هل كان هارون العباسي رشيدا.. أم سفيها؟

هل كان هارون العباسي رشيدا.. أم سفيها؟

من الشخصيات الكبرى التي راحت تزاحم النبوة والأئمة والصالحين، مع جرائمها الكثيرة في حق الحكم الإسلام والقيم المرتبطة به شخصية أبي جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور (149 هـ – 193 هـ)، الخليفة العباسي الخامس، والذي صار الخطباء والوعاظ والأكاديميون وعوام الناس يرددون اسمه بكل تقديس وتبجيل، ويتبعونه بالترضي والترحم وسؤال الفردوس الأعلى، ويتمنون لو أنهم عاشوا ذلك الزمن الذهبي الذي كان فيه حاكما على الرعية.

وهم يقفون هذه المواقف من غير بحث أو تنقيب أو دراسة، أو عرض لأعماله على قيم الشريعة، ليروا مدى تناسبها معها، ولكن العلمانية الفكرية جعلت الشريعة والقيم المرتبطة بها آخر شيء يمكن أن يفكر فيه هؤلاء.

ولذلك بمجرد أن تذكر لهم اسم هارون، ينسون هارون النبي، ويتذكرون هارون الملك، ويضيفون إلى اسمه بتلقائية، ومن غير شعور لقب [الرشيد]، لا باعتباره لقبا ارتجاليا، وإنما باعتباره وصفا من أوصافه، بل إنهم أحيانا يكتفون بلقبه دون اسمه؛ فتحول الرشد عندهم من قيمة إيمانية رفيعة لا يمثلها في كمالها إلا الأنبياء والصالحون إلى شخص بعيد عنهم تماما هو هارون.. ولذلك صار من يبحث عن الرشد لا يذهب إلى الأنبياء والأولياء، وإنما يذهب إلى هارون.

وهم يوردون عليك لإثبات ذلك تلك المقولات الكثيرة التي ذكرها المؤرخون عنه، وأنه ـ كما يقول السيوطي ـ: (كان من أجلّ ملوك الدنيا، وكان كثير الغزو والحج، كما قال فيه أبو المعالي الكلابي:

فمن يطلب لقاءك أو يرده.. فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدوّ على طمر.. وفي أرض الترفه فوق كور

وأنه كان (يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم)

وأنه (كان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص)

وأنه (بلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربنّ عنقه)

وأنه (كان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، وسيما إذا وعظ، وكان يحب المديح، ويجيز عليه الأموال الجزيلة، وله شعر)

وأن ابن السماك الواعظ، دخل عليه مرة، فبالغ في احترامه، فقال له ابن السماك: (تواضعك في شرفك أشرف من شرفك)؛ ثم وعظه فأبكاه.

وأنه عندما مر بالفضيل بن عياض قال عنه: (الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز عليّ منه، لو مات لرأيت أمورًا عظامًا)

وأن أبا معاوية الضرير قال عنه: (ما ذكرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي، وحدثته بحديثه صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل)([1])، فبكى حتى انتحب([2]).

وغير ذلك من المقولات التي حولت منه صنما من الأصنام الكبرى في عقول أكثر المسلمين؛ فلذلك لا يرضون أن يسمعوا عنه كلمة تجريح أو نقد، حتى لا تتبخر تلك الأمجاد الكاذبة التي منعتهم من التفكير، وجعلتهم يعيشون هلوسات الأحلام والأوهام.

والمشكلة الأكبر من ذلك كله هي إعراضهم عن النصوص المقدسة التي تتحدث عن هارون وغيره من أصحاب الملك العضوض الذين حولوا الحكم الإسلامي إلى قيصرية وكسروية، وحولوا العدالة الإسلامية إلى عدالة مزاجية، يصرفها الخليفة لمن شاء، ويمنع منها من شاء، وحولوا الفتح الإسلامي الذي مارسه الأنبياء عليهم السلام بالحوار والحكمة والموعظة إلى معارك عسكرية توسعية لا تختلف عن معارك الإسكندر المقدوني، وهتلر النازي.

وبناء على هذا، وجوابا على ذلك السؤال الذي جعلناه عنوانا لهذا الفصل، سنضع بين يدي القارئ الكريم بعض أفعال هارون، ليحدد بعدها اللقب المناسب له، والذي يستحقه عن جدارة، وليس ذلك اللقب الذي أملي علينا، وأمرنا بحفظه وترديده كالببغاءات من غير أن تتساءل عن مدى انطباقه فيمن نصفه به.

