الإرادة النافذة

الإرادة النافذة

إلهي .. يا صاحب الإرادة النافذة، والمشيئة القاهرة، والقضاء المحكم.

لا شريك لك، ولا نظير.. ولا حاكم معك، ولا مدير.. ولا راد لأمرك، ولا معقب لحكمك، ولا تُسأل عن فعلك، وهم يسألون.

وكيف تسأل عن فعلك، أو يعقب أحد على حكمك، وأنت البديع الذي أبدع كل شيء، والحكيم الذي أحكم كل شيء، والعليم الذي وسع كل شيء علما؟

يا رب، فأسألك أن أتحرك في مجال إرادتك التي ترضيك، وأعوذ بك أن أتحرك في مجال إرادتك التي تسخطك.. وأسألك أن أكون من الذين أردتهم، ورضيت عنهم وأكرمتهم، وأحببتهم، فكانوا في كل محل تتنزل فيه مرضاتك، واجتنبوا كل محل يكون فيه سخطك.

وأعوذ بك يا رب أن أكون من أولئك المشركين الذين تعللوا بإرادتك على اقتحام معاصيك، وقالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } [النحل: 35]، وقالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وقد رددت عليهم بقولك: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]

صدقت يا رب.. فما ذاك إلا كذب منهم وتخريص.. وإلا فلم يسعون في أرزاقهم مع أنهم يعلمونك أنك الرزاق؟.. ولم يسعون في علاج أنفسهم مع أنهم يعلمون أنك الطبيب؟.. ولم يسعون في حفظ أنفسهم من المهالك مع أنهم يعلمون أنك الحفيظ؟ .. لم لم يوكلوا كل ذلك إليك كما أوكلوا أمر الهداية والضلال؟

نعم .. هم لم يشركوا إلا بمشيئتك، وكيف يخرج أحد من مشيئتك؟

لكن كان في إمكانهم أن يختاروا مشيئة الهداية بدل مشيئة الضلال.. ومشيئة السعادة بدل مشيئة الشقاء.. لكنهم لتخرصهم وكذبهم على أنفسهم، واتباعهم لأهوائهم اختاروا المشيئة التي تسخطك.

هم في ذلك مثل ذلك الأستاذ الذي وضع امتحانا لطلبته.. هو يعرف مستوياتهم، ويميز المجتهد منهم من الكسول، ولكنه لعدله بدل أن يحكم لكل واحد منهم بما يعلمه راح يختبرهم، ويترك لهم الفرصة ليختاروا أحد النجدين.. نجد النجاح، أو نجد الرسوب.

فمن اختار منهم نجد النجاح رضي عنه، وقربه، ووهبه من التزكية ما يرفع مستواه، أو يؤهله للوظائف الكريمة.

ومن اختار منهم نجد الرسوب، أو قعد من دون أن يجيب.. فالأستاذ كذلك لا يتدخل في شأنه.. لأنه وإن خالف رضاه، لم يخالف إرادته..

ذلك أنه أراد تمييز الصادقين من تلاميذه من الكاذبين، ولذلك  منح الحرية للجميع ليعبروا بمحض إرادتهم، لا بما يملى عليهم.. فلا يمكن لأحد أن يعبر عما تختلج به جوانحه، تحت سيف الإكراه والقهر.. ولذلك لم يخرج الراسبون عن مشيئته، وإن خرجوا عن رضاه.

لذلك ـ يا رب ـ كان الذين يريدون منك أن تتخلى عن مشيئتك وإرادتك حتى تتحقق لهم الحرية، واهمون وكاذبون على أنفسهم.. ذلك أنهم يشعرون بالحرية، ويفرقون بين أعضائهم التي تعمل من دون إرادتهم، وأعضائهم التي لا تتحرك إلا برضاهم ورغبتهم.. ويعلمون أنك لا تحاسبهم إلا على ما كسبت أيديهم، وتحركت به رغباتهم.

يارب .. هم لجهلهم بك.. يتصورون أن كمالك في أن تسلم الشر لإله آخر يديره، وتتمحض أنت للخير المجرد.. ويحصل بينكما الصراع..

