إلى الصحابة المطرودين

إلى الصحابة المطرودين

إلى الصحابة المنتجبين الممتلئين بالصدق والإخلاص والتقوى، وكل القيم الرفيعة، أولئك الذين ضحوا بكل ما يملكون في سبيل الله، وحافظوا على العهد، ولم ينقضوه إلى أن توفاهم الله بعد أن ذاقوا كل ألوان البلاء.

إلى أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]

اسمحوا لي أيها الأجلاء المنتجبون أن أبث إليكم شكواي، وأضع بين أيديكم آلامي، فأنتم لا تختلفون أبدا عن أهل بيت النبوة، ولا بني هاشم، ولا غيرهم.. فديننا دين قيم، لا دين أنساب.. ودين الله لا دين عشائر.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سلمان الفارسي: (سلمان منا أهل البيت)([1])، وقد كان الإمام الصادق يعظمه كثيرا، حتى سأله بعضهم عن سر تعظيمه له، وقال له: (ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي؟)، فقال الإمام الصادق: (لا تقل سلمان الفارسي ولكن قل سلمان المحمدي، أتدري ما أكثر ذكري له»؟ قلت: لا. فقال الإمام: (لثلاث خصال: إيثاره هوى أمير المؤمنين الإمام علي على نفسه، والثانية: حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعدد، والثالثة: حبه للعلم والعلماء)([2])

وهكذا كان كل أولئك الذين استبدلتهم الأمة بالطلقاء والمتخلفين والناقضين للعهود، والذين أصبح لهم الريادة والسيادة، وأدخلوا في كتب العقائد والفقه والحديث، وأبيحت دماء كل من ينتقدهم، أو يعرض أعمالهم على الكتاب والسنة وقيم الدين الرفيعة.

ولذلك نفقت بضاعة الطلقاء وراجت، وصار الكتاب والخطباء يتنافسون في الكتابة عنهم والإشادة بفضلهم في نفس الوقت الذي ينسون فيه بلالا والصخرة التي كانت تجثم على صدره، وهو ينادي أحد أحد..

 فالكل الآن يعرف معاوية وأباه وأمه وإخوانه وأخواته ويشيد بهم جميعا، وبالمناصب الرفيعة التي تولوها.. أما بلال ذلك العبد المسكين، فلا أحد يعرف المصير الذي صار إليه، ولا الحياة التي عاشها بعد وفاة حبيبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنه كان خازن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمين على مال الأمة في حياته.

وهكذا أسدلت حجب النسيان والغفلة على سمية تلك التي كانت أول شهيدة في الإسلام.. فلا أحد يذكر زوجها ياسر الذي كان أول الرجال استشهادا في سبيل الله.. ولا أحد يذكر ابنهما عمارا.. لأن ذكره سيشوه الطلقاء، وسيقلب صفحاتهم المنتنة، وسيبعث في جماهير المغفلين السؤال عمن قتله، ولم قتله، وكيف قتله؟ وكل ذلك سيحول الطلقاء من صحابة أجلاء إلى ظلمة وطواغيت.

وهكذا نسيت لبينة جارية بني المؤمل المستضعفة المعذبة([3])، وقد كانت من السابقين إلى الإسلام، وأوذيت إيذاء شديدا.. لأن في ذكرهم لها ولكيفية تعذيبها إحراجا كبيرا لمن قدمناهم بأهوائنا وأذواقنا ومعاييرنا البشرية القاصرة.

وهكذا نسيت أم عبيس، أمة بني زهرة([4])، تلك التي كانت قريش ـ التي أدخلنا تعظيمها في أبواب العقائد، وتوهمنا أنها بريئة من النفاق ـ تعذبها عذابا شديدا هي وزوجها أبو عبيس.. ولا زلنا إلى الآن نجهل نسبهما كما نجهل كل ما يرتبط بهما.

وهكذا نسيت النهدية تلك الجارية اليمنية المستضعفة التي كانت من السابقين إلى الإسلام، فكانت سيدتها تعذبها، وتقول: والله لا أقلعت عنك([5]).. وهكذا كان حال ابنتها التي عذبت معها، ولا نزال إلى الآن لا نعرف اسمها ولا اسم ابنتها، ولا أي تفاصيل عنها في نفس الوقت الذي نعرف فيه أنساب الطلقاء، ونعتز بها، وندخلها في كل دواوين الإسلام.

وهكذا نسيت زنيرة([6]) تلك الجارية المستضعفة التي كانت يتداول المشركون على تعذيبها بكل صنوف العذاب الحسي والمعنوي، حتى أن أحدهم كان يقول ساخرا منها: ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا؟ فلو كان أمر محمد خير اً وحق اً ما سبقونا إليه؟ أفسبقتنا زنيرة إلى رشد، وهي من ترون؟.. تلك التي عذبت إلى أن عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت، وهي لا تبصره: وما تدري اللات والعزى، من يعبدهما ممن لا يعبدهما؟ ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري، فأصبحت من تلك الليلة وقد رد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد.

وهكذا نُسي كل أولئك السابقين الصادقين، واستبدلوا بالطلقاء والمتخلفين.. وراح سدنة الملك العضوض، ومروجي دين الفئة الباغية يكذبون على الناس حين يوهمونهم بصدق إيمانهم بعد أن رأوا جيوش المسلمين قادمة لفتح مكة، في نفس الوقت الذي لم يؤمنوا فيه، وهم يرون القمر ينشق في السماء، ويسمعون تلك الآيات العجيبة من القرآن الكريم.

في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه عبد الله بن أبي لجأ إلى النفاق حتى يحمي مكانته بين قومه، ويكذبون على الناس حين يذكرون لهم أن النفاق خاص بأهل المدينة، ولا علاقة له بقريش.. وكأنهم لم يقرؤوا قوله تعالى عنها في أوائل سورة يس التي هي قلب القرآن:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: 1 – 11]

مع أنهم يذكرون في سبب نزولها عن ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: (ننشدك الله والرحم يا محمد ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ذهب ذلك عنهم) ([7])

وهكذا نسيت كل هذه الآيات، ونسيت معها كل تلك الحروب التي شُنت على المسلمين، ونُسي كل ذلك التعذيب الذي مورس على المستضعفين، وأصبح أبو سفيان وهند وأولادهم من خيار الصحابة، بل صارت الكتب تؤلف فيهم وفي فضلهم في نفس الوقت الذي يجهل الناس بلالا وعمارا وسمية وزنيرة.. وكل أولئك الذين لا يصح أن يطلق اسم الصحابة إلا عليهم.

ويستدل أصحاب الملك العضوض، وسدنة الفئة الباغية على ذلك الإلغاء والطرد للسابقين الأولين في نفس الوقت الذي يقربون فيه البغاة والطلقاء بأن الخلفاء الأوائل وظفوا أبناء أبي سفيان في وظائف الدولة الكبرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

ويا ليت شعري ما هذا الاستدلال الغريب، وهل كان الخلفاء الأولائل معصومون في ذلك التوظيف.. ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ينكر على أصحابه إنكارهم لتولي أسامه وأبيه، فقد ورد في الحديث أنه حين أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث بعثًا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، طعنوا في إمرته، فقام صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم طعنتم في إمرة أبيه من قبله.. وأيم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده»([8])

لكنا لو تركنا ذلك التقديس المبالغ فيه، ورحنا ننظر في أولى الناس بتلك المناصب الرفيعة، التي لم تكن مناصب سياسية فقط، بل كانت مناصب تمثل الإسلام، وقيم الإسلام، فسنجد أن هناك تقصيرا كبيرا حصل للسابقين الصادقين من المهاجرين والأنصار في نفس الوقت الذي ولي فيه الطلقاء، لسبب بسيط، وهو كونهم من قريش، وكانوا من ساداتها، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يردد على آذانهم كل حين: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة»([9])

أليس من العجيب سادتي أن يتولى أبناء أبي سفيان الذين كان لهم ولأبيهم سهم في المؤلفة قلوبهم أرفع المناصب في نفس الوقت الذين يعزل فيه كل أولئك الذين قدموا كل شيء في سبيل الله.. يعزلون هم وأولادهم، حتى لا نكاد نسمع عنهم شيئا.

فيزيد بن أبي سفيان الذي يسمونه يزيد الخير، والذي كان من الطلقاء، وألف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلبه للإيمان بمائة بعير وأربعين أوقيّة ([10])، صار قائدا على أول الجيوش التي أرسلت إلى الشام لفتحها ومساعدة الجيوش الإسلامية الأخرى عند الضرورة، مع أنه كان من المنهزمين يوم حنين، وكان في الصحابة من هو أولى منه قدرة ودينا وصلاحا.

وأبو الوليد عتبة بن أبي سفيان، صار واليا على الطائف وصدقاتها، ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وكان حريصا على المناصب، ويخطط لأعلاها، وقد رووا أنه اعترضه أعرابي وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد ([11]).

ومعاوية بن أبي سفيان ولي في أكبر وظائف الدولة منذ عهد مبكر، حيث ولي فتح قيسارية سنة خمس عشرة للهجرة، ويذكر المؤرخون الإسلاميون بفخر كيف شوه الفتح الإسلامي، حيث أنهم يذكرون أنه (سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر ـ وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييأس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس على أمير المؤمنين عمر، وقد أثبت معاوية بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً)([12])

وهم يذكرون بفخر كذلك أنه عندما توفي أخوه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس، جلس بدله في حكم دمشق وبعلبك والبلقاء([13])، ويذكرون أنه كان لذلك أثر كبير في نفس أبي سفيان، وجعل إسلاميه يرسخ أكثر، فما أجمل الإسلام الذي يأتي بالمناصب والأموال..

وقد رووا أن عمر حين عزى أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: (وصلت رحماً يا أمير المؤمنين)

ويروون ـ بفخر ـ أن أبا سفيان كتب حينها لمعاوية يقول له: (يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك)([14])

وهكذا كتبت هند تقول لابنها: (والله يا بني إنه قل أن تلد مثلك وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت) ([15])

بل إنهم صاروا يعتبرون هندا ـ تلك الصحابية الجليلة كما يطلقون عليها ـ مثالا للهمة العالية، وقد قال بعضهم في كتاب حول الهمم العالية: (ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين: إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد يواسونها ويعزونها، فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيهم لخرج من أي أعراضها شاء.. وقيل لها -أيضاً- ومعاوية وليد بين يديها: إن عاش معاوية ساد قومه.. فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه! وهذه العبارة لها معان عظيمة جداً بعيدة المرمى؛ لأن معنى ذلك أن وليدها بضعة لحم لا يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا سيكون إنساناً له شأن، ولكن هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه، حتى إنها لتأنف من أن يسود قومه فقط، بل غضبت حينما قالوا لها: إن عاش معاوية ساد قومه.. فقالت: ثكلته -أي: الأفضل أن يموت- إن لم يسد إلا قومه.. ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة وسياسة وحكمة)([16])

وهكذا ولي أبو هريرة الذي لم يشارك في أي غزوة، ولم يمس بأي أذى، وتأخر إسلامه إلى ما قبل الفتح في أكبر المناصب، وقد روي أنه أيام ولايته على المدينة في خلافة معاوية كان يتصرف تصرفات غريبة تلفت الانتباه إليه، وهم يحملونها على تواضعه، ولكنها قد تحمل على محامل أخرى، ومنها ما رواه محمد بن زياد قال: كان مروان ـ أيام ولايته على المدينة في خلافة معاوية ـ يستخلف أبا هريرة على المدينة فيضرب برجليه فيقول: خلوا الطريق خلوا الطريق قد جاء الأمير قد جاء الامير ـ يعني نفسه([17]).

بل إنه ولي قبل ذلك، فقد ولاه عمر على البحرين سنة 21هـ، ثم عزله بعد أن بلغته عنه أشياء تخل بأمانة الوالي، وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي، فقد روي أنه قدم بعشرة آلاف، وهو مبلغ ضخم جدا في ذلك الحين وفي هذا الحين، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، فقال له عمر: فمن أين هي لك؟ قال أبو هريرة: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت علي([18]).

وفي رواية أن عمر قال لأبي هريرة: (كيف وجدت الإمارة يا أبا هريرة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها، وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، فقال: أظلمت أحدا، قال: لا، قال: أأخذت شيئا بغير حقه؟ قال: لا، قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفا، قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر، قال: فانظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر في بيت المال([19]).

لقد روي كل هذا بفخر واعتزاز في نفس الوقت الذي كان فيه أولئك السابقون الصادقون يعيشون كل أنواع الآلام والفقر، لا يلتفت لهم أحد.. ولا يهتم بهم أحد.. سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم..

وقد روى المؤرخون الذين يعتبرونهم تلك المعاناة التي عاناها أبو ذر، حين نفي إلى الربذة، وهي على بعد ثلاثة أيام من المدينة المنورة، لخلافه مع معاوية، مع كون أبي ذر من السابقين الأولين إلى الإسلام، يقول ابن عبد البر في [الاستيعاب]: (بعد أن أسلم أبو ذر، رجع الى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر، وأحد، والخندق، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فصحبه الى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرج بعد وفاة أبي بكر الى الشام، فلم يزل بها حتى ولي عثمان، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية، فنفاه وأسكنه الربذة، فمات بها..)([20])

هكذا كان حاله مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عنه: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى ابن مريم)([21])

لكنهم يصورونه بصورة الضعيف الذي لا يستطيع الحكم، في نفس الوقت الذي يستيطع ذلك أبو هريرة وأولاد أبي سفيان.

وهكذا كان حال غيره من الذين لم يتح لهم ـ بسبب حفاظهم على قيم الدين ـ أن تصير لهم أمور الأمة، بعد أن صارت للطلقاء، والانتهازيين الذين يستعملون كل الطرق للوصول إلى غاياتهم.

وهكذا كان حال حذيفة بن اليمان، ذلك التلميذ الذكي النجيب من تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أن عمر ولاه على المدائن، وكتب له عهدا قال فيه لأهل المدائن: (اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم)، فخرج على حمار موكف، تحته زاده، فلما قدم المدائن، استقبله أعاظم الدهاقين (التجار) وبيده رغيف، وعرق من لحم. ولما قرأ عليهم عهده، قالوا: سل ما شئت، قال: طعاما آكله، وعلف حماري هذا – ما دمت فيكم – من تبن. فأقام ما شاء الله، ثم كتب إليه عمر: (أقدم)، فلما بلغه قدومه، كمن له على الطريق – وكانت هذه عادته – فلما رآه على الحال التى خرج عليها، أتاة فالتزمه وقال: أنت أخى وأنا أخوك([22]).

وهكذا كان حال سلمان الفارسى الذي دخل عليه قوم – وهو أمير على المدائن – وهو يعمل الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا وأنت أمير يجرى عليك رزق؟ فقال: (إنى أحب أن آكل من عمل يدى)، وكان يشترى خوصا بدرهم فيعمله ويبيعه بثلاثة دراهم ينفق درهما ويتصدق بدرهمين، وروي أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار أيام كان بها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عطاؤه خمسة آلاف، يتصدق به، ويأكل من عمل يده([23]).

وهكذا كان حال سعيد بن عامر حين كان واليا على حمص، وسأله عمر بن الخطاب، فقال له: ما لك من المال؟ قال: سلاحي وفرسي وأبغل أغزو عليها، وغلام يقوم عليَّ وخادم لامرأتي، وسهم يعد في المسلمين. فقال له عمر: ما لك غير هذا؟ قال: حسبي هذا، هذا كثير. فقال له عمر: فلمَ يحبك أصحابك؟ قال: أواسيهم بنفسي، وأعدل عليهم في حكمي. فقال له عمر: خذ هذه الألف دينار فتقوَّ بها. قال: لا حاجة لي فيها، أعط من هو أحوج إليها مني. فقال عمر: على رسلك حتى أحدثك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إن شئت فاقبل وإن شئت فدع: إن رسول الله عرض عليَّ شيئًا فقلت مثل الذي قلت، فقال رسول الله: (من أعطي شيئًا من غير سؤال ولا استشراف نفس، فإنه رزق من الله فليقبله ولا يرده)، فقال الرجل: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم. فقبله الرجل ثم أتى امرأته فقال: إن أمير المؤمنين أعطانا هذه الألف دينار، فإن شئت أن نعطيه من يتجر لنا به ونأكل الربح ويبقى لنا رأس مالنا، وإن شئت أن نأكل الأول فالأول. فقالت المرأة: بل أعطه من يتجر لنا به ونأكل الربح، ويبقى لنا رأس المال. قال: ففرقيه صررًا. ففعلت، فجعل كل ليلة يخرج صرة فيضعها في المساكين ذوي الحاجة، فلم يلبث الرجل إلا يسيرًا حتى توفي، فأرسل عمر يسأل عن الألف، فأخبرته امرأته بالذي كان يصنع، فالتمسوا ذلك فوجدوا الرجل قدمها لنفسه، ففرح بذلك عمر وسُرَّ وقال: يرحمه الله، إن كان الظن به كذلك([24]).

وهكذا كان حال عمير بن سعد الذي كان عاملا على حمص، وبقى فيها عامًا كاملا دون أن يرسل إلى عمر بالمدينة أي رسالة، فأرسل إليه عمر ليأتي إليه، وجاء عمير وشاهده الناس، وهو يدخل المدينة وعليه آثار السفر، وهو يحمل على كتفيه جرابًا وقصعة (وعاء للطعام) وقربة ماء صغيرة، ويمشي في بطء شديد من التعب والجهد، ولما وصل إلى عمر بن الخطاب قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فرد عمر السلام ثم قال له: ما شأنك يا عمير؟ فقال عمير: شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا؟ فقال عمر: وما معك؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقَصْعَتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوًا إن عَرَض (ظهر)، فوالله ما الدنيا إلا تَبعٌ لمتاعي. فقال عمر: أجئت ماشيًا؟ قال عمير: نعم. فقال عمر: أَوَلَمْ تَجدْ من يعطيك دابة تركبها؟ قال عمير: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم. فقال عمر: فماذا عملت فيما عهدنا إليك به؟ قال عمير: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعت صُلَحَاء أهله، ووليتُهم جَبايَة فيئهم (جمع صدقاتهم) وأموالهم، حتى إذا جمعوها وضعتها، ولو بقى لك منها شيء لأتيتك به، فقال عمر: فما جئتنا بشيء؟ قال عمير: لا. فقال عمر: جدِّدوا لعمير عهدًا، ولكن عميرًا رفض وقال في استغناء عظيم: تلك أيام خَلَتْ، لا عَمِلتُ لك، ولا لأحد بعدك([25]).

هؤلاء هم الذين كان ينبغي أن تسند إليهم جميع أمور الأمة، لكنهم عزلوا وطردوا وقتلوا.. ولم يبق لهم وجود حتى في أذهان الناس، لأن الطلقاء صاورا هم الصحابة والسابقين، ومن عداهم لا قيمة له.

***

أيها السابقون الصادقون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين وصفهم الإمام علي، فقال: (قد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب)([26])

نعم أولئك فازوا بالأموال والدنيا، لكن تبقون أنتم الصحابة الحقيقيون الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، ولذلك لن تطردوا من الحوض في الوقت الذي يطرد فيه المتخلفون الناقضون للعهود.

ولا تخافوا من تلك التهم التي يتهمكم بها أولئك الذين يكذبون على أنفسهم، وعلى الناس حين يزعمون أنهم يعظمون الصحابة، بينما هم يمارسون معهم كل ألوان العنصرية والتزوير.

ألا ترونهم كيف يقصرون المبشرين بالجنة في أولئك العشرة، لا لشيء إلا لكونهم من قريش في نفس الوقت الذي يتركون فيه أولئك السابقين إلى الإيمان من الذين أوذوا وعذبوا، وكأن الإسلام جاء لقريش لا لغيرها من القبائل والشعوب.

وهم لم يكتفوا بذلك، بل راحوا يعتبرون كبارهم من الذين واجهوا بني أمية منافقين.. فمن الصحابة الذين حكموا عليهم بالنفاق مع كونهم ممن شارك في غزوة بدر([27])معتب بن قشير الأنصاري: الذي هو بدري بالإجماع وهو عندهم منافق بالإجماع..

ومنهم مدلاج بن عمرو السلمي وهو بدري شهد صفين مع الإمام علي وتأخرت وفاته إلى عام 50 هـ، ورغم ذلك قال أبو حاتم عنه: (أعرابي مجهول وتواطئوا على ذكره في الضعفاء كأبي حاتم وابنه وابن الجوزي إلى عهد الذهبي فاستدركه عليهم ابن حجر في لسان الميزان في القرن التاسع!)

ومنهم ربيعة بن مسعود القارئ الذي قال فيه أبو حاتم: (أعرابي مجهول)! وذكره في الضعفاء ابن الجوزي والذهبي، وأهمله البخاري في تاريخه.. مع أنه بدري، وأسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم، وشهد بدراً والمشاهد كلها وتوفي عام 30 هـ.

ومنهم خليدة بن قيس الأنصاري، وهو بدري، لكن مع ذلك قال عنه أبو حاتم الرازي: (خليدة بن قيس بن عثمان من بني نعمان بن سنان الأنصاري شهد بدرا سمعت أبي يقول ذلك وسمعته يقول هو مجهول)([28])

ومنهم حمزة بن الجمير من بني عبيد بن عدي الأنصاري، وهو بدري ومع إقرار أبي حاتم بذلك إلا أنه قال فيه: (سمعت أبي يقول ذلك ويقول هو مجهول)، أي مجهول العدالة..

ومنهم أبو سفيان بن الحارث بن قيس، أخو نبتل، الأوسي، وهو بدري اتهموه بالنفاق..

وغيرهم كثير من الذين اتهموهم بالنفاق أو بالجهالة، وراحوا يرمونهم بعدم الوثاقة، في نفس الوقت الذي يكذبون فيه على الناس بادعاء عدالة جميع الصحابة.. لكن مقصودهم الأول في ذلك هو الفئة الباغية، ومن ساندها.

وهكذا نرى مواقفهم من الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق والإخلاص، ولكن بسبب كونهم من المعارضين للفئة الباغية نرى التجاهل في حقهم، بل الإعراض عنهم، واتهام كل من يذكرهم بالرفض وما يتبعه من الألقاب والأوصاف.

ومنهم أولئك الشهداء المظلومين المقتولين ظلما بعذراء من أرض دمشق، فعن أبي الاسود، قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء حجر وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين، إني رأيت قتلهم صلاحا للأمة، وبقاءهم فسادا للأمة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم، وأهل السماء)([29])

وعن سعيد بن أبي هلال أن معاوية حج فدخل على عائشة فقالت: (يا معاوية قتلت حجر بن الأدبر وأصحابه؟ أما والله، لقد بلغني أنه سيقتل بعذراء سبعة نفر يغضب الله لهم وأهل السماء)([30])

ومن العجيب أنهم ـ مع قبولهم لهذا الحديث، ومع كونه يدل على غضب الله على من قتل أولئك الشهداء المظلومين ـ إلا أنهم لم يغضبوا لذلك، بل راحوا يدافعون عن الطلقاء، وجرائمهم في حق الصحابة وغيرهم..

ومنهم عمرو بن الحمق الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الطلقاء سيقتلونه، فعن رفاعة بن شداد البجلي أنه خرج مع عمرو بن الحمق حين طلبه معاوية قال: فقال لي يا فارعة أن القوم قاتلي، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني أن الجن والانس تشترك في دمي، قال رفاعة: فما تم حديثه حتى رأيت أعنة الخيل فودعته وواثبته حية، فلسعته وأدركوه فاحتزوا رأسه، وكان أول رأس أهدي في الاسلام([31]).

وفي حديث آخر عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية، فقالوا: يا رسول الله، إنك تبعثنا، ولا لنا زاد ولا طعام، ولا علم لنا بالطريق، فقال: (إنكم ستمرون برجل صبيح الوجه يطعمكم من الطعام ويسقيكم من الشراب، ويدلكم على الطريق، وهو من أهل الجنة)، فلم يزل القوم على جعل يشير بعضهم الى بعض، وينظرون الي فقلت: مالكم يشير بعضكم الى بعض وتنظرون إلي، فقالوا: أبشر ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا نعرف فيك نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبروني بما قال لهم، فأطعمتهم وسقيتهم وزودتهم وخرجت معهم حتى دللتهم على الطريق. ثم رجعت الى أهلي وأوصيتهم بإبلي ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ما الذي تدعو إليه؟ قال: (أدعو الى شهادة أن لا اله الا الله، وأني رسول الله واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فقلت: إذا أجبناك الى هذا فنحن آمنون على أهلنا ودمائنا وأموالنا؟ قال: (نعم)، فأسلمت، ثم رجعت الى أهلي، فأعلمتهم باسلامي، فأسلم على يدي بشر كثير منهم، ثم هاجرت الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينا أنا عنده ذات يوم فقال: (يا عمرو، هل لك أن أريك آية الجنة، تأكل الطعام، وتشرب الشراب وتمشي في الاسواق؟)، قلت: بلى، بأبي أنت وأمي، قال: (هذا وقومه)، وأشار الى علي بن أبي طالب، وقال لي: (يا عمرو، هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وتمشي في الاسواق؟)، قلت: بلى، بأبي أنت وأمي، قال: (هذا) وأشار الى رجل، فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففررت من آية النار الى آية الجنة، ويرى بني أمية قاتلي بعد هذا، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: والله، لو كنت حجرا في جوف حجر لاستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني، حدثني به حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رأسي أول رأس تجز، ويحتز في الاسلام، وينقل من بلد الى بلد.

ومنهم قيس بن خرشة ومحاولة هؤلاء المجرمين التعرض له، وحماية الله له منهم، فعن محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي قال: إن قيس بن خرشة قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أبايعك على ما جاء من الله تعالى وعلى أن أقول بالحق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا قيس، عسى أن يمدك الدهر، أن يلقاك بعدي من لا تستطيع أن تقول بالحق معهم)، قال قيس: والله لا أبايعك على شئ إلا وفيت لك به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا لا يضرك بشر)، وكان قيس يعيب زياد بن أبي سفيان، وابنه عبيد الله، فبلغ ذلك عبيد الله، فأرسل إليه فقال: أنت الذي تفتري على الله تعالى وعلى رسوله؟ قال: لا، ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري على الله وعلى رسوله؟ قال: من ذاك؟ قال: أنت وأبوك الذي أمركما، قال قيس: وما الذي افتريت على الله ورسوله؟ فقال: (تزعم انه لا يضرك بشر!) قال: نعم، قال: (لتعلمن اليوم أنك قد كذبت، ائتوني بصاحب العذاب وبالعذاب)، قال: فمال قيس عند ذلك، فمات([32]).

ومنهم أهل الحرة، وفيهم صحابة أجلاء، فهم يزعمون كذبا أنهم موالون لهم، مع أنهم يقفون مع الذين استحلوا دماءهم، فعن أيوب بن بشير المعاوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في سفر، فلما مر بحرة زهرة وقف، فاسترجع، فسألوه فقال: (يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي)([33])

وعن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة:{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً﴾ (الأحزاب:14) قال: لأعطوها، يعني ادخال بني حارثة أهل الشام على المدينة([34]).

وعن الحسن قال: لما كان يوم الحرة قتل أهل المدينة حتى كاد لا ينفلت منهم أحد([35]).

وعن مالك بن أنس قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك في ملك يزيد.

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحادثة، وعن بعض الأحداث التي ستحدث في المدينة المنورة بعده، فعن أبي ذرٍّ الغفاريٍّ قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حماراً، وأردفني خلفه، وقال: (يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد، لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟) قال: الله ورسوله أعلم، قال: (تعفّف)، قال: (يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديدٌ، يكون البيت فيه بالعبد، (يعني: القبر) ـ كيف تصنع؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (اصبر)، قال: (يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (اقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك)، قال: فإن لم أترك؟ قال: (فأت من أنت منهم فكن فيهم)، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: (إذاً تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك)([36])

وقد قال ابن حجر مشيرا إلى هذه الوقعة عند ترجمته لمسرف بن عقبة ـ وهو صحابي ظالم من قواد يزيد بن معاوية ـ: (وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة وأسرف في قتل الكبير والصغير حتى سموه مسرفا وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون، ثم رفع القتل وبايع من بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية)([37])

وقال ابن كثير – الذي يثقون فيه كما يثقون في ابن حجر-: (وإنما يسميه السلف: مسرف بن عقبة، فلما ورد المدينة استباحها ثلاثة أيام، فقتل في غضون هذه الأيام بشرا كثيرا حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها، وزعم بعض علماء السلف أنه قتل في غضون ذلك ألف بكر والله أعلم)([38])

ونقل عن عبد الله بن وهب عن الإمام مالك قوله: (قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، حسبت أنه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في خلافة يزيد)([39])

وقد علق الشيخ حسن بن فرحان المالكي على هذا النص بقوله: (هؤلاء الصحابة من قتلهم غير سلف الغلاة؟ ولماذا يتكتمون؟.. كفار قريش لم يقتلوا من (الصحابة) ربع ما قتل سلفهم. مجموع ما قتلت قريش نحو (90 صحابياً فقط) ولكن بني أمية قتلوا فوق الألف على أقل حال.. أيضاً الشيعة والجهمية (والرافضة) وكل خصوم الغلاة لم يقتلوا من (الصحابة) صحابياً، بينما سلف الغلاة من بني أمية حصدوا أهل بدر والرضوان، بينما سعيد بن المسيب يقول بأن بني أمية قتلوا من أدركوا من (أهل بدر والرضوان).. لو لو سلمنا لهم جدلاً… أن كل خصومهم من الشيعة والجهمية والإباضية يكفرون (كل الصحابة ويلعنونهم) فهل تكفير الصحابي ولعنه أشد أم قتله؟ ليجرب أحدكم نفسه، ولينظر: هل يسوؤه أكثر من يلعنه ويكفره.. أم من يقتله ويفجر بنسائه وبناته، كما فعل أحبابكم بنو أمية بالصحابة، اصحوا، ولماذا حقدكم على من يلعن (الصحابة) أكثر من حقدكم على من قتلوا الصحابة وفجروا بنسائهم، مع أن أحبابكم بني أمية جمعوا الأمرين معاً.. أريد تفسيراً واضحاً من الغلاة… حتى نرتب الحقد على قدر الذنب. لكنني لا أفهم منهم هذا الحب للقاتل واللاعن والفاجر،وهذا البغض للاعن فقط)([40])

والنص الذي يشير إليه الشيخ حسن بن فرحان هو ما ورد في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى – يعني مقتل عثمان – فلم تبقِ من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية – يعني الحرة – فلم تبقِ من أصحاب الحديبية أحداً)([41])

وهكذا نرى موقف هؤلاء الطلقاء من الأنصار الذين يدعون تعظيمهم لهم، بينما هم يحتقرونهم أعظم احتقار حين يوالون أعداءهم، وقد حدث أسيد بن حضير وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للأنصار حين أفاء الله عليه أموال هوازن: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)([42])

وحدث أنس عن ذلك، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للأنصار: (ستلقون بعدي أثرة في القسم والأمر، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)([43])

وقد حدث مقسم يذكر وقوع ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أن أبا أيوب أتى معاوية فذكر حاجة له، فجفاه ولم يرفع به رأسا، فقال أبو أيوب: أما ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خبرنا أنه ستصيبنا بعده أثرة قال: فبم أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا إذا، فغضب أبو أيوب، وحلف أن لا يكلمه أبدا([44]).

هذا سادتي قليل من كثير من المظالم التي ارتكبت في حقكم، ثم يزعمون كذبا وزورا أنهم يحبون الصحابة، ويعظمونهم، بل يجعلونهم وسيلة لتفريق صف الأمة، بينما هم يستعملون كل ما لديهم من حقد ليصبوه عليهم.. فالصحابة عندهم ليست سوى قريش، ومن والاها، ووالى طلقاءها.. أما من عداهم، فهم عندهم لا يساوون شيئا، وكأنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يهلك الناس هذا الحى من قريش)، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم؟)([45])

ومن شك في ذلك فليذهب لكتب الحديث والفقه والتفسير، وليحسب عدد روايات أولئك الذين لم يرض عنهم الطلقاء، وسيرى مبلغ الطرد الذي تحقق لهم.. فمن العجيب أن أبا حميد الساعدي([46]) الذي توفي بعد أبي هريرة بثلاث سنوات، (توفي بعد عام 60 هـ)، وسبقه إلى الإسلام، بل كان من البدريين، ومع ذلك لم يرووا عنه سوى ثلاثة أحاديث.. فهل يعقل أن يصحب رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة، ويرى بدرا وأحدا والأحزاب، وغيرها كثير، ومع ذلك لا يروي إلا ثلاثة أحاديث؟

ومثله أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم([47]) التي توفيت بعد أبي هريرة بأربع سنوات (توفيت سنة 61 هـ)، ومع ذلك لم ترو سوى 158حديثا.. مع أنها كانت من السابقين للإسلام، وهاجرت للحبشة، ثم عادت مع زوجها أبي سلمة، وتحاصرا في الشعب مع بني هاشم، ولم يشترك أحد غيرهما مع بني هاشم.. وسبب ذلك التقصير في الرواية عنها هو موقفها المتشدد من معاوية والفئة الباغية معه، فقد كانت معارضة شديدة للعن الإمام علي على المنابر، ورثت الحسين، وروت فضائل أهل البيت.. ولذلك لا يكادون يذكرونها أو يهتمون بها، لأنهم يرتبون أمهات المؤمنين بحسب مواقفهم من معاوية، لا بحسب كونهن أمهات المؤمنين.

ومثلهما صالح شقران([48]) مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي توفي بعد أبي هريرة بثلاثة عشر عاماً (توفي عام 70 هـ)، ومع ذلك لم يرووا عنه سوى حديث واحد فقط، رغم أنه بدري، ومولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمولى أقرب من غيره([49]).. ومع ذلك لم يرووا عنه إلا حديثا واحدا فقط.. وسبب ذلك بسيط، وهو أن صالحا كان قد قاتل مع الإمام علي بصفين، وهو مولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وكل ذلك ساهم في (إماتة حديثه وسيرته، كل تلامذة أبي هريرة بقوا بعد أبي هريرة في المدينة ثلاثة عشر عاماً، وقد انقطع حديث أبي هريرة بموته، فلماذا لم يبحثوا عن صحابة كشقران؟)([50])


([1])  المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/691 ح(6539)، المعجم الكبير للطبراني 6/212 ح6040)

([2])  رواه الطوسي في أماليه 1 : 133.

([3]) أنساب الأشراف: 1/84.

([4]) المرجع السابق،  1/84.

([5])المرجع السابق،  1/84.

([6])المرجع السابق،  1/84.

([7])  رواه ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 42).

([8])  رواه البخاري (6627) ، ومسلم (2426) ، والترمذي (3816) ، والنسائي في الكبرى (8181)

([9])  صحيح البخاري 9/62 ح(7142).

([10])  التبيين في أنساب القرشيين صـ 204 .

([11])  المرجع السابق، ص 208 .

([12])  نهاية معاوية بن أبي سفيان، الصلابي، ص45.

([13])  الطبقات الكبرى (7/406)

([14])  البداية والنهاية (11/399)

([15])  المرجع السابق،  (11/399)

([16])  سلسلة علو الهمة – المقدم (5/ 4، بترقيم الشاملة آليا).

([17]) رواه أحمد: 2/94.

([18]) انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، (5/ 252). تاريخ دمشق، ابن عساكر، (67/370). سير أعلام النبلاء (2/612)

([19]) الطبقات الكبرى، ابن سعد، (5/ 252، 253)

([20])  الاستيعاب ( حاشية على كتاب الاصابة ) م 1 ص 213 ..

([21])  الترمذي (3802).

([22]) سير أعلام النبلاء: 2/260.

([23]) الاستيعاب: 2/572.

([24]) ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق 1/1309.

([25]) الطبراني في الكبير من 17 / 51 (109) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 1 / 250، وابن عساكر في تاريخه 46/ 489، وابن الجوزي في المنتظم 4 / 319.

([26])  نهج البلاغة للشريف الرضى شرح محمد عبده ص 225 …

([27])  انظر بحثا في المسألة مهما جدا بعنوان [صحابة بدريون ولكنهم منافقون…. هكذا يقول السلفيون!] للشيخ حسن بن فرحان المالكي.

([28])  الجرح والتعديل: 3/400.

([29])  رواه يعقوب بن سفيان وابن عساكر.

([30])  رواه ابن عساكر.

([31])  رواه ابن عساكر.

([32])  رواه الطبراني والبيهقي.

([33])  رواه البيهقي.

([34])  رواه البيهقي.

([35])  رواه البيهقي.

([36])  رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان.

([37])  الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 232)

([38])  البداية والنهاية: 6/262.

([39])  البداية والنهاية: 6/262.

([40])  خلاصات أموية – الشيخ حسن فرحان المالكي.

([41])  صحيح البخاري: 4/1475.

([42])  رواه البخاري ومسلم واحمد والبيهقي والترمذي والنسائي.

([43])  رواه الحاكم وابو نعيم.

([44])  رواه الحاكم.

([45])  رواه البخاري: 4/ 242.

([46]) انظر ترجمته في الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 80)

([47]) انظر ترجمتها في الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 404)

([48]) وهو مولى رسول الله a، واسمه صالح بن عديّ، قال ابن حجر: (وكان حبشيا، يقال أهداه عبد الرّحمن بن عوف لرسول الله a، ويقال اشتراه منه فأعتقه بعد بدر، ويقال: إن النّبيّ a ورثه من أبيه هو وأمّ أيمن، ذكر ذلك البغويّ عن زيد بن أخرم، سمعت ابن داود يعني عبد اللَّه الخريبي يقول ذلك.. وقال أبو حاتم: يقال إنه كان على الأسارى يوم بدر، وكذا حكى ابن سعد، وزاد: لم يسهم له لكونه مملوكا، لكن كان كلّ من افتدى أسيرا وهب له شيئا، فحصل له أكثر مما حصل لمن شهد القسمة) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 284)

([49]) ومن دلائل قربه من رسول الله a ما رواه التّرمذيّ، عن شقران، قال: أنا واللَّه طرحت القطيفة تحت رسول اللَّه a في القبر. ورواه ابن السّكن من طريق ابن إسحاق عن الزّهري عن علي بن الحسين، قال: نزل في قبر رسول الله a العبّاس، والفضل، وشقران، وأوس بن خولي، وكان شقران قد أخذ قطيفة كان النبيّ a يلبسها فدفنها في قبره.

([50]) علم الحديث – أمانة أهل الحديث… في الميزان، للشيخ حسن بن فرحان المالكي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *