وجدي غنيم.. والتكفير ثلاثي الأبعاد

وجدي غنيم.. والتكفير ثلاثي الأبعاد

[كافر.. كافر.. كافر] ربما مرت هذه الكلمة الحادة الشديدة على مسامعكم، وربما جرحت الكثير منكم، وهي حقيقة بذلك.. فهي صاروخ أخطر من كل صواريخ الدنيا، لأنه لا يحمل رؤوسا نووية، قد تشوه الأجساد أو تحرقها، وإنما يحمل رؤوسا تضم كل معاني الحرمان والطرد من رحمة الله.

وهو صاروخ لم تستطع أمريكا ولا القوى العظمى صناعته، وإنما الوحيدون الذين تخصصوا فيه، وبرعوا، وصاروا يحملون علامة تسجيله أولئك الذين نصبوا أنفسهم بوابين على رحمة الله، يغلقونها في وجه من شاءوا، ويفتحونها في وجه من شاءوا، وكيفما شاءوا، وكأن الله تعالى قد فوضهم شؤون خلقه، وأعطاهم صكوك الغفران، وصكوك الحرمان، ليوزعوها كما يحلو لهم.

ولا يمكنني هنا أن أذكر أسماء أولئك الذين يحملون أمثال هذه الصواريخ، فعدّهم مستحيل، لذلك سأكتفي بأحدهم، باعتباره صاحب اختراع التكفير ثلاثي الأبعاد، فهو مثل ذلك الزوج الذي لم يرض أن يطلق زوجته بكلمة واحدة، بل راح يعدد كلمة التكفير بعدد براكين الحقد التي تغلي في قلبه.

وهكذا هو الشيخ، أو رجل الدين، أو الكاهن الأكبر [وجدي غنيم]، صاحب الكلمات الشديدة، والمواقف الصلبة، واللهجة الحادة.. ذلك الذي يتطاير الزبد من فمه نتيجة براكين الأحقاد التي تغلي في قلبه.

ذلك الذي يمثل التربية الحركية في عنفوان قوتها.. تلك التربية التي لا تغرس السلام والمحبة والتسامح والأخلاق العالية، وكل ما يرتبط بها من هدوء وأناة ورفق، وإنما تتقن فن صناعة النمور والأسود والصقور.. أولئك الذين يبحثون كل حين عن فرائس يصطادوها، وينشبوا أنيابهم فيها.

لعلكم سمعتموه، ورأيتموه كيف يتحدث عن السياسيين والفنانين والعسكر.. وكيف يفرز أحقاده على الشعب المصري لأنه لم ينتفض ضد الجيش.. وعلى الشعب السوري، لأن أكثره لا يزال يلتف حول رئيسه.. وعلى كل شعب يختلف معه، فهو لا يكتفي بالنصح والتوجيه، وإنما ينصب نفسه قاضيا على كرسي الحكم، ليحكم على كل من يتفوه بكلمة لا يتفق معها بالكفر والضلالة، وجهنم وبئس المصير.

وهو من الألسن التي ولغت في دم الشعب السوري، وحرضت عليه، وأمدت الإرهابين بسيول من أنهار الحقد، ليمارسوا كبرياءهم وغطرستم وحقدهم.

وهو من الألسن التي لا تنفك عن الحديث عن الرئيس المصري، ذلك الذي أنقذ شعبه من حرب داخلية كادت تطحنه، فهو لا يسميه باسمه، وإنما يحرفه تحريفا شديدا، ويكفره كل حين، ويحرض الجيش على الانشقاق عليه، ويحرض الشعب على اغتياله.

وهو من الألسن التي حرضت على الرئيس التونسي، بسبب قضية فرعية بسيطة حول مساواة المرأة للرجل في الميراث، ولو أنه كان يعرف الشريعة حقا، لعرف أنه يمكن في ظروف كثيرة مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، بل إنه يمكن أن يصير نصيبها أكثر منه، فالمواريث مبنية على العدالة، والوصية للأقربين الواردة في القرآن الكريم يمكن توظيفها في هذا المحل، كما وظفها علماء الأزهر الشريف في توريث الأحفاد الذين مات آباؤهم، ولذلك يمكن توظيفها أيضا في إعطاء البنت المحتاجة مثل أخيها أو أكثر من أخيها، إذا كانت أحوج من أخيها([1]).

كان يمكنه أن ينظر للمسألة من هذه الزاوية، أو يقوم بنصيحة الرئيس التونسي وتوجيهه وتعليمه، فهو ليس فقيها ولا عالما، وربما قال ما قال متأولا أو بناء على جهله بالمسألة.. لكنه رفض ذلك، لأن عقله والبركان الذي يغلي بداخله يمنعه من ذلك؛ فهو يريد أن يصدر حكما بتكفيره كما أصدر حكما قبل ذلك على القذافي ليقوم الشعب بعدها بقتله، وتتحول تونس إلى بلد فاشل.

وينسى أنه بعمله ذلك ينشر الحقد في قلب هذا الرئيس، وفي قلب المحيطين به وفي قلوب أنصاره، لينصب غضبهم على كل من يتوجه توجها إسلاميا، وبذلك يضر إخوانه قبل أن يضر ذلك الرئيس الذي لا يبالي به، لأن لديه من علماء تونس من هم أفقه وأورع وأعلم منه.

لكن هذا الحريص على الدين، وعلى أن يظل نصيب الرجل في الميراث متفوقا على نصيب المرأة ينسى أن يتحدث ولو بثلت كلمة عن قطر تلك التي ساهمت في تدمير العراق وأفغانستان، وضربت سوريا.. ولا تزال تخطط لضرب كل عدو لأمريكا أو إسرائيل.

وينسى أن يتحدث عن السلطان التركي ذلك الذي يقيم علاقات استراتيجية مع إسرائيل، ويأذن لكل مواخير الرذيلة أن تقام في بلاده، وهو يتبنى العلمانية، ويضع صورة كمال أتاتورك في مكتبه.. ومع ذلك لا يتحدث عنه، لأنه مخول أن يوزع صكوك الغفران لمن يرضى عنه، ويوزع صكوك الحرمان لمن يحقد عليه.

هذا نموذج فقط للتربية الحركية.. وللعمل الذي يسمونه إسلاميا.. فهل يمكن أن تقام دولة أو مجتمع في ظل هؤلاء؟


([1])  أقول هذا عن علم لأن لي بحثا قديما فيه، بعنوان [الوصية للأقربين ودورها في تحقيق العدالة في المواريث] وأدلته كثيرة جدا..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *