قدس الأقداس

قدس الأقداس

إلهي.. أيها القدوس الذي لا تدركه الأبصار، ولا الأوهام، ولا الخيال، ولا العقول.

إلهي يا من جل عن الشبيه والنظير، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]

تعاليت يا رب في قدسك، فلا تعرف إلا بجلالك وكمالك وعظمتك، ولا يرتد البصر الطامع في رؤيتك إلا خاسئا كليلا حسيرا.

وكيف يطمع أحد في رؤيتك وأنت الذي تقول: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام: 103]؟

فتعاليت أن تدركك الأبصار، وكيف تدركك، وهي لا تدرك إلا الأجسام والألوان والأحجام .. وأنت قد تعاليت على ذلك كله.

فأعوذ بك يا رب أن أقع في حجب الأوهام والكثافة التي وقع فيها المحجوبون عنك وعن عظمتك، فراحوا يضعونك في قوالب الأجسام، ويفرضون عليك ما يفرضونه على الأجسام من الحدود والقيود والأغلال.

أعوذ بك يا رب أن أتوهم لك المكان، وكيف تحتاج إلى المكان، وأنت خالق المكان؟.. وكيف توصف بالجهات، وأنت خالق الجهات؟

ويل لهم أولئك الذين أوقعتهم الأوهام في أغلال الجهات والأمكنة.. ألم يقرؤوا قولك، وأنت تصف نفسك: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4]؟

ألم يقرؤوا قولك، وأنت تصف معيتك الدائمة لكل شيء: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]؟

ألم يقرؤوا قولك، وأنت تصف قربك منهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وقولك: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]؟

ألم يقرؤوا قولك، وأنت تذكر تعاليك عن الجهات وقيودها: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]؟

ولم يكتفوا بذلك رب، بل راحوا يصفونك بصفات الأجسام، فيجعلونك صاحب يدين، وساقين، ووجه، وفم، وأضراس، وحقو..

وراحو يفرضون عليك ما يفرضونه على الأجسام من الطول والعرض والحجم والكتلة..

 وراحوا يعتبرون أن العرش يثقل على حملته بسببك، وأنه يئط من ثقلك.. وأنك تجلس وتستلقي عليه، وتضع قدميك على الكرسي كما يفعل الملوك.

ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يذكرون أنك تنزل وتصعد، وتجري وتهرول، وأنك تضحك وتبتسم، وأنك تتكلم بالحروف والأصوات مثلما يتكلم عبادك.

ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يصفونك بأنك تلبس الثياب، وتضع التيجان، وتنتعل النعال.. وأنك تدنو من العباد كما يدنوا بعضهم من بعض، وأنك تلامسهم، ويلامسونك.. كما تلامس الأجسام بعضها بعضا.

ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يعتبرون ما يذكرونه من أوهام وخرافات توحيدا وسنة، وأن خلافهما بدعة وضلالة.

ويل لهم.. وأين عقولهم.. وأين هم من كلماتك المقدسة التي نزهتك وقدستك.. وحذرت من الوقوع فيما وقع فيه المنحرفون عنك من البحث فيما لا تطيقه عقولهم، ولا تدركه أوهامهم ولا خيالهم.

لكنهم رب أعرضوا عنها، وراحوا يؤولونها، ويتبعون المتشابه، فزاغت قلوبهم وعقولهم عن الحقائق، فصوروك بصورة الوثن، وعبدوك كما يعبد المشركون أصنامهم.

أعوذ بك يا رب.. أن أقع في تلك الحجب.. أو أدع لخيالي وعقلي وقياسي أن يتسرب إلى قدس أقداسك.. فأنت لا تعرف إلا بعظمتك وجلالك الذي لا حدود له.

ولا طاقة للعقول إلا بمعرفة أسمائك الحسنى وصفاتك العليا .. فهي البحر الذي نسبح فيه للوصول إليك، والتعرف عليك.

يا رب .. فأسألك أن تملأ قلبي بتنزيهك وتقديسك وتسبيحك حتى لا تتسرب إلي تلك الأوهام، فأحجب بها عنك، فلا يعرفك إلا من قدسك، وسبح بحمدك، وملأ روحه وكيانه بتعظيمك.

إلهي.. لقد كان السبب الأكبر في كل ما حصل لأولئك المشبهين والمجسمين الذين ابتعدوا عنك إعراضهم عن كلماتك المقدسة، وعن أنبيائك وأوليائك الذين جعلتهم هداة إليك..

فأسألك يا رب أن أتمسك بحبلهم، وأركب سفينتهم، ولا أسمع لغيرهم.. لأنهم مصدر الحق الأوحد، وهم الدعاة إليك بإذنك، وعلى بصيرة.

فارزقني ـ يا رب ـ من المعرفة ما رزقتهم، واحفظ عقلي من الأوهام، وقلبي من الأغيار، فلا يعرفك إلا من تأدب بآداب العبودية، وخلص عقله من البحث فيما لا يعنيه، ولا قدرة له عليه، وخلص قلبه من كل الأغيار، فمعرفتك أجل من أن تختلط مع الأغيار.

يا رب .. وهب لي كمال تنزيهك وتعظيمك، حتى أسبحك في كل شيء، ومع كل شيء، فأنت الأكبر والأعظم..

أنت أكبر وأعظم من كل الأوصاف.. وكيف توصف وأنت الذي لا حدود لك؟.. وكيف تقيد بقيود الكلمات، وأنت الذي خلقتها؟

لذلك نستغفرك رب من تقصيرنا في وصفك.. لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *