الخير الأعظم

الخير الأعظم
إلهي.. يا مصدر كل النعم، ومنبع كل خير..
يا من خاطبت عقولنا وأرواحنا بكلماتك المقدسة، تسألها قائلا: { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]؟
أجل .. يا ربنا، فأنت الخير الأعظم، وأنت صاحب كل فضل ونعمة.. ولولاك لم نعرف الابتسامة، ولم نمتلئ بمشاعر الفرح، ولم تغمرنا لحظات السعادة، ولم نعرف في حياتنا إلا الشقاء.
لولاك لضاقت بنا الأكوان، وضاقت بنا الحياة.. وكيف لا تضيق ولا أمل إلا معك، ولا سعادة إلا بك؟
فذلك الحنان الذي قابلناه أول ما خرجنا إلى هذه الدنيا لم يكن إلا منك.. فلولا تلك الرحمة التي أودعتها قلوب آبائنا وأمهاتنا، لرمونا، ولما أجهدوا أنفسهم في تحمل عنت الحياة من أجلنا..
وهكذا كل ما رأيناه من مشاعر الود واللطف والحنان.. كلها منك، وبك، فقد كنت أنت الودود، وأنت اللطيف الذي يستعمل كل الوسائل لإسعادنا، وأنت الحنّان الذي يملأ قلوبنا بالفرح والأمل والسعادة.
أما ما نراه أو ما حصل لنا من الآلام، فهي مغمورة في جنب فضلك العظيم، وهي محدودة بزمن محدود، سرعان ما يزول، لتحل بعده نعمك الخالصة التي لا تُنغص، والصافية التي لا تُكدر.
أنا أعلم يا رب أنك ما خلطت هذه الدار بتلك الكدورات إلا لتنبهنا وتربينا وتهذب أخلاقنا.. فقد رأيت بعضهم يغتر بصحته، ويفخر على من حوله بكونه لم يمرض في حياته أبدا، وبدل أن يشكرك، ويتواضع لعظمتك، راح يستعلي عليك، وعلى خلق الله، ويذيقهم بأس عضلاته المفتولة، وعقله الفارغ.
وهكذا رأيت من الأغنياء ممن رُبي في أحضان الثروة، يتيه على الفقراء، ويستكبر عليهم، بل يدعو إلى إبادتهم لكونهم لا يختلفون عن البعوض والذباب.
ولو أنه ابتلي بما ابتلوا به.. وذاق من ضنك الحياة وضيقها بعض ما ذاقوه لخفف من كبريائه، ولعاد إليه وعيه.. لكنك يا رب تبتلي من تشاء بما تشاء.
ولذلك كان من رحمتك وحكمتك أن تضع في الحياة كل الألوان حتى تتميز جميع الصور، ويتميز معها الخبيث من الطيب..
لقد ذكرت ذلك في كلماتك المقدسة، فقلت: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف:33)([1])
وذكرت أيضا ذلك الصلف والكبرياء التي تعتري أولئك الجاحدين الذين غمرتهم ببعض فضلك، وبدل أن يشكروك، ويطلبوا المزيد، راحوا ينشغلون بما أعطيتهم، ويتصورون أنه حقهم، ولا يعلمون أنهم مستدرجون، وأنك لم تعطهم إلا لتختبر مواقفهم..
لقد قلت في كلماتك المقدسة تذكر ذلك: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55 ـ 56)
وقلت: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(آل عمران:178)
وهكذا أعلمتنا بأن رضاك ليس في تنزل النعم، وسخطك ليس في تنزل البلاء، وإنما علامة رضاك هي ذلك الرضا الذي نبديه لك، سواء أنعمت علينا، أو ابتليتنا.. لأنك لم تفعل ذلك بنا إلا لتربينا، وتعلمنا، فالدنيا دار تربية واختبار، وليست دار جزاء واستقرار.
لقد قلت تذكر ذلك، وتفنده: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } [الفجر: 15، 16]
وذكرت أن غايتك من كل ما يوجد في الدنيا من أنواع البلاء هو تمييز الصالحين الصادقين من المنافقين الكاذبين.. لقد قلت تذكر ذلك: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)
لقد جربت ذلك يا رب مع من يحيط بي من الناس.. ذلك أني بعد أن أظهرت لهم بعض إحساني تقربوا مني، وأظهروا مودتي، لكني بمجرد أن أصابني من بلائك ما منعني من الإحسان إليهم، نفروا مني.. ولم يبق إلا الصادقون المخلصون، الذين لم يكتفوا بالزهد فيما عندي، وإنما راحوا يطلبون مني أن أتقبل إحسانهم وفضلهم.
لقد عرفت من ذلك سر البلاء.. وأنه لولاه لعشت حياتي كلها مخدوعا بأولئك المنافقين المحيطين بي.. والذين لم تكن مودتهم لشخصي، وإنما لذلك الكرم الذي كنت أبديه لهم.
لقد تعلمت من ذلك يا رب سر البلاء.. وحمدتك عليه، لأنك به نبهتني، ولولاه لم أكن لأكتشف الحقيقة، وأميز بين الصحيح والمزيف.
إلهي.. لقد رأيت بعض المستكبرين الجاحدين يرتدي نظارة سوداء قاتمة، ثم يطل من خرم إبرة على بعض مظاهر الشقاء الموجودة في الدنيا، ثم يقول باستعلاء مخاطبا بعض المغفلين المحيطين به: (ما دام الشر موجودا.. فالله ليس بموجود.. ذلك أنه إما أن يريد منع الشر لكنه لا يقدر؛ فهو إذن عاجز.. أو هو يقدر لكنه لا يريد؛ فهو إذن بغيض … أو هو قادر ويريد معًا؛ فهو إذن شرير)([2])
يا ويله.. كيف يفكر هذا الذي يدعي العلم والفلسفة؟
فلو أنه اكتفى بالثقة في هذا العظيم الذي أبدع هذا الكون بمنتهى الدقة والحكمة واللطف، لعرف أنه يستحيل عليه أن يفعل شيئا من دون أن تكون خلفه حكمة.. وعرف أن الجهل بالحكمة لا يعني عدم وجودها.
هو يفعل ذلك مع من يعظمهم من العلماء والفلاسفة والمفكرين.. فيكتفي فقط بعرض أفكارهم ونظرياتهم، ويعتبر مجرد نسبتها إليهم كافية في إثباتها..
وهكذا لو أنه اكتفى بذلك منك، وراح يثق فيك، كما يثق فيهم لوجد عشرات الحلول التي تحل له هذه التي سماها معضلة.
وأول ذلك النظر في الآثار العظيمة التي يحدثها البلاء في النفوس والمجتمعات، فلولاه لم يكن هناك شيء اسمه صبر، ولا رحمة، ولا حزن، ولا ألم .. وكلها وإن كانت قاسية إلا أن لها آثارها في التهذيب والتربية والإصلاح.
ولو أنه عرف ـ من خلال ما أنزلته في كلماتك المقدسة على جميع أنبيائك ـ أن هذه الدار، ليست دار قرار، وإنما هي دار اختبار، ولفترة محدودة، وأن ضيافتك الحقيقية معدة هناك، ولكنها معدة للطيبين فقط، أولئك الذين ينجحون في الاختبار.. لعرف أن الشر الذي يراه ليس سوى امتحان مثل تلك الامتحانات التي نجريها في الدنيا، لاختبار من نريد توظيفهم في أي وظيفة من الوظائف.
فهل رأى العالم أجمع أحدا يرقى لأي منصب، أو ينال أي شهادة، أو يطمع في أي مكسب من دون أن يبذل أي جهد، أو يعاني أي عناء، أو يضحي أي تضحية؟
فإن كان هذا في مكاسب الدنيا التي تفنى، فكيف في مكاسب الآخرة التي لا تنتهي أبدا؟
لقد قلت تذكر لنبيك هذا بعد كل ذلك البلاء الذي عاناه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 4، 5]
وذكرت له آثار ما نزل به في حياته من آلام، فقلت: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى:6-11]
وهكذا كان يمكن لذلك الجاحد أن يجد عشرات الحلول لتلك التي سماها معضلة، ويتأدب معك، ومع خلق الله الذي غواهم..
ولكنه يا رب لم يفعل.. لا لأنك لم تهده، أو لم تدله على السراط المستقيم.. وإنما لأنه لم يرد أن يسمع لك، ولا أن يسلك طريقك المستقيم.
لقد امتلأ بحب نفسه وأهوائه، وقد رأى أنك عقبة تحول بينه وبين تلك الأهواء الآثمة، فلذلك لم يجد حلا للفرار منك سوى الجحود، واستعمال البلاء وسيلة لذلك.
هو مثل ذلك التلميذ الكسول الذي يبحث عن أي فرصة، ليفر من بين يدي أستاذه، فلذلك إذا ما سمع من أستاذه أي كلمة نابية، أو فرض عليه بعض الواجبات الثقيلة، راح يفر منه، ويتذرع بأن أستاذه لم يرد به إلا الشر، مع أنه لم يرد به إلا الخير.
أو مثل ذلك الذي يفر من الطبيب الجراح الذي يريد أن يستأصل ما يؤذيه بحجة أن الجراح يحمل سكينا، وهل يمكن للجراح أن يؤدي وظيفته من غير سكين؟
وهكذا لو تأمل هؤلاء في أي شيء.. فسيجدون رحمتك محيطة بكل شيء.. حتى في ذلك البلاء الذي يتألمون.
لو أنهم فعلوا ذلك لحولت ـ بفضلك وكرمك ـ النار عليهم بردا وسلاما.. ولما شعروا بالآلام النازلة بهم.
وكيف يشعر بالآلام من يعلم أنه سيعود إليك، ويسكن دار السعادة التي لا نصب فيها ولا وصب، ولا حزن، ولا ألم، ولا شقاء؟
وكيف يشعر بالآلام من يعلم أن الدنيا كلها ساعات محدودة أمام حبل الزمن الممتد إلى ما لا نهاية: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغ} (الاحقاف:35)، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (النازعات:46)؟
وكيف يشعر بالألم من يعلم أن كل ثانية تمر في البلاء، يتضاعف فيها رصيد الفضل الإلهي الدائم الممتد، وقد قال نبيك يخبرنا عن ذلك: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك من نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)([3])
وقال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)([4])
يا رب .. فأسألك أن تملأ حياتي بالنظر إليك، والاكتفاء بك.. فأنت الخير الأعظم الذي لا تحل الطمأنينة إلا لمن لجأ إليه، وسكن في حضرته، وسجد قلبه لعظمته.
اجعل يا رب قلبي ساجدا لك سجودا أبديا.. فلا نعمة إلا
في السجود لك.. ولا فضل إلا في القرب منك.
([1])أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية..
([2]) هذا نص [معضلة الشر] التي ذكرها أبيقور، ثم تبناها بعده كل الملاحدة، وهي . تعتبر في الغرب اليوم، أهم شبهة إلحادية، وقد صرح كثير من أئمة الإلحاد، مثل (أنتوني فلو)، أهم منظري الإلحاد في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل تراجعه في بداية القرن الواحد والعشرين، أن شبهة الشر هي سبب إلحادهم، وجحدهم وجود إله خالق .. وهكذا نرى الفيلسوف الأمريكي (مايكل تولي) في مناظرته مع (ويليام لين كريغ) (2010 م)، اكتفى ـ تقريبا ـ باستعراض مشكلة الشر لإنكار وجود الخالق، مصرحا أن الحجة المركزية للإلحاد هي حجة الشر، وهو ما فعله أيضا الفيلسوف البريطاني الملحد (ستيفن لاو)، في مناظرته مع كريغ (2011 م)، وقد نشر (باري وتني) دراسة ببليوغرافية عن المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي نشرت عن مشكلة الشر في ثلاثة عقود فقط، من (1960 – 1990)، فإذا هي تبلغ 4200 دراسة.
([3])رواه مسلم (8/135)
([4]) رواه الترمذي رقم (2403)