1 ـ هارون.. ووراثة الملك العضوض:

من أول العبارات التي تصادفنا في ترجمة هارون العباسي مقولة بعض الممجدين له في الليلة التي ولي فيها على رقاب المسلمين: (هذه الليلة ولد فيها عبد الله المأمون، ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة، وقام خليفة، وولد خليفة إلا هذه الليلة)([3])

وهكذا قيل قبل ذلك عن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز أنها:

بنت الخليفة والخليفة جدها.. أخت الخلائف والخليفة بعلها

فرحت قوابلها بها وتباشرت.. وكذاك كانوا في المسرة أهلها

وقال بعضهم شارحا لهذا، ومثنيا عليها بسببه: (لا يعرف امرأة تستحق هذا البيت غيرها، وكان لها ثلاثة عشر محرما كلهم خليفة: جدها مروان بن الحكم، وأبوها عبد الملك، وإخوتها الأربعة الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، وهي عمة ثلاثة من الخلفاء: الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، وجدها لأمها يزيد بن معاوية، وزوجها عمر بن عبد العزيز، ولم يتفق هذا لغيرها فيما تقدم)([4])

وهكذا قيل في عاتكة بنت يزيد، فقد كان من مناقبها ـ لا من مثالبها ـ كما يذكرون، أنها كانت (تضع خمارها بين يدي اثني عشر خليفة، كلهم لها محرم: أبوها يزيد، وجدها معاوية، وأخوها معاوية بن يزيد، وزوجها عبد الملك، وزوج ابنتها عمر بن عبد العزيز، وابنها يزيد بن عبد الملك، وابن ابنها الوليد بن يزيد، وبنو زوجها: الوليد، وسليمان، وهشام، وابنا ابن زوجها يزيد وإبراهيم المخلوع ابنا الوليد بن عبد الملك)([5])

وهكذا يقال في كل أولئك الخلفاء الذين ملأوا تاريخ المسلمين دماء من أجل عروشهم، وتثبيتها، وبقاء الحكم بينهم وبين أولادهم وبني عمومتهم.. وهو ما نراه في واقعنا اليوم في الممالك العربية التي يتزاحم فيها أبناء الأسرة الواحدة على الملك، ويبذلون كل شيء في سبيل تثبيته لهم ولأولادهم، ولو وهبوا كل ما وهب الله دولتهم الله من خيرات الأرض والسماء.

ولذلك لم تُسم تلك الدول التي حكمت بلاد المسلمين قرونا طويلا باسم الإسلام، وإنما تسمت باسم الأسر الحاكمة ابتداء من الأمويين وانتهاء بالعثمانيين.

وكل ذلك لا صلة له بالإسلام، فلا شرعية لحاكم في الإسلام لم تتوفر فيه شروط الخلافة الشرعية من العلم والاجتهاد والكفاءة، ولا شرعية لحاكم لا يبايعه الناس اختيارا لا كرها، فالشرعية مرتبطة بالقابلية الشعبية بالبيعة الشرعية، لا بالبيعة الوراثية.

لذلك كان من أول الاختبارات التي اختبر بها هارون ليثبت كونه رشيدا أو سفيها هو أن يرد الأمر إلى نصابه، ويطبق الحكم الشرعي في هذه المسألة على نفسه قبل أن يدعي تطبيق الشريعة على غيره.

وله في ذلك طرق عديدة كان يمكنه أن يمارسها، لكنه للأسف لم يفعل:

كان في إمكانه أن يجمع خيار المسلمين من علمائهم وصالحيهم، وما أكثرهم في ذلك الوقت، ويؤسس من خلالهم برلمانا إسلاميا يكون له الأمر والنهي، مثل البرلمانات التي كانت موجودة في روما قبل الإسلام.. ولا بأس أن يبقى حينها رمزا للوحدة على المسلمين على أن يترك الأمر بعده لاختيار المسلمين.

وكان في إمكانه أن يبحث عن أكثر الناس أهلية في ذلك العصر ليسند الأمر إليه، فلا يصح أن يحكم المفضول في وجود الفاضل.

وكان في إمكانه ألا يقوم بكل تلك الحروب التي قام بها من أجل تثبيت ملكه، ويقوم بدلها بإجراء حوار مع تلك الثورات والمعارضة التي كانت في عصره ليؤسس من خلالها حكما يقوم على المؤسسات لا على الفرد، وعلى الشورى لا على الاستبداد.

لكنه للأسف لم يفعل كل ذلك، مع أنه كان بإمكانه أن يفعله إن أراد أن يكون رشيدا لا سفيها.. لذلك انطبق عليه ما انطبق على كل من هو على شاكلته، فهو ملك، وليس خليفة.. وهو من أصحاب الملك العضوض الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس حاكما راشدا، ولا رشيدا.

وقد ورد في الأحاديث التي هجرتها الأمة، ولم تحكّمها عند دراستها للتاريخ، التصنيف الصحيح لهارون العباسي، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تكونُ النبوةُ فيكُم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكونُ مُلكاً عضُوضاً، فتكونُ ما شاء الله ثم يرفعها الله إذا شآء أن يرفعها، ثم مُلكٌ جبرية، ثم خلافةٌ على منهاج النبوة)([6])

وفي رواية أخرى تحديد للفترة التي يمكن أن يطلق عليها فترة الخلفاء، وهي لا تتجاوز الثلاثين عاما، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الخلافة ثلاثون عاماً، ثم يكون الملك العضوض)([7])

وبذلك فإن هارون وغيره لا يسمون في الحقيقة ـ بحسب الأحاديث النبوية الشريفة ـ باسم الخلفاء، وإنما بسم الملوك، ولم تكن خلافتهم خلافة عباسية أو أموية، وإنما كانت ملكا عباسيا أو أمويا، وليس للملك أدنى شرعية في الإسلام.

فنظام الحكم في الإسلام قائم على كفاءة الحاكم ونزاهته وتوفر قدرات الحكم فيه، لا على كونه ابن فلان، أو منتميا لأسرة من الأسر، ولذلك كان الصالحون يسمون هؤلاء الحكام باسم الظلمة، ولم يسموهم أبدا باسم الخلفاء، ولا حتى الملوك.

ومن العجيب أن يدافع الإسلاميون الذين يدعون إلى الحكم الإسلامي عن هارون وغيره من أصحاب الملك العضوض، ولا يتبرؤون منهم، ولا يعتبرونهم من المشوهين لقيم الحكم الإسلامي، وذلك ما يجعلهم في نظر العلمانيين في غاية التناقض؛ فالذي يدافع عن الحكم الملكي الاستبدادي الذي ترجع فيه كل الصلاحيات للفرد، لا يحق له أبدا أن ينادي بالقيم الإسلامية، ذلك أن كلا الندائين خطان متوازيان، لا يجتمعان أبدا.

فالعاقل هو الذي يضع موازين للحكم الإسلامي، ثم يطبقها على جميع من حكموا في التاريخ، ليرى مدى اتصافهم بحقيقة ذلك الحكم والقيم المرتبطة به، حتى لا يكون كلامه متناقضا، ومجرد دعاوى.

ومن العجيب أن هؤلاء الذين ينكرون على آل سعود بطشهم وبعثرتهم للأموال، يتناسون أن تلك الخلافة التي ينادون بها، وأولئك الخلفاء الذين يمجدونهم، لم يكونوا أقل شرا من آل سعود، بل كانوا أكثر شرا منهم بكثير.. فلئن قامت الدنيا الآن من أجل تقطيع شخص واحد، ففي عهد أولئك الخلفاء كان اللعب بالرؤوس، كاللعب بالكرة تماما؛ فما أسهل أن يقطع رأس المعارض، ويقدم هدية للخليفة، وينشد الشعراء قصائدهم أمام ذلك الرأس المقطوع.

وقد أشار الشيخ حسن بن فرحان المالكي ـ فك الله أسره ـ إلى بعض السنن التي سنها معاوية، ومن سار خلفه من أصحاب الملك العضوض، فذكر منها: (التغيير في أعلى الهرم (السلطة).. انتهاك واسع للحقوق.. الإقطاعية.. العصبية القبيلة.. الملك العضوض.. الوراثة.. إبطال الشورى.. استخدام الاسلام لخدمة السلطة.. عقيدة الجبر.. الطاعة الطلقة.. الغلو في الخلفاء.. سب الأنبياء والصالحين.. التكفير.. تفريق المسلمين طوائف وفرق.. تشريع المظالم.. استهداف المقدسات.. فرض العقائد والأحكام.. الرشوة والفساد.