العزة المقدسة

العزة المقدسة
إلهي .. أيها العزيز الكريم الذي لا يعز إلا من لاذ به، وسكن إليه، وارتمى في بحار عبوديته..
ذل من طلب غيرك، وانتكس من ركن إلى سواك.. فلا عزيز غيرك، ولا عزيز إلا من أعززته.
لقد رأيت من الخلائق من اعتز بماله وغناه، لكنه ما إن نعم به أياما، حتى أذله دهورا وأعواما.. ثم تركه أحوج ما يكون إليه.
ورأيت من اعتز بجاهه وسمعته.. لكن الأيام أغارت عليهما؛ فتحول من العزة إلى الذلة، ومن الشهرة إلى الخمول، ثم سرعان ما نسيه الخلائق، ولم تبق إلا جرائمه تجرعه كل صنوف الهوان.
ورأيت من اعتز بصحبة السلاطين والملوك والأمراء.. لكنهم لم يذيقوه إلا كل ألوان الهوان، ثم تركوه أحوج ما يكون إليهم.
ورأيت من اعتز بعلمه.. فلم ينفعه علمه، لأنه لم يكن لك، ولا بك، ولا لأجلك وإنما كان لمباهاة العلماء، ومماراة السّفهاء، والافتخار به في المجالس والمنتديات والمؤتمرات وعلى شاشات القنوات.
ورأيت من اعتز بنسبه، فلم ينفعه نسبه، لأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وكان أول من تبرأ منه أولئك الذين ادعى نسبته إليهم.
ورأيت من اعتز بحسبه.. فلم ينفعه حسبه.. بل كل من اعتز بهم أذاقوه من ألوان الهوان، ما زاده ارتكاسا وسقوطا.
وأيت من اعتز بجماله.. ظظ
كل هؤلاء يا رب تمرغوا في أوحال الذلة.. لأنهم لم يعرفوك، ولم يتصلوا بك، ولم يعيروك أي اهتمام.. بل توهموا أن أولئك الذين استعزوا بهم أعظم منك شأنا.. لكنهم اكتشفوا في الأخير أنك أنت وحدك العزيز، وأنه لا عزة إلا لمن صحبك، ولجأ لجوارك، وتواصل معك، وعاش في كنفك.
لقد أدرك سحرة فرعون ذلك.. فعندما دخلوا على فرعون كانوا فرحين مستبشرين يرددون {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، لكن موسى الذي لم تكن عزته إلا بك، كان ينظر إليهم حزينا، وهو يرى تعلقهم بقشة لا تغنيهم شيئا..
وسرعان ما رمى عصاه، لتلتهم كل ما أعدوه، وليعلموا حينها أن العزة لله وحده، وأن فرعون لا يساوي شيئا أمام تلك العصا الخشبية التي كانت في يد نبيك موسى.
وهكذا فعل إبراهيم الذي لم يبال بكل تلك النيران التي أعدت له.. ولا بذلك النمروذ الذي صب عليه جام غضبه.. ولا بأولئك الخلائق الذي التفوا حوله ليشموا روائح جسده، وهو يشوى..
كان إبراهيم حينها مشغولا عنهم بك.. بل كان في غاية السرور، لأنه سيقدم جسده قربانا لعظمتك وجلالك.. ولذلك لم يشعر بأي ذلة، بل كان في قمة عزته وكرامته..
وقد شئت يا رب أن تريهم بعض مظاهر عزتك، فحولت النار بردا وسلاما.. ليقف الجميع مبهوتين.. وليعلموا ذلة من اعتزوا بهم، وهوان من ركنوا إليهم.
يا رب .. أسألك وأنت العزيز الكريم.. ألا تجعلني أركن إلى شيء غيرك.. فأنت الغاية العظمى، وأنت المقصد الأسنى، وأنت الذي يذل كل من احتمى بغيرك.
وأعوذ بك يا رب من تلك الأهواء التي تقيد أصحابها بخيوط الحرير، لتجرهم إلى حتفهم، وتقضي على حقائقهم، فتكون أنت أول ما يخسرون.. وبخسارتهم لك يخسرون كل شيء.
يا رب .. لقد أمرتنا في كتابك أن نردد: {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
ونحن نرددها بألسنتنا كما أمرتنا.. فاجعلنا نرددها بقلوبنا وأرواحنا وأسرارنا، حتى نعلم أنك الملك الوحيد في هذا الكون.. وأن نداءك { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ليس خاصا بالآخرة، بل هو عام في كل الأوقات.. لكن لا يسمعه إلا أصحاب البصائر.
يا رب .. لقد قلت في كتابك: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، ونحن ـ يا رب ـ نريد تلك العزة الحقيقية التي جعلتها لأنبيائك وأوليائك وأصفيائك.. أولئك الذين صفيت القلوب من الأغيار، فلم يلتفتوا إلا لعظمتك، ولم ينبهروا إلا بجمالك، ولم يقضوا حياتهم إلا في خدمتك وصحبتك وعبوديتك.
يا رب .. لقد حدثنا رسولك الخاتم، فقال: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن منع سخط)([1]).. ونحن نعوذ بك يا رب أن نكون عبيدا لهؤلاء ولغيرهم.. ونسألك أن نكون عبيدا لك وحدك.
يا رب.. لقد قلت في كتابك: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24]، ونحن نعوذ بك يا رب أن يكون آباؤنا أو إخواننا أو عشائرنا أو كل من ذكرته حجابا بيننا وبينك.. فأنت المقصود الأعظم، وأنت المحبوب الأعظم.
يا رب .. نحن لا نملك نفوسنا، ولا قلوبنا، ولا أرواحنا.. ولا نملك شيئا من أمرنا.. فكن أنت سندنا، و(آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)([2])
فنحن نعلم يا رب أنه لا يعتز بك إلا من أطاعك، وملأ
قلبه بحبك، وشغل حياته بك، لا بسواك، وقد قلت في كتابك العزيز: {وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8]
([1])صحيح البخاري 4/34 ح(2886)
([2])رواه مسلم (2722)