسل فوارس على كشفه، فانحرفوا خائبين، فضاق صدره، فقال له ولده الحسين : (أمضي إليه يا أبتاه) ؟ فقال امض يا ولدي، فمضى مع فوارس فهزم أبا ايوب عن الماء، وبنى خيمته وحط فوارسه، وأتي إلى أبيه وأخبره، فبكى أمير المؤمنين ، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ وهذا أول فتح ببركة الحسين . فقال: (ذكرت أنه سيقتل عطشانا بطف كربلا، حتى ينفر فرسه ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لامة قتلت ابن بنت نبيها)([44])

أما في كربلاء، فقد شهد له كل المؤرخين أنه أبلى فيها بلاء حسنا على الرغم من كثرة المحيطين به وشراستهم، وقد وصف بعض الشعراء مواقفه الشجاعة في كربلاء، فقال([45]):

طعمت أن تسومه الضيم قوم

   وأبى الله والحسام الصنيع

كيف يلوى على الدنية جيدا

   لسوى الله ما لواه الخضوع

فأبى أن يعيش الا عزيزا

   أو تجلى الكفاح وهو صريع

فتلقى الجموع فردا ولكن

   كل عضو في الروع منه

جموع زوج السيف بالنفوس ولكن

   مهرها الموت والخضاب النجيع

 وسر ذلك هو إيمانه القوي بالله، وبالمصير الذي يصير إليه، وبحقانية القضية التي يحملها، ويتحمل في سبيلها كل ألوان الألم والتعب، وقد قال الفخر الرازي ـ معبرا عن دور الإيمان في الشجاعة: (إن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا، ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (والله، ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولكن بقوة ربانية)، وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء، فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة، فلاجرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره، وكذلك العبد إذا واضب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله: (كنت له سمعا وبصرا)؛ فإذا صار نور جلال الله سمعا له سمع القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب) ([46])

والشجاعة التي مثلها الإمام الحسين لم تكن قاصرة على المعارك فقط، بل كانت عامة في جميع سلوكياته ومواقفه، والتي لم تكن لتكون كذلك، لولا شجاعته؛ فقد اتفق علماء السلوك والأخلاق على اعتبار الشجاعة أساسا من الأسس الكبرى التي تقوم عليها الفضائل الخلقية، وقد قال الطرطوشي معبرا عن ذلك: (اعلم أن كل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة، ألا ترى أنك إذا هممت أن تمنح شيئا من مالك خار طبعك، ووهن قلبك، وعجزت نفسك، فشححت به، وإذا حققت عزمك، وقويت نفسك، وقهرت ذلك العجز، أخرجت المال المضنون به، وعلى قدر قوة القلب وضعفه تكون طيبة النفس بإخراجه، أو كراهية النفس لإخراجه مع إخراجه، وعلى هذا النمط جميع الفضائل، مهما لم تقارنها قوة نفس لم تتحقق، وكانت مخدوعة. فالجبان يفر عن أمه وأبيه. والشجاع يقاتل عمن لا يثوب به إلى رحله، فبقوة القلب يصاب امتثال الأوامر والانتهاء عن الزواجر، وبقوة القلب يصاب اكتساب الفضائل، وبقوة القلب ينتهى عن اتباع الهوى والتضمخ بالرذائل. وبقوة القلب يصبر الجليس على إيذاء الجليس وجفاء الصاحب، وبقوة القلب يكتم الأسرار ويدفع العار، وبقوة القلب يقتحم الأمور الصعاب، وبقوة القلب يتحمل أثقال المكاره، وبقوة القلب يصبر على أخلاق الرجال، وبقوة القلب تنفذ كل عزيمة أوجبها الحزم والعدل) ([47])

ولهذا ورد في النصوص المقدسة ذم الجبن، واعتباره من المهلكات العظيمة التي تدفع صاحبها إلى المهانة والذل والطمع والكسل (وحبّ الراحة، وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمّله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة، وتعطيل مقاصده وترك بعض تكاليفه كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها) ([48])

ولهذا قال تعالى في وصف المنافقين يوم الأحزاب: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 19، 20]

وقال في وصف حالتهم مطلقا: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4]

وهكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، بل اعتبره من المهلكات التي توبق صاحبها، فقال في وصيته للإمام علي : (يا عليّ، لا تشاورنّ جبانا، فإنّه يضيّق عليك المخرج.. واعلم يا عليّ، أنّ الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظنّ بالله)([49])

وقال الإمام علي : (البخل عار والجبن منقصة)([50])

ونفى الإمام الباقر الإيمان الحقيقي الكامل عن الجبان؛ فقال: (لا يؤمن رجل فيه الشحّ والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جبانا ولا حريصا ولا شحيحا)([51])

وانطلاقا من هذه النصوص يمكن تفسير كل ما حصل من تخلف عن الإمام الحسين ، ونقض للعهود المرتبطة به وبأبيه وأخيه ، بهذه الخصلة الذميمة، التي جعلت كبار القوم يتركون حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقبلون ببيعة يزيد خوفا وجبنا وحرصا على الحياة.

رابعا ـ العزة والأنفة:

وهي من الصفات التي وصف الله بها عباده المؤمنين الممثلين للدين الحقيقي، والذين يستبدل الله بهم المغيرين والمبدلين، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]

فهذه الصفات جميعا تنطبق على الإمام الحسين الذي خرج مع تلك الثلة المؤمنة القليلة ليواجه أكبر حركة تحريفية حصلت للإسلام، تريد أن تحوله إلى دين كسروي وقيصري، لا علاقة له بالحياة، ولا بالسياسة، ولا بهموم الناس.

ولذلك عبر الإمام الحسين عن تلك الحركة بذلك الشعار الذي لا يزال يردده الحسينيون إلى اليوم، وهو قوله: (ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوسٌ أبيّة وأنوفٌ حميّة مِنْ أنْ نؤثرَ طاعة اللئام على مصارع الكرام)([52])

وقال مخاطبا أولئك الجبناء الذين قعدوا عن مواجهة الباطل، واستسلموا للدنيا وأهوائها: (إنه قد نزل من الامر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، واستمرت جدا ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا، فاني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما، وإن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون)([53])

ثم أنشد متمثّلا:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

  إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما

و واسى الرجال الصالحين بنفسه‏

  و فارق مذموما وخالف مجرما

أقدّم نفسي لا أريد بقاءها

  لنلقى خميسا في الهياج عرمرما

فإن عشت لم أذمم وإن متّ لم ألم

  كفى بك ذلا أن تعيش فترغما

 وقال: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون)([54])

وعندما عزم على مغادرة الحجاز والتوجه الى العراق اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجاج وأهل مكة، فخطب فيهم قائلا: (الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني اكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى)([55])

وقد كانت هذه الكلمات وغيرها هي الشعارات التي حركت ما حصل في التاريخ الإسلامي من ثورات على الظلم والاستبداد، والتي اتخذ فيها المسلمون الإمام الحسين أسوة لهم في مقارعة الظالمين، وعدم السكون للظلمة والمستبدين.

ولهذا وصف الإمام الحسين بكونه أبي الضيم وشديد العزة([56])، وقال ابن أبي الحديد في وصفه: (سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية، والموت تحت ظلال السيوف اختيارا على الدنية، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عرض عليه الأمان هو وأصحابه فأنف من الذل، وخاف ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله، فاختار الموت على ذلك)([57])

ثم راح يذكر بعض ما قيل من أشعار في عزته وحميته وإبائه للضيم، ومنها قوله: (سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين([58]):

وقد كان فوت الموت سهلا فرده

   إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

 ونفس تعاف العار حتى كأنه

   هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

 فأثبت في مستنقع الموت رجله

  وقال لها من تحت أخمصك الحشر

 تردى ثياب الموت حمرا فما بدا

  لها الليل إلا وهي من سندس خضر

 وهكذا نجد كل الشعراء يثنون على العزة الحسينية التي جعلته مثالا ونموذجا للسيد الحقيقي الذي يأبى الخضوع والذلة، ومنهم السيد حيدر الحلي الذي قال في بعض قصائده([59]):

طمعت أن تسومه القوم ضيما

  وأبى الله والحسام الصنيع

 كيف يلوي على الدنية جيدا

  لسوى الله ما لواه الخضوع

ولديه جأش أرد من الدرع

   لضمأى القنا وهن شروع

 وبه يرجع الحفاظ لصدر

   ضاقت الأرض وهي فيه تضيع

 فأبى أن يعيش إلا عزيزا

   أو تجلى الكفاح وهو صريع

 وقال في قصيدة أخرى يصف إباء الحسين ([60]) :

لقد مات لكن ميتة هاشمية

   لهم عرفت تحت القنا المتقصد

 كريم أبى شم الدنية أنفه

  فأشممه شوك الوشيج المسدد

 وقال قفي يا نفس وقفة وارد

   حياض الردى لا وقفة المتردد

 رأى أن ظهر الذل أخشن مركبا

  من الموت حيث الموت منه بمرصد

 فآثر أن يسعى على جمرة الوغى

  برجل ولا يعطي المقادة عن يد

 خامسا ـ المروءة والشهامة:

وهي من الصفات التي اعتبرها أئمة أهل البيت من صفات الرسل وورثتهم الأساسية، كما قال الإمام الصادق : (إنّ الله عزّ وجلّ خصّ رسله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله، واعلموا أنّ ذلك من خير، وإن لا تكن فيكم فاسألوا الله وارغبوا إليه فيها، قال: فذكر ها عشرة: اليقين، والقناعة، والصبر، والشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء، والغيرة، والشجاعة، والمروءة)([61])

وعرفها في حديث آخر بقوله: (المروءة مروءتان: مروءة في السفر ومروءة في الحضر، فأمّا مروّة الحضر، فتلاوة القرآن وحضور المساجد وصحبة أهل الخير، والنظر في الفقه، وأمّا مروءة السفر، فبذل الزاد، والمزاح في غير ما يسخط الله عزّ وجلّ، وقلّة الخلاف على من صحبك، وترك الرواية عليهم إذا أنت فارقتهم، وكثرة ذكر الله في كلّ مصعد ومهبط ونزول وقيام وقعود)([62])

وذكر الإمام علي شروطها، فقال: (بالصدق والوفاء تكمل المروءة لأهلها)([63])

وقد ورد ذكرها في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)([64])

وورد في حديث آخر بمعناها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل كريم يحب الكرماء ويحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)([65])

وبناء على هذه النصوص وغيرها عرفها علماء الأخلاق بكونها (مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق)([66])

وقال آخر: (المروءة هي الإنسانية. وقيل هي الرجولية الكاملة)([67]) .

وقال آخر: (هي قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وعرفا)([68])

وهي بذلك تجتمع مع كثير من الأخلاق الطيبة المقاربة لها كالشهامة والشرف والنبل وعلو الهمة، وغيرها، ونحن لا تعنينا المصطلحات بقدر ما تعنينا المعاني.

وقد أشار إليها الإمام الحسين في بعض خطبه، حين قال: (يا أيها الناس نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوا، واكسبوا الحمد بالنجح، ولا تكتسبوا بالمطل ذمّا فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافأته فإنه أجزل عطاء، وأعظم أجرا، واعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملّوا النعم فتحور نقما، واعلموا أن المعروف مكسب حمدا، ومعقب أجرا، فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا، مشوّها تنفّر منه القلوب وتغضّ دونه الأبصار)([69])

ثم قال: (أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفى عن قدرة، وإن أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها بفروعها تسمو، فمن تعجّل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو اكثر منه، ومن نفّس كربة مؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن احسن احسن الله اليه، والله يحب المحسنين)

وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض مظاهرها عند ذكره لقصة موسى ، وخاصة هذا المشهد الذي يمثل المروءة والشهامة بأنبل معانيها، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24]

وهكذا ذكر هذا الخلق العظيم في قصة يوسف ، وكيف أنه أجاب العزيز إلى طلبه مع كونه في السجن، من غير أن يشترط إخراجه منه، بل أجاب بكل أريحية، قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 45 – 49]

وذكر القرآن الكريم كذلك موقفه عندما طلب منه الملك المجيء إليه، فهو لم يستغل الفرصة، ويسرع بالخروج على الرغم من كونه كان في السجن، ولفترة طويلة، وإنما راح يطلب تبرئة ساحته قبل ذلك، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 50]

وهكذا ذكرها القرآن الكريم عندما أشاد بأولئك ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]

وذكرها في الآيات التي تشيد بأهل بيت النبوة وأخلاقهم العالية، وذلك عند ذكره للأبرار الذين ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 8 – 10]

وعند تطبيق هذه المعاني على حياة الإمام الحسين نجدها مملوءة بالنبل والمروءة والشهامة والهمة العالية، ولذلك لا يمكن اختصار أخلاقه في أي مشهد من المشاهد، ذلك أنه دفع حياته الكريمة ثمنا لمروءته ونبله؛ فهو الذي قام مع ثلة محدودة جدا في وجه أكبر قوة عاتية طاغية، لينصر المستضعفين، ويرد حقوقهم، ولا زال إلى الآن مثالا للنبل والشهامة والأخلاق العالية.

ولكن مع مع ذلك نذكر هنا بعض مشاهد مروءته، كما رواه الرواة عنه، ومنها ما روي أنه دخل المستراح؛ فوجد لقمة ملقاة، فدفعها إلى غلام له، فقال: يا غلام اذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت فأكلها الغلام، فلما خرج الإمام الحسين قال: يا غلام أين اللقمة؟ قال: أكلتها يا مولاي. قال: أنت حرّ لوجه الله تعالى. قال له رجل: أعتقته يا سيدي؟ قال: نعم، سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من وجد لقمة ملقاة فمسح منها، أو غسل ما عليها ثمّ أكلها لم تستقرّ في جوفه إلّا أعتقه الله من النار، ولم أكن لأستعبد رجلا أعتقه الله تعالى من النار)([70])

وروي أنّ رجلا قال له: اجلس حتّى نتناظر في الدين، فقال: (يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلا بدينك فاذهب واطلبه، ما لي وللمماراة؟! وانّ الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كي لا يظنّوا بك العجز والجهل، ثم المراء لا يخلو من أربعة أوجه: إمّا أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان فقد تركتما بذلك النصيحة وطلبتما الفضيحة وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه فأظهرتما جهلا وخاصمتما جهلا، أو تعلمه أنت فظلمت صاحبك بطلبك عثرته، أو يعلمه صاحبك فتركت حرمته ولم تنزله منزلته. وهذا كلّه محال، فمن أنصف وقبل الحقّ وترك المماراة فقد أوثق إيمانه، وأحسن صحبة دينه، وصان عقله) ([71])

وروي أنه دخل على أسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: واغمّاه. فقال له الحسين : وما غمّك يا أخي؟ قال: ديني وهو ستّون ألف درهم. فقال الحسين: هو عليّ! قال: إنّي أخشى أن أموت. فقال الحسين: لن تموت حتّى أقضيها عنك. قال: فقضاها قبل موته([72]).

وروي أن أعرابيا قدم المدينة، فسأل عن أكرم الناس بها، فدلّ على الحسين ، فدخل المسجد فوجده مصلّيا فوقف بإزائه وأنشأ يقول:

لم يخب الآن من رجاك ومن

  حرّك من دون بابك الحلقه‏

أنت جواد وأنت معتمد

  أبوك قد كان قاتل الفسقه‏

لو لا الّذي كان من أوائلكم

  كانت علينا الجحيم منطبقه‏

 قال: فسلّم الحسين وقال: يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شي‏ء؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فقال: هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا، ثم نزع برديه ولفّ الدنانير فيها وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابي وأنشأ يقول:

خذها فإنّي إليك معتذر

  و اعلم بأنّي عليك ذو شفقه‏

لو كان في سيرنا الغداة عصا

  أمست سمانا عليك مندفقه‏

لكنّ ريب الزمان ذو غير

  و الكفّ منّي قليلة النفقه‏

 قال: فأخذها الأعرابي وبكى، فقال له: لعلّك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك([73]).

وروي عنه أنه قال: (صحّ عندي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه، فإنّي رأيت غلاما يواكل كلبا، فقلت له في ذلك، فقال: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّي مغموم أطلب سرورا بسروره لأنّ صاحبي يهودي أريد أفارقه، فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمنا له، فقال اليهودي: الغلام فداء لخطاك، وهذا البستان له ورددت عليك المال، فقال : وأنا قد وهبت لك المال، فقال: قبلت المال ووهبته للغلام، فقال الحسين : أعتقت الغلام ووهبته له جميعا، فقالت امرأته: قد أسلمت ووهبت زوجي مهري، فقال اليهودي: وأنا أيضا أسلمت وأعطيتها هذه الدار)([74])

وروي عن أنس قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية فحيّته بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله، فقلت: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال: كذا أدّبنا الله، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ الله كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86]، وكان أحسن منها عتقها)([75])

ومنها ما روي أنه جاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة فقال : (يا أخا الأنصار صن وجهك عن بذلة المسألة وارفع حاجتك في رقعة، فإنّي آت فيها ما سارّك إن شاء الله)، فكتب: يا أبا عبد الله إن لفلان عليّ خمسمائة دينار وقد ألحّ بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الحسين الرقعة دخل إلى منزله فأخرج صرّة فيها ألف دينار، وقال له: (أما خمسمائة فاقض بها دينك وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلّا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروّة، أو حسب، فأمّا ذو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروّة فإنّه يستحيي لمروّته، وأما ذو الحسب فيعلم إنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك)([76])

ومنها ما روي أن غلاما للحسين جنى جناية توجب العقاب عليه، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: 134]، قال: خلّوا عنه، فقال: يا مولاي‏ ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134]، قال: قد عفوت عنك، قال: يا مولاي‏ ﴿وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، قال: أنت حرّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك)([77])

ومنها ما روي أنه مر براع فأهدى الراعى إليه شاة، فقال له الإمام الحسين : حر أنت أم مملوك ؟ فقال: مملوك، فردها الحسين عليه فقال له المملوك: إنها لى، فقبلها منه ثم اشتراه واشترى الغنم فأعتقه وجعل الغنم له([78]) .

وهكذا كان يراعي مروءته في أحلك الظروف التي مر بها في كربلاء، فقد روي أن زهير بن القين طلب من الإمام الحسين منازلة الحر وأصحابه، قبل أن يجتمع الجيش، وقال له: (بأبي وأمي يا ابن رسول الله، والله لو لم يأتنا غير هؤلاء لكان لنا فيهم كفاية، فكيف بمن سيأتينا من غيرهم ؟ فهلم بنا نناجز هؤلاء، فإن قتال هؤلاء أيسر علينا من قتال من يأتينا من غيرهم)، فقال له الحسين : (إني أكره أن أبدأهم بقتال حتى يبدأوا)([79])

وقد كانت هذه الروايات وغيرها، سببا في ظهور من يطلق عليهم لقب (الفتيان)، وأطلق على سلوكهم لقب (الفتوة)، ولعل هذا الاصطلاح ناشئ من أن أكثر من يتخصص في هذا الجانب يكون من الفتيان والشباب([80])، كما نجد في وقتنا أكثر من ينتسب للكشافة من الشباب والأحداث.

وهي ـ كما عرفها بعضهم ـ (منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، فهي استعمال حسن الخلق معهم، فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله)([81])

وعرفها آخر، فقال:(والفتوة من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة وحسن الخلق والإيثار على النفس واحتمال الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه والقوة على ذلك، حتى تكون فتوته على ذلك فتوة الفتيان والصفح عن العثرات ويكون خصما لربه على نفسه وينصف من نفسه ولا ينتصف ولا ينازع فقيرا ولا غنيا ويستوي عنده المدح والذم والدعاء والطرد ولا يحتجب ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا فإذا قوي على ذلك فهو الفتى وإذا اجتمع قوم على ذلك وتعاهدوا عليه فنعم ما هو)([82])

وهي قريبة من المروءة، وإن كان (المروءة) أعم منها، لأنها (استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره، وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره)([83])

وقد ذكر ابن القيم أن أقدم من تكلم في الفتوة الإمام جعفر الصادق ، ثم الفضيل بن عياض والإمام أحمد وسهل بن عبدالله والجنيد ثم الطائفة، فذكر عن الإمام جعفر الصادق أنه سئل عن الفتوة فقال للسائل:(ما تقول أنت؟) فقال:(إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت)، فقال:(الكلاب عندنا كذلك)، فقال السائل:(يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما الفتوة عندكم؟)، فقال:(إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا) ([84])

سادسا ـ الزهد والورع:

وهما صفتان مرتبطتان ارتباطا ضروريا، ذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك زهد ما لم يسبقه ورع، ولا يمكن أن يتم ورع ما لم يكن صاحبه ممتلئا بالزهد في الدنيا وزخارفها؛ فحب الدنيا رأس كل خطيئة، وحطام الدنيا يجر بعضه إلى بعضه إلى أن يوصل صاحبه إلى اقتحام حرمات الله، والتخلي عما يقتضيه الورع من مراعاة الاحتياط.

ولهذا نرى في كلمات الأئمة الجمع بين هاتين الصفتين والحث عليهما، فقد روي أن رجلا سأل الإمام السجاد عن الزهد، فقال: (عشرة أشياء؛ فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا)([85])

وهذا الحديث يشير إلى إلى أن الزهد هو أبو الفضائل، كما أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ذلك أن الرجل ـ بحسب الرواية ـ لا يكون ورعا حتّى يكون زاهدا، ولا يكون موقنا حتّى يكون ورعا، ولا يكون راضيا إلّا أن يكون موقنا، وبذلك فإن الزهد يجرّ إلى الورع، والورع يجر إلى اليقين، واليقين يجر إلى الرضا، وهكذا تُسلم الفضائل الأخلاقية بعضها إلى بعض.

وهذا المعنى الوارد في رواية أئمة أهل البيت من المعاني القرآنية والنبوية التي لا يجادل فيها أحد، فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالزهد في حطام الدنيا، ويخبره أن ما عند الله خير وأبقى، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أهلكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 131، 132]

وهكذا نرى في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته العطرة الروايات الكثيرة التي تخبر عن تقلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، وتنفيره منها، ودعوته إلى الرغبة في الآخرة، وفيما عند الله تعالى.

وعلى هذا المنهج سار الإمام الحسين ؛ فحياته وسلوكه وأكثر مواعظه كانت تحذيرا من الدنيا، والرغبة فيها، وبيع الآخرة لأجلها، لأنه رأى أن ما حصل من تبديل وتغيير وتحريف للدين وقيمه، لم ينشأ إلا بسبب حب الدنيا والاستكثار منها.

ولهذا صار خاصة الناس وعامتهم يرضون بني أمية، ويتبعونهم، لا لأن الحق معهم، فهم موقنون أن الحق مع آل بيت النبوة ، ولكن اتبعوهم طمعا في زخرف الحياة الدنيا، وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: حدّثني أبي عن أبيه أن رجلا من أهل الكوفة كتب إلى أبي الحسين بن علي يا سيّدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة فكتب صلوات الله عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسّلام)([86])

وكان يخبرهم أن سر الزهد يكمن في اليقين فيما عند الله؛ فمن عرف قدرة الله وفضله الواسع، احتقر الحياة الدنيا، ولم يبال بها، وكيف يفعل ذلك، وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقد روي عن الإمام السجاد أنه قال: ( لمّا اشتدّ الأمر بالإمام الحسين نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت! فقال لهم الإمام الحسين : (صبرا بني الكرام! فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت، ولا كذبت)([87])

وروي عنه أنه قال: (خرجنا مع الحسين فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلّا وذكر يحيى ابن زكريّا وقال يوما: من هوان الدنيا على الله عزّ وجلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدى إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل)([88])

وقال في بعض مواعظه: (إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، بحرها وبرّها، سهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظِلال)([89])

وقال: (ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة ـ يعني الدنيا ـ لأهلها، ليس لأنفسكم ثمّ إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها؛ فإنه مَن رضى الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس) ([90])

وسأله بعضهم: كيف أصبحت يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ففقال: (أصبحت ولي ربّ فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والاُمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، وإن شاء عفا عنّي، فأيّ فقير أفقر منّي؟)([91])

وقال في موعظة أخرى: (يابن آدم، تفكّر وقل: أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمّروا خرابها، واحتفروا أنهارها، وغرسوا أشجارها، ومدّنوا مدائنها؟ فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقون. يابن آدم، اذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعك بين يدي الله، تشهد جوارحك عليك يوم تزول فيه الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتبيّض وجوه، وتبدو السرائر، ويُوضع الميزان القسط، يابن آدم، اذكر مصارع آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيث حلّوا، وكأنّك عن قليل قد حللت محلّهم، وصرت عبرة المعتبر)([92])

ثمّ أنشد يقول:

أين الملوكُ التي عن حفظها غفلتْ

   حتّى سقاها بكأسِ الموت ساقيها

تلك المدائنُ في الآفاق خاليةً

  عادت خراباً وذاق الموتُ بانيها

 أموالنا لذوي الورّاث نجمعُها

  ودورنا لخراب الدهرِ نبنيها

 ولكن مع ذلك كله لم يكن ليفعل ما فعله أولئك الذين جرهم ما يعتبرونه زهدا إلى تحريم الحلال، أو ترك الطيبات، التي نهى الله عن تحريمها، فقال: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]

ولهذا، فقد روي أنه دخل عليه قوم؛ فقالوا: يا بن رسول الله نرى في منزلك أشياء مكروهة ـ وقد رأوا في منزله بساطا ونمارق ـ فقال: (إنّما نتزوّج النساء فنعطيهنّ مهورهنّ، فيشترين بها ما شئن، ليس لنا منه شي‏ء)([93])

وهذا يذكرنا بالإمام الرضا الذي روي أن سفيان الثوري لقيه في ثوب خز، فقال: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو لبست ثوبا أدنى من هذا، فقال: هات يدك؛ فأخذ بيده، وأدخل كمه؛ فإذا تحت ذلك مسح، فقال: (يا سفيان الخز للخلق والمسح للحق)([94])

سابعا ـ التواضع والألفة:

وكلاهما من الصفات الضرورية التي وصف الله تعالى بها أنبياءه ورسله وأولياءه ، والتي جعلت المستضعفين ينجذبون إليهم، فرارا من كبرياء المستكبرين وتجبرهم، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

وقال مخبرا عن صفوة عباده، الذين سماهم عباد الرحمن: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَأهلونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]

ووصف عباده الذين يحافظون على قيم الدين في الوقت الذي يبدل فيه غيرهم؛ فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]

وكل هذه الصفات اجتمعت في الإمام الحسين وفي جميع أئمة أهل البيت الذين وقفوا بقوة وعزة في وجوه المستبدين والمستكبرين في نفس الوقت الذي كانوا فيه ألين الناس مع العامة والضعفاء، امتثالا لقوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]

ومما يروى عن الإمام الحسين في ذلك أنه مرّ بمساكين قد بسطوا كساء لهم فألقوا عليه كسرا، فقالوا: هلمّ يا بن رسول الله.. فأكل معهم، ثم تلا قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23]، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعمى عين، فقاموا معه حتى أتوا منزله، فقال للرباب: (اخرجي ما كنت تدّخرين)([95])

وروي أن أعرابيّا جاءه وقال: يا ابن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال : (أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثى المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل). فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل مثلى، وأنت من أهل العلم والشرف ؟ فقال الحسين (بلى، سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المعروف بقدر المعرفة. فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فإن أجبت وإلا تعلمت منك. فقال الحسين : (أي الأعمال أفضل؟)، فقال الاعرابي: الايمان بالله، فقال الحسين : (فما النجاة من المهلكة؟)، فقال الاعرابي: الثقة بالله، فقال الحسين : (فما يزين الرجل؟) فقال الأعرابي: علم معه حلم. فقال الحسين : (فإن أخطأه ذلك)، فقال الأعرابي: مال معه مرؤة، فقال الحسين : (فإن أخطاه ذلك؟)، فقال الأعرابي: فقر معه صبر. فقال الحسين : (فإن اخطأه ذلك؟)، فقال الاعرابي: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فإنه أهل لذلك، فضحك الحسين ورمى إليه بصرة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مئتا درهم، وقال الحسين : (يا اعرابي أعط الذهب غرماءك، واصرف الخاتم في نفقتك)، فأخذ الأعرابي المال وقال: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124])([96])

وروي أنه كان جالسا في مسجد جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أخيه الحسن ، وكان عبد الله بن الزبير جالسا في ناحية المسجد، وعتبة بن أبي سفيان في ناحية أخرى، فجاء أعرابي على ناقة فعقلها باب المسجد ودخل، فوقف على عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد ، فقال له الأعرابي: إني قتلت ابن عم لي وطولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئا؟، فرفع رأسه إلى غلامه، وطلب منه أن يدفع له مائة درهم، فقال الأعرابي: ما أريد إلا الدية تماما. ثم تركه، وأتى عبد الله بن الزبير وقال له مثل ما قال لعتبة، فقال عبد الله لغلامه: ادفع إليه مائتي درهم، فقال الأعرابي: ما أريد إلا الدية تماما. ثم تركه، وأتى الحسين فسلم عليه وقال: يا ابن رسول الله إني قتلت ابن عم لي وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئا ؟ فقال له: (يا أعرابي نحن قوم لا نعطي المعروف إلا على قدر المعرفة). فقال: سل ما تريد. فقال له الحسين : (يا إعرابي ما النجاة من الهلكة) ؟ قال: التوكل على الله عزوجل، فقال : (وما الهمة) ؟ قال: الثقة بالله، ثم سأله الحسين غير ذلك وأجاب الأعرابي فأمر له الحسين بعشرة آلاف درهم وقال له: (هذه لقضاء ديونك، وعشرة آلاف درهم أخرى وقال: هذه تلم بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق منها على عيالك)، فأنشأ الأعرابي يقول([97]):

طربت وما هاج لي معبق

  ولا لي مقام ولا معشق

ولكن طربت لآل الرسول

  فلذ لي الشعر والمنطق

هم الأكرمون هم الأنجبون

  نجوم السماء بهم تشرق

سبقت الأنام إلى المكرمات

   فقصر عن سبقك السبق

بكم فتح الله باب الرشاد

  وباب الفساد بكم مغلق

 وفوق هذا كله، فقد كان ما يخفيه أكثر مما يظهره، وقد روي أنه وجد على ظهره أثر، فسئل زين العابدين عن ذلك ؟ فقال (هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين) ([98])


([1]) رواه البخاري 10 / 378 في الأدب، ومسلم رقم (2321) (8/ 21)

([2]) رواه أحمد (6/47) وفي (6/99)، الترمذي، وقال: حديث صحيح (2612)

([3]) رواه الترمذي (2018)

([4]) رواه الترمذي رقم (2003) و (2004)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم (4799)

([5]) رواه أبو داود (4800)

([6]) رواه الترمذي (2004)، وقال: حديث صحيح.

([7]) رواه أحمد (6/64)، أبو داود (4798)

([8]) الكافي ج 2 ص 81 .

([9]) الكافي ج 2 ص 82 .

([10])المرجع السابق ج 2 ص 82 ح 7- وبمضمونه ح 9

([11]) مسند أحمد بن حنبل ١: ٢٠١، المعجم الكبير للطبراني ٣: ٨٦ ح ٢٧٤١، مجمع الزوائد ٣: ٩٠، الذرية الطاهرة 113.

([12]) معاني الاخبار: 79، مجمع الزوائد 8: 274، مكارم الاخلاق: 8.

([13]) معاني الاخبار: 79، مجمع الزوائد 8: 274، مكارم الاخلاق: 8.

([14]) الكافي 2: 56/ 3.

([15]) البأس: الشجاعة الحسنة الصادقة في الجهاد في سبيل الله وإظهار الحق والنهي عن المنكر، وفي الكافي: « اليأس».

([16]) الكافي 2: 55/ 1.

([17]) نهج البلاغة ص 407 في خ 131- صبحي ص 189

([18]) الخصال ج 2 ص 527 .

([19]) الترمذي (2398) وصححه، وابن ماجة (4023)

([20]) أمالي الصدوق: 367، وبحار الأنوار ج 46/ 20، روضة الواعظين: 196.

([21]) هي إحدى الزيارات المشهورة للإمام الحسين ، وهي من الزيارات المُطلَقة. وهي منسوبة للنّاحية المقدّسة ـ أي الإمام المهدي ـ مع خلاف في ذلك، وقد تناول الإمام فيها ما جرى على جده وأصحابه في كربلاء، وهي تبدأ بالسّلام على أنبياء الله وأولياء دينه الأئمّة الأطهار b، ثمّ بالسّلام على الإمام الحسين وأنصاره، ثمّ تعرّج على صفات الإمام الحسين وسيرته..

([22]) المزار الكبير، أبو عبدالله محمد بن جعفر بن المشهدي، تحقيق: جواد القيومي الاصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الاولى 1419هـ، ص 496، مصباح الزائر، السيد علي بن موسی ابن طاووس، تحقیق. مؤسسة آل البيت b لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت b لإحياء التراث، 1411 هـ، قم، ص 221.

([23]) المرجع السابق.

([24]) المرجع السابق.

([25]) مقتل الحسين للمقرم: 357، ينابيع المودة: 418 .

([26]) مدينة معاجز الائمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، العلامة السيد هاشم البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، 4/ 214، نفس المهموم، الشيخ عبّاس القمّي، ترجمة كمره اى، قم، انتشارات مسجد مقدّس صاحب الزمان، 1370ش، 230.

([27]) دعوات الراوندي 168، والمستدرك 1/ 95، وبحار الأنوار 81/ 208.

([28]) بحار الأنوار: 95 / 219.

([29]) إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، دار المعرفة – بيروت، (4/ 347)

([30]) المرجع السابق، (4/ 347)

([31]) المرجع السابق، (4/ 350)

([32]) الفتوح 5: 105، تاريخ الطبري 3: 315، الكامل في التاريخ 2: 559، اعيان الشيعة 1: 600، وقعة الطف: 197.

([33]) الارشاد: 231، تاريخ الطبري 3: 315، الكامل في التاريخ 2: 559، العوالم 17: 244، وقعة الطف: 198..

([34]) المراجع السابقة.

([35]) المراجع السابقة.

([36]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (4/ 26)

([37]) الاختصاص، (المنسوب إلى) محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد البغدادي (336، 413ق)، قم المقدّسة: مؤسّسة النشر الإسلامي،10.

([38]) عيون اخبار الرضا ، محمد بن على بن الحسين الصدوق، مكتبة طوس، قم المقدسة، 2/134.

([39]) رواه البخاري 13 / 187، ومسلم رقم (1876)

([40]) رواه البخاري، الفتح 6 (2820)، ومسلم (2307)

([41]) رواه البخاري، الفتح 7 (4317) ومسلم (1776)

([42]) رواه مسلم (1776)

([43]) الاحتجاج، 1/322، بحار الأنوار 21 /21..

([44]) بحار الأنوار 44/ 266، العوالم 17/ 149.

([45]) بحار الأنوار، 74/162.

([46]) التفسير الكبير، 21/91.

([47]) سراج الملوك، أبو بكر محمد بن محمد ابن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي، المطبوعات العربية – مصر، 1289هـ، 1872م، (2/ 668- 670)

([48]) جامع السعادات، الشيخ المولى محمد مهدي النراقي، انتسارات اسماعليان، الطبعة: السابعة 1428، ج 1 ص 207.

([49]) الخصال ج 1 ص 101 .

([50]) نهج البلاغة ص 1089 .

([51]) الخصال ج 1 ص 82 ح 8

([52]) نفس المهموم:131، مقتل الخوارزمي 7:2، بحار الأنوار 83:45 .

([53]) تاريخ الطبري 3: 307، بحار الأنوار 78: 116، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 237. مناقب ابن شهرآشوب 4/ 68- 69.

([54]) تاريخ الطبري 3/ 318، الارشاد: 234، الكامل في التاريخ 2/ 561، بحار الانوار 45/ 6.

([55]) كشف الغمة 2 / 241..

([56]) تاريخ اليعقوبي 2 / 293.

([57]) شرح ابن أبي الحديد 1 / 302..

([58]) شرح ابن أبي الحديد 1 / 302..

([59]) ديوان السيد حيدر الحلي: 71.

([60]) المرجع السابق، ص 72.

([61]) الكافي، 2/46.

([62]) الوسائل ج 11 ص 436

([63]) نهج البلاغة، ص 335.

([64]) الحاكم (1/ 123) وقال: صحيح على شرط مسلم.

([65]) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه إلا أنه قال: يحب معالي الأخلاق، ورجال الكبير ثقات، انظر: مجمع الزوائد (8/ 188)

([66]) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، دار مكتبة الحياة، 1986م، (306)

([67]) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي، المحقق: عدنان درويش – محمد المصري، مؤسسة الرسالة – بيروت، (874)

([68]) كتاب التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م، (210)

([69]) كشف الغمة: 2/ 204.

([70]) عيون أخبار الرضا 2/ 43 ، وصحيفة الإمام الرضا 74.

([71]) بحار الأنوار 2/ 135.

([72]) مناقب ابن شهرآشوب 4/ 65.

([73])المرجع السابق 4/ 65- 66.

([74])المرجع السابق 4/ 75.

([75]) كشف الغمّة 2/ 206.

([76]) تحف العقول 247.

([77]) كشف الغمّة 2/ 207.

([78]) المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، دار الفكر – بيروت، 8/ 514.

([79]) أنساب الأشراف ج3، ص176. الكامل فى التاريخ ج4، ص51-52.

([80]) اتفق المتحدثون على الفتوة على أن أصلها من الفتى، وهو الشاب الحديث السن، قال الله تعالى عن أهل الكهف: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً﴾ (الكهف:13)، وقال عن قوم إبراهيم u إنهم قالوا: ﴿ سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ (الانبياء:60)، وقال تعالى عن يوسف u: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾ (يوسف:36)، وقال: ﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾ (يوسف:62)

([81]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ – 1996م، 2/340.

([82]) فتاوى السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دار المعارف، 2/548.

([83]) مدارج السالكين:2/340.

([84]) المرجع السابق :2/342.

([85]) الكافي ج 2 ص 104 .

([86]) الاختصاص 225، أمالي الصدوق 167- 168.

([87]) معاني الأخبار 288،.

([88]) بحار الأنوار 14/ 175.

([89])المرجع السابق: 78 / 306.

([90])المرجع السابق: 78 / 306.

([91]) أمالي الصدوق : 487، روضة الواعظين : 489 .

([92]) إرشاد القلوب المنجي من عمل به من أليم العقاب، الحسن بن أبي الحسن الديلمي، ط الأُولى 1424 هـ، دار الاسوة، قم.: 1/ 29.

([93]) مكارم الاخلاق، رضي الدين نصر الحسن بن الفضل الطبرسي، مكتبة الالفين – الكويت، ص 131.

([94]) مناقب آل ابى طالب: 2/ 412.

([95]) تفسير العياشي، محمّد بن مسعود العياشي، المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران: 2/ 257.

([96]) جامع الأخبار: 160، بحار الأنوار 44: 196 حديث 11، العوالم 17: 59 حديث 1، المجالس السنية 1: 210 المجلس التاسع، احقاق الحق 11: 4410، اعيان الشيعة 1: 579..

([97]) أعيان الشيعة 1: 580.

([98])المرجع السابق 1: 580.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *