التدبير الحكيم

التدبير الحكيم
إلهي .. أيها المدبر الحكيم الذي لا يقوم شيء في الكون إلا بتدبيره وتسييره ورعايته.
كم نبتعد عنك حين يعترينا الألم والحزن واليأس لأجل أحداث بسيطة تنزل بنا، تعجز عقولنا عن إيجاد حلول لها.
وبدل أن نهرب إليك، ونفوض الأمر إلى تدبيرك، ننحني للأيام، ونمتلئ باليأس والقنوط، ونغفل أن نضع بين يديك ما حل بنا، لتدبره بحكمتك وعلمك ولطفك وخبرتك.
وكأن الذي دبر هذا الكون من الذرة إلى المجرة غيرك..
وكأن الذي صمم خلايانا وأنسجتنا وأعضاءنا وأجهزتنا بذلك التصميم العجيب الذي أبهر العلماء والأطباء والخبراء سواك.
ولو أننا ـ ربنا ـ تركنا عقولنا التي عقلتنا، ورحنا نتأمل في خلقك البديع، وصنعك الحكيم، لسمعنا كل شيء يسبح بحمدك، ويقر بأنك أنت الخالق الرازق المدبر لكل الأمور، وأنه لولاك لم يكن شيئا.
فأنت الذي أفضت علينا وعلى كل شيء نعمة الوجود، وأنت الذي أمددتنا وأمددت كل شيء بكل أنواع الرزق، وفيوضات الفضل.
أفيعجز من {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أن يعطينا ما سألناه، أو يدبر من أمورنا ما عجزنا عنه؟
أو يمكن لليأس أن يحل في عقل أو قلب شخص يعلم أنك الخالق الرازاق المدبر الحكيم العليم الخبير.. الذي لا يستحيل عليه شيء، وكيف يستحيل عليه، وهو خالق كل شيء، ومدبر كل أمر، والذي لا نهاية لعلمه، ولا حدود لقدرته؟
وهل يكون العجز إلا لذلك الجاهل الذي لا يعرف من الأشياء إلى ظواهرها.. وأنت المحيط بكل شيء علما، دقيقه وجليله، وأوله وآخره، وعاقبته وفاتحته، لا نهاية لمعلوماتك ولا حصر لها، وقد قلت في كتابك الكريم على لسان نبيك شعيب:{ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } (لأعراف: 89)؟
ولذلك كان من أسمائك (الواسع).. فأنت واسع في علمك وخبرتك ولطفك وقدرتك وحكمتك ورحمتك.. وكل شيء.
ولذلك أينما وجهنا عيوننا وقلوبنا وعقولنا وأورواحنا وجدناك، ووجدنا تدبيرك وحكمتك ولطفك.. وسمعنا كل شيء يردد قولك:{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:115)
ولذلك لا مكان لليأس معك.. وهل اليأس إلا من أولئك الجهلة العاجزين الممتلئين بالضعف.. أولئك الذين وصفتهم بأنهم { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]؟
وقد عدت يا رب لكل جامعات الدنيا ومخابرها، وسألت جميع علمائها، وفي جميع التخصصات، فأخبروني بصدق ما ذكرته عن الذبابة، بل أخبروني بأن العلم ـ مع تطوره الكبير، وفي كل المجالات ـ لا يزال عاجزا أمام أبسط الأمور، وأحقر الأشياء.. وأنه يظل دائما يمد يده إليك طالبا مددك وفضلك وجودك.
يارب .. أنا أعلم، بل أوقن .. أن كل تلك المعامل، وكل أولئك العلماء، لم يكونوا ليحققوا شيئا، وفي أي مجال دون مددك..
فأنت الذي هديتهم، وأنت الذي علمتهم، وأنت الذي دللتهم على ما عجزت عقولهم عن معرفته وتدبيره.
لكن بعضهم يارب .. وبدل أن ينسب الفضل إليك، ويملأ عبادك بالإيمان واليقين، راح يردد ما ردده قارون من قبله حين فرح بعلمه، ونسي فضلك، وقال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]
فنعوذ بك يا رب أن ننسب أي شيء لتدبيرنا، أو عقولنا، أو علومنا.. فأين تدبيرنا، وعقولنا، وعلومنا منك؟
نعوذ بك يا رب أن نكون كأولئك الذين دعوك في الضراء، فلما مننت عليهم بالسراء، راحوا يغفلون عنك، وينسبون لأنفسهم ما حل بها من فضلك..
لقد قلت تذكرهم في كتابك: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 49 – 51]
يا رب نعوذ بك أن نُفتن بعقولنا وعلومنا.. فنحن نعلم أن كل شيء منك.. حتى تلك الخواطر التي ترد علينا، وتملأ حياتنا سعادة وسرورا هي من فيوضات رحمتك.. وليست من تدبير عقولنا العاجزة..
وهكذا فإن كل ما نصل إليه من حقائق في الكون والحياة وكل شيء، هي إلهامات منك إلينا.. فأنت المعلم الذي يفيض على عباده من فيض علمه.. وأنت المدبر الذي يوفر لكل شيء ما يحتاجه.
يارب .. فاجعلنا نركن إليك.. لا إلى الأشياء، ونفرح بك لا بالأشياء.. ونمد يدنا إليك لا إلى الأشياء.. حتى لا تكون الأشياء فتنة لنا، وحجابا بيننا وبينك.
يا رب.. لقد سعد من قرأ حروف تدبيرك في كل شيء.. فلم ير الرياح إلا مرسلة منك، متحركة بتحريكك: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]
ولم ير السحاب وهو يتجول في السماء ليبحث عن الأرض التي يرويها إلا متحركا بعلمك وقدرتك: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]
وهكذا لا يرى شيئا إلا رأى فيه مظاهر علمك وقدرتك وحكمتك ولطفك: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164} [البقرة: 164]
لقد سعد .. لأن الأشياء لم تزده منك إلا قربا.. والتدبير لم يزده منك إلا معرفة.. فصار حقيقا بذلك الوصف الذي وصفت به العلماء، فقلت: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]
فنسألك يا رب أن ترزقنا هذه الرؤية، ونعوذ بك من رؤية المحجوبين المنشغلين بأنواع التدبير عنك..
أولئك الذين يتناولون من بساتين فضلك، وبدل أن يلهجوا بشكرك، ويعترفوا بفضلك، ويحمدوك على نعمك.. يذكرون كل شيء، يذكرون الماء والهواء والتربة والضغط الجوي.. وينسوا أن يذكروك أنت.
أو أولئك الذين يذكرون الأطباء والمستشفيات والأدوية، ويثنون عليها الثناء العريض، وينسون أن يذكروك، مع أنك أنت الطبيب والدواء.. ولولاك ما حل الشفاء، ولا ارتفع البلاء.