ويل لهم، وما أضعف عقولهم. أليس من الحكمة والرحمة واللطف أن يكون كل شيء بيدك.. فأنت الخير المطلق.. وأنت الذي لك الأسماء الحسنى والكمال الأعظم.. وأنت الذي لم ترد الشر ابتداء، وإنما كان الشر نتيجة لتلك النفوس التي أبت إلا أن تختار هذا السبيل.. وأنت بكرمك ولطفك لا ترد من رغب في شيء عن رغبته.

فعندما استكبر إبليس عن السجود لآدم كان في إمكانك أن تفرض عليه سلطتك وتجبره على السجود.. لكنك لم تفعل.. بل تركته لحريته..

بل كنت تريد أن يظهر بذلك المظهر حتى يكشف عن حقيقته التي كانت مملوءة بالكبر والحسد.. ولولا ذلك الأمر ما ظهر كبره ولا حسده، ولظل يخدع غيره بعبادته وتقواه.

وهكذا عندما طلب أن يؤخر ليوم البعث، تركته، وأعطيته الفرصة، وجعلته وسيلة من الوسائل التي تميز بها الطيب من الخبيث..

لقد صار مثل ذلك المغناطيس الذي ينقي الذهب من الشوائب التي لا يحق لها أن توضع مع المعادن النفيسة والحجارة الكريمة.

وهكذا كانت مشيئتك رب في أن تضع معالم الهداية والضلال، فقد أرسلت الرسل الذين يبينون الحقائق للناس، وتركت في نفس الوقت الفرصة لمن يضلهم، لأنه لا يتحقق التمييز إلا بتوفر السبل الكثيرة التي تجعل الإنسان يختار بمحض إرادته ما تميل إليه نفسه..

وعندما يختار، لن يخرج اختيارك.. ولن ينضم إلى إله الشر كما يقول المشركون.. بل يظل عبدك.. وتظل إرادتك نافذة فيه.

لقد ذكرت ذلك يا رب فقلت: { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) } [الإنسان: 29 – 31]، وقلت: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } [التكوير: 27 – 29]

صدقت يا رب.. فهدايتك أكرم من أن تتنزل على المنحرفين والمستكبرين .. أولئك الذين نصبت لهم العقبات التي تحول بينهم وبين الهداية إلا بعد أن يتخلوا عن كبريائهم وطغيانهم وجبروتهم.

ولذلك كنت المنصرف عنهم قبل انصرافهم عنك.. فأنت الذي لم ترد أن يجاوروك في عزك، أو يجاوروا المؤمنين الطاهرين، وهم متلطخون بأوزار خبثهم.

لذلك قلت يا رب عنهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 146]

فأنت الذي صرفتهم وأضللتهم .. لأنهم لم يكونوا أهلا لعزك ولطفك وهدايتك.. ولو كانوا أهلا لذلك لتخلوا عن تلك الطباع التي تحول بينهم وبينك.

إن مثلهم يا رب مثل رجل دعا قوما إلى وليمة، فحضر الأمراء والعلماء والحكماء، وكانوا كلهم بأحسن مظهر.. ثم جاء بعض الناس بثياب قذرة، تفوح منها الروائح الكريهة، وكان لسانه ممتلئا بالفحش والبذاءة.. فهل يمكن لمثل هذا أن يشارك في تلك الوليمة؟.. وهل يمكن لأحد من الناس أن يرضى بالجلوس بجانبه؟

لكنه لو ذهب، وتطهر، وغسل ثيابه، وطهر لسانه، وعاد إلى الوليمة لم يكن للداعي الكريم أن يرفضه، ولا أن يرده.

وهكذا الأمر يا رب.. فأنت لم ترد أولئك لذواتهم، وكيف تفعل ذلك وأنت الذي خلقتهم ورزقتهم ووفرت لهم كل الحاجات، ولكنك فعلت ذلك بهم لما اختاروه لأنفسهم من الكبر والضلال.. ولو أنهم تخلوا عن ذلك لكنت أول من يقبلهم، فهدايتك شملت كل شيء، ورحمتك وسعت كل شيء.

يا رب .. فاجعل رضاي في رضاك، وسخطي في سخطك، حتى لا أتحرك إلا في وفق مشيئتك التي تحب، واجعلني أعرفك كما أنت لا كما يقول الجاهلون الذي صنعوا إلههم بأهوائهم، وعجنوه بعقولهم، وقاسوه على أنفسهم، فأنت أعظم من كل شيء، ولا يقاس بك شيء.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *