المبدئ المعيد

المبدئ المعيد

إلهي .. أيها المبدئ المعيد .. الفعل لما يريد.

أسألك كما بدأتني بفضلك، وغمرتني في بدايتي بكل ألوان لطفك وهدايتك وجودك.. أن تعيدني إليك، وأنا بفطرتي النقية التي خلقتها، وسويتها، ورضيتها، مزودا بكل ما أتحت لي من دروس الهداية التي غذيت بها روحي ونفسي وعقلي وقلبي وكل لطائفي.

وأعوذ بك يا رب أن يصير حالي كحال أولئك الذين انطمست بصائرهم التي زودتهم بها، بعد أن رغبوا عنك، وتحولوا إلى أعدائك.. وكان أول ما حصل لهم ذلك العمى الذي وصفته بقولك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه: 124ـ 126]

فأعوذ بك يا رب أن أنسى آياتك، أو أعرض عن رسلك، أو أتمرد عن تعاليمك، أو أهجر كتابك، أو أعادي أولياءك، أو أوالي أعداءك، أو أشيح بوجهي عن مواعظ الملك الذي قرنته بي، وجعلته سبيلا من سبلي إليك.

يا رب، فاحفظ لي بصيرتي حتى استردها عند الإعادة، وفي ذلك العالم، وفي تلك النشأة الجديدة، وهي ممتلئة جمالا ونورا وصفاء وطهرا.. حتى أستمد من أنوارها ما يحفظني في تلك الظلمات، ويجعلني أمر على السراط كما تمر الأنوار، لا يصيبها الخوف، ولا ينتابها الحزن، ولا تشعر بدقته، ولا بحدته، ولا يهولها ما يقف أسفله وعلى جوانبه من الأهوال.

يا رب.. وأسألك أن تجعلني من الذي عصمتهم من ذلك الفزع الذي يعتري الخلائق عندما تأمر بنهاية النشأة الأولى، وبداية النشأة الثانية.. عندما يُنفخ في الصور، ويفزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شئت.. فاجعلني ممن شئت.. فأنت أكرم الأكرمين.

يا رب.. وإن وزنتني ووزنت أعمالي في ذلك العالم، وتلك النشأة، فاجعل ميزاني ميزان من أحببتهم ورضيت عنهم، وملأت قلوبهم وحقائقهم بكل قيم النبل والطهارة، حتى إذا خرجت نتيجة ذلك الميزان صحت كما صاح ذلك المؤمن الذي وصفته في كتابك، ووصفت فرحه واستبشاره وقوله: { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20]

أو كما وصفت ذلك الآخر الذي أدخلته جنتك، وفيها تذكر صديقه الذي كان يستعمله الشيطان لغوايته، لكنه اجتنبه، واتبع رسلك وأولياءك، وضحى بكل شيء في سبيلك، وبعد أن اطلع على حاله صاح فرحا وسرورا بنعمتك عليه: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 58 – 61]

يا رب .. وإن أدخلتني دار القرار، فاجعلني مع أوليائك الذين أحببتهم وواليتهم وضحيت بكل شيء في سبيل نصرتهم.. فقد قلت في كلماتك المقدسة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال لنا نبيك مبشرا: (المرء مع من أحب)([1])

يا رب.. وأعوذ بك أن تعيدني في زمرة أعدائك، فأنا، وإن قصرت في حقك، لكن قلبي لم يكن معهم، ولا مواليا لهم، بل كان مع أوليائك، سلم لمن سالموا، وحرب لمن حاربوا.

يا رب.. كلما تذكرت اسمك [المبدئ المعيد] أشعر بسرور عظيم يهزني إليك.. ويرفع عني كل عن تلك الهموم التي أراها، وأعيشها، لأني أعلم أن هذه مجرد بداية، وأن النهاية أجمل بكثير.

فكل أولئك المظلومين المحرومين المحتقرين الذين أراهم، وأتألم لهم، ليست تلك نهايتهم، ولا نهاية قصتهم.

بل ما أراه منها ليس سوى البداية فقط، أما النهاية فهي أجمل بكثير؛ فأولئك المضطهدين سيجلسون في يوم من الأيام على أرائك السعداء، ومنابر النور، مسرورين يشاهدون أولئك الذين ظلموهم واحتقروهم، وهم يلقون جرائر أعمالهم التي لم يحاكموا عليها في بدايتهم، والتي ظنوا أنهم لن يحاكموا عليها أبدا، غافلين عن عدلك المطلق الذي أقمت عليه كل شيء.

لقد قلت في كلماتك المقدسة تصف ذلك الموقف لتملأ قلوب المستضعفين راحة وسعادة وطمأنينة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 – 36]

وقلت تذكر أولئك الظلمة الذين حفروا الأخاديد للمؤمنين، وملأوها حطبا ونارا، ثم ألقوهم فيها، وهم يتوهمون أنهم يلقونهم في النار، بينما لم يكونوا في حقيقة الأمر يلقونهم إلا في جنتك وفضلك: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 4 – 11]

ثم ذكرت البطش الشديد الذي ينتظر أولئك المجرمين في دار الإعادة، فقلت: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 12 – 16]

يا رب .. فأسألك أن أنجح في كل الاختبارات التي تختبرني بها في دار بدايتي، حتى إذا ما أعدتني إليك كنت محتفظا بإنسانيتي، لأصعد بها في معارج الكمال التي هيأتها لي، ولأرى من أنوار ملكوتك ما تمتلئ به بصيرتي إيمان وتحقيقا ورقيا.


([1])رواه أحمد 3/ 159 (12652) وأبو داود 5127 .. وغيرهما..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *