الحقائق والرموز

الحقائق والرموز

إلهي .. أيها القدوس المتعالي على كل شيء.. حتى عن تعريفنا به، ووصفنا له.

أعوذ بك من الجهل الذي يجعلني عبدا رقيقا للألفاظ، فأجعل منها شبكة لاصطياد الحقائق، فالحقائق أعظم من أن تصطاد بالألفاظ.. والحقائق أعظم من أن تعبر عنها تلك الرموز التي لم توضع لأجلها، وإنما وضعت لغيرها.

أعوذ بك يا رب أن يحصل لي ما حصل لأولئك الذين راحوا يعرفونك من خلال الألفاظ، فانتزعوا من عظمتك كل معاني القداسة، وشبهوك بخلقك، وجعلوا منك وثنا، لا إلها عظيما قدوسا متعاليا عن كل الأوهام والخيالات.

يا رب لقد راحوا لغفلتهم يذكرون أن لك يدين.. وأن فيهما أصابع.. وأنك تمسك بهما الأشياء.. وذلك عندما تركوا الحقائق الواردة في ذكرك لليدين في كلماتك المقدسة، وتشبثوا بالألفاظ..

لقد قرأوا قولك في الرد على اليهود الذين اتهموك بالبخل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة: 64] ، وبدل أن يفهموا من الآية الكريمة الغرض الذي وردت من أجله، وهو نفي البخل عنك، راحوا يذكرون أنها تثبت لك صفة ذاتية يُطلق عليها اليد.. وأنها اليد الحقيقية .. وليس من فرق بين أيدينا ويدك إلا أننا نعرف أيدينا وشكلها، ولا نعرف شكل يديك.. تعاليت وتقدست عما يقولون علوا كبيرا..

ولو أنهم قرأوا معها قولك: {لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [الإسراء: 29]، لعلموا أنك لا تنهاهم عن وضع أيديهم في أعناقهم، ولا بسطها، وإنما تنهاهم عن البخل والتبذير.. ولذلك لم يقل أحد من الفقهاء بتحريم قبض اليد أو بسطها.

وهكذا راحوا يفهمون قولك لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، على أن لك يدان حقيقيتان، وأنك مددتهما إلى طينة آدم، لتسويها، كما نسوي نحن الطين بأيدينها..

ويلهم أين عقولهم.. وهل يمكن لقداستك أن تحتاج إلى هذا، وأنت الذي لا تحتاج لأي وسيلة لتنفيذ أي مطلب مهما عز وعلا.. لقد قلت في كلماتك المقدسة تذكر ذلك: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقلت:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]

ويلهم.. ألم يقرؤوا قولك، وأنت تصف أعمال عبادك: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، فهذه الآية الكريمة واضحة في الدلالة على الأفعال مهما اختلف نوعها، وليس المراد منها حصر الحساب والعقاب على ما عملت الأيدي فقط.. بل يدخل فيها ما عملت الألسن والأرجل وكل الجوارح.

وهكذا يا رب راحوا يذكرون أنك تحتاج لعينين لتبصر بهما،  مثلما يحتاج البشر إلى ذلك.. وقد جرهم لذلك انسياقهم وراء الكلمات والرموز، لا المعاني والحقائق، فقد قرأوا قولك: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [القمر 14] وقولك: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود 37]، وقولك: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور 48] ، وبدل أن يفهموا منها جميعا ما يدل على عنايتك بعبادك الصالحين، وتكفلك بحاجاتهم، وحفظك لهم.. راحوا يجسمونك، ويذكرون أن لك عينين، وليس من فرق بينهما، وبين عبادك إلا في الشكل والكيفية.

وهكذا راحوا يفهمون من قولك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] الرموز دون الحقائق؛ فأثبتوا لك يدين تقبض بهما الأشياء.. مثلما يقبض الخلق الأشياء بأيديهم، مع أن دلالات كلماتك المقدسة واضحة في خطابهم بما يفهمون، وباللغة التي تطيقها عقولهم.. وليس المراد منها الحقيقة.

فأنت قد ضربت لهم مثلا بكون كل شيء في قبضتك، وتحت أمرك، وأنه لا يعجزك شيء، لكنهم تركوا الحقائق المرتبط بها، وراحوا يتشبثون بالألفاظ.. مع أنهم هم أنفسهم يستعملون أمثال هذه التعابير، ولا يريدون بها الحقائق.

فهم يقولون كل حين: الأمر أصبح بأيدينا، وفي قبضتنا.. مع أنهم لا يريدون من هذه الألفاظ ظواهرها، وإنما يريدون الحقائق المرتبطة بها..

وهكذا يقولون: فلان بين يدي، ونحن بين أيديكم.. وهم لا يريدون، لا الأيدي، ولا البينية، وإنما المعاني المتعلقة بها، والدالة عليها.

لكنهم إن رجعوا إلى كلماتك المقدسة، راحوا يتشبثون بالحروف، وينسون المعاني، ويغفلون عنها.. فيشوهونك ويشبهونك ويجسمونك.

ولو أنهم عادوا لكلماتك المقدسة نفسها، وطبقوا هذه المقاييس التي طبقوها على تلك الآيات الكريمة، لعلموا أن مرادك أعظم من أن يكون تلك الظواهر التي فهموها، فقد قلت في كلماتك المقدسة عند ذكرك للمنافقين: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فهل يمكن أن يجرؤوا أحد على وصفك بالنسيان.. وهل يستقيم النسيان مع العلم.. وهل يستقيم النسيان مع العظمة؟

وهكذا قلت عنهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وهل يستقيم مع عظمتك المطلقة، ورحمتك الواسعة، أن تكون مخادعا.. فالخداع لا يكون إلا للضعفاء الذين تعوزهم القدرة، فيلجؤون إلى الحيلة.

وهكذا ذكر نبيك صلى الله عليه وآله وسلم رحمتك بعبادك، وعنايتك بهم، وشبه ذلك باعتناء الوالد بعياله، فقال: (الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)([1])، فهل يمكن لأحد من الناس أن يفهم من هذا الحديث ظاهره، فينسب لك الولد والعيال؟

فكل هذه الألفاظ لم تُرد منها يا رب ظواهرها، وإنما أردت منها المعاني التي تقف خلفها، وهي معان متناسبة مع جلالك وجمالك وكمالك.. ومتناسبة مع اللغة التي خاطبت بها خلقك، والتي يستعملون فيها نفس تلك التعابير.

وليتهم اكتفوا بذلك يا رب.. بل راحت شياطين الإنس والجن تزودهم بالكثير من الروايات التي لم تزد عقولهم إلا ارتكاسا وتشبيها وتجسيما ووهما.

لقد قال أحدهم يصف عظمتك: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة)([2])

وقال آخر متهكما من الذين ينزهونك، ويقدسونك: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب)([3])

وقال آخر يصفك بالملل: (جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولـه: (فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا)([4])، فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ؛ ملل الله ليس كملل المخلوق ؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص ؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله ؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً)([5])

وراح يصفك بالهرولة، فقال‏:‏ (صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، فذكر الحديث وفيه‏:‏ ‏(‏وإن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه فوجب علينا قبولها بدون تكييف)([6])

يا رب.. فأسألك أن تعيذني من الجهل الذي يبعدني عنك، وأن تطهر عقلي من كثافة التشبيه والتجسيم، وأن تجعلني ألجأ إليك كل حين، فأنت العاصم الذي يعصم العقول من أن تقع في هذه الانتكسات.

وأعوذ بك يا رب أن أترك المحكم الواضح الظاهر الذي اتفقت فيه العقول مع كلماتك المقدسة، وأتشبث بالمتشابه الذي صار فتنة للمحجوبين بالرموز عن الحقائق.

لقد ذكرت ذلك يا رب، ونبهتنا إليه، وحذرتنا منه، فقلت: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

فاجعلني يا رب من الراسخين في العلم الذين يميزون بين الحقائق والألفاظ، ويعرفون أن الألفاظ أضعف من أن تعبر عنك، وأنك أعظم من أن توضع في تلك القوالب التي لم يضعها البشر إلا للتعبير عن أنفسهم وحاجاتهم.


([1])المعجم الكبير للطبراني 10/86 ح(10033)

([2])   العظمة 2/445(136)

([3])   الصواعق المرسلة 4/1364

([4])     رواه البخاري (43). ومسلم (785).

([5])     مجموعة دروس وفتاوى الحرم (1/152).

([6])     فتاوى ابن عثيمين -العقيدة-1/380.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *