الظاهر والمظاهر

الظاهر والمظاهر

إلهي .. يا محتجبا بحجاب الغيب المطلق..

لقد رحت لكل شيء أسأله عنه، وعن سره، فدلني عليك..

أخبرتني الزهرة أنها وعطرها وجمالها لم تكن لولاك..

وأخبرتني أن الذي ذاب في حبها يكذب على نفسه، وعليها، لأنها ليست سوى نقطة من محيطات جمالك الذي لا حدود له.

وأخبرني الكرم والرحمة واللطف المتجلي في كل شيء بأنه منك بدأ، وإليك يعود، وأنه ليس سوى مظهر من مظاهر كمالك الذي تجلى في الأشياء، ولا وجود له لولاك.

وعندما سألت كل العاشقين عن سر عشقهم أخبروني أنهم تاهوا في تلك التقاسيم الجميلة، والأفواه العذبة، والعيون الحوراء، والابتسامات الآسرة..

وعندما رحت أسألها جميعا عنها وعن سرها أخبرتني أنها أشباح لولاك..

فأنت سر الجمال والبهاء المودع فيها، ولولاك لبقيت في عالم الظلمات المطبقة التي لا محل فيها لأي جمال ولا لأي بهاء، ولا لأي وجود.

وعندما رحت أسأل العلماء والفلاسفة عن سرهم أخبروني أنهم غرقوا في بحر الأسرار المودعة في عوالم الحس والمعاني..

وعندما تركتهم، ورحت أسألها عن سرها، وسر تعلق العلماء والفلاسفة بها أخبرتني أنهم لم يتعلقوا بها، وإنما تعلقوا بصاحبها الذي لا حدود لإبداعه، ولا قيود لكماله..

وأخبرتني أن سر حجابهم انشغالهم بالمظاهر عن الظاهر، وبالأشياء عن مشيئها، وبالصور عن مصورها، وبالكون عن مكونه.

فأسألك يا رب كما دللتني عليك بالمظاهر التي أظهرتها ألا تحجبني بها عنك، فإن أكثر الناس راحوا يتأملون فيها وفي جمالها، وبدل أن يرحلوا منها إليك، سجنوا أنفسهم في سجونها، ونسوك، فتحولت لهم إلى صورتها الحقيقية التي خلت عنك، وملأتهم عذابا.

يا رب.. لقد علمت أنه لا جمال لشيء من دونك.. فأنت المصور البديع الذي بيده كل الألوان، فلا وجود للألوان من دونك..

وقد علمت أنه لا رحمة لشيء من دونك.. فأنت الرحمن الرحيم.. وما نراه من رحمة ولطف وعناية ليست سوى قطرات من محيطات رحمانيتك التي لا حدود لها.

وقد علمت أنه لا سعادة من دونك، فأنت الذي تملأ القلوب بالفرح الحقيقي الذي لا يزول، وكيف يزول ومصدره منك، وأنت الحي الذي لا يموت؟

وقد علمت أنه لا كمال من دونك.. وكيف يحصل الكمال لمن تعلق بالناقصين، وسجن في سجون القاصرين، ولم يرتق في سلم العارفين؟

وقد علمت أنه لا وجود من دونك.. فأنت صاحب الوجود المطلق، وكل ما نراه من موجودات فيوضات من بحر جودك ووجودك.

يا رب .. فأعوذ بك أن يأسرني الوجود التبعي عن الوجود الأصلي..

وأعوذ بك أن أسجن في سجون الظلال التي تريد أن تملأ حياتي بالوهم.

وأعوذ بك أن أبحث في السراب عن الماء.. فلا وجود للماء من دونك.. ولا يرتوي العطشان قبل أن يلقاك.

يا رب.. اجعلني أتنقل في الآثار بصحبة الاعتبار.. حتى لا أسجن في سجونها.. وإنما لأعبر منها إليك، وأجعلها سلمي الذي أرتقي به إلى عظمتك.. فأنت المطلوب الأول، وأنت المقصد الأعظم.

يا رب لقد أبرزت المظاهر لتدل عليك، فاجعلني أرحل منها إليك..

وأعوذ بك أن تكون رحلتي من الأكوان للأكوان، فأكون كحمار الرحى الذي يتنقل في دائرة مفرغة، مليئة بالعبث.

اجعلني يا رب أراك في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، ومع كل شيء، وعند كل شيء.. حتى لا تقيدني الأشياء بقيودها، فأحجب بها عنك.

يا رب .. لقد أعطيتني من نعمك كل ما طلبته منك.. لكني أعوذ بك أن تكون تلك النعم اختبارا لصدق مودتي لك.. فأنا لم أطلبها منك لتكون حجابا بيني وبينك، بل طلبتها لعلمي بكرمك وفضلك ورحمتك.

يا رب طلبتها منك، لتكون دليلي إليك، لا حجابا بيني وبينك.. فاجعلني أفرح بها لكونك مهديها ومرسلها والمنعم بها.. وأعوذ بك أن يشغلني فرحي بها عنك، فأكون كذلك الذي باع عز الأبد بدراهم مغشوشة.

يا رب.. أنا قطرة من بحر جودك.. فاغمرني بفضلك.. وأدخل قطرتي في محيط جمالك.. لتفنى في جمالك عن نفسها.. فلا سعادة للقطرة إلا في عودتها للمحيط الذي منه برزت، وبه ظهرت.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *