النور الهادي

النور الهادي

إلهي.. أيها النور الهادي الذي أعطى كل شيء خلقه، ثم هداه سواء السبيل.. ليرتقي من السفل إلى العلو.. ومن النقص إلى الكمال.. ومن الحجاب إلى المشاهدة.

لولا نورك الذي أخرجت به خلقك من عالم الظلمات، لما ظهرت السموات والأرض، ولما بدا العالم بهذه الصورة البديعة التي نراها..

فنحن نرى كل شيء بنورك، ولولا نورك لعشنا مثل ذلك الأكمه الأصم الذي لا يعرف عالم الأصوات، ولا عالم الألوان، ولا عالم الأحاسيس، ولا عالم المشاعر، ولا عالم الأفكار.. ولا أي عالم من العوالم.

بنورك يا رب الذي ملأت به أحاسيسنا أدركنا الأشياء..

وبنورك يا رب عرفنا الأشياء.. واهتدينا إلى أسمائها وحقائقها وخصائصها..

فلولا نورك الذي نورت به أبصارنا وبصائرنا ما ميزنا بين ما يضرنا وما ينفعنا..

ولولا نورك وما اهتدينا في حياتنا إلى شيء.. فأنت الهادي الذي أنقذ خلقه من الضلال، وأنت النور الذي أخرج خلقه من الظلمات.

وأنت الذي علمتنا كيف نأكل وكيف نشرب، وكيف نلبس..

وقد علمتنا بمجرد نزولنا إلى الأرض كيف نستر أنفسنا، ونتجمل بما أنزلته من ثياب، فقلت: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]

ثم حذرتنا أن تتلاعب الشياطين بما أنزلته لنا، فقلت: { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]

وهكذا علمتنا كيف نتحول إلى بشر ممتلئين بالحضارة والمعارف والعلوم..

فكل العلوم منك، وأنت الذي هديت خلقك إليها، ولولا هدايتك ما اهتدوا إلى شيء..

وكل الاكتشافات والاختراعات هبة من هباتك لعبادك، ليعيشوا حياة مليئة بالطمأنينة والراحة، وليتفرغوا بعدها لمعرفتك، وعبادتك، وسلوك طريقك.

فأعوذ بك يا رب أن يتوجه شكري للعلماء والمفكرين والمكتشفين والمخترعين.. ثم لا أتوجه بشكري إليك.. فلولاك لم يصلوا إلى شيء.. فأنت الهادي الذي دلهم، وأنت المعلم الذي علمهم.

أنت يا رب مثل ذلك الذي بنى بيتا، ثم راح يصف لزواره ما أودع فيه من خصائص ولطائف.. فأما المتنورون بنورك، فقد فرحوا بك، وبفضلك، وسبحوك على جميل صنعك، وحمدوك على جميل فضلك.. وأما المحجوبون، فقد غفلوا عنك، وراحوا يشكرون من اكتشف بعض مظاهر صنعتك، ويحجبون به عنك.. مع أنه لم يكن ليكتشفه لولا دلالتك.

لقد سمعت بعضهم يذكر ذلك الذي اخترع المصباح الكهربائي، وبدل أن يكتفي بشكره، راح يلحد في آياتك، ويمن به عليك.. ويذكر أنه لولاه لغرقت البشرية في الظلمات.

وهو يعلم أن ذلك المصباح لم يكن ليعمل لولا الكهرباء التي ليست سوى آية من آياتك.. ومثل ذلك الزجاج والأسلاك التي صنع بها المصباح.. ومثل ذلك العقل الذي جعله يفكر ذلك التفكير.. أو يهتدي لذلك الصنع.

لكنك ـ يا رب ـ تحجب من تشاء بما تشاء..

لقد حجبت قارون عن معرفة سر فضلك عليه؛ فراح يفتخر بعلمه، وينساك.. لقد قال لهم، وهو ممتلئ بالكبرياء: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]

وهكذا فعل أقوام الأنبياء الذين توهموا أن ما وصلوا إليه من معارف يغنيهم عن رسل الله، مع أن معارفهم ليست سوى هبة إلهية ليشكروه، لا ليكفروه.

لقد قال الله تعالى يذكرهم، ويذكر سبب حجابهم: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83]

يا رب.. فأعوذ بك أن يحجبني العلم عنك.. فالعلم ليس سوى نور من أنوارك التي تدلنا عليك.. لكنه قد يتحول إلى ظلام وضلال في قلوب المستكبرين الذين يحتجبون به عن الحقائق، بدل أن يهتدوا به إليها.

يا رب.. أنا أعلم.. بل أوقن أن كل الاكتشافات والاختراعات فضل من فضلك.. وآية من آياتك.. وإني وإن شكرت أولئك الوسطاء الذين اكتشفوها أو اخترعوها إلا أن شكري الأول لك.. وحمدي العظيم لك.. لأنه لولاك لم يصلوا إلى شيء.

فأنت الذي أوصلتهم، وأنت الذي دللتهم، وأنت الذي علمتهم، وأنت الذي جعلتهم وسائط رحمتك وفضلك على عبادك.. لترزقهم من فضلك، ولتختبر إيمانهم بك، وهل يجعلون النعمة وسيلة إليك، أم يجعلونها حجابا بينهم وبينك؟

يا رب أنا أنظر إليهم مثلما أنظر إلى النحل الذي هديته.. ولولا هدايتك ما استطاع أن يبني مساكنه بتلك الهندسة البديعة..

 لقد أوحيت له.. كما أوحيت لكل المخترعين والمكتشفين والباحثين.. لقد قلت تذكر ذلك: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69]

وقد ذكرت في كلماتك المقدسة أن البشر عندما تاهت بهم السبل في معرفة كيفية التعامل مع موتاهم أرسلت الغراب ليهديهم.. لقد قلت تذكر ذلك: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة: 31]

وهكذا كنت أنت الذي علم نوحا كيفية صناعة الفلك، وقلت له: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]

وهكذا كنت أنت الذي علم أيوب كيف يداوي مرضه، وقلت له: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]

وهكذا كنت المختبئ وراء كل طبيب أو صيدلي أو مهندس أو مخترع أو مكتشف..

أما أصحاب البصائر، فيبصرونك، كما يبصرونهم، ويعلمون أنك الأصل وهم التبع.. وأنك المعلم وهم التلاميذ.. وأنك الهادي وهم المهتدون.. لكن المحجوبين، يرونهم، ولا يرونك، ويعبدونهم، ولا يعبدونك.. ويسجدون شكرا لهم، ولا يسجدون شكرا لك.

فاهدني يا رب للحقائق التي تنزع عن عيني الغشاوة.. ونور قلبي بالنور الذي يكشف لي أسرار الأشياء.. فلا يمكنني أن أعرفك، وأنا محجوب بالطلاء والبهرج الذي يزور الحقائق، ولا يدل عليها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *