الخلاق البديع

الخلاق البديع

إلهي.. أيها الخالق البارئ المصور.. فاطر السموات والأرض.. وبديع كل شيء.

كنت اليوم خارج البيت، أتجول في حقولك التي أبدعتها.. كانت الشمس مشرقة.. وكانت الطبيعة تسبح بحمدك، وترتل آيات جمالك الذي لا حدود له بلسان أزهارها وعطورها وبراعم أشجارها وثمارها..

وفجأة غابت الشمس، وامتلأت السماء بالسحب.. وما هي إلا لحظات حتى تنزلت أمطار جميلة غيرت المشهد تماما.. لكن إلى صورة لا تقل جمالا عن صورته الأولى..

لقد كانت الأمطار وهي تتهاطل بموسيقاها الجميلة التي اختلط فيها صوت الرعد مع لمعان البرق تسبح جميعا بحمدك، وتحدث في النفوس آثارا جديدة تدل على إبداعك وجمالك وتنوع مظاهر قدرتك وتصويرك.

وبعد لحظات .. هبت رياح شديدة.. ثم تنزلت بعدها ثلوج كثيفة، كست الأشجار بحلتها البيضاء الجميلة.. وتحول الحقل في ساعات محدودة إلى سجادة بيضاء ناصعة ممتلئة بالجمال.. وخرج الصبية مع آبائهم وأمهاتهم يفرحون ويمرحون، ويقذف بعضهم بعضا بكرياته اللطيفة.

وهكذا كنت أرى الجبال منها {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27]

وكنت أرى الحيوانات منهم { مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } [النور: 45]

وكنت أرى {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141]

وكنت أرى {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } [الزمر: 21]

وكنت أرى البشر مختلفي الألوان والأشكال، واللغات والطباع.

وهكذا كنت أرى تنوعا كبيرا في إبداعك يا رب.. فأنت الذي خلق كل شيء وبرأه وصممه وصوره ليملأ حياتنا بكل ألوان البهجة، وليصرف عنا كل ألوان الملل، ولنعرف بعد ذلك كله مدى قدرتك التي لا حدود لها.

يا رب .. لقد قال عبدك الصالح يذكر ذلك في مناجاته لك: (إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء)([1])

فأسألك يا رب ألا أكون كذلك المشاهد البسيط الذي يستغرق في مشاهدة أفلامه متأثرا بها، منفعلا لها، غافلا عن المصمم والمخرج والمهندس والمبدع الذي أخرجها بتلك الصورة.

أسألك يا رب أن أرى في كل شيء لمسات إبداعك وتصميمك وتصويرك.. حتى تكون تلك المشاهد زادا لقلبي يرفعني إليك، ولا يحبسني في سجون الأشياء.

يا رب لقد وصفت عبادك الصادقين من أولي الألباب، فقلت: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191]

يا رب .. فكما جعلت اختلاف الليل والنهار، وخلق السموات والأرض معارج لترفعهم بها إليك، فاجعلها معراجي إليك.

وارفع درجتي ـ يا رب ـ لأرى من فضلك ما حجب عن خلقك.. فأنت القادر على كل شيء، وقد قلت عن نبيك وخليلك إبراهيم: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]

وقلت عن خاتم أنبيائك وسيدهم: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } [النجم: 13 – 19]

يا رب .. وأعوذ بك من الحجاب الذي وقع فيه الغافلون حين راحوا بعقولهم التي أنت أبدعتها يفرضون عليك القوانين التي توهموا أنهم اكتشفوها..

لقد راح وهمهم يخبرهم أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، ولا موازين ولا سراط.. وأن كل ما أخبر به رسلك وهم وأساطير..

عجبا لهم.. ولعقولهم القاصرة.. فهل يمكن لمن صمم هذا الكون البديع، أن يعجز أن ينشئ كونا آخر، أو حياة أخرى، بقوانين غير هذه القوانين؟

فهل المصمم والمهندس هو الذي يفرض إبداعه على تصميمه أم أن الإبداع هو الذي يفرض نفسه؟

وهل الرسام هو الذي يختار ألوانه، والمشاهد التي يلهمه إياها ذوقه، أم أن الألوان والمشاهد هي التي تفرض نفسها عليه؟

وهل الشاعر هو الذي ينتقي الألفاظ والأوزان والقوافي والمعاني التي يخرج بها قصيدته.. أم أنها هي التي تفرض نفسها عليه؟

ويل لهم .. ولعقولهم القاصرة.. فلو تأملوا قليلا في الكون، ورأو مظاهر التنوع فيه، وتأملوا في الأحياء، ورأوا كيف أن بعضها يعيش في البحر، وبعضها يعيش في البر، وبعضها يطير في السماء.. وبعضها صغير جدا، وبعضها كبير جدا..

ولو عادوا لموسوعات الحياة والأحياء لوجدوا ملايين الأنواع التي تختلف في كل شيء..

فهل يعز على من خلق كل هذا، أن يحيي الخلق بقوانين أخرى، وسنن جديدة، وهيئات هو الذي يختارها، أم أن القوانين التي وضعها أول مرة، ستفرض عليه كل مرة؟

ويل لهم.. وويل لعقولهم القاصرة.. ألم يروا إلى مبدأ خلقهم حين كانوا يسبحون كالحيتان في البحر، ثم فجأة خرجوا إلى الدنيا، ليتنفسوا هواءها، ويتحولوا من كائنات بحرية إلى كائنات برية.. أيعجز الذي فعل هذا بهم، أن يحييهم حياة جديدة، لا برية ولا بحرية؟ أم أن العقل لا يحتمل إلا الحياتين فقط؟

ويل لهم .. ألم يعلموا أن الذي أبدع الزهور الممتلئة بالأريج العطر، والفواكه الممتلئة بالمذاق الطيب، والطيور الجميلة صاحبة الأصوات العذبة.. لن يعجز أن ينشئ جنة لعباده الصالحين تحوي أصناف الجمال ما رأوا مثله وما لم يروا، جزاء لهم على صدقهم وصلاحهم؟

ويل لهم .. ألم يعلموا أن الذي خلق البراكين والزلازل والحيات والعقارب لن يعجز أن يبني دارا ممتلئة بكل أصناف العذاب لأولئك المجرمين المستبدين الظلمة الذين استكبروا عليه، وأذاقوا خلقه ألوان الهوان؟

يا رب .. طهر عقلي من أن تتسرب إليه أمثال هذه الضلالات.. فأنت الهادي الذي تنعم على الصادقين بالهداية.. كما أنك المضل الذي تترك المنحرفين الممتلئين بأهوائهم لضلالهم وغيهم، لأنهم تكبروا أن يستمعوا إليك، أو يذعنوا لرسلك.

يا رب .. فاملأ حياتي بألوان هدايتك.. حتى أمتلئ تعظيما لك.. ونور بصيرتي حتى أرى كل شيء منك وبك وإليك.


([1])إقبال الأعمال ص 348.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *