الجمال المطلق

الجمال المطلق

إلهي.. يا من تجلى جماله في كل المرائي.. فصارت المرائي فانية في بحر إطلاقه.

أعوذ بك أن تقيدني المظاهر، أو تسجنني، أو تغل يدي عن رحلتي إليك، فأنا لا أريدها هي، بل أريدك أنت.

أنا لا أريد أن أسجن في سجون الأكوان المحدودة.. بل أريد أن أرحل إليك.. إلى عالم الإطلاق الذي لا يعرف الحدود والقيود.

فأعوذ بك ـ يا رب ـ أن أكون كذلك المجنون الذي سجن في أحداق ليلى، فصارت حياته كلها ليلا..

وكيف لا تصبح حياته كلها ليلا، وهو  لم يرحل من عيون ليلى إليك، ولم يستدل بها عليك، ولم يعلم أن وراء عيونها التي أسرته عالما كبيرا من الجمال لا حدود له..

ولم يعلم أن عيون ليلى ليست سوى قطرة من محيط جمالك الذي لا حدود له.

ولم يعلم أن عيون ليلى لم تكن سوى قنطرة توصل قلبه بالمحيط.. لتخرجه من عالم الجمال المقيد إلى عالم الجمال المطلق.

ولو أنه علم ذلك ـ يارب ـ لعاد إليه عقله، بل لأضاف لعقله عقولا كثيرة.

فالجمال المطلق ـ الذي هو جمالك يا رب ـ يجعل صاحبه كمرآة كبيرة عاكسة تمتد كلما امتد النظر، وتتسع كلما اتسعت االهمة.

يارب .. فأسألك أن تسقيني من شراب محبتك ما يغنيني عن كل شراب..

وأسألك أن تسقيني بكؤوس الأكوان.. فقلبي أوسع من أن تكفيه تلك الأكواب الصغيرة.

وأسألك أن تسقيني بكأس الإطلاق، فقلبي الذي عرفك لم يعد يرتضي سكنى الجحور والوكور والقصور.. بل يريد أن يمتد بامتداد جمالك الذي لا حدود له.

يا رب .. وأسألك أن تجعل كل جوارحي قلوبا وعيونا لتتملى حسنك الزاهي في كل شيء.. فلا ترى شيئا إلا وتشم فيه عطر جمالك.

يا رب .. أنا أعلم أن عظمتك وعزتك تأبى أن يرى جمالك إلا المخلصون الصادقون، أولئك الذين استأثرتهم، وطهرتهم، وملأتهم سكينة وهمة.

فاجعل قلبي الذي لا يتقلب إلا بتقليبك طاهرا ممتلئا بالصدق والإخلاص والسكينة والهمة حتى يصبح محلا صالحا لتجلي جمالك.

فلا يمكنني يا رب أن أحبك الحب كله، قبل أن تطهر قلبي من غيرك.. فأنت لا ترضى الشريك، والقلب الصادق لا يتسع للشركاء.

يا رب.. لقد قلت في كلماتك المقدسة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]

فاجعلني من هؤلاء الذين شرفتهم بحبك.. أولئك الذين تطهرت نفوسهم، وارتقت أرواحهم إليك، بسبب حبهم لك.. فحبك يا رب أكبر مدرسة للتربية والأخلاق والهمة العالية.

حبك يا رب هو البلسم الذي يداوي الجراح، وهو الرقية التي تغني عن الرقاة، وهو الدواء الذي لا يكون معه داء..

حبك يا رب هو السعادة التي لا شقاء بعدها، وكيف يشقى من حبيبه صاحب الجمال الذي لا يفنى، ولا يحد، ولا يحصر؟

حبك يا رب هو الإكسير الأحمر الذي يرفع الإنسان من عالم الجسد الممتلئ بالطين والوحل والحمأ المسنون إلى عالم الأرواح التي تسبح في بحر الجمال المطلق.

حبك ـ يا رب ـ هو الجنة الحقيقية .. والمعجلة لمن شاء أن يدخلها..

والبعد عنك ـ يا رب ـ هو جهنم الحقيقية .. فمن ابتعد عنك عذب حتى لو سكن القصور، ووفر لطينه كل أسباب الراحة والسعادة.

وكيف تسعد روحه، وهو يسجنها في سجون الطين، ويقيدها بذلك الجمال الوهمي الذي تحول إلى وثن يعبده من دونك.

هو يا رب يختصر حقيقته في جسده، ولذلك راح يلبي ما يطلبه جسده، وينسى روحه التي لا راحة لها إلا معك، ولا سعادة لها إلا في الرحلة إليك، ولا طمأنينة لها إلا في لقائك، والاستقرار في جوارك.

يا رب.. أنا أعلم رحمتك ولطفك ورفقك بعبادك وتربيتك لهم.. فلذلك تتيح لهم الفرص ليختاروا منها ما شاءوا.. إلى أن يصلوا إليك بعد أن يعلموا أن ما عداك سراب ووهم.. وأنك أنت وحدك الحق.

لقد ذكرت ذلك في كلماتك المقدسة، فقلت: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [النور: 39]

فأعوذ بك يا رب أن أختار غيرك، أو أعذب بتلك الاختيارات المشؤومة.. أو أقضي عمري وأنا أتجول في عالم الجمال الفاني الممتلئ بالقيود والأغلال..

بل اجعلني أنجذب إليك، وأكتفي بك من غير أن أتلطخ بتلك القيود والسجون والأوهام..

يا رب فاسقني من بحر الحقيقة.. وأعوذ بك من بحار الأوهام والسراب.. فأنا لا يروي قلبي وروحي وسري إلا أنت.. فكن أنت غايتي ومقصدي وقبلتي وفروضي ونفلي وحديثي وشغلي .. وكل شيء لي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *