ولاية الفقيه.. والقيم الحضارية

الفصل السابع

                                 ولاية الفقيه.. والقيم الحضارية

مثلما رأينا الاختلاف الشديد في مفهوم الجمهورية، والحرية، والأخوة، والمساواة، وغيرها من المفاهيم في الفصول السابقة، بين رؤية نظام ولاية الفقيه، وغيره من الأنظمة؛ فسنرى في هذا الفصل نفس هذا الاختلاف في مفهوم الحضارة، والقيم المرتبطة بها.

ذلك أن نظام ولاية الفقيه، يحاول الجمع بين المادة والروح، وبين الدين والحياة، وبين الفرد والمجتمع، بخلاف سائر الأنظمة التي تركز على المادة المجردة عن الروح، أو الحياة المجردة عن الدين، أو الفرد المجرد عن المجتمع، أو المجتمع المجرد عن الفرد.

ولهذا نلاحط التنافر الشديد بين النظام الإيراني، والأنظمة الغربية؛ فلا هو يتقبلها، ولا هي تتقبله، بل إنها لا تكتفي بعدم تقبله، وإنما تستعمل كل الوسائل لحربه وتشويهه، وتستعمل كل أدواتها لتحقيق ذلك، لاعتقادها أن انتشار نموذجه سيقضي عليها تماما، لأنه يمسك بكل ما تحن إليه البشرية من قيم، من غير أن يفرط في مكتسبات الحضارة الحديثة.

وهو كذلك يستعمل الوسائل التي تعود عليها لإقناع جماهير شعبه، أو المقتنعين بمبادئه، بأن هذه الحضارة حضارة عرجاء عمياء، تتكئ على المادة وحدها، وتهمل الروح، ولذلك لا يمكن أن يرجى منها خير، ولا يمكن أن تتشرف بتخليص البشرية، وكيف تخلصها، وهي نفسها تحتاج إلى من يخلصها.

وقد أشار إلى هذه المعاني السيد علي الخامنئي، فقال: (دعوتنا هي إيجاد حضارة تستند إلى المعنويات، وتعتمد على الله وعلى الوحي الإلهي، وعلى التعليم الربّاني والهداية الإلهية. فلو استطاعت الشعوب الإسلامية اليوم ـ حيث إن الكثير من هذه الشعوب بحمد الله استيقظ ونهض ـ أن تؤسّس مثل هذه الحضارة، فإنّ البشرية ستصبح سعيدةً. وهذا ما تدعو إليه الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية. إنّنا بصدد مثل هذه الحضارة)([1])

وهو يذكر دائما أن من أهداف الثورة الإسلامية الكبرى تحقيق الحضارة الإسلامية بصيغة جديد في الواقع، متوافقة مع الإسلام المحمدي الأصيل، لتكون نموذجا للبشرية، يدلها على الهداية، ويخلصها من آفات الحضارة الغربية، يقول: (لو أخذنا التقدّم من جميع الأبعاد بمعنى بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ففي النهاية يوجد مصداقٌ عينيّ وخارجيّ للتقدّم وفق المفهوم الإسلاميّ ـ هنا سنقول إنّ هدف شعب إيران، وهدف الثّورة الإسلاميّة، هو عبارة عن إيجاد حضارة إسلاميّة جديدة)([2]

ويبين المرتكزات التي تقوم عليها هذه الحضارة الجديدة، فيذكر أنها تقوم على ركيزتين([3]):

أولاهما: تتعلّق بالأداة والوسيلة، ويقصد منها (تلك القيم التي نطرحها اليوم تحت عنوان تطوّر البلد: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسيّ والعسكريّ، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته، فكلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها) ([4])

وهو يذكر أن إيران لم تقصر في تطورها في هذه الجوانب، بحسب الوسائل والزمن المتاح، يقول: (لقد أُنجزت أعمالٌ كثيرة وجيّدة، سواء في المجال السياسيّ أو العلميّ أو القضايا الاجتماعيّة، وفي مجال الاختراعات، وما شابه إلى ما شاء الله على مستوى البلد ككل. ففي هذا القسم المتعلّق بالأداة والوسيلة، حصل تطوّرٌ جيّدٌ في البلاد بالرغم من كلّ الضغوط والحظر وأمثاله) ([5])

وثانيهما: تتعلق بالمضمون والأساس والأصل، ويعتبرها الركيزة الحقيقية للحضارة، فيقول: (أمّا القسم الحقيقيّ فهو تلك الأمور التي تشكّل مضمون حياتنا، وهو نمط الحياة الّتي تحدّثنا عنه. فهذا هو القسم الحقيقيّ والأساسيّ للحضارة، كقضيّة الأسرة، ونمط الزواج، ونوع المسكن واللباس ونمط الاستهلاك، ونوعيّة الغذاء والطبخ والترفيه، ومسألة الخطّ، واللغة، وقضيّة التكسّب والعمل، وسلوكنا في محلّ العمل والجامعة وفي المدرسة، وفي النشاط السياسيّ وفي الرياضة، وفي الإعلام الخاضع لإرادتنا، وفي سلوكنا مع الأب والأم، ومع الزوج والأبناء ومع الرئيس والمرؤوس والشرطة والعامل الحكوميّ، وفي أسفارنا ونظافتنا وطهارتنا وسلوكنا مع الصديق والعدوّ والأجنبيّ، فكلّ هذه ترتبط بالقسم الأساسيّ للحضارة التي تمثّل صلب حياة الإنسان) ([6])

وهو يذكر أن أحكام الشريعة تنطوي على كل ما يرتبط بهذا القسم، وتفي به، وبكل ما يحتاجه من تفاصيل، يقول: (إنّ الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ذاك الشيء الذي نريد التطرّق إليه ـ في قسمها الأساسيّ تتشكّل من هذه الأمور؛ فهذه هي المضامين الأساسيّة للحياة، وهذا هو الشيء الذي يُعبّر عنه في المصطلح الإسلاميّ بـ [العقل المُعاش([7])]؛ فالعقل المُعاش لا ينحصر بتحصيل المال وإنفاقه وكيفيّة تأمينه وصرفه، كلّا، فكلّ هذه السّاحة الواسعة التي ذُكرت تُعدّ من العقل المُعاش، وتوجد في كتبنا الروائيّة الأصيلة والمهمّة أبوابٌ تحت عنوان [كتاب العِشرة]، فكتاب العشرة يتناول هذه الأمور. وفي القرآن الكريم نفسه توجد آياتٌ كثيرة ناظرةٌ إلى هذه الأمور) ([8])

وهو يستعمل الأساليب المعاصرة في شرح هذا المعنى، فيذكر أن هذا القسم يشبه قسم البرمجيّات (software) في عالم الكمبيوتر، أما القسم الأوّل، فيرتبط بالأجهزة والأدوات، وهو لذلك يشبه القسم الصلب فيها (hardware)

وبناء على هذا التشبيه المبسط والبليغ في نفس الوقت يذكر أن التحضر يقتضي كلا الركيزتين، وإن كانت حاجته إلى الركيزة الثانية أكبر، ذلك أنه ـ كما يذكر ـ (لو أنّنا لم نتقدّم في هذا القسم المتعلّق بمتن الحياة، فإنّ كلّ أنواع التطوّر التي حقّقناها في القسم الأوّل لا يمكنها أن تنقذنا، ولا يمكنها أن تمنحنا الأمن والطمأنينة النفسيّة، كما لاحظتم كيف أنّها لم تتمكّن من ذلك في الغرب. فهناك توجد الكآبة واليأس والإحباط والدمار الداخليّ وانعدام أمن الناس في المجتمع وفي الأسرة، واللاهدفيّة والعبثيّة بالرغم من وجود الثروة والقنبلة النوويّة والأنواع المختلفة للتطوّر العلميّ، والقوّة العسكريّة. فأساس القضيّة هو أن نتمكّن من إصلاح الحياة في جوهرها ومضمونها، وإصلاح هذا القسم الأساسيّ للحضارة) ([9])

وهو على عكس ما أشاد به من تطور في الأساس المادي من الحضارة في إيران، يرى أن الأساس الثاني يحتاج إلى المزيد من الجهد، باعتباره أصعب الجوانب، وأهمها، يقول: (بالتأكيد، لم يكن تطوّرنا في الثورة في هذا المجال تطوّراً ملحوظاً؛ فلم يكن تحرّكنا في هذا المجال مشابهاً للتحرّك الّذي حصل في القسم الأوّل، فلم نتطوّر) ([10])

ولذلك يدعو إلى معالجة الأسباب والعقبات التي تحول دون تحقيق الجانب الثاني؛ فيقول: (يجب علينا أن نحدّد الآفّات، فلماذا لم نتطوّر في هذا القسم؟.. وبعد كشف العلل والأسباب ننهض لتناول كيفيّة معالجة هذه الأمور. فعلى من تقع هذه المهامّ؟ إنّها تقع على عاتق النخب ـ النخب الفكريّة والسياسيّة ـ وعلى عاتقكم وعلى عاتق الشباب. فلو وُجد في بيئتنا الاجتماعيّة الخطاب الناظر إلى رفع الآفات في هذا المجال، يمكن الاطمئنان إلى أنّنا سنحقّق تقدّماً جيّداً في هذا القسم، بالنظر إلى النّشاط الموجود في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وفي شعب إيران، والاستعداد الحاصل. حينها سيصبح تألّق شعب إيران وانتشار الفكر الإسلاميّ لشعب إيران والثورة الإسلاميّة الإيرانيّة في العالم أسهل. يجب علينا أن نحدّد الآفات وبعدها نقوم بالعلاج) ([11])

وبذلك فإن الحضارة ـ كما يتصورها قادة الثورة الإسلامية ـ تقوم على جناحين: جناح العلماء والباحثين والتقنيين، وجناح الفقهاء والفلاسفة والمفكرين.. فكلاهما له دوره الكبير في هذه الحضارة.

والأمر يشبه في ذلك نظام الولي الفقيه نفسه، والذي يعتمد على الحكومة الإلهية، كما يعتمد في نفس الوقت على الجمهورية، والقابلية الشعبية.

ويذكر الأصناف التي يمكن أن تؤدي دورها في رعاية الجانب الروحي من الحضارة، فيقول: (النخب مسؤولون، وكذلك الحوزة والجامعة والوسائل الإعلاميّة والمنابر المختلفة ومديرو الكثير من الأجهزة، وخصوصاً الأجهزة العاملة في المجال الثقافيّ والتربية والتعليم. وأولئك الذين يخطّطون للجامعات أو المدارس في المجال التعليميّ هم مسؤولون في هذا المجال. والذين يحدّدون المناهج التعليميّة ومخططات الكتب الدراسيّة، هم أيضاً مسؤولون. فكلّ هذه تمثّل مسؤوليةً واحدةً ملقاة على عاتق الجّميع. يجب علينا أن نستنفر جميعاً ونعلي الصوت. في هذا المجال يجب علينا أن نعمل وأن نتحرّك) ([12])

وردا على ما يذكره المغرضون الذين يريدون عزل الدين عن الحياة، وعزل القيم عن الحضارة، يذكر أنه لا يمكن أن تقوم أي حضارة من دون أيديولوجيا، حتى لو كانت أيديولويجا مادية، يقول: (لا يوجد أيّ شعبٍ يدعو إلى بناء حضارة، يمكنه أن يتحرّك من دون أيديولوجيّا. ولم يحدث مثل هذا سابقاً. لا يوجد أيّ شعبٍ يمكن أن يكون صانعاً للحضارة من دون أن يكون ممتلكاً لأيّ فكرٍ أو أيديولوجيّا أو مذهب. تلك الأمور التي تشاهدونها اليوم، والتي أوجدت الحضارة المادّية في العالم، إنّما تحقّقت من خلال الأيديولوجيّا، وقد صرّحوا بذلك وقالوا نحن شيوعيّون، وقالوا نحن رأسماليّون، وقالوا نحن نعتقد بالاقتصاد الرأسماليّ، وطرحوه واعتقدوا به وسعوا نحوه. بالطبع لقد تحمّلوا المتاعب ودفعوا الأثمان. فدون امتلاك مذهب أو فكر أو إيمان، وبدون السعي من أجله والإنفاق عليه، لا يمكن صناعة الحضارة)([13])

وبذلك يذكر أنه على من يريد أن يبني حضارة جديدة أن يمتلك قبل ذلك أيديولوجيا صحيحة وقوية ومبتكرة يمكنه أن يجعلها أساسا لتحضره، ذلك أنه لا يمكن أن تقوم حضارة شعب يعتمد على غيره، أو يقلد غيره تقليدا مذلا، يقول: (بالطّبع، بعض الدّول مقلّدة، إذ أخذ من الغرب ومن صنّاع الحضارة المادّيّة شيئاً وشكّل حياته على أساسه. أجل، إنّ هؤلاء من الممكن أن يصلوا إلى بعض أنواع التقدّم، وإلى تقدّمٍ شكليّ وسطحيّ، ولكنّهم مقلّدون وليسوا صنّاع حضارة، فهم فاقدون للجذور وعرضةً للآفات. فلو حصل إعصارٌ ما فإنّهم سيزولون لأنّهم فاقدون للجذور. وبالإضافة إلى أنّهم بنوا أعمالهم على التقليد، والتقليد سيطيح بهم، فهم سينالون، بعض منافع الحضارة المادّيّة الغربيّة دون أن يكون الكثير منها من نصيبهم، لكنّ جميع آفاتها وأضرارها ستكون من نصيبهم. أنا لا أريد أن آتي على ذكر أسماء الدول. هناك بعض الدول التي يطرحها بعض مثقّفينا كنماذج تُحتذى في النموّ الاقتصاديّ في كلماتهم وكتاباتهم. أجل، من الممكن أنّهم قد حصلوا على صناعة، وحقّقوا تقدّما في مجالٍ ماديّ أو في مجالٍ علميٍّ وصناعيّ، لكنّهم مقلّدون أوّلاً، وقد وُسمت جباههم بمذلّة التقليد وشينه. وبالإضافة إلى هذا، فإنّهم يعانون من جميع آفات الحضارة الماديّة للغرب، ولكنّهم فاقدون لأكثر منافعها. واليوم نرى الحضارة الماديّة الغربيّة تظهر ما أوجدته من مشاكل للبشريّة ولأتباعها)([14])

وهو يقصد بهذا أولئك الذين ينفرون من الدين، ويتصورون أنه حجاب دون تحقيق الحضارة، أو يختصرون دورهم في الشؤون البسيطة التي لا علاقة لها بالحياة، يقول: (في يومنا هذا وفي البيئات الثقافيّة، يوجد أشخاصٌ يحذّروننا من الشعارات الدينيّة بأشكالٍ وطرق مختلفة، ويشكّكون بمرحلة ذروة الشعارات الدينيّة التي حصلت في السنوات العشر التي تلت الثورة، وهم اليوم يوهمون أنفسهم بشأن تكرار الشعارات الدينيّة والشّعارات الثوريّة والإسلاميّة، ويريدون أن يلقوا هذه الأوهام في قلوب الآخرين ويقولون: أيّها السيّد إنّ هذا مكلفٌ وموجعٌ للرأس، ويستتبع الحظر والتهديدات. وإذا أحسنا الظّنّ بهم، نقول إنّهم لم يطالعوا التاريخ؛ فلو كانوا قد قرأوا التّاريخ، واطّلعوا على ما جرى وما بدأت به الحضارات وانطلقت منه، ومنها هذه الحضارة الماديّة الغربيّة التي تريد اليوم أن تسيطر على العالم، لما قالوا مثل هذه الكلام)([15]

وهو يحذر هؤلاء الدعاة التنويريون أو الحداثيون من الآفات التي تعترضهم، وتعترض هذا الصنف المشوه من الحضارة؛ فيقول: (إنّ المجتمع دون مبادئ ودون مذهب ودون إيمان يمكن أن يصل إلى الثروة والقدرة، لكنّه عندما يبلغهما فإنّه يصبح حيواناً شبعانَ ومقتدراً. وإنّ قيمة الإنسان الجائع هي أهمّ من الحيوان الشبعان؛ فالإسلام لا يريد هذا، الإسلام يؤيّد الإنسان الذي يحوز على أمور وهو مقتدر وهو شاكرٌ وعبدٌ لله، فيمرّغ جبهة العبوديّة بالتراب. الإنسانيّة والاقتدار والعبوديّة لله، هذا ما يريده الإسلام. يريد أن يصنع إنساناً، ويوجد أنموذجاً لصناعة الإنسان) ([16]

وهو يذكرهم بالعولمة التي تمارسها الحضارة الغربية التي يدعون إليها؛ فهي تستعمل كل الوسائل للقضاء على هويات الشعوب، وتخليصها من القيم التي تحكمها، وأحسن مثال على ذلك ـ كما يذكر ـ هو ما حصل للشعوب التي رضيت لنفسها أن تصير تابعة ذليلة للغرب، يقول: (إنّ تقليد الغرب بالنّسبة للدّول التي استحسنت هذا التقليد لنفسها وعملت به، لم يعد عليها إلّا بالضرر والفاجعة، بما في ذلك الدّول التي وصلت بحسب الظاهر إلى الصناعات والاختراعات والثروة لكنّها كانت مقلّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثقافات. فأينما جاء الغربيّون أبادوا الثقافات المحلّيّة، واجتثّوا الأسس الاجتماعيّة، وغيّروا تاريخ الشعوب ولغاتها وحروفها (خطوطها) ما استطاعوا) ([17])

وهو يضرب المثل على ذلك بما فعله الإنكليز الذين حيثما حلوا (بدّلوا لغة الناس المحليّة إلى الإنكليزيّة، وإذا وُجدت اللغة المناسبة، فإنّهم كانوا يجتثّونها من الجذور. ففي شبه القارّة الهنديّة كانت اللغة الفارسيّة هي اللغة الرسميّة لعدّة قرون.. إلى أن جاء الإنكليز ومنعوا اللغة الفارسيّة بالقوّة في الهند، وروّجوا للغة الإنكليزية) ([18])

وهكذا ـ كما يذكر ـ فعل الفرنسيّون حين راحوا هم أيضاً يفرضون اللغة الفرنسيّة في كلّ الدول التي كانت تحت استعمارهم، ومثلهم البرتغاليّون والهولنديّون والإسبانيّون، (فأينما ذهبوا فرضوا لغاتهم، وهذا ما يمكن تسميته بالثقافة الهجوميّة. لهذا، فإنّ ثقافة الغرب هجوميّة، أينما استطاعوا، اجتثّوا أسس الثقافات والعقائد) ([19])

وهي بالإضافة إلى هجومياتها وهيمنتها واجتثاثها لهويات الشعوب، حضارة مادية، (تجعل الأذهان والأفكار مادّيّة، وتنمّي النزعة المادّية، وتجعل المال والثروة هدف الحياة، وتجتث المبادئ السامية والقيم المعنويّة والرقيّ الروحيّ من الأذهان)([20]

ونتيجة لذلك لا تراعي هذه الحضارة القيم الدينية والأخلاقية، فهي ـ كما يذكر ـ تجعل (المعصيّة أمراً عاديّاً، وكذلك الآثام الجنسيّة، وقد جلب هذا الوضع في يومنا هذا العار للغرب، في البداية، كان الأمر في إنكلترا، ثمّ انتقل إلى بعض الدّول الأخرى وأمريكا. فأصبحت هذه المعصية الكبرى المتعلّقة بالشذوذ الجنسيّ قيمةً، ويتمّ الاعتراض على السياسيّ الفلانيّ لأنّه يخالف الشذوذ أو يعارض الشاذّين! انظروا إلى أين يصل الانحطاط الأخلاقيّ، هذه هي الثقافة الغربيّة. كذلك هناك تفكّك الأسرة وانتشار المشروبات الكحوليّة والمخدّرات) ([21])

بناء على هذا، نحاول في هذا الفصل ومن خلال ما طرحه قادة الثورة الإسلامية التعرف على القيم التي تقوم عليها الحضارة الجديدة التي دعوا إليها، وذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والعلمية والفنية، باعتبارها أهم المجالات التي تظهر فيها القيم الحضارية.

أولا ـ الجانب السياسي وقيم الحضارة:

رأينا في الفصول السابقة تصورات النظام الإيراني للجانب السياسي، ومدى استقلاليتها وتفردها عن كل أنظمة العالم في القديم والحديث؛ فهي تمزج بين الحاكمية الإلهية مع الجمهورية والقابلية الشعبية، وتمزج بين الدعوة للحرية، في نفس الوقت الذي تدعو فيه إلى الانضباط والمسؤولية، وهكذا في كل الشؤون نرى تفردها وتميزها وإبداعها، وهو أساس من الأسس التي تقوم عليها الحضارة، فالحضارة إبداع لا تقليد، ولا تبعية.

وبالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن أهم القيم الحضارية التي تحكم الجانب السياسي لدى النظام الإيراني هي العدالة، ذلك أن العدالة بحسب ما تدل عليه النصوص المقدسة هي أساس الحكم، كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام: { يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص: 26]

ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يركزون في خطاباتهم على ضرورة العدل في كل المجالات، بل يدعون شعبهم إلى مراقبة كل حركة وقانون، ومحاسبة من يمارس أي جور أثناء أدائه لصلاحياته.

ونحب في هذا المقام أن نقتبس بعض الأفكار والنصوص من محاضرة قيمة لمرشد الثورة الإسلامية الحالي السيد علي الخامنئي ألقاها في الملتقى الثاني للأفكار الإستراتيجية، عام 1431 هـ، والتي استهلها بذكر مدى اهتمام الأديان والنخبة المفكرة بالعدالة؛ فقال: (إحدى هذه النقاط أنّ العدالة كانت همّاً دائماً للبشر عبر التاريخ. ونتيجة الشعور بالحاجة إلى العدالة التي عمت جميع الناس على مرّ التاريخ وإلى يومنا هذا، دخل مفكّرو البشرية والفلاسفة والحكماء في هذه المقولة وأضحت مورد اهتمامهم. لهذا تمّ البحث بشأن العدالة والعدالة الاجتماعية من الأزمنة القديمة وإلى يومنا هذا بهذا المعنى العام، وقُدّمت النظريات، لكنّ دور الأديان كان دوراً استثنائياً. أي أنّ ما ذكرته الأديان عبر الأزمنة حول العدالة وأرادته واهتمّت به كان منقطع النظير واستثنائياً. ومثل هذا الاهتمام الذي أولته الأديان لا نشاهده في آراء الحكماء والعلماء)([22]

وهو يبين نتيجة لذلك أن العدالة هدف الأديان النهائي، على خلاف ما يعتقد دعاة العلمانية من اقتصار الأديان على الشعائر التعبدية، والشؤون الشخصية، يقول معلقا على قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25]: (من المؤكّد أنّ هذه الآية تحكم بأنّ هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب ومجيء البيّنات هو القيام بالقسط؛ ولا شكّ بأنّ القيام بالقسط وكلّ ما يتعلّق بالحياة الدنيوية والاجتماعية والفردية للنّاس، هو مقدّمة لذاك الهدف المتعلّق بالخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي العبودية، أي هدف الخلقة صيرورة الإنسان عبداً لله، حيث إنّ هذه العبودية نفسها تُعدّ أعلى الكمالات. إلاّ أنّه للوصول إلى ذاك الهدف، الذي هو هدف النبوّات وإرسال الرّسل، يحتاج إلى العدالة وبناء النظام) ([23])

ويستدل لهذا بكون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ كما يصورهم القرآن الكريم ـ كانوا دائما في صف المستضعفين والمظلومين، بخلاف أعدائهم الذين كانوا من الطواغيت والمترفين والملأ؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]، وقد علق عليها الخامنئي بقوله: (فما نجد من نبيٍّ إلا وكان في مقابله مُترَفون وكان النبيّ يُحاربهم، وهكذا كان حال الممسكين بالقدرة وأصحاب السلطة. والطاغوت له معنى يشمل جميع هؤلاء. لهذا فإنّ الأنبياء كانوا دائماً إلى جانب المظلوم في الصراع بين الظالم والمظلوم؛ فكانوا ينزلون إلى الميدان من أجل العدالة ويُحاربون؛ وهذا ما لا نظير له) ([24])

ويقارن بين الدور الذي قام به الأنبياء وورثتهم في الدعوة للعدالة، والدور الذي قام به الفلاسفة والمفكرون، ويرى أن دور الفلاسفة والمفكرين أحقر بكثير، ذلك أن الأنبياء وورثتهم لم يكتفوا بالكلام، وإنما نزلوا للميدان، وضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، بخلاف غيرهم، يقول: لقد تحدّث الحكماء عن العدالة، ولكنّهم في أوقات كثيرة كانوا مثل كثير من المفكّرين المختلفين الذين يكتفون بالكلام ولكنّهم لا ينزلون إلى الميدان عندما يحين دور العمل. وقد شاهدنا مثل هذا في مرحلة المواجهة [ضد الشاه] وأيضا شاهدناه بعد ذلك في مرحلة الدفاع المقدّس. وهذا ما نشاهده تقريباً اليوم أيضاً. لم يكن الأنبياء هكذا، بل كانوا ينزلون إلى الميدان ويُعرّضون أنفسهم للخطر، حتى أنّه في الوقت الذي كانوا يقولون لهم لماذا تقفون إلى جانب الطبقات المظلومة، انفَصِلُوا عنهم؛ كان الأنبياء يواجهونهم. فالآية الشريفة، {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] تتحدّث عن جواب النبي نوح لمعارضيه هي في هذا المجال أيضاً. لذا، فأولئك الذين كانوا محرومين من العدالة كانوا أوّل من يُؤمن بالأنبياء أيضاً) ([25])

وما ذكره الخامنئي هو نفس ما ذكره الخميني عند رده على الذين صوروا الثورة الإسلامية أنها ثار قام بها الشيوعيون وحصد ثمارها الإسلاميون، أو قولهم بأن الدين أفيون الشعوب، ولذلك كانت مواجهتة للشيوعية لا تقل عن مواجهته للرأسمالية.

ومن أقواله في ذلك: (إن شبابنا يُخدعون بصورة عفوية دون الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء وما هو هدف المدرسة الشيوعية التي يعرفونها مثلًا! أن هدف هؤلاء إظهار الإسلام والمسلمين بصورة يرتد بها الشباب‏ عن الإسلام! يظهرون الإسلام وكأنه جاء لسيطرة الأعيان والاشراف على رقاب الناس دون أن يعترضوا، والحق لهم فهم لم يقرؤوا القرآن ليدركوا لماذا جاء الإسلام، ذلك أن الحجم الكبير من آيات القتال الواردة يشير إلى أن الإسلام قد أعلن حربه ضد هؤلاء الرأسماليين والأعيان والملوك والسلاطين، لا أنه سايرهم ليسلبوا الناس)([26]

وراح يذكر الأمثلة الكثيرة التي اتفق على تدوينها المؤرخون؛ فقال: (لقد كان نبي الإسلام وأئمته وعلماؤه دائماً في نزاع مع سلاطين عصرهم، إن الذين كانوا ملوكاً باسم الخلفاء سجنوا الامام موسى بن جعفر عشر سنين أو خمس عشرة سنة، لماذا؟ هل لأنه كان يصلي؟! لقد كان هارون والمأمون يصليان أيضاً، وكانا يؤمّان صلاة الجمعة والجماعة! فهل قبضوا عليه لأنه من أحفاد النبي أو لأنه إمام؟! هل القضية هذه؟! كلّا، بل لأن الامام موسى بن جعفر كان يخالف ذلك النظام الطاغوتي! وكانت معارضته له سبباً لمشاكله) ([27])

وهكذا يذكر الكثير من الثورات التي حصلت في التاريخ، والتي قام بها العلماء والصالحون، والذين لم يقرأ عنهم الشيوعيون، ولم يعرفوا التضحيات التي قدموها، يقول: (كما لدينا في عصرنا عدة ثورات قام بها العلماء. العلماء الذين يتحدث عنهم اليساريون والمنحرفو بأنهم أعوان البلاط! ولا غرابة في ذلك فهم لم يدرسوا، وليست آذانهم مفتوحة ليعلموا كم مرة ثار علماء الإسلام في عهد رضا شاه وعهد محمد رضا شاه، حيث كان يجتمع علماء أصفهان وآذربيجان ومشهد وقم ويُعلنون اعتراضهم، فهل كان أولئك من أعوان البلاط؟!)([28])

وهو يذكر أن أمثال هذه الدعايات التي تصور العلماء بصورة المخدرين للشعوب، والتي تعتمد على أفراد محدودين منحرفين عن الدين الصحيح دعايات مغرضة الهدف منها إبعاد الإسلام عن الحكم بحجة منافاته للعدالة، وهو يخاطب هؤلاء بالدعوة إلى الرجوع إلى مصادر الدين وممثليه الحقيقيين، يقول: (انظروا إلى زعماء هذه المدارس الفكرية، فكيف كان يعيش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بهذه المدرسة؟! وكيف كان يعيش أمير المؤمنين علي خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحق؟! شاهدوا حياته كيف كانت بالرغم من أن حكومته كانت تشمل رقعة واسعة تعادل عدة أضعاف إيران، من الحجاز إلى أقصى إفريقيا! وكيف كان يقضي يومه وكيف كان ليله وكيف كانت عبادته، وكيف كانت رعايته للناس وكيف كان مع الضعفاء؟! كان يحزن إذا ما أكل هو خبز الشعير خشية أن يكون هناك شخص على الحدود، وفي اليمامة، ليس لديه من الطعام ما يكفيه!)([29]

ويقارن هذه المواقف بما عليه حال زعماء الشيوعية الذين يكذبون على الناس حين يصورون أنفسهم دعاة للعدالة؛ فيقول: (إن هؤلاء الرؤساء الذين خدعوكم مُتخمون من كثرة الأكل! فذلك قائد الصين الذي يدعّي الشيوعيون أنه محبّ للإنسان وقائد الجماهير! حينما دخل إيران قد مرّ فوق جماجم الناس وأشلاء قتلانا! فالشاه لم يتمكن من السير معه في الشوارع لايصاله إلى محل اقامته، لان الجماهير لم يسمحوا له بالمرور وسط تظاهراتهم وهتافاتهم الموت لفلان. لذا اضطر إلى نقله بالمروحية إلى محل اقامته. فمثل هذا الشخص الذي يقول: إننا شيوعيون واننا نفعل للجماهير كذا وكذا، يرى كل هذه الافواج من القتلى غير أنه يتجاهل ذلك ويأتي ويضع يده بيد الشاه)([30])

ويذكر بعض ما عايشه من خداع الشيوعيين؛ فيقول: (ما زلت اتذكر جيداً عندما جاء رؤساء الحلفاء إلى ايران، فقد جاء تشرشل بسيارته ووصل روزفلت في مراسم اعتيادية، غير أن ستالين جاء ببقرته كي لا يشرب حليباً غير حليبها، هذا الذي يأتي ببقرته كانت جيوشه منتشرة في المناطق الايرانية المحاذية للاتحاد السوفيتي، وقد رأيت بنفسي في الطريق إلى خراسان كيف أن جنوده كانوا يأتون ويستجدون السجارة، وكيف أن وضعهم كان مزري للغاية) ([31])

ويخاطب المتأثرين بالشيوعية، والذين تصوروا أنها تطالب حقيقة بالعدالة قائلا: (أشهد الله أنهم يخدعونكم! إنهم خدعوا أبناءنا الذين جاءوا إلى الخارج، أن أولئك الافراد الذين يعيشون في إيران وأكثر الذين يعيشون هنا ليسوا بشيوعيين، إنهم من رجال الأمن، ولذلك رفعوا شعارات شيوعية في مقبرة بهشت زهراء، وكشفهم الناس، وقالوا لهم أنتم جئتم من الأمن إلى هنا، فطردوهم، يريدون ارسال جماعة من هؤلاء الموظفين إلى الجامعة أيضاً، ليرفعوا الشعارات الشيوعية ويرعبوا الناس! حتى يقولوا إذا ذهب (صاحب الجلالة) ستضطرب الدنيا بعد ذلك! وتصبح إيران شيوعية! كلا، فإذا ذهب سيتحسن وضع إيران تحسناً كبيراً، ويكون قد ذهب من كان مسيئاً لإيران، وإيران تستطيع إدارة نفسها بنفسها!) ([32])

وبناء على هذا يصر جميع قادة الثورة الإسلامية على أن القائمين الحقيقيين بالثورة في إيران هم الإسلاميون، وذلك ردا على ما كان ينشره المغرضون ولا زالوا عن كون الثورة الإيرانية كانت شيوعية، تلاعب بها الإسلاميون، وحولوها إلى صفهم.

يقول الخميني في خطاب طويل في بداية انتصار الثورة الإسلامية محذرا من تسلل الشيوعيين وغيرهم إليها، ليحرفوها عن مسارها: (إن العلامة التي تعرفون بها الخارجين عن مسيركم، الخارجين عن مسير هذا الشعب الذي ضحى في سبيل الإسلام، هو أن تلاحظوا هؤلاء الذين قدموا دماءهم، شبابنا الذين نزلوا إلى الشوارع ونساءنا اللاتي نزلن إلى الشوارع وتظاهروا وقضوا بقبضاتهم المحكمة على هذا العدو القوي. لابد من ملاحظة هؤلاء وأنهم هل كانوا ديمقراطيين؟ هل كان مذهبهم وطريقهم ديمقراطياً؟ هل كانوا يريدون جمهورية مثل الجمهورية التي يريدها الاتحاد السوفييتي؟ هل كانوا يتطلعون إلى الجمهورية التي تريدها سائر الدول المعادية لنا؟ أمريكا جمهورية أيضاً. أن شعبنا الذي بذل دمه ونادى (الله أكبر)، ونادى (الجمهورية الإسلامية)، فهل هذه التضحية والفداء وبذل الدماء كانت بوحي في الإسلام، أم أن الأهداف التي يسعى إليها الاتحاد السوفييتي كانت هي الدافع؟ أم أن الذي دفعه لذلك هي تلك الأهداف التي تسعى إليها أمريكا؟ أم كانت أهداف إسرائيل هي المحرك؟ فهذه أيضاً جمهوريات)([33]

وذكر أن أهداف الثورة كانت واضحة منذ البداية، وأنها لم تتلاعب، ولم تخادع أحدا، قال: (لقد أعلنت منذ البداية ورفعت صوتي بأننا نريدهاتين الكلمتين (الجمهورية الإسلامية)، إذا رأيتم أنهم قد أضافوا كلمة أخرى فاعلموا أن مسيرهم مخالف لمسيركم. حتى ولو وضعوا إلى جانبها كلمة الإسلامية فإنهم يريدون خداعكم. وإذا رأيتم أنهم قد أسقطوا كلمة وقالوا (الجمهورية) فاعلموا أن مسيرهم مخالف لمسيركم، إنهم يريدون استدراجكم إلى ما يخالف الإسلام. حتى لو فرضنا أنهم معارضين للنظام السابق ـ وأكثرهم كذلك ـ ولكن هدفنا لم يكن مجرد القضاء على النظام السابق. ليس هدف المسلم القضاء على الطائفة الفلانية مثلًا. لقد عارضنا النظام لأنه كان حائلًا دون تحقق الإسلام، دون تحقق أحكام الإسلام، دون العمل بالقرآن. لو أن النظام كان يعمل بأحكام الإسلام، لما كان هناك نزاع بيننا.. لقد بُذلت تلك الدماء لا من أجل القضاء على النظام فحسب وإنما من أجل تطبيق‏ الإسلام. أن الهدف من إزالة الأنظمة الفاسدة، وقطع أيدي الأعداء هو أن تصبح إيران دولة إسلامية، حكومة إسلامية، وأن تكون سياساتها سياسة إسلامية. لو كان الهدف ينحصر فقط في إزالة الحكومة والنظام السابق ومجي‏ء نظام آخر غير إسلامي، لكانت دماء شبابنا قد ذهبت هدراً. لأننا نكون نحن الذين قمنا بهذه الثورة وحطمنا هذا السد، فيما جاء الآخرون وحصدوا ثمار تضحيات أبناء شعبنا)([34]

ثم يصرح بقوة، بأن كل من ينادي بشعار غير شعار الإسلام، أو بعدالة غير عدالة الإسلام، فهو معاد للثورة الإسلامية، يقول: (إن عدونا لم يتمثل في محمد رضا خان فحسب، بل إن كل من لم يكن مسيره مسير الإسلام فهو عدو لنا مهما كان اسمه. كل من يطالب بالجمهورية بمعزل عن الإسلام فهو عدو لنا لأنه عدو للإسلام. كل من يضع إلى جانب الجمهورية الإسلامية كلمة الديمقراطية فهو عدولنا. كل من ينادي بالجمهورية الديمقراطية فهو عدولنا، لأنه لا يريد الإسلام. إننا نريد الإسلام. لقد قدّمنا كل هذه التضحيات، وخاض شبابنا كل هذا الصراع وتحملوا المتاعب والآلام وبذلوا الدماء، لأنهم ينشدون الإسلام. إن الذي دفع بهذه الثورة إلى الأمام هو ذاك الذي كان يقول: إنني أرى الشهادة فوزاً عظيماً. هل كان يرى الشهاة فوزاً للديمقراطية؟ هل يرى الإنسان الشهادة فوزاً لليسار أو لليمين؟ هل كان شبابنا يطالبون بالجمهورية على نسق ما موجود في الاتحاد السوفييتي، هل كانوا ينشدون الجمهورية التي يريدها الشيوعيون ولذلك كانوا ينادون بها تبعاً لهم؟! هل قدّمنا الدماء من أجل تلك الجمهورية؟! هل بذلنا الدماء من أجل جمهورية غربية؟! لقد بذلنا الدماء من أجل الإسلام. بذل شبابنا الدماء من أجل الإسلام. أنتم أيها الشباب الذين قدمتم من مكان بعيد، تجشمتم عناء السفر وجئتم إلى هنا، هل جئتم لتلتقوا مع ديمقراطي؟! لتلتقوا مع من يميل إلى الاتحاد السوفييتي؟! لتلتقوا مع أمريكي؟! بريطاني؟! أم جئتم لتلتقوا مع المسلم؟ لتلتقوا مع من يدعو إلى الإسلام؟ تحملتم كل هذه المشقة لتلتقوا مع روسي؟! لتلتقوا مع بريطاني؟! لتلتقوا مع ألماني؟! إنكم لم تأتوا إلى هنا من أجل ذلك، لقد جئتم إلى شخص تكون آلامه آلامكم. إننا جميعاً ننشد الإسلام. لابد من الانتباه إلى ذلك والتعرف على علائمه التي ذكرتها. مايريده هو ماتريدونه. يجب أن تعرفوه، وعلامته هي هذه التي ذكرتها)([35])

وهكذا كانت القيم الإسلامية في المجال السياسي هي الحاكمة منذ البداية على مسيرة الثورة الإسلامية وتصوراتها، فهي لم تخلط معها لا شرقا ولا غربا، ولم تتبن أي فكر يكون منافسا أو بديلا عن الفكر الإسلامي الأصيل، يقول الخميني: (إن مسيرهم غير مسيرنا. إن مسيرنا الإسلام، إننا نريد الإسلام. فنحن لانريد الحرية التي لا إسلام فيها. إننا لا نريد الإستقلال الذي لا إسلام فيه، إننا نريد الإسلام. إننا نريد الحرية في ظل الإسلام، ونريد الاستقلال في ظل الإسلام. ماذا تفيدنا الحرية والاستقلال إذا كانتا بمعزل عن الإسلام؟ عندما لا يكون الإسلام مطروحاً، وعندما لا يكون نبي الإسلام مطروحاً، عندما لا يكون قرآن الإسلام مطروحاً، فلو كان هناك ألف لون للحرية فإننا لا نريدها، فالدول الأخرى عندها حريات أيضاً)([36])

ويقول محذرا: (إنهم يريدون تأسيس دولة غربية لكم فتكونون أحراراً وتكونون مستقلين أيضاً، ولكن على أن لا يكون الله مطروحاً، ولا النبي، ولا إمام العصر، ولا القرآن، ولا أحكام الله، ولا الصلاة، ولا أي شي‏ء آخر. هل تعتبرون الشهادة فوزاً لكم لتكونوا مثل السويد، أم أنكم تنشدون القرآن؟ لقد نهضتم من أجل الإسلام. إن كل هذه المعاناة والمشقة التي تحملها ويتحملها علماء الدين إنما هي من أجل الإسلام. أينما قالوا (الجمهورية) فاعلموا أن هناك مؤامرة حيث لم يذكروا اسم الإسلام. أينما قالوا (الجمهورية الديمقراطية) فاعلموا أن هناك مؤامرة، واعلموا أنهم يريدونها من دون الإسلام، الحرية من دون الإسلام، الاستقلال من دون الإسلام)([37])

ويؤكد الخامنئي بعد سنوات طويلة من هذا الخطاب الصريح الذي ألقاه الخميني على أن الثورة الإسلامية حافظت على أصالتها، وعلى القيم التي جاء بها الإسلام، ولم تتبن أي منهج آخر، بل إنها تسير في مسار تصاعدي لتحقيق ذلك بصورة ترفع الواقع إلى المستوى الإسلامي بعيدا عن كل التوجهات.

يقول في ذلك: (نّ العدالة في ثورتنا الإسلامية التي كانت حركة دينية كانت بشكل طبيعي في موقع ممتاز، والآن هي كذلك. وهذه الموقعية المميّزة مشهودة في الشعارات الشعبية، وفي الدستور، وفي كلمات الإمام الراحل، وفي الخطابات المقطعية، وفي الأزمنة المختلفة، وفي المواقف المختلفة التي أعلنتها الجمهورية الإسلامية)([38]

وهو يؤكد مثلما فعل الخميني على أن مفهوم في العدالة الذي تتبناه الجمهورية الإسلامية ليس هو بالضرورة ذلك المفهوم الذي يتبناه الغرب، لأن الغرب له تصوراته الخاصة المبنية على الفلسفة المادية التي تعزل الدين، ولا ترى له أي أثر في توجيه الحياة، يقول: (إنّ توجّه الرؤية الإسلامية إلى العدالة يختلف مع توجّه النُظُم والنظريات الغربية. ففي الإسلام تنشأ العدالة من الحق، بالإضافة إلى هذا يوجد في العدالة الوجوب، أي أنّ التوجّه نحو العدالة في الإسلام يُعدّ وظيفة إلهية، في حين أنّ الأمر في المذاهب الغربية ليس كذلك. في المذاهب الغربية تُطرح العدالة بأشكالٍ مختلفة؛ ففي الاشتراكية تطرح بنحو، وفي الليبرالية بنحو آخر مع كلّ التطوّرات والأشكال المختلفة لهذه المذاهب. وفي جميع هذه المذاهب لم يكن النظر إلى العدالة نظراً بنيوياً وأساسياً ومبنياً على القيم الأصولية كما هو الحال في الدين والإسلام)([39]

هذه بعض تصورات قادة الثورة الإسلامية لمفهوم العدالة والقيم المرتبطة بها، والمصادر التي تستند إليها، وعلى أساس هذا المفهوم قامت التشريعات والقوانين في النظام الإيراني، والتي لم تستند للشرق، ولا للغرب، وإنما استندت للشريعة الإسلامية، كما رأينا بعضها في الفصول السابقة، ورأينا تلك الضجة التي تثار عليها كل حين، والتي لا يبالي بها النظام الإيراني، لأنه يعلم أن تلك الضجة ليس لها من هدف سوى تحويل الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الجمهورية الديمقراطية الإيرانية، ومن ثم يتسلطون عليها، مثلما تسلطوا على كل الديمقراطيات في العالم.

ثانيا ـ الجانب الاقتصادي وقيم الحضارة:

مثلما رأينا دفاع قادة الثورة الإسلامية عن العدالة وفق الرؤية الإسلامية، نراهم في الجانب الاقتصادي أيضا يتبنون نفس الرؤية؛ فهم لم يتبنوا منذ اليوم الأول، بل قبله بكثير، أي نموذج للاقتصاد عدا نموذج الاقتصاد الإسلامي المبني على القيم الأخلاقية، وليس على الجشع الرأسمالي، ولا الاستبداد الشيوعي.

يقول الخميني في وصيته السياسية: (من الأمور التي تستلزم التوصية والتذكير هي أن الإسلام لا يتفق مع نظام الرأسمالية الظالم المتسيّب، والمؤدي إلى حرمان الجماهير المظلومة المسحوقة. بل يدينه بقوّة في الكتاب والسنة، ويعتبره معارضا للعدالة الاجتماعية)([40]

وهو يرد بشدة على بعض الفقهاء، وخصوصا السلفيين منهم ممن تميل مواقفهم وأطروحاتهم إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي بإباحة الملكية المطلقة، يقول: (.. ورغم وجود بعض ذوي الفهم المنحرف، والجاهلين بطبيعة نظام الحكومة الإسلامية، وبالمسائل السياسية الموجودة في الإسلام، الذين كانوا ولا يزالون يوحون في أقوالهم وكتاباتهم أن الإسلام يؤيد الرأسمالية والملكية (الخاصة) دون حدّ أو حصر، وبهذا الفهم المعوجّ عن الإسلام يغطّون على وجه الإسلام النيرّ، ويمهدون السبيل للمغرضين وأعداء الإسلام كي يطعنوا بالإسلام، ويعتبروه نظاماً كالنظام الرأسمالي الغربي السائد في أميركا وبريطانيا وسائر البلدان الغربية الجشعة، هؤلاء (المغرضون) يستندون إلى أقوال وأفعال أولئك الجهلة عن قصد أو عن بلادة، ودون الرجوع إلى علماء الإسلام الحقيقيين، فيهبون لمعارضة الإسلام) ([41])

وهكذا يرد على الذين يصورون الاقتصاد الإسلامي بصورة النظام الشيوعي؛ فيقول: (ليس الإسلام أيضاً كالنظام الشيوعي، والماركسي اللينيني الذي ينفي الملكية الفردية، ويعلن مفهوم الاشتراك (في كل شيء) على اختلاف كبير بين هذا المفهوم في العصور القديمة والحديثة، والذي ينطوي على دكتاتورية واستبداد ساحق) ([42])

وفي مقابل ذلك يذكر أن النظام الاقتصادي الإسلامي (نظام متعادل يعترف بالملكية ويحترمها مع تحديد السبل الحصول على الثروة وسبل إنفاقها. ولو طبق هذا النظام حق التطبيق لأدى إلى دفع عجلة الاقتصاد السليم إلى الأمام، ولتحققت العدالة الاجتماعية التي يستلزمها أي نظام سليم) ([43])

وبناء على هذا يرى أن النظام الإسلامي، تحت مظلة ولاية الفقيه، له من الصلاحيات ما يمكن أن يصحح الأوضاع في حال تحول الأغنياء إلى الثراء الفاحش الذي يهدد المجتمع بالطبقية، وخاصة إن كان ذلك الثراء قد حصل من طرق مختلطة، يقول: (الإسلام أكثر معرفة بالفقراء والمعوزين منه بالأثرياء والمترفين. وكما ذكرتم فإن هؤلاء أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، انما جمعوا هذه الأموال من طرقٍ غير مشروعة، والإسلام لا يعترف رسمياً بهكذا أموال، فالأموال في الإسلام يجب أن تكون مشروعة ومحدودة بحدٍ بحيث إن زادت عنه ورأى الحاكم الشرعي أو الولي الفقيه عدم صلاح ذلك، يمكنه أخذ هذا المقدار الزائد والتصرف به. فمن مهام ولاية الفقيه هي تحديد هذه الأمور، ولكن المؤسف أن مفكرينا لم يدركوا بعد حقيقة ولاية الفقيه. ففي نفس الوقت الذي اعتبر الشارع المقّدس الملكية الشخصية حقاً محترما،ً ولكن أعطى الولي الفقيه الحق في تحديدها وإن كانت مشروعة، ومصادرة الباقي إذا ما اقتضت مصلحة الإسلام والمسلمين ذلك)([44]

وهكذا نرى الخميني يدعو الفقهاء والمفكرين والاقتصاديين إلى استنباط الحلول التي تحقق القيم الحضارية الإسلامية في المجال الاقتصادي في الواقع بعيدا عن كل التأثيرات الخارجية، معتمدين على الإسلام وحده، يقول: (إحدى المسائل المهمة الأخرى التي تقع على عاتق العلماء والفقهاء هي مواجهة الثقافة الاقتصادية المنحطة للشرق والغرب ومجابهة السياسات الاقتصادية للرأسمالية والاشتراكية في المجتمع) ([45])

ويبين أن التبعية لأحد النظامين الرأسمالي أو الشيوعي لن ينتج عنه إلا التبعية والاستعمار الاقتصادي، يقول: (إن استشرت هذه المصيبة وشملت جميع الشعوب في العالم مما يفرض عليهم عبودية جديدة، فالتحقت أغلب المجتمعات البشرية بأسيادها الظلمة في الحياة اليومية، فسلب منهم حق اتخاذ القرار في الشؤون الاقتصادية، فعلى الرغم من امتلاكهم ثروات طبيعية غزيرة وأكثر الأراضي خصوبة في العالم ومياه وبحار وغابات واحتياطياً لاينضب من ذلك، ابتلوا بالفقر المدقع، سلب الشيوعيون والمموهون والرأسماليون حق المبادرة من عامة الناس بإقامة العلاقات الحميمة مع المستكبرين، وأمسكوا عملًا بزمام الاقتصاد العالمي بإحداث شركات احتكارية ومتعددة الجنسيات، وجعلوا جميع سبل التصدير والاستخراج والتوزيع والعرض والطلب بالاضافة الى التسعير والصناعة المصرفية تختص بهم، وأوهموا الجماهير المحرومة عن طريق إيحاءاتهم ودراساتهم الملفقة بأنّه لاسبيل لهم إلا العيش تحت سيطرتهم أو الاستسلام للفقر مدى الحياة، وهذا مقتضى الخلقة للمجتمع الانساني، حيث يتضور أغلب الناس جوعاً وتصاب ثلة منهم بالتخمة من الافراط بالأكل) ([46])

ثم يبين أن هذه الخدع التي يستعملها الغرب قصد السيطرة على الدول المتخلفة المستضعفة قد انطلى على أكثر بلاد العالم الإسلامي، والتي راحت تسلم نفسها للنظم الغربية، تاركة النظام الإسلامي الممتلئ بالعدالة، يقول: (على أية حال، تلك مصيبة فرضها المستكبرون على البشرية فآل المآل بالدول الاسلامية الى هذا الوضع المزري نتيجة ضعف الادارة والتبعية للغير، وهنا تبرز أهمية قيام العلماء والمحققين والمتخصصين الاسلاميين باستبدال النظام الاقتصادي المزيف السائد في العالم الاسلامي ببرنامج بناء ومتضمن لمصالح المحرومين والمضطهدين لإخراج المسلمين والمستضعفين من دائرة الفقر) ([47])

وإضافة إلى هذه المفاهيم والقيم المرتبطة بالاقتصاد الإسلامي ـ كما يتصوره الخميني ـ نرى الخامنئي يعرض مفهوما جديد، أو قمية حضارية اقتصادية جديدة، يسميها [الاقتصاد المقاوم]، وذلك بعد أن رأى الاستكبار العالمي، وبعد فشله في كل مخططاته في مواجهة النظام الإسلامي في إيران، راح يستعمل الحصار الاقتصادي وسيلة لذلك.

وهذا الاقتصاد يعتمد بالدرجة الأولى على (دعم مختلف الوحدات الانتاجية، وتفضيل السلع والمنتجات المحلية على السلع الأجنبية في كلّ القطاعات، والحدّ من اعتماد الموازنة العامّة على الايرادات النفطية)([48]

ومن أحاديثه الداعية إليه، والمبينة لقيمته، ودوره في دحض كل المؤامرات الأجنبية، وتحقيق الرفاه والاستقلال الاقتصادي قوله: (كان هدف العدوّ أن يركّز على الاقتصاد لكي يصيب النموّ الوطني بضربةٍ، ويوجّه لطمة لحالة العمل والعمالة من أجل أن يُصاب الرفاه الوطني بالاختلال والخطر، ويقع الناس في المشاكل، ويضطربون وينفصلون عن النظام الإسلامي،.. وكان ملموساً، وبإمكان المرء أن يشاهد هذا الأمر. لقد قلت عام 1986 م: إنّهم يلاحقون القضية الاقتصادية، وكان المرء بعدها قادراً على أن يستنتج أنّ هذه الشعارات المتعلّقة بكلّ عام، هي حلقات ضمن سلسلة تهدف إلى إيجاد منظومةٍ كاملة في المجال الاقتصاديّ، أي ترشيد الاستهلاك، وقضية اجتناب الإسراف، وقضية الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف، وقضية الجهاد الاقتصادي.. نحن لم نطرح هذه الأمور كشعارات عابرة، بل كانت أموراً بإمكانها أن توجّه وتنظّم الحركة العامّة للبلاد في المجال الاقتصادي، وكان بالإمكان أن تتقدّم بنا، وعلينا أن نكمل هذا الطريق)([49]

ويذكر أن الاقتصاد المقاوم هو الاقتصاد الأقرب للشعب، والأكثر خدمة لمصالحه، باعتباره اقتصادا شعبيا بالدرجة الأولى، يقول: (إنّ للاقتصاد المقاوم مقتضيات، منها الاقتصاد الشعبي (جعله شعبياً) وهو يُعدّ من متطلّبات الاقتصاد المقاوم. وهذه السياسات التي تم الإعلان عنها في الدستور يمكنها أن تحدث تحوّلاً، ويجب القيام بهذا العمل. بالطبع، لقد تمّ إنجاز مجموعة من الأعمال، ويجب بذل المزيد من المساعي. يجب تقوية القطاع الخاص، ويجب العمل على تحفيز النشاط الاقتصادي، ويمكن للنظام المصرفي في البلد، والأجهزة الحكومية المختلفة وكذلك تلك الأجهزة ـ كالسلطة التشريعية والسلطة القضائية ـ أن تعين على ذلك، وتحفّز الناس على النزول إلى هذا الميدان) ([50])

ومن مقتضيات الاقتصاد المقاوم ـ كما يذكر ـ (خفض الاعتماد على النفط، فهذا الاعتماد هو الإرث المشؤوم للقرن الأخير الذي مرّ علينا، فلو أنّنا استطعنا أن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة اليوم، وسعينا لنستبدل النفط بالأنشطة الاقتصادية المنتجة الأخرى، لكنا قد أنجزنا أعظم حركة مهمّة في المجال الاقتصادي) ([51])

ومن أهم البدائل التي يطرحها الخامنئي عن الاعتماد على النفط بالإضافة إلى ما سبق، الاعتماد على المعلوماتية، يقول: (في يومنا هذا، إنّ الصناعات المعتمدة على العلم من الأمور التي يمكن أن تملأ هذا الفراغ إلى حدٍّ كبير. هناك الاستعدادات والطاقات المتنوّعة في هذا البلد التي يمكن أن تملأ هذا الفراغ. فلنبذل همّتنا في هذا المجال، ونتّجه نحو التقليل من هذه التبعية مهما أمكن) ([52])

ومن أركان الاقتصاد المقاوم ـ كما يشرحها الخامنئي في خطابه السابق ـ ما يسميه [إدارة الاستهلاك]، ويشرحه بقوله: (إنّ قضية إدارة الاستهلاك تُعدّ من أركان الاقتصاد المقاوم، أي الاستهلاك المتوازن والبعيد عن الإسراف والتبذير. فالأجهزة الحكومية وغير الحكومية، وكل أفراد هذا الشعب، والعائلات يجب أن يلتفتوا إلى هذه القضية، وهذا بحدّ ذاته جهاد، إنّ اجتناب الإسراف، ورعاية التوازن في الإنفاق هما بلا شك نشاطان جهاديان بوجه الأعداء، يمكن للمرء أن يدّعي أنّ لهذا الأمر أجر الجهاد في سبيل الله) ([53])

ومن أركان الاقتصاد المقاوم ـ كما يذكر ـ [الاستفادة من الإنتاج المحلّي]، ويدعو جميع أجهزة الدولة المرتبطة بالسلطات الثلاث إلى (أن تسعى لكي لا تستهلك أي مُنتج غير إيراني، فليعقدوا العزم على ذلك. وليفضّل أبناء شعبنا استهلاك المنتجات المحلّية على البضائع أو الماركات الأجنبية المعروفة ـ حيث إنّ بعضهم يسعون وراء الماركات الأجنبية فقط لأجل اسمها ولأجل التفاخر والتظاهر في المجالات المختلفة؛ فليقم شعبنا بسدّ طريق استهلاك البضائع الأجنبية بأنفسهم) ([54])

ومن أركان الاقتصاد المقاوم ـ كما يذكر ـ الإجراءات المرتبطة بترشيد الاستهلاك، حتى لا يقع المواطن في التبذير المحرم، والمضر بالاقتصاد، ويضرب مثالا على ذلك بالحصص المتعلّقة بالمحروقات، ويذكر أنه (لو لم يتم اعتماد نظام الحصص في البنزين لكان استهلاكنا لهذه المادّة قد تجاوز أكثر من مئة مليون ليتر في اليوم، لقد تمكّنوا من السيطرة على هذا الأمر وهو اليوم بمستوىً مهم جداً. حتى أنّه يجب العمل بطريقة لا نحتاج معها إلى الخارج) ([55])

وهو يذكر ـ كمثال على جدوى الاقتصاد المقاومة في مواجهة المخططات الخارجية ـ أن ترشيد استهلاك البنزين، قد حماه من الآثار التي حصلت بعد ذلك حينما (وضعوا الحظر على البنزين ضمن برنامجهم، وقد أحبط الاقتصاد المقاوم ذلك. وكذلك فيما يتعلّق بسائر الأمور التي يحتاجها البلد) ([56])

هذه بعض النماذج عن طروحات قادة الثورة الإسلامية للقيم الحضارية التي تحكم الاقتصاد، وقد دل الواقع على جدواها، حيث نرى تمتع الاقتصاد الإيراني ـ على الرغم من الحرب التي مر بها، والحصار الذي أعقبها ـ من الانهيار، ووفر الاكتفاء الذاتي في الكثير من المجالات.

ثالثا ـ الجانب التربوي وقيم الحضارة:

بناء على البعد العقائدي لنظام ولاية الفقيه، وبناء على كون المؤسسات التربوية والتعليمية هي المراكز التي تتخرج منها الأجيال، وتبنى فيها المفاهيم، وترسخ بين عرصاتها القيم، كان لهذه المؤسسات، وللجانب التربوي أهميته الكبرى لدى قادة الثورة الإسلامية، ولدى جميع مسؤوليها.

وقد أشار إلى هذه الأهمية الخامنئي بقوله: (لو أن الإنسان في الواقع أراد أن يقسّم أعمال البلد وقطاعاته المختلفة ويضعها بحسب الأهمية، فإنّ التربية والتعليم توضع في أعلى اللائحة وعلى رأسها)([57]

وانطلاقا من هذا وضعت في إيران فلسفة خاصة للتربية والتعليم تتميز عن غيرها من بلاد العالم، وهي أيضا كانت ـ كسائر الجوانب ـ هدفا للمغرضين، الذين لا يتصورون أن هناك مناهج تعليمية وتربوية تختلف عن المناهج الغربية التي يعرفونها.

ومن خلال استقراء ما كتبه قادة الثورة الإسلامية، أو ألقوه من خطب، ومن خلال الواقع التربوي في إيران يمكننا أن نكتشف خاصيتين بارزتين، أو قيمتين حضاريتين كبيرتين، نفتقدهما للأسف في أكثر البلاد الإسلامية.

1 ـ تجنب التقليد والاهتمام بالقيم الإسلامية:

وهي الخاصية التي نجدها في كل المناهج والمؤسسات التربوية وغيرها، والتي يمكن تسميتها بـ [التربية المقاومة]، وهي مبنية على أساس الموقف من الغرب، وفكره المادي الذي لا ينسجم مع الإسلام الذي يجمع بين المادة والروح، وبين العلم والتربية، ويعتبر كل مفاصلة بينهما نوعا من العلمانية، أو الأخذ ببعض الكتاب.

وقد ذكر الخميني ذلك في خطاب الانتصار بعد نجاح الثورة الإسلامية، ووعد به شعبه، فقال: (يجب أن تتغير جميع الأمور في إيران في ظل الجمهورية الإسلامية. فالجامعات يجب أن تتغير في الجمهورية الإسلامية، وتتبدل الجامعات العميلة إلى جامعات مستقلة. ثقافتنا يجب أن تتبدل، وتحل الثقافة المستقلة محل الثقافة الاستعمارية. وزارة العدل يجب أن تتغير. فالقضاء الغربي لا بد أن يتحول إلى القضاء الإسلامي. اقتصادنا يجب أن يتغير. الاقتصاد العميل يجب أن يتحول إلى اقتصاد مستقل. وجميع الأشياء التي كانت في حكومة الطاغوت وكانت قد طبقت استجابة لأوامر الأجانب في هذا البلد الضعيف، هذه الأشياء يجب أن تنقلب رأساً على عقب بعد أن استقرت الحكومة الإسلامية والجمهورية الإسلامية)([58]

وما ذكره الخميني وقادة الثورة الإسلامية عن التغيير لا يقصدون به التغيير لأجل التغيير، وإنما يقصدون به التغيير الهادف، والمبني على أن تلك المؤسسات كانت خاضعة للغرب، وثقافة الغرب وقيمه لا تتناسب مع الإسلام، ولا مع إيران، ولا مع أي شعب من الشعوب، كما عبر عن ذلك الخامنئي في قوله: (لقد حقّق الغربيّون نقلة نوعيّة في المجال المادي وقاموا بقفزة في فترة من الفترات، بيد أنّ هذه القفزة كانت منفصلة ومتعارضة مع الحركة الأخلاقيّة. كانت قفزة ماديّة مئة بالمئة. في البداية، لم يدرك أحد ما الذي حصل! لكن ها هم الآن، قد بدأوا يفهمون بالتدريج، فهم يشعرون بخسائر لا تعوّض تصيبهم شيئًا فشيئًا. لا يتوهمنّ أحد أنّ حضارة ماديّة محضة، وبعيدة عن المعنويّة ستستطيع أن تروي شعوبها ماءً هنيئًا زلالًا. كلا! سوف يلاقون الأمرّين، وهاهم الآن يعانون الأمرّين. ليس بسبب هذه التظاهرات في شوارع أوروبا وما إلى ذلك، كلا، إنّ مصيبة الغرب هي أعمق من هذه الأمور. إنّ حاجة الإنسان الضروريّة والأساسيّة، قبل كلّ شيء، هي للأمن الروحي والأمن الأخلاقي، والأمن الوجداني وراحة الضمير. وهذه الأمور مفقودة في البيئات الغربيّة، وسوف يزداد الوضع سوءًا يومًا بعد يوم. حين تطّلعون على ما يقوله كتّابهم ونقاّدهم ومفكّروهم، تشاهدون بوضوح كيف أنّهم ومنذ سنوات ارتفعت أصواتهم، وقرعوا جرس الإنذار، وها هم ينشرون أخبار وأسرار الزوايا المظلمة والفاسدة، وكيف أنّ الفساد يتضاعف في مجتمعهم. هكذا هي الحياة الماديّة. نعم، هم تطوّروا من النواحي العلميّة والتقنيّة وما شابه، أنجزوا أعمالًا كبيرة، لكنّ الجانب الآخر من القضيّة بقي متروكًا ومعطّلًا، وهذا ما يشلّهم ويطرحهم أرضًا)([59]

وهو يذكر بألم واقع العالم، وبعده عن مراعاة القيم الأخلاقية، والسلوك المتناسب مع طبيعة الإنسان ووظائفه، فيقول: (العالم يسير حالياً في طريق سيئ. ويعيش أوضاعاً سيئة. الأخلاق تُسحق في العالم. والشعوب تعاني وتتألم من هذا الانحطاط الأخلاقي، ومفكرو الشعوب متنبهون لهذه الخسارة الكبرى، ويبدون انزعاجهم وقلقهم، وهذا ما يمكن أن يلاحظ من كلامهم وآرائهم)([60]

ويذكر كذلك الدور الذي على إيران أن تفعله لإنقاذ البشرية من هذا التيه، وذلك بإعطائها النموذج المثالي عن القيم الرفيعة التي تحكم الحياة، وتساهم التربية في تشكيلها، يقول: (هذا المصير المفزع الماثل أمام البشرية يمكن تغييره، والخطوة الأولى أن نوجد في أنفسنا ذلك التحرك الكبير والتحول العظيم. والأمر يبدأ من التربية والتعليم. لقد توفرت البُنى التحتية والحمد لله طوال هذه السنوات الثلاثين في القطاعات المختلفة بشكل جيد. ويمكن التحرك على أساس هذه البُنى التحتية. والمسؤولية ثقيلة والطريق طويل والعمل صعب، ولكن في نهاية الطريق يلوح الضياء والنور الذي يمنحه الله، وبوسع المرء أن يرى ذلك. نهاية الطريق مشرقة، والأفق مشرق، ويمكن السير في هذا الطريق بصورة جيدة. هناك حالات عِداء ضدنا)([61]

وهو يذكر أن كل ذلك العداء الموجه لإيران ليس سوى تعبير عن الخطر الذي يشعر به المستكبرون خوفا من تنفيذ القيم الإسلامية في الواقع، وإعطاء النموذج المثالي لذلك، والذي قد يحرك جهات أخرى للتأسي به، يقول: (أي نجاح يحرزه الشعب الإيراني يؤدي إلى أن يشعر بعضهم في العالم بالإخفاق. الأقوياء يصطفّون بشكل طبيعي إزاء هذه التحركات غير المنسجمة مع مصالحهم غير المشروعة. وهذا ليس بالشيء العجيب وغير المتوقّع، إنما هو شيء متوقع بالنسبة لكل شعب يدخل ساحة الكفاح الحياتي العظيم.. شيء متوقع. واصل شعبنا مسيرته هذه منذ بداية الثورة وإلى اليوم مواجهاً هذه العقبات والموانع. هذه ليست بشيء. هذه التهديدات والكلمات التي يطلقونها وحالات المعارضة والعرقلة التي تصدر عنهم، أثبتت تجربة الشعب الإيراني أن لا تأثير لها في مسيرة الشعب ولن تؤدي إلى إبطاء حركته وسيواصل الشعب مسيرته وطريقه. المهم أن يعرف كل شخص دوره، أن يعرف كل شخص أينما كان واجبه الملقى على عاتقه بنحو صحيح ويقوم به. وسوف يساعدنا الله بمشيئته عزَّ وجلَّ)([62]

2 ـ التخطيط الاستراتيجي لتكوين الشخصية المسلمة:

من الأسباب الكبرى التي جعلت قادة الثورة الإسلامية يولون أهمية كبرى للتربية والتعليم هو كونه المؤسسة التي يمكنها أن تؤدي أدورها في تشكيل الشخصية التي تتناسب مع نظام ولاية الفقيه، ذلك أنه لا يمكن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بصورتها المثالية إلا بعد توفر القابلية لذلك، وهي تستدعي القناعة بالإسلام، وبالقيم التي جاء بها ومحاولة تنفيذها في الحياة.

وقد ظهر في هذا المجال ما يطلق عليه في إيران [وثيقة التحوّل البنيوي]، وهي الوثيقة التي ترسم سياسة الدولة، وتضع الخطط الاستراتيجية لها في المجال التربوي، وقد تحدث عنها الخامنئي كثيرا في خطبه ونوه بها، ودعا إلى تفعيلها في الواقع، فقال: (لقد كنت دائماً أكرّر في لقاءاتي مع المعلّمين والمسؤولين الثقافيين، والمجلس الأعلى للثورة الثقافية وغيرهم هذا الأمر، ولحسن الحظ، قد وصل إلى نتيجة، بحيث إنّ [وثيقة التحوّل البنيوي] قد أعدّت وصُوّبت. فاليوم لهذه المؤسسة وثيقة مدوّنة تحدّد منهج التحوّل البنيوي في التعليم والتربية)([63]

وهو يذكر أن هذه الوثيقة تشبه الوصفة الطبية، وهي مع أهميتها ليست كافية، ذلك أننا (إذا ذهبنا إلى الطبيب، وأدّينا حقّ المعاينة، والطبيب قام بالمعاينة أو التشخيص، وكتب لنا وصفةً ووضعناها في جيبنا، ثمّ ذهبنا إلى البيت وظننّا أنّ الأمر قد انتهى، فهل يختلف هذا الأمر عن عدم مراجعة الطبيب بشيء سوى أنّه قد أنفقنا المال وقطعنا مسافة على الطريق، ينبغي تناول الدواء، ففي هذه الوصفة قد دُوّن اسم الدواء ومقدار ما ينبغي تناوله منه وفي أيّ وقت، ويجب تنفيذ هذا وتطبيقه، ولو لم نفعل، فالذهاب إلى الطبيب وأخذ الوصفة كأن لم يكن. حسنٌ، لدينا الآن [وثيقة التحوّل البنيوي] في التربية والتعليم، وهذه الوصفة تحتاج إلى تخطيطٍ دقيق فيما يتعلّق بكل بنودها. فإنّ الحديث هو حول التحوّل البنيوي لا الشكلي الظاهري)([64]

وبناء على هذا يدعو إلى أن تكون هناك (خارطة للطريق، ولا يكون الأمر بحيث إنّ أي مسؤول أو وزير أو مدير في أي قطاع يقوم اليوم باتّخاذ قرارٍ ثم يقوم في اليوم التالي بتغييره بحسب سليقته. فكلّ هذا هو إهدارٌ للأوقات والطاقات. وهذه نقطةٌ أساسية. ويجب أن يكون هناك تخطيطٌ محكمٌ ودقيقٌ لأجل هذا التحوّل البنيوي، يجب أن نضع بين الأيادي خارطةً للطريق، وهذا ما ينبغي أن يقبل به الجميع ويؤيّدوه ويؤمنوا به ويُضمن فيه أنّ التربية والتعليم ستسلك هذا الطريق حتى النهاية وطبق هذا البرنامج) ([65])

ومن أهم الأهداف التي تسعى خارطة الطريق في المجال التربوي، والتي ذكرها الخامنئي ودعا إلى تحقيقها، والعمل بموجبها، هي تشكيل الشخصية السوية التي تتبنى الإسلام والقيم الإسلامية بكل أبعادها ومجالاتها، يقول: (بوسع المعلم تربية هذا الحدث أو الطفل وجعله إنساناً عالماً مفكراً يتحلى بروح البحث العلمي ويرغب في البحث والدراسة والعلم، أو يجعله إنساناً سطحياً غير راغب في العلم والتعمق والبحث العلمي. بوسعه أن يخرِّجه ويقدمه للمجتمع إنساناً شريفاً نجيباً خيّراً طيب القلب طاهر النفس، أو على العكس قد يجعله إنساناً شريراً مسيئاً. وبمقدوره أن يجعله إنساناً متفائلاً ذا ثقة بالنفس ومملوءاً بالأمل ومحباً للعمل والنشاط، أو على الضد من ذلك يمكنه تخريجه إنساناً يائساً قانطاً منعزلاً ومنكفئاً على نفسه. كما بوسعه أن يجعل منه إنساناً متديناً تقياً ورعاً وطاهراً، أو إنساناً غير مبالٍ وغير آبه للقيم الأخلاقية والتعاليم الدينية. بوسعه التغلب حتى على عوامل التربية الخارجية مثل وسائل الإعلام. بل إن التعليم المستمر على مدى سنوات والعمل على هذه المادة الخام والقلب المستعد لتقبّل الأشكال المختلفة، يمكنه التفوق حتى على الدور التربوي للوالدين. هذا هو دور المعلم)([66]

ويقول في خطاب آخر مخاطبا المعلمين: (صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمر يحصل بالتربية.. فالمعلّم يعلّم العلم، ويعلّم التفكير، ويعلّم الأخلاق والسلوك أيضًا. إنّ تعليم الأخلاق والسلوك ليس من قبيل تعليم العلم بحيث يقرأ الإنسان ويدرّس من الكتب فقط. درس الأخلاق لا يمكن نقله بواسطة الكتب، السلوك مؤثّر أكثر من الكتاب والكلام. أي إنّكم في الصف وبين التلاميذ تدرّسونهم بسلوككم. بالطبع، يجب القول والبيان بالكلام أيضًا، ويجب إسداء النصيحة، لكنّ السلوك تأثيره أعمق وأشمل. سلوك الإنسان يبيّن صدق الكلام، هذا هو ما نقوله للمعلّمين. هؤلاء الطلّاب أمانة في أيدي المعلّمين، يجب الانتباه لهذا المعنى والاهتمام به. إذا قام معلّمونا ـ إن شاء الله ـ برفع مستوى الأطفال والتقدّم بهم الى الأمام بهذا الأسلوب، فأتصوّر أنّ ذلك سيكون له تأثيرات أساسيّة كبيرة في مستقبل المجتمع)([67]

وبناء على هذا يدعو إلى دعم خاص لهذا القطاع، باعتباره من أهم المؤسسات المنتجة في البلاد، لأنه لا ينتج بضاعة، وإنما ينتج إنسانا، يقول: (واجب ومسؤوليّة جميع الأجهزة والمؤسّسات في الحكومة دعم قطاع التربية والتعليم. سواء المؤسّسات المختصّة بالتخطيط والميزانيّة أو الأجهزة التي تصادق على هذه الميزانيّات في مجلس الشورى الإسلاميّ، يجب عليهم جميعًا أن تكون نظرتهم للتربية والتعليم مثل هذه النظرة، فلا يتصوّروا أنّ هذا القطاع قطاع يستهلك التكاليف والميزانيّات فقط ـ وهذه نظرة مشهودة في بعض الأحيان، إذ يقولون إنّ جهاز التربية والتعليم هو قطاع يستهلك ويكلّف ـ كلّا، إنّه جهاز كلّما خصّصتم ميزانيّات، وأنفقتم عليه أكثر فستربحون أضعافًا مضاعفة. إنّه قطاع سيتخرّج منه صنّاع الثروة في المستقبل، وصنّاع العلم في المستقبل، وصنّاع الحضارة في المستقبل، ومدراء المستقبل. ليس من الصحيح أن نتصوّر أنّ التربية والتعليم تحمّلنا نفقات ومصاريف فقط. كلّا، فلا يوجد أرباح ومكاسب أكبر من مكاسب التربية والتعليم. كلّ ما تشاهدونه في كلّ أرجاء البلاد من مؤشّرات ومظاهر التقدّم والإنتاج والإبداع، فإنّ جذوره هنا، أصلحوا هذا القطاع فيصلح عندها كلّ شيء)([68]

وإلى جانب الاهتمام بدعم هذه المؤسسات لتؤدي دورها، نرى الخامنئي يدعوها إلى الالتزام بوظيفها وعدم الخروج عنها، لبناء الأجيال الصالحة البعيدة عن كل الشوائب التي قد تنحرف بها، يقول: (على المدراء الذين نختارهم أن ينصبّ اهتمامهم على القضيّة الأصليّة في التربية والتعليم. إنّ النزعات والتوجّهات السياسيّة والحزبيّة والفئويّة وما إلى ذلك هي سمّ مهلك للتربية والتعليم. لقد شاهدنا، في فترة من الفترات طوال هذه الأعوام المتمادية مدى الضرر والخسارة التي لحقت بالتربية والتعليم. راقبوا واحذروا! فليكن التعامل مع مختلف مسائل قطاع التربية والتعليم بحيث تكون القضيّة الأهمّ بالنسبة لمدير أي قسم أو دائرة في هذا الجهاز العظيم الواسع قضيّة [التربية والتعليم]، أن تكون قضيّة [تربية الإنسان]، وتربية الطاقات الثوريّة)([69]

وهو يذكر لهم أن الهدف النهائي الذي تسعى كل المؤسسات الإيرانية إلى تشكيله، وتستعمل كل الوسائل في ذلك هو تحقيق المجتمع المسلم بجميع القيم التي يحملها، يقول: (إنّنا حينما نشدّد على الطاقات والكوادر الثوريّة والمتديّنة، فلأنّ أمامنا دربًا طويلًا، أمام هذا الشعب درب طويل. الهدف الذي رسم للجمهوريّة الإسلاميّة على أساس التعاليم الأساسيّة للثورة هو هدف سام جدًّا، فالهدف هو خلق مجتمع نموذجي. إنّكم تريدون وفي إطار إيران العزيزة، والواقعة من الناحية الجغرافيّة في منطقة حسّاسة جدًّا من العالم، أن تصنعوا مجتمعًا يكون ببركة الإسلام وتحت راية القرآن، أسوة ونموذجا. نموذجا في الأبعاد الماديّة والتقدّم المادي، وفي الوقت نفسه أسوة ونموذج في الأبعاد المعنويّة والأخلاقيّة)([70]

وبناء على هذا يدعو إلى التدقيق في كل ما تمارسه هذه المؤسسة ابتداء من التكوين الجيد للمعلمين بإنشاء جامعات خاصة بهم وبتحديث تكوينهم كل حين، وانتهاء بالمقررات الدراسية، والتي يقول في شأنها: (يجب الانتباه والتدقيق كثيرًا في الكتب الدراسيّة، إذ ينبغي أن تكون متقنة؛ فالمضمون والأفكار والكلام الضعيف في هذه الكتب مضرّ. ليس أنّه غير مفيد بل هو مضرّ، وكذلك الانحرافات السياسيّة أو الانحرافات الدينيّة أو الانحراف عن الحقائق والواقعيّات، في هذه الكتب مضرّة. الذين يتولّون مسؤوليّة هذه العمليّة يجب أن ينجزوا هذا العمل بمنتهى الأمانة والدقّة)([71]

ويقول عن جامعة المعلّمين: (ذكرتُ هذا للوزير المحترم قلت له: [جامعة المعلّمين]، أو [جامعة إعداد المعلّم] ـ حسب التعبير القديم ـ هي جامعة، ولكنّها تختلف عن الجامعات العاديّة. فضلًا عن الامتيازات الموجودة في الجامعات الأخرى، فإنّ ميزة إعداد المعلّم وتخريجه تختصّ فقط بهذه الجامعة. ولهذا الأمر طبعًا شروطه ومقتضياته. ينبغي الاهتمام بهذه الجامعة بمنتهى الجديّة) ([72])

هذه بعض طروحات قادة الثورة الإسلامية في هذا المجال، وهي تبين عمق الأهداف التي يتوخونها من هذا الجانب المهم، وقد دل على مدى نجاحهم في هذا الجانب ذلك الاستقرار الذي عاشه المجتمع الإيراني على الرغم من كل استعمل معه من أدوات الحرب الناعمة، والتي حاولت أن تثير شعبه، لكنه لم يثر، بل بقي وفيا لثورته وقادته.. وذلك وحده دليل على نجاح المخططات التربوية.

رابعا ـ الجانب العلمي وقيم الحضارة:

مثلما رأينا في الجوانب السابقة من حرص النظام الإيراني على التميز والإبداع، والبعد عن التبعية والتقليد، والاهتمام بالقيم والحقائق، بدل الشكليات والظواهر، نلاحظ كذلك في الجانب العلمي هذا الاهتمام، وربما بصورة أكثر وضوحا.

حيث أننا عندما نتابع أحاديث قادة الثورة الإسلامية، وخصوصا القائد الحالي، نجد اهتماما كبيرا بهذا الجانب، فهو يحضر الجلسات التي تصف الأوضاع، أو التي تضع الاستراتيجيات المستقبلية، ويدلي برأيه فيها، وبصورة لا نكاد نجدها عند أي زعيم من زعماء العالم.

ومن الأمثلة على ذلك لقاؤه الذي تم بتاريخ 29/ 7/2012 م، مع حشد من الباحثين والمختصّصين والمبدعين ومسؤولي المؤسّسات البحثية، والذي قال في مقدمته: (أتمنّى أن تستطيع هذه الجلسة والجلسات المماثلة الأخرى أن تساعد على سدّ الحاجة الأساسية التي يعيشها بلدنا اليوم، والتي هي عبارة عن تنمية العلم والبحث العلمي والتقنية، وتخريج المواهب وإعدادها، وزيادة انتشار ثمار المواهب المميّزة لشعبنا في حياة كل أبناء الشعب)([73]

ثم ذكر مدى ما يوليه النظام الإيراني للعلم والابتكارات العلمية، حتى يتحقق الاستقلال الحقيقي، وفي جميع الجوانب، فقال: (ما نصرّ ونؤكد عليه هو أنّ العلم بالنسبة للبلاد رأس مال لا ينفد ولا ينتهي. إذا تحرّكت عجلة إنتاج العلم في بلدٍ ما، وإذا كانت ثمّة موهبة انطلقت وسارت، وإذا بدأت الإمكانيات والقابليات تبرز وتظهر فستكون مصدراً لا ينفد. العلم ظاهرة ذاتية الإثمار، وليس شيئاً يضطرّ المرء من أجله للتبعية. نعم، إذا أردتم أخذ العلم حاضراً وجاهزاً فستكون فيه تبعية واحتياج للآخرين، ومدّ الأيدي نحوهم، ولكن بعد أن يتكوّن الصرح العلمي في بلد من البلدان، وإذا كانت في ذلك البلد مواهب، فسيكون كالينابيع المتدفقة) ([74])

ومثلما دعا في الاقتصاد إلى إيجاد الاقتصاد المقاوم الذي يخلص البلاد من التبعية، ويجعلها تستهلك ما تنتج لا ما يمن به عليها، دعا كذلك في المجال العلمي إلى [الجهاد العلمي]، والذي لا يقل عن الجهاد في جبهات الحروب، يقول: (إن البلد اليوم بحاجة إلى جهادٍ علمي. وعندما أذكر العلم هنا فإن قصدي هو المعنى العام للعلم وليس العلوم التجريبية فقط. يلزمنا جهادٌ علمي.. ففي المفهوم الإسلامي يكون الجهاد عبارة عن ذلك السعي مقابل عدو ما أو خصم. فليس كل سعيٍ جهاداً. فجهاد النفس، وجهاد الشيطان، والجهاد في الميدان العسكري هو مواجهة عدو أو مخالف. ونحن اليوم في مجال العلم بحاجة إلى مثل هذا السعي في البلد، نشعر بأن هناك موانع علينا أن نزيلها، وعوائق يجب أن نحطّمها، وفي مجال توفير الإمكانات العلمية يوجد خسة لدى أولئك الذين يمتلكونها ـ وهي الدول المتطورة علمياً، وعلينا أن نظهر من أنفسنا في المقابل عزّة ونهضة تحركاً نحو الأفضل. العالم اليوم ورغم تظاهره بالسخاء العلمي هو في منتهى الخسّة من حيث العلم. فالذين تمكّنوا، لعوامل مختلفة، من أن يمتلكوا في فترة ما تطوراً علمياً واعِتلوا مركب التطور وتفوّقوا على غيرهم ـ وهم الدول الغربية المتطورة التي حصلت على ذلك منذ عصر النهضة، وقد كان ذلك في أيدينا يوماً ـ هم احتكاريون، فهم لا يريدون أن تتسع دائرة هذا العلم وهذا الاقتدار، فلهذا يخالفون علم الشعوب، وخصوصاً بعد أن أصبح هذا العلم وسيلة بأيديهم للسياسة)([75]

وهو يذكر أن من دلائل لا أخلاقية الحضارة الغربية ذلك الاحتكار الذي تمارسه للعلم، مع أن الأصل فيه أن يشاع حتى يستفيد منه البشر جميعا، وهو يذكر أن هذا ليس خاصا بعصر من العصور، ففي الفترات السابقة كان العلم وسيلة للمستعمرين للهيمنة والظلم، يقول: (فالاستعمار ظهر من العلم. والعلم هو الذي مكّنهم وجعلهم مقتدرين، لهذا جالوا العالم واستعمروه، هذا حينما كانت الشعوب تعيش مستقلة. فأين هي بريطانيا وأين هي أندونيسيا؟! فأولئك استطاعوا أن يحتلوا تلك المناطق بواسطة العلم. وعندما صار الاستعمار وليد العلم واعتمدت القوة الدولية والقدرة السياسية على العلم، قالت إنه لا ينبغي لهذا العلم أن يكون بيد الآخرين، وإلا فإنه يهدد هذه القدرة. وها هم اليوم وما زالوا على هذا المنوال)([76]

وما دام العلم أصبح بهذه الصورة في يد الحضارة الغربية، فإن على العلماء الإيرانيين ـ كما يذكر الخامنئي ـ أن يقوموا بدورهم الجهادي حتى لا تستعمر بلادهم بالعلم كما استعمرت بلاد أخرى، ولذلك يبث فيه الروح العقائدية التي تجعلهم يتحركون لمواجهة الخطر، وبكل عزم وإيمان.

وهو يشير في هذا الجانب إلى ضرورة التخطيط وفق استراتيجية واضحة ودقيقة، يقول معلقا على بعض المشاركات في المؤتمر: (أشار الأصدقاء إلى التخطيط لمئة سنة. بالطبع إنني لا أعتقد بالتخطيط لمئة سنة، لكنني أستحسن هذا التفكير وهذه الروحية التي نشعر معها بأننا ما زلنا نخطو الخطوة الأولى رغم مرور ثلاثين سنة، حتى إذا أردنا أن نخطو عشر خطوات فهذا يعني ثلاثمائة سنة. علينا أن نعلم أننا في خطواتنا الأولى، ويجب أن نعلم أننا نستطيع أن نخطو خطوات أكبر، يجب أن نخلق هذا الشعور. وإنني أعتقد بأنه سيتحقق حتماً، فمثلما أن هذه الحركة العلمية العظيمة وهذه الإبداعات العلمية وهذا الإنتاج العلمي والعبور إلى حدود العلم لم تكن لتخطر على بالنا، وها هي قد طُرحت وقيلت وتوبعت، وها أنتم ترون ثمراتها اليوم، لهذا فإننا نستطيع أن نخطو خطوات أكبر ونستطيع أن ننجز أعمالاً كبرى)([77]

ومثلما دعا في الجوانب السابقة إلى الابتكار والخروج من التقليد والتبعية يدعو كذلك في هذا المجال، بل يبين الخطوات العملية لتحقيقه، وهي تنمية التفكير الإبداعي والنقدي في عقول الطلبة حتى تكون لديهم الآليات التي تجعلهم يمارسون الإنتاج بدل الاستهلاك، يقول: (أساس العلم وقاعدته هي الفلسفة، ولو لم يكن هناك فلسفة لم يوجد علم. ما لم يكن تحليل واستنتاج فلسفي فالعلم سيكون بلا معنى. إن إنتاج الفكر مهم جداً. وبالطبع فإن إنتاج الفكر أصعب من إنتاج العلم. فالمفكرون والنخب الفكرية معرضون للآفات التي هي أقل في ساحة النخب العلمية. لهذا فإن العمل هنا صعب، لكنه مهم جداً)([78]

ولأجل تحقيق هذا يدعو إلى تحفيز الطلبة وتشجيعهم، وزرع الثقة فيهم، حتى يتمكنوا من أداء مسؤولياتهم، وإخراج بلادهم من التبعية العلمية، وتحقيق النصر في هذا الجانب، مثلما تحقق في الجوانب الأخرى، يقول: (لقد كان الشعب الإيراني طوال أعوام متمادية قبل الثورة أسيراً لإضعاف روح الثقة بالذات. منذ أن فتح المسؤولون الحكوميون أعينهم أولاً، ثمّ فتح أبناء الشعب تدريجياً أعينهم وبهتوا أمام التقدّم العلمي المذهل للغرب، بدأ ترويج الشعور بالنقص والدونية والاستهانة بالذات في هذا البلد وبين أبناء شعبه، ولحسن الحظّ فإنّ الثورة غيّرت كلّ شيء، بما في ذلك هذه الحالة وهذه الروح. وعليه، فإنّ تأسيس الأعمال والمشاريع الاقتصادية على أساس العلم يؤدّي إلى تعزيز الروحية والشخصية والهوية الوطنية ويزيد كذلك من الاقتدار السياسي. الاستقلال والاعتماد على الذات في بلد ما يورث الاقتدار السياسي فضلاً عن الاقتدار الاقتصادي الذي سيتحقّق بشكل طبيعي) ([79])

ودعا في هذا الصدد إلى الاهتمام بالمخترعين، والسعي إليهم، وتشجيعهم، حتى لا تمتد إليهم الأيادي الغربية، لتأخذهم، يقول: (من القضايا المهمّة أن ترصد أجهزتنا الحكومية الاختراعات وبراءاتها، وتتوجّه هي نحو أصحاب الاختراعات والنخب الفكرية وتطالبهم بالتعاون والمساعدة كي يستطيعوا أن يساهموا في تأسيس شركات البحث العلمي وفي أقسام معينة منها. لا تقعد أجهزتنا حتى يأتيها المخترعون ويراجعوها وتقع الأعمال في التلافيف والتعقيدات الإدارية والبيروقراطية وغيرها من المشكلات.. هذه الأمور تضعف بلا شكّ المحفّزات والاستعدادات)([80]

ويقول: (حسب التقارير التي لديَّ فإنّ الأجانب يرصدون المواهب الموجودة في بلادنا، وما ينفعهم منها يأتون ويستثمرونه ويأخذونه. المواهب والطاقات الإنسانية أثمن ما يمتلكه البلد. يجب أن لا نسمح ولا ندع هذا يحصل. والشكل المنطقيّ لعدم السماح هو أن نوفّر الفرص والأرضية، ونشجّع ونأخذ بالأيدي، وندفعهم نحو العمل، ونأخذهم إلى الميدان ليعملوا ويكونوا متفائلين متشوّقين، وعندها سيتوفّر ذلك الينبوع المتدفّق الذي لا ينضب)([81]

وهو يدعو لتحقيق هذا، وللمنع من هجرة الأدمغة، والاستفادة من كل الطاقات إلى التعامل الحريص على الطلبة، وتشجيعهم وتوفير الفرص لهم، وعدم ممارسة أي سلوك قد يجعلهم ينفرون من البحث، يقول: (هناك من يجلس على قلب الطالب الجامعي والأستاذ ليتلو عليه آيات اليأس والإحباط: هذا لا يتحقق، وهذا لا نقدر عليه، وهذا لا فائدة منه؛ فهؤلاء في الواقع مثل حشرة العث: مخلوقات دنيئة ومخربة ومدمرة. فالبلد يتحرك نحو الأمام بكل يسر، والغرسة قد أصبحت بحمد الله شجرة طيبة.. فنحن نتقدم في جميع المجالات، وبالطبع نواجه تحديات. ولو أراد المرء أن لا يسقط أرضاً فعليه أن لا يسير أبداً. وإذا أردنا التحرك فهناك سقوط وارتطام. ومواجهة التحديات تعد من خصائص حركة أي شعب، وبدونها لا تكون حركة. فبهذا اليسر والثبات يتقدم شعبنا، فيما تجلس جماعة من الناس لنشر اليأس والإحباط)([82])

ولم يفته أن يذكر في هذا الموضع بعض مظاهر التقدم العلمي الذي حصل لإيران، وقد علق على بعضهم في هذا، فقال: (لاحظت أن بعض المتحدثين ليس لديه اطلاع على بعض الأقسام الأخرى، وأنا مطلع عليها. على سبيل المثال في التكنولوجيا العسكرية هنا إنجازات كثيرة ومدهشة. وما يشاهده المرء في التلفزيون ليس سوى واجهة، والواجهة لا يمكن أن تُظهر حقيقة الأمر وعظمته وتعقيداته. لقد أُنجز الكثير) ([83])

وقال: (في هذه الإحصائيات التي ذُكرت لاحظتم أنّ تقدّم البلاد في القطاعات المهمّة والعلوم الحديثة والمؤثّرة في الحياة كان ملفتاً خلال عدّة أعوام. وهذا مؤشّر على وجود مواهب وإمكانيات واستعداد. علينا أن نأخذ هذه المسألة بجدّية، أي أن نهتم لقضية العلم والاعتماد على العلم في البلاد، ونجعلها أساساً للأمور والمشاريع. هذا هو ما نقوله في هذه الأعوام) ([84])

وهو يذكر أن تطور الاقتصاد مربتط بتطور العلم، فأحسن أدوات الاقتصاد المقاوم هو الجهاد العلمي، يقول: (إذا جرى الاهتمام بالعلم في القطاعات والمجالات المختلفة فستستطيع شركات البحث العلمي والتي تعمل وتنتج وتوفّر الثروة على أساس العلم أن تصل باقتصاد البلاد تدريجياً للازدهار الواقعيّ. الحصول على الثروة عن طريق بيع المصادر النافدة مثل النفط ونظائره ليس ازدهاراً ولا تقدّماً، إنّما هو خداع للذات. وقد وقعنا في هذا الفخ، ويجب أن نعترف ونتقبّل أنّ هذا فخّ بالنسبة لشعبنا. لقد ابتلينا ببيع الخام، وهذا واقعٌ وصلنا كتراث من الماضي وجرى تعويد البلاد عليه. طبعاً جرت محاولات في هذه الأعوام الأخيرة لترك هذا الإدمان المضرّ بالبلاد، لكن هذا لم يحدث بنحو تامّ. يجب أن نعتقد أولاً أن البلد ينبغي أن يصل إلى حيث يستطيع بإرادته، وأنّه متى ما شاء يسد آبار نفطه.. يجب أن نصل إلى هذه العقيدة والقناعة. هذا ما يتعلق بقضية النفط. وبيع الخام في مختلف أنواع المواد الخام والمعادن لا يزال قائماً. وهذه من نقاط ضعفنا ومن مشكلات بلادنا. إذا أردنا أن ننجو من هذا الوضع، ونحقق النمو الاقتصادي الحقيقي، فالسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على العلم، وهذا متاح عن طريق تقوية شركات البحث العلمي)([85]

وذكر أن أهمية ذلك لا تقتصر على المجال الاقتصادي، بل تعم كل المجالات، يقول: (إذا استطعنا إن شاء الله التقدّم ببناء الأعمال الاقتصادية على أساس العلم، وتحويل ذلك إلى طابع غالب على اقتصاد البلاد، فإنّ ذلك لن يمنح البلاد قوة اقتصادية وحسب، بل سيمنحها قوة سياسية أيضاً، وقوة ثقافية. حينما يشعر البلد أنّ بوسعه إدارة نفسه وشعبه بعلمه ومعرفته ويقدّم الخدمات لسائر الشعوب، فسوف يشعر بالهوية والشخصية. وهذا بالضبط ما تحتاجه الشعوب المسلمة اليوم) ([86])

هذه مجرد نماذج عن مدى حضور الولي الفقيه في جميع مجالات الحياة في إيران، وتوجيهاته لها، وهو ما يبين أن دوره والصلاحيات التي أعطيت له، لم تعط من فراغ، لأن هذا الدور وتلك الصلاحيات هي التي تتيح له أن يتدخل في السياسات المختلفة ليوجهها توجيها استراتيجيا لتحقيق المكاسب الكبرى.

وأحب أن أختم هذا المبحث ببعض ما ذكرته وسائل الإعلام من النجاحات التي حققتها الجمهورية الإسلامية في هذا المجال، وفي تلك الفترة القصيرة المشحونة بالمؤامرات.

ففي مقال إخباري بعنوان [إنجازات ايران ما بعد الثورة الإسلامية] وردت الإحصائيات التالية([87]):

في القطاع الصحي: زاد عدد الأطباء من 15،000 إلى أكثر من 111،000 طبيب، والقضاء التام على حاجة البلاد إلى توظيف الأطباء الأجانب، فضلا عن جذب السياحة الصحية، وقبول وعلاج المرضى الأجانب الذين يعانون من مختلف أنواع الامراض.

ومن الابتكارات التي حققها الإيرانيون في هذا القطاع: التطور الكبير في مجال الخلايا الجذعية، وفي زراعة الكلى وعلاج أمراض العيون، بالإضافة إلى حصول إيران على المركز الأول في الشرق الأوسط بإنتاج 97 بالمئة من الأدوية اللازمة وتصدير الأدوية، بما في ذلك العقاقير والتكنولوجيا الحيوية.

وقد حصل الاكتفاء الذاتي في صنع اللقاحات والقضاء على شلل الأطفال وغيره من الأمراض الشاملة، حيث تغطي اللقاحات اليوم 100 بالمئة من اراضي البلاد بعد أن كانت 30 بالمئة قبل الثورة، وقد نتج عن هذا التطور انخفاض معدل وفيات الأطفال دون سن سنة واحدة من أكثر من 12 بالمئة قبل الثورة إلى أقل من 1.5 بالمئة والحد من وفيات الأمهات من 54.2 بالمئة إلى 0.24 بالمئة بعد الثورة.

في المجال الصناعي: حصلت زيادة وتطوير معامل التكرير والبتروكيماويات وتصنيع أكثر من 40 محطة كبيرة للنفط والغاز والبتروكيماويات على مدى العقود الثلاثة الماضية.

وارتفعت نسبة انتاج الاسمنت من 6.6 ملايين طن الى حوالي 80 مليون طن وازدادت الصادرات غير النفطية من 523 مليون دولار عام 1979 الى 5731 مليارا عام 2017.

وارتفع مستوى الاكتفاء الذاتي في صناعة النفط من 4 بالمئة إلى 80 بالمئة، والبتروكيماويات من 4 ملايين طن في عام 1979 إلى 38 مليون طن بعد الثورة.

في المجال العلمي: يحتل الباحثون الإيرانيون اليوم المرتبة السادسة عشر من الإنتاج العلمي، وبحلول عام 2012، تم تسجيل أكثر من 26196 براءة اختراع في البلاد، وارتفع الترتيب العالمي لإيران في المجال العلمي في الفترة من 1996 إلى 2015 من 16 إلى 53 بالمئة بعد الثورة.

بالإضافة إلى ذلك تحتل ايران مرتبة كبيرة بين الدول المتقدمة الأخرى في مجال العلوم الجديدة مثل: نانو الالكترونيات الدقيقة ناهيك عن دخول العلم الى مجال تصنيع الروبوتات.

أما الجامعات، فقد زادت قدرتها من 15 جامعة حكومية إلى 615 جامعة (115 جامعة حكومية و500 جامعة غير حكومية) وزيادة عدد الطلاب من 175 ألف قبل الثورة إلى أكثر من 4 ملايين طالب في أعقاب الثورة الإسلامية.

وقد نتج عن ذلك كله ارتفاع كبير وملحوظ في مجال نشر المقالات العلمية من 0.1٪ (669 مقالة) في عام 1979 إلى 165.1٪ (23 ألف مقالة) في السنة بعد الثورة.

في المجال العام والاجتماعي: تطورت شبكات توزيع مياه الشرب مع زيادة قدرها من 3.7 ملايين قبل الثورة إلى 11908658 مشتركا بعد الثورة وعدد المدن التي لديها شبكة مياه صحية من 45 مدينة إلى أكثر من 1000 مدينة ومن عدة مئات من القرى قبل الثورة إلى حوالي 33297 قرية حاليا.

وزادت معاشات الضمان الاجتماعي من 89،000 إلى حوالي 4 ملايين شخص والتأمين الصحي من 10بالمئة إلى أكثر من 95 بالمئة.

وتم تنفيذ خطة مهر الإسكانية، وتطوير الصناعة السياحية، وتنظيم المعارض الدولية المختلفة، وتمهيد الطريق لتحسين نوعية الحياة للشعب الايراني.

في المجال الزراعي: قبل الثورة، كان حدود الإنتاج الزراعي 25 مليون طن، والآن يتجاوز الانتاج الزراعي الايراني 100 مليون طن، بالإضافة إلى اعتماد البلاد على نفسها في انتاج كل المحاصيل.

وتم توفير 90 في المئة من طلب البلاد من المنتجات الزراعية والاستراتيجية، مثل القمح، وتعتبر ايران ثاني أكبر منتج استراتيجي واستهلاكي للرز بمعدل نمو يتراوح بين 60 و70 في المئة مقارنة بمرحلة ما قبل الثورة الإسلامية.

وقد تطورت الصناعات ذات الصلة بالقطاع الزراعي بحيث زادت قدرة الإنتاج الزراعي في البلاد إلى 33 مليون طن في عام 2006، وارتفعت في نهاية البرنامج الرابع إلى 42 مليون طن، وإيران هي المنتج الأول للفستق والزعفران والرمان في العالم.

في مجال بناء المدن والعمران: زيادة نسبة الوصول إلى المياه المكررة إلى 96.2 بالمئة من الشعب، وزيادة الطرق الرئيسية في البلاد من 36 ألف كيلومتر إلى أكثر من 200 ألف كيلومتر، وتطوير السكك الحديدية من 4 آلاف كيلومتر إلى ما يقرب من 20 ألف كيلومتر، وزيادة عدد المطارات من 22 مطارا إلى نحو 100 مطار، وزيادة عدد الموانئ ورفع طاقتها الى 10 ملايين طن، والطرق الريفية في عام 1977كانت بطول 26 الف كيلو متر ومن التراب اما اليوم فيبلغ طولها أكثر من 100 الف كم، و56 بالمئة منها طرق من الاسفلت.

خامسا ـ الجانب الفني وقيم الحضارة:

من المزايا التي تميز بها النظام الإيراني، وباتفاق الكثير حتى المغرضين منهم، اهتمامه بالفنون الجميلة بجميع أنواعها، ما تعلق منها بالسمع كالإنشاد والغناء، أو ما تعلق بالبصر كالرسم والنحت، أو ما تعلق بهما جميعا كالمسرح والسينما وغيرهما.

وميزته الأخرى المتعلقة بهذا، والتي ترد على تلك المفاهيم الخاطئة حول الطريقة التي يفكر بها الولي الفقيه، أو القدرات الشخصية الموفرة له، هو اهتمام كلا من قائده الأول، مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني، وخليفته السيد علي الخامئني بالفنون، وبالكتابة الأدبية، والنقد الأدبي، وبالشعر؛ فكلاهما أديب وشاعر وفنان.

وقد ذكرنا في الجزء السابق، عند حديثنا عن العرفان بعض المقطوعات الجميلة للخميني، والتي تضاهي أشعار جلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وابن الفارض، وغيرهم، كنموذج لذلك الاهتمام الأدبي، والروح الشاعرية.

وهكذا شأن الخامنئي، فقد ذكرنا في الجزء السابق أيضا مدى اهتمامه بمطالعة الروايات والقصص، وخبرته فيها، وتوجيهاته المتعلقة بها، وقد كانت علاقته بالأدب قديمة ابتدأت من شبابه الباكر، حينما كان في مشهد، حيث شارك في بعض الجمعيات الأدبية التي تشكلت آنذاك بمشاركة شعراء كبار، وكان ينقد الشعر في هذه الجمعيات الأدبية.

بالإضافة إلى ذلك كله كان شاعرا، وقد كتبت بعض المواقع عنه تحت عنوان [خامنئي الشاعر متعطش لــ (كأس الحياة)] تقول: (كثيرة هي الأخبار التي تحيطنا بجوانب من شخصية السيد خامنئي السياسية، لكن قلة من المقربين منه تعرفوا على خامنئي الأديب والشاعر وتمكنوا من ولوج عالمه الخاص. فعلى الرغم من ولعه بالشعر منذ أكثر من ستين عاماً، إلا أنه لا يزال يشعر بالخجل من إلقاء قصائده أمام الملأ، ويتردد في إصدار ديوانه الأول. لكن الشهر الماضي تجاوز خامنئي خجله وألقى أحدث أعماله الشعرية أمام زملائه الشعراء) ([88])

وعلقت كاتبة هذا الخبر عليه بقولها: (لطالما اتهم علماء الدين بالانغلاق تجاه الفنون، وبأنهم لا يملكون نظرة واضحة في الفن، لكن خامنئي كسر هذه القاعدة بانفتاحه على الساحة الأدبية بشكل واسع. فهو من كبار الناقدين للأدب، وله ذوق نقدي يشهد له كبار الشعراء والأدباء المعاصرين الإيرانيين)

ومن اهتماماته المتعلقة بهذا الجانب، والتي ترد على خصومه الذين يتهمونه ويتهمون مشروع الجمهورية الإسلامية بالتعصب للفارسية، اهتمامه، بل عشقه للغة العربية، وآدابها وفنونها؛ فقد نقلت جريدة (كيهان العربي) بتاريخ 21 رجب 1414هـ عن بعض المقربين من السيد علي الخامنئي الدكتور محمد علي آذرشب، (المستشار الثقافي للخامنئي) قوله: (آية الله الخامنئيّ يعشق الأدب واللغة العربيّة، وإنّه وحتّى اليوم مع زحمة الأعمال الّتي تحيط به، يعقد جلسات بحث أسبوعية في الأدب والشعر العربيّ يتعرّض خلالها القليل من الشعر القديم ولكثير من الشعر الحديث، وخلالها أسمعه مرارًا يقول: (طالما تمنّيت أنّني ولدت في بلد عربيّ يمكّنني من الكلام باللّغة العربيّة)

ويعقب محمد علي آذرشب على هذا بقوله: (لقد طالع موسوعات في الأدب العربيّ بأجمعها ووضع عليها هوامش وتعليقات، من ذلك كتاب الأغاني، فقد طالعه بأجمعه ووضع على حواشيه تعليقات وملاحظات هامّة؛ كما وضع فهرسًا كاملًا قبل أن تبادر دار الكتب إلى طباعة فهرس الأغاني. وحاول منذ سنٍّ مبكر أن يقرأ لجبران خليل جبران، ويترجم له ويقرأ ديوان الجواهري ويعلّق عليه، وحتّى في السجن لم يُفوِّت فرصة الارتباط بمن له ذوق بالأدب العربيّ، من ذلك أنّه التقى في سجن القلعة سنة 1963م بمجموعة من السجناء العرب الخوزستانيّين، فآنس بهم وآنسوا به وكان منهم المرحوم السيّد باقر النزاري، ويذكر الخامنئي، إنّه كان دائمًا يحاول أن يتكلّم مع هؤلاء العرب ويتحادث معهم، وكان يعلّم بعضهم قواعد اللّغة العربيّة ويتعلّم منهم المحادثة العربيّة، حتّى أنَّه حينما خرج من السجن عملوا له هوسة: (يا سيّد جدّك ويّانه)([89]

وفي هذا المجال نذكر علاقته بالشاعر العراقي الكبير، بل شاعر العَرَب الأكبر مُحمّد مهدي الجواهري، والذي كتب عنه على الصفحة الأولى من كتابه (ذكرياتي) قصيدة أهداها إليه قال فيها:

سَيّدي أيّها الأعز الأجَل …

  أنتَ ذو مِنّة وَأنتَ المدِل

يَعجَزُ الحرف أن يُوفّي عظيماً

   كُل ما قيل في سِواه يَقِل

أيّها الشامِخ الذي شاءَهُ اللهُ

  زَعيماً لِثَورَةِ تَستَهِل

لَكَ في ذِمّة الإله يَمينٌ

  يَدٌ مَن مَسّها بِسوءِ تَشِل

لَكَ في السّلم مِنبَرٌ لا يُجارى

  لَكَ في الحرب مِضرَب لا يَفِل

لَكَ أهلٌ فَوقَ الذّرى وَمَحَل

  لَكَ بَعدَ المكرُمات وَقَبل

فاغتَفِر لي ما جاءَ في ذِكرياتي

  يا عَطوفاً عَلى خُطى مَن يَزِل

وبناء على هذه الاهتمامات، والتي يجهلها الكثير للأسف، ويتصورون الولي الفقيه بصورة الفقيه الجاف، الذي لا يعرف إلا الفتوى، وما يرتبط بها، ويغفلون عن كون قادة الثورة الإسلامية جميعا كانوا فلاسفة ومفكرين وأدباء، ويتقنون فوق ذلك لغات متعددة تتيح لهم الاطلاع على الثقافة العالمية.

وقد كان في إمكان النظام الإيراني أن يختار لقب [الولي الحكيم]، بدل [الولي الفقيه]، لهذا الاعتبار، خاصة مع اهتمام جميع قادة الثورة الإسلامية ومفكريها بالحكمة والفلسفة، لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأن الولي الفقيه يمارس صلاحيته انطلاقا من الفقه، الذي هو التعرف على الأحكام الشرعية، والتعريف بها، ومحاولة تنفيذها في الواقع.

انطلاقا من هذا نحاول هنا باختصار أن نذكر تصورات قادة النظام الإسلامي في إيران، للفن، وأهميه، وخصائصه التي تتبناها الجمهورية الإسلامية.

ومثلما سبق ذكره في الجوانب الأخرى من التحذير والتقليد والتبعية والتغريب، نرى كذلك في هذا الجانب دعوة ملحة من جميع القادة إلى الإبداع والابتكار، وبناء منظومة فنية شاملة نابعة من الهوية، ومن القيم الإسلامية.

ولذلك نرى الخامنئي ينكر ـ في محاضراته وخطبه وكتبه ـ على الفنون الغربية، لأنها فنون مادية، وتضليلية، وتسيء إلى الأخلاق والقيم الإنسانية، وهي فوق ذلك تخدم الاستعمار والحرب الناعمة، يقول ـ في خطاب له موجه للفنانين، في أحد لقاءاته بهم ـ: (من النقاط التي ينبغي الالتفات إليها في مواجهة عالم الغرب بشكل كامل، هو عنصر الفنّ وأداته التي يستخدمها الغربيّون. لقد استفادوا من الفنّ إلى أقصى الحدود من أجل ترويج هذه الثقافة الخاطئة والمنحطّة والماحقة للهويّات، ولا سيّما الفنون المسرحية (الأدائية)، وخاصّة الاستفادة من السينما وبأقصى ما يمكن. فهؤلاء يجعلون أيّ شعبٍ تحت الدراسة على شكل مشروعٍ ما، فيكتشفون نقاط ضعفه، ويستفيدون من علماء النفس وعلماء الاجتماع والمؤرّخين والفنّانين وأمثالهم، ليكتشفوا طرق الهيمنة على هذا الشعب. ثمّ بعد ذلك، يوصون منتجاً سينمائيّاً أو مؤسّسة فنّيّة في هوليوود لكي تصنع فيلماً. فالكثير من الأفلام التي ينتجونها لنا وللدول هو من هذا القبيل)([90]

ثم ذكر مدى وضوح هذا الدور التضليلي الذي تقوم به السينما الأمريكية خصوصا مع جميع الشعوب حتى الأوروبية منها، يقول: (ليس لديّ اطّلاعٌ على الأفلام المتعلّقة بالدّاخل الأمريكيّ، لكنّ ما ينتجونه للشعوب فيه بعدٌ هجوميّ. قبل عدّة سنوات، نُشر في الأخبار أنّ بعض الدول الأوروبيّة الكبرى قرّرت أن تواجه الأفلام الأمريكية. هؤلاء ليسوا مسلمين، لكنّهم يستشعرون هذا الخطر، خطر الهجوم) ([91])

وهو يذكر أن إيران تستشعر هذا الخطر، ولذلك تراقب كل ما يصدر من إنتاج فني غربي، وتضع البدائل له، يقول: (وبالطبع، إنّ الدول الإسلاميّة، وبلدنا الثوريّ بشكل أخصّ، يستشعرون هذا الأمر أكثر. فهم ينظرون ويقيسون الخصائص، ويزنون الأوضاع، وينتجون الأفلام، ويعدّون الأخبار على هذا الأساس، وكذا الإعلام فإنّهم يشكّلونه ويبثّونه وفقاً لذلك)([92])

وقد سبق أن ذكر الخميني هذا، ودعا إليه في أوائل سنوات انتصار الثورة الإسلامية، حيث قال في خطاب موجه للشعب: (المراكز الإعلامية المسموعة والمرئية والتي هي على إتصال دائم بالأمّة ليل ونهار في سائر أنحاءالبلاد سواءالمطبوعات في مقالاتها وكتاباتها، أو الإذاعة والتلفزيون في برامجها وتمثيلياتها وعرض الفنون واختيار الأفلام والفنون البناءة، عليها كلها أن تعقد العزم وتعمل أكثر ما تستطيع وتطلب إلى الفنانين الملتزمين أن يأخذوا بنظر الإعتبار أوضاع فئات المجتمع كافة في سبيل تربية المجتمع وتهذيبه بشكل صحيح، وتعليمه سبيل الحياة الشريفة والمتحررة بالفنون والمسرحيات والتمثيليات والمسلسلات، ومنع الفنون المبتذلة والسيئة التعليم، فالشعب العزيز وعلى مدى خمسين عاماً أسودَ، قد ابتلى بمجلات وجرائد مخرّبة ومفسدة لجيل الشباب، كانت السينما والإذاعة والتلفزيون، أسوأ منها إذ دحرجت ببرامجها الشعب إلى حدّ كبيرالى أحضان الغرب والمتغرّبين. ووسائل الأعلام الجماعية أشد ضرراً وأسوأ من المدافع والدبابات والأسلحة المدمرة إذ أن أضرار الإسلحة أضرار عابرة والأضرار الثقافية باقية وتسري إلى الأجيال القادمة كما شاهدتم وتشاهدون، ولو لم يكن اللطف الخاص من الله المنّان والتغيير السريع لابناءالشعب على مستوى البلاد كلها فلا ندري إلى أين سيُجرفُ مصير الإسلام والبلاد)([93]

ولهذا نراهم يسنون القوانين التي تحمي الفنون من الوقوع في فخ العلمانية، لتبتعد عن الدين الذي هو أعز ما يملكه الإيرانيون، بل إن الخامنئي لا يكتفي في خطابه للفنانين بتلك الشكليات المرتبطة بالدين، وإنما يدعو إلى ممارسة رقابة مشددة حتى لا تتسلل الأفكار العلمانية في ثوب فني، يقول: (في بعض الأحيان يكون الإعلام (والتوجهات الإعلامية)، ظاهره دينيّاً والكلام كلام الدين، والشعار شعار الدين، أمّا في الباطن فيكون علمانيّا، أي يدعو لفصل الدين عن الحياة)

ويقول في لقاء آخر: (إنني لا أحمل أية نظرة تساهل أو تغاضٍ بالنسبة للتلفزيون ومن أية جهة. فالفنون التمثيلية مهمة جداً، ومدى التأثير الذي تحدثه وبناؤها للثقافة واسعٌ جداً، ونحن اليوم كأمّة حيّة لها كلمتها وتشعر بهويتها ووجودها لنا أعداء كبار ونواجه عداوات من مختلف الأنواع وبأساليب متعددة، منها ما يتعلق باستخدام الفنون وأكثرها الفنون التمثيلية. وهذا يدلّ على أهمية أن نولي كأمة حيّة وكجماعة لها كلمتها في العالم وهدفها قضية الفنون التمثيلية الاهتمام الكافي لها ونبذل لأجلها الرساميل المادية والمعنوية)([94]

وهو يحذر من تلك الممارسات التي تقع في الغرب بحجة السينما الواقعية، أو تصوير الواقع، ويعتبرها نوعا من الدعوة للفساد، يقول: (أجل إن إظهار حركة الشر لا إشكال فيه، ولكن فليُعلم بوجود حركة خير، وأن شخصية البطل تسعى إليها، وتحارب من أجلها، وتضحي في سبيلها، حتى أنه أحياناً يضحي بنفسه من أجلها ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف. وصحيحٌ أنكم هنا أظهرتم العيب والقبح، ولكنكم أظهرتم شيئاً أكبر وهو الجهاد من أجل مواجهة هذا المنكر، هذا ما يُسمّى انتقاداً. وإنني كعالم دين، وكمسؤول في نظام الجمهورية الإسلامية، أقول لكم إن مثل هذا الانتقاد لا إشكال فيه بل هو مطلوب لأن هذا الانتقاد يتقدّم بالمجتمع على طريق القضاء على النقائص، ويمده بالحركة، وهو أمرٌ جيد. ولكن في بعض الأحيان لا يكون الأمر كذلك، وإنما اعتراض مجرد الاعتراض، حيث ينتزع المرء نقطة سلبية ويصر عليها. فهل أن النقاط السلبية ونقاط الضعف تزول من المجتمع؟ هل يمكن أن تُقتلع بشكل كامل؟ وهناك أمرٌ آخر، أن يكون معترضاً وسوداوياً وباعثاً على اليأس لا يعد هدفاً للفنان أو هدفاً، وهو لا يُعد امتيازاً أو فخراً، ففي بعض الأحيان أنتم تُظهرون منكراً دون أن تُظهروا عامل الخير الذي من المفترض أن يتغلب على ذلك المنكر أو يواجهه، وبهذا تنشرون اليأس في المجتمع وتغذونه، ومن يشاهد فيلمكم من جانب آخر يقول: ما هي الفائدة؟ رغم الأثر الكبير الذي يكون للفيلم ورغم جودة التمثيل) ([95])

ويلخص لهم هذا المعنى بقوله: (أنا أقول لكم انتقدوا ولكن فليكن انتقادكم بالمعنى الواقعي للكلمة، أي أن تُظهروا صراع الخير والشر لكي يُعلم أنه مع وجود نقطة قبيحة ومنكرة في المجتمع، هناك دافعٌ لإزالتها، وهناك تيار يسعى لاقتلاعها والقضاء عليها. فإذا أظهرتم الفقر، فلا يكون ذلك بطريقة يظهر فيها الفقر في المجتمع دون أي تحرك لمواجهته. لو حصل ذلك، فإن هذا الفيلم سيكون مثبطاً حتماً، ويعكس سوداوية الأجواء) ([96])

وهو يشيد بالنجاحات التي حققها المشرفون على الفنون في إيران، ويذكر في بعض لقاءاته إحصاءات مرتبطة بها، فيقول: (إنني أشكركم جميعاً وأقدركم، بيد أنني أذكر أن هناك مجالاً كبيراً للعمل ولدينا إمكانات هائلة. فمن بين 33 ألف ساعة من البث خلال العام وضمن ما قدم لنا من إحصاء فإن أكثر من 60 بالمائة من المسلسلات هو من إنتاج محلي، وفي مجال الأفلام فإن ما يبلغ حوالي 40 بالمائة هو إنتاج محلي، وهو رقمٌ مرتفع جداً، وهذا يدل على وجود إمكانات مدهشة في البلد، بل كثير من الدول في العالم لا تمتلك هذه الإمكانات ما خلا عدد محدود من الدول المعروفة في العالم. وفي الواقع فإن الكثير من مراكز صناعة الأفلام في مختلف الدول يدار من قبل مجموعة معدودة من الدول، وعمدتها أمريكا وهوليوود، ونحن لدينا هذه الإمكانات، وهذه الموارد البشرية الجيدة، وهذه الإمكانات التجهيزية، وأيضاً القدرة البرمجية المميزة، وهذا التاريخ المليء بالحوادث. لهذا فإن لدينا إمكانات كبيرة للعمل. لقد بذلتم جهوداً كبيرة، وفي الواقع فإن نتاج أتعابكم هو هذه الآثار الجيدة، ولكن لا زال بين ما أُنجز وما يمكن إنجازه بهذه الإمكانات العظيمة مسافة بعيدة) ([97])

ويذكر بعض النماذج الفنية الناجحة في ذلك، فيقول: (ها أنتم هنا انظروا إلى مسلسل كمسلسل النبي يوسف. وهو مسلسل أُنتج وتمت مراعاة جميع الجهات الشرعية وغيرها فيه. فإنه يبيّن سيرة أحد الأنبياء وأساس العمل فيه مبنيّ على العفاف، وليس على الأساس الرائج في الأفلام العالمية، من العشق والشهوة وأمثالهما. وفيما بعد يتم الإقبال عليه بهذا الشكل في أنحاء العالم الإسلامي ـ ولعله في بعض مناطق غير العالم الإسلامي. ولقد تم انتقاده في الجرائد وأسيء القول نحوه واعترضوا عليه علناً واختلقوا حوله أموراً أخرى. في النهاية، مثل هذه الأمور تحدث، إنني أريد أن أقول لكم أن لا تحملوا في أنفسكم كل هذا القلق من الانتقاد والقيل والقال، فلو كان الأمر مبنياً على أن تعتنوا بمثل هذه الأمور المقلقة، ولعل بعضها غير واقعي ومما يتصوره الفنان بسبب رقته، وهو وهم، لما أمكن للإنسان القيام بأي عمل، هذا ما أؤمن به. لهذا لا ينبغي أن تحزنوا كثيراً من هذه الأمور المقلقة) ([98])

بعد إيرادنا لهذه التصورات العامة لمكانة الفن عند قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والدعم المعنوي والمادي الذي يولونه لها، أحب أن أذكر هنا بعض نجاحات الفن الإيراني، وقدرته على أن يحظى باحترام العالم، ويحطم بذلك الكثير من أسطورات التشويه التي تشن حول تشدد نظام الولي الفقيه.

ففي مقال بعنوان [كيف انتزعت السينما الإيرانية احترام العالم؟] يقول صاحبه: (فجرت صناعة السينما الإيرانية مكامن الإبداع في أقل من عشرين سنة بعد قيام الثورة الإسلامية، وملأت الكرة الأرضية كلها بأعمالها اللامعة، وأصبحت هذه النجاحات مصدر فخر لإيران. والمدهش في هذه التجربة أنه بالرغم من أن الظروف لم تكن في صالحها (الحرب العراقية-الإيرانية إضافة إلى الفوضى العارمة والمؤامرات الخارجية) استطاعت هذه السينما أن تبرز وتفرض نفسها عالميا وتكرم في أكبر المحافل والمهرجانات. وأضحت بعض الدول مثل أمريكا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا واليابان وغيرها تقيم مهرجانات خاصة بالأفلام الإيرانية. وباتت تعد من الدول الثلاث الأولى في العالم وذلك بفوزها بأكثر من ألف ومائة وثمان وأربعين جائزة دولية ومشاركتها في أكثر من خمسة عشرة ألف مهرجان دولي في مختلف أنحاء العالم. كما شارك خبراء السينما الإيرانية في تشكيلة لجان التحكيم للمهرجانات الدولية لأكثر من مائتين وخمسين مرة. وحصلت عشر إيرانيات على جوائز أحسن ممثلة من اكبر المهرجانات الدولية مثل مونريال، ولوكارنو، وموسكو، والقاهرة، ونانت. كما رشحت بعض الممثلات الأخريات إلى أحسن ممثلة في القسم الأجنبي في الأوسكار الأمريكية)([99]

وهكذا ذكر الكثير من النماذج عن نجاح الإيرانيين في نيل الجوائز العالمية على الرغم من الإمكانيات البسيطة التي يؤدون بها أعمالهم، مقارنة بما هو عليه الحال في الدول الكبرى.

ويتساءل الكاب العربي المغربي عن سر ذلك النجاح الذي حصل لإيران، ولم يحصل مثله للدول العربية، وخصوصا الخليجية على الرغم من الإمكانات الضخمة التي لديها، ويجب عن ذلك بقوله: (في الوقت الذي نجد فيه الدول العربية ولاسيما الخليجية منها والتي تطل على سواحل إيران تستنسخ المركبات الرياضية العملاقة وناطحات السحاب الشاهقة وتتباهى بها، نجد إيران تستثمر في الثقافة والفكر والفن الذي يرفع من شأن شعبها. فالاسمنت لا روح له سيما إذا بنته أياد أجنبية بينما الثقافة تحمل تعريفا للمجتمع. وفي الوقت الذي نجد فيه المخرج المبدع العربي يقف لوحده في عراك مستميت لإنتاج فيلم واحد، وربما الانسحاب بعد ذلك من الساحة الفنية إلى الأبد، نجد إيران تتخذ إستراتيجية تلقي بكل ثقلها المادي والمعنوي وراء مخرجيها وتجعل من السينما نافذة يطل عبرها الشعب الإيراني على العالم قصد التواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى. وتتخذ إيران أهم خطوة مسؤولة فتعين مفكرا وفيلسوفا على رأس وزارة الثقافة من سنة 1982 إلى سنة 1992، أي عشر سنوات. وتضم وزارة الثقافة مؤسسة الفارابي السينمائية، وتعهد هذا المفكر بالنهوض بالمشروع السينمائي الإيراني وتهيئ الأرضية اللازمة وإعادة الثقة والاعتبار إليها خلال السنوات العشر. فكان هذا الرجل بمثابة الأب الروحي للسينما الإيرانية) ([100])

وهو يذكر بعض الأدلة على اهتمام النظام الإيراني بالفنون السينمائية، فيقول: (نشير هنا أن في إيران أكثر من 500 مخرج ويتخرج من معاهدها 20 امرأة مخرجة سنويا وبذلك تتفوق حتى على الدول الغربية)

ويذكر أن وزارة الثقافة الإيرانية أنشأت [مدينة سينمائية] (جندت لها كل الطاقات ورؤوس الأموال وآخر المكتشفات التقنية والتكنولوجية المتطورة كما هي الحال في استوديوهات هوليود. بذلك تكون قد أعدت الأرضية اللازمة للسينما الإيرانية خلال السنوات التالية كما أنها أتاحت الجو اللائق للمخرجين حتى يبدعوا في إنتاجاتهم. وفتحت وزارة الثقافة هذه المدينة لكل المخرجين الإيرانيين دون استثناء وبأرخص الأثمنة في العالم. ويقوم بالإنتاج السينمائي المخرجون بصفتهم منتجين منفذين ويحصلون على الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الدولة بتوزيع الأفلام داخليا وخارجيا. وبنت أرقى وأكبر عدد ممكن من دور السينما.. ونجد أن في طهران لوحدها أكثر من 100 قاعة سينمائية كما أن هناك مركبات قيد البناء تتسع ل1200 متفرج. كما دشنت وزارة الثقافة مهرجان الفجر السينمائي الذي لا يكتفي في نشاطه بدعوة ضيوف أجانب، ويقيم لهم الحفلات الصاخبة، وتهدر الأموال الباهظة بدون فائدة، بل الغرض أن يكون وسيلة لإنجاز إنتاجات مشتركة ودفع عملية تعاون أوثق مع المهرجانات الأخرى وتبادل الآراء على المستوى العالمي. وأصبح يعد تظاهرة فنية عالمية تستقبل أكثر من 45 دولة من بينها أمريكا، فرنسا، اليابان، بريطانيا، ايطاليا، الصين، ألمانيا، هولندا، ودول أمريكا الجنوبية وغيرها. وتوافد على المهرجان في السنة الماضية أكثر من 200 وكيل من 47 بلد و123 موزع ومنتج عالمي بما فيهم الولايات المتحدة، كما حضر 91 موفدا من المهرجانات العالمية (لوكا رنوا، كان، البندقية، برلين، تورنتو) هذا بالإضافة إلى 141 وكيل من 39 شركة إنتاج إيرانية حيث تم تبادل الأفلام الهامة المنتجة)([101])

وهو يشيد كذلك بنوعية الأفلام والمسلسلات الإيرانية، وكونها نابعة من القيم، ومحافظة على الأصالة، فيقول: (تمكن السينمائيون الإيرانيون بفضل كفاءتهم وجرأتهم وحبهم للفن السابع من العمل وتقديم أفلام واقعية تحمل رسائل إنسانية ومسحة جمالية وتحترم القيم ولا تشتم في ثوابت التراث، ولا تتاجر بجسد المرأة ومن دون أن تكشف حتى غطاء رأسها، ولا تغطي بالضجيج والعنف الغير الواقعي والنماذج البطولية المزيفة تفاهة المضمون ولا تعتمد على ميزانية الديكورات الضخمة. إنها سينما بالغة البساطة، ملتزمة وهادفة، وبذلك تكون قدمت مجموعة من روائع الأفلام ونماذج عظيمة للفن الإنساني الراقي. وأبرع ما في ذلك أنها تعتمد في تصوير الكثير من الأفلام على كاميرا الفيديو الرقمية المحمولة على الكتف (أغلب الأفلام الإيرانية تنتج بأقل من200 ألف دولار أي حوالي 160 مليون سنتيم مغربي وتحصد الأرباح الكثيرة مثل فيلم [أطفال الجنة] الذي حقق أرباحا تتمثل في مليون دولار من أمريكا وحدها، والأهم من ذلك أنها ليست سينما نجوم، فمعظم أبطالها ليسوا ممثلين محترفين) ([102])

وهو يشيد بالأفكار المطروحة في السينما الإيرانية، والنابعة من ثقافتها، فيقول: (أما السيناريو فهو يحمل عمقا مدهشا ولغة ثرية متنوعة ومكتوب بنكهة الإبداعات القصصية الراسخة في الثقافة الإيرانية الشعبية، وتشم من خلاله رائحة حافظ الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي. ونظرا لطبيعته التأملية والفلسفية وقيمة مادته الجمالية ولغته التعبيرية يصبح السيناريو واحدا من أهم خصوصيات وميزات السينما الإيرانية. فالطابع الشرقي المحلي حاضر، والهوية الثقافية مستمدة من الواقع الاجتماعي وقمة التمثيل تدهش المشاهد ومهارة الكاميرا وتحكمها في المشاهد ودقة اختيار مواضيعها والتركيز على الحس الجمالي في أرقى مستجدياته حتى تحس أنك أمام السجاد الإيراني المفعم بروعة الفن وجمال النقوش والألوان التي تعبر بدورها عن شاعرية الإنسان الإيراني ودفئه العاطفي وحبه للفن) ([103])

وهو يذكر أن السينما الإيرانية متفردة في الكثير من النواحي عن السينما العالمية، وخاصة فيما يرتبط بحفاظها على هويتها وأصالتها، يقول: (والسينما الإيرانية مختلفة من خلال تأكيدها على هويتها وخصوصياتها وتفردها وعدم تشبهها بأي سينما أخرى. ومعروف أن أهم ما يميز السينما الإيرانية يتمثل في بساطتها العميقة في مضامينها ورمزيتها مما جعلها تنافس المستويات العالمية. وشكل الرهان على المحلية الذي اعتمدت عليه الأفلام الإيرانية أهم خطواتها نحو العالمية إذ اهتمت بتوثيق مشاغل مجتمعها وهمومه وتخلت في المقابل على الإكسسوارات الزاهية واهتمت بالمواطن الإيراني وآلامه وهواجسه. وبذلك تكون السينما الإيرانية قدمت استعراضاً راقياً يصل إلى الجمهور المحلي والعالمي يستحق كل الإعجاب والتقدير) ([104])

وهو يشبهها في دقتها وغموضها وجمالها بالسجاد الإيراني، فيقول: (السينما الإيرانية، مثل السجاد الإيراني: لوحة بديعة تنبض بالجمال وبشاعرية فياضة. وكان لزاما على المتفرج أن يدقق بعين ثاقبة لان السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة لا يستطيع معها المتفرج الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه. فالتفاصيل فيها مهمة لأنها تحمل الكثير من ألوان الطبيعة الشعرية والقصصية التي تزخر بها الثقافة الفارسية المليئة أيضا بالرموز الروحية والتعبيرات والإيحاءات الخفية. فهم يحكون قصة لكنهم لا يكشفون كل جوانبها ويتركون هذه المهمة للمتفرج ليتفاعل معها. فيكون الفيلم بديعا في تفاصيله وألوانه، مليئا بالفلسفة والعمق والتناغم الشعري، غنيا بالمشاعر الإنسانية المستلهمة من الهوية والكرامة والحضارة الإيرانية)([105]

هذه مجرد شهادة صادقة عن بعض نجاحات الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الجوانب الفنية، ومثلها شهادات كثيرة، وهي تتصاعد كل يوم بمقدار تطور القدرات الإيرانية في هذا الجانب، والذي لا يختلف كثيرا عن تطورها في سائر المجالات.

والملفت للنظر في هذا الجانب خصوصا هو تلك العلاقة الطيبة بين الخامنئي وبين المخرجين، كالمخرج الكبير فرج الله سلحشور، صاحب مسلسل [يوسف عليه السلام]، والذي ذكر علاقته الشخصية بقائد الثورة الإسلامية، واستفادته من توجيهاته في إنتاجاته الفنية.

وهكذا الحال مع شهريار بحراني، مخرج مسلسل [مريم المقدسة]، والذي لقي إكبارا في جميع أنحاء العالم، فقد ذكر استفادته من توجيهات قائد الثورة الإسلامية، ومتابعته للمسلسل أثناء إخراجه.

وهذا كله يزيل تلك الصورة القاتمة المتوحشة التي يرسمها له المغرضون؛ فهو ليس سياسيا فقط، وإنما هو أديب وشاعر وفنان.. وفوق ذلك فيلسوف ومفكر وفقيه.. ولست أدري إن لم يستحق مثل هذا منصب إرشاد شعبه وأهل بلده؛ فمن يستحقه.


([1])  خطابات الخامنئي 2012، ص247.

([2])  المرجع السابق، ص494.

([3])  المرجع السابق، ص494.

([4])  المرجع السابق، ص494.

([5])  المرجع السابق، ص495.

([6])  المرجع السابق، ص495.

([7])  ويراد به: حسن التدبير وإتقان العمل والحكمة في ابتغاء الوسيلة والتصرّف وفق مقتضيات العقل والحكمة، كما رد في نهج البلاغة: أوحى الله إلى داود عليه السلام: (إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً)

([8])  خطابات الخامنئي 2012، ص495.

([9])  المرجع السابق، ص495.

([10])  المرجع السابق، ص495.

([11])  المرجع السابق، ص496.

([12])  المرجع السابق، ص496.

([13])  المرجع السابق، ص499.

([14])  المرجع السابق، ص499.

([15])  المرجع السابق، ص500.

([16])  المرجع السابق، ص501.

([17])  المرجع السابق، ص501.

([18])  المرجع السابق، ص502.

([19])  المرجع السابق، ص502.

([20])  المرجع السابق، ص504.

([21])  المرجع السابق، ص505.

([22])  خطابات الخامنئي 2011، ص151.

([23])  المرجع السابق،  ص151.

([24])  المرجع السابق،  ص152.

([25])  المرجع السابق، ص153.

([26])  صحيفة الإمام، ج‏4، ص: 69.

([27])  صحيفة الإمام، ج‏4، ص: 69.

([28])  المرجع السابق، ج‏4، ص: 70.

([29])  المرجع السابق، ج‏4، ص: 70.

([30])  المرجع السابق، ج‏4، ص: 70.

([31])  المرجع السابق، ج‏4، ص: 70.

([32])  المرجع السابق، ج‏4، ص: 70.

([33])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 328.

([34])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 329.

([35])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 329.

([36])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 329.

([37])  المرجع السابق، ج‏7، ص: 330.

([38])  خطابات الخامنئي 2011، ص153.

([39])  المرجع السابق، ص156.

([40])  وصية الإمام السياسية، ص71.

([41])  المرجع السابق، ص71.

([42])  المرجع السابق، ص72.

([43])  المرجع السابق، ص72.

([44])  صحيفة الإمام، ج‏10، ص: 352.

([45])  المرجع السابق، ج‏20، ص: 375.

([46])  المرجع السابق، ج‏20، ص: 375.

([47])  المرجع السابق، ج‏20، ص: 375.

([48])  خطابات الخامنئي 2012، ص264).

([49])  المرجع السابق، ص265.

([50])  المرجع السابق، ص265.

([51])  المرجع السابق، ص265.

([52])  المرجع السابق، ص265.

([53])  المرجع السابق، ص265.

([54])  المرجع السابق، ص265.

([55])  المرجع السابق، ص265.

([56])  المرجع السابق، ص265.

([57])  المرجع السابق،  ص158.

([58])  خطاب الإنتصار (ص: 7)، والخطاب ألقاه بتاريخ  1/ 4/1979 م.

([59])  خطابات الخامنئي 2014، ص230.

([60])  خطابات الخامنئي 2010، ص180.

([61])  المرجع السابق، ص180.

([62])  المرجع السابق،  ص181.

([63])  خطابات الخامنئي 2012، ص157.

([64])  المرجع السابق،  ص157.

([65])  المرجع السابق، ص157.

([66])  المرجع السابق، ص178.

([67])  المرجع السابق، ص226.

([68])  المرجع السابق،  ص228.

([69])  المرجع السابق، ص229.

([70])  المرجع السابق،  ص229.

([71])  المرجع السابق، ص232.

([72])  المرجع السابق،  ص232.

([73])  خطابات الخامنئي 2012، ص270.

([74])  المرجع السابق، ص270.

([75])  خطابات الخامنئي 2010، ص313.

([76])  المرجع السابق،  ص313.

([77])  المرجع السابق، ص314.

([78])  المرجع السابق،  ص316.

([79])  خطابات الخامنئي 2012، ص273.

([80])  المرجع السابق، ص274.

([81])  المرجع السابق، ص274.

([82])  خطابات الخامنئي 2010، ص316.

([83])  المرجع السابق،  ص316.

([84])  خطابات الخامنئي 2012، ص272.

([85])  المرجع السابق، ص272.

([86])  المرجع السابق، ص272.

([87])  انظر: إنجازات ايران ما بعد الثورة الإسلامية، موقع براس الإيراني الإخباري، 13 فبراير 2018.

([88])  خامنئي الشاعر متعطش لــ (كأس الحياة)، زهراء ديراني،  موقع الميادين.

([89])  جريدة (كيهان العربي) بتاريخ 21 رجب 1414هـ.

([90])  خطابات الخامنئي 2012، ص506.

([91])  المرجع السابق،  ص506.

([92])  المرجع السابق،  ص506.

([93])  صحيفة الإمام، ج‏19، ص: 145.

([94])  خطابات الخامنئي 2010، ص232.

([95])  المرجع السابق، ص234.

([96])  المرجع السابق، ص234.

([97])  المرجع السابق، ص237.

([98])  المرجع السابق،  ص233.

([99])  كيف انتزعت السينما الإيرانية احترام العالم؟ ، حسن بنشليخة، نشر في هبة بريس يوم 18 – 06 – 2010.

([100])  المرجع السابق.

([101])  المرجع السابق.

([102])  المرجع السابق.

([103])  المرجع السابق.

([104])  المرجع السابق.

([105])  المرجع السابق.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *