الغني الحميد

الغني الحميد
إلهي .. أيها الغني الحميد.
ما أعجب أمر خلقك، فقد رأيتهم قبل أيام يتحدثون عمن يطلقون عليهم أغنى الأغنياء، ويذكرون مراتبهم، وثرواتهم، وكيفية تعاملهم مع أموالهم..
ورأيت مع حديثهم اللعاب وهو يسيل من أفواههم عند ذكر الأموال.. كما شممت روائح الحسد الكريهة تنبعث من قلوبهم عند ذكرها، وكأنهم يرددون ما قاله المغرمون بأموال قارون: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]
لقد قلت لهم حينها: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]، لكنهم لم يلتفتوا لي، ولم يسمعوا كلامي، فقد كان الحجاب الذي أسدله حب المال عظيما، منع آذان قلوبهم من أن تعي ما أقول، ولا أن تفهم ما أعني..
وبعد أن فارقتهم يا رب رحت أفكر في تلك العقول التي تنبهر لذلك الغنى المجازي المحدود، وتنسى غناك المطلق الذي لا حدود له.
وهل يمكن أن يقارن غنك بغناهم أو غنى أحد من خلقك.. فإن كان أولئك الذين انبهروا بغناهم يملكون ملايين المثاقيل من الذهب، ومثلها من الفضة، ومثلها من اللآلي، فأنت تملكهم، وتملك ما يملكون، ويمكنك في لمح البصر، أو ما دون ذلك أن تجعل الكون كله مصاغا من الذهب الخالص.. وقد قلت في كتابك الكريم: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]
فالذهب والحديد والتراب عندك سواء.. وقد وصفت أمرك فقلت: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]
ولذلك فإن المستغني بك، والقريب منك أغنى من كل أولئك الذين انبهروا بهم، وكيف لا يستغني، وأنت الغني المغني الذي لا يرد من لجأ إليه، ولا يفتقر من استغنى به.
ولكن المقربين منك، لا يهتمون بمثل تلك الأمور، لأنه يكفيهم أنت.. ويكفيهم رضاك.. ويكفيهم أن يقفوا بين يديك يناجونك، ويسمعون كلماتك التي تخاطبهم بها، فهي أغلى عندهم من كل جواهر الدنيا.
لقد عدت يا رب، وتأملت في أحوال أولئك الذين وصفوهم بالغنى، فوجدتهم مع تلك الثروات فقر مطبق، ومن كل الجهات.. فهم كغيرهم مصاديق لقولك: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]
لقد وجدت الأمراض تنتابهم، وتنهش أجسادهم مثل سائر الناس.. ورأيتهم يعذبون بها، ويتألمون، من غير أن تغني عنهم ثروتهم شيئا.
ورأيت الغضب ينتابهم، ويملأ حياتهم بالكدر.. ورأيت الضيق والضنك في ملامح وجوههم من غير أن تستطيع كل تلك الثروات إزالته عنهم.
ورأيت الشيب يسرع إلى رؤوسهم مثل سائر الناس.. ثم ما أسرع ما تمر الأيام لتضعهم مع العجزة والشيوخ الذين بلغوا أرذل العمر من غير أن تفلح أموالهم في ردهم إلى شبابهم وقوتهم.
ورأيت أنه مع كون موائدهم ممتلئة بصنوف الطعام، إلا أن الشبع سرعان ما يدب إليهم، ويمنعهم من الاستمتاع بكل ما وضع في تلك الموائد.. بل رأيت أنهم لإلفهم لتلك الصنوف، صار مذاقها عندهم لا يختلف عن مذاق الخبز في فم الفقير.
لذلك يا رب.. شعرت بفقرهم وفاقتهم الشديدة.. وعلمت أنك أنت الغني الوحيد، وما عداك فقير..
فأنت الذي لك الوجود الأصلي الذي لم تستفده من أي جهة.. وكل من عداك مفتقر في وجوده إليك، ولولا أنت لظل في ظلمات العدم، لم يحظ بأن يشم أريج عطر الوجود.
وأنت الحي الذي يسمع ويبصر ويعلم بكل شيء من غير أن يفتقر إلى تلك الآلات والوسائل والأدوات التي نستعملها لذلك.. ونحن الفقراء الذين نحتاج إلى الوسائل والأدوات.. والتي قد يصيبها العطب، فيتحول بصرنا عمى، وسمعنا صمما، وعلمنا جهلا.
وأين سمعنا من سمعك، وأين بصرنا من بصرك.. وأنت يستوي عندك كل شيء، فلا فرق عندك بين الذرة والمجرة، وبين الصغير والكبير.. بل الكل عندك سواء.
وأنت يا رب الغني بذاتك عن أن يتعلق بك الزمان والمكان.. فكلاهما من خلقك، ونحن يا رب المقيدون بقيود الزمان والمكان..
وأنت يا رب الغني عن الأحداث والتغيرات.. ونحن يا رب عرضة لها، نفرح لما يفرح منها، ونحزن لما يحزن..
يا رب لا يمكنني أن أعدد حقائق غناك، وكيف أعد ما لا يمكن عده؟.. وكيف أحصي أملاك من يملك السموات والأرض، وكل شيء.. بل إن السموات والأرض ليستا سوى دينار من كنوز غناك الذي لا حدود له..
يا رب .. فأغنني بالافتقار إليك عن سواك، واجعلني أنظر إلى غناك، وأكتفي به، حتى يزول من قلبي كل تعلق بأولئك الفقراء الذين توهموا أنفسهم أغنياء.. وحتى يكون كل توجهي إليك، لا إلى تلك اللعب التي يملكها أولئك الواهمون، والتي سرعان ما تذهب عنهم، أو يذهبون عنها.
يا رب .. لقد قلت في كلماتك المقدسة: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام: 133]، وقلت: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) } [فاطر: 15 – 18]
وإني أعوذ بك يا رب أن تستبدل بي أحدا من خلقك، فأنا عبدك الفقير الذليل الحقير الذي لا يمكنه أن يتنفس الهواء، أو يشرب الماء، أو يأكل الطعام، أو يسير في الأسواق، أو تتقلب به الدنيا، دون أن تمده أنت بعطائك ورزقك وجودك وفضلك.
يا رب فاجعلني أشعر بفضلك علي في كل ذلك.. حتى أعلم أنه لا خير إلا منك، ولا فضل إلا بك.. وأنك أنت الغني الحميد.
يا رب أعوذ بك أن أكون كأولئك المغفلين الذين توهموا أنهم ينفعونك بعبادتهم، أو يضرونك إن تركوها، فأنت يا رب الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنياً عن غيرك؟
يا رب لقد قلت في كلماتك المقدسة تذكر غناك وفقرنا، وتدعونا إلى مد أيدينا إليك، لا إلى الأشياء التي هي من صنعك: (يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي، فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه)([1])
فأسألك يا رب أن تملأ قلبي بهذه الحقائق النورانية التي يدل عليها كل شيء، حتى أعيش في رحاب غناك المطلق، غنيا عن أن أمد يدي لأولئك الممتلئين بالفقر والحاجة والضعف.
وأعوذ بك يا رب أن تختبرني بما لا أطيق من الدنيا
التي قد تصرفني عنك.. فاصرف لي منها ما أحتاجه، وما يغنيني عن مد يدي لخلقك، واصرف
عني ما يؤدي إلى البطر والكبر والغرور.. فأنت تعلم ضعفي، فاحفظني من كل ما يبعدني
عنك، أو يصرفني عن بابك.. فبابك عندي هو الغنى المطلق الذي لا أحتاج معه لغيره.
([1]) صحيح مسلم 4/1994 ح(2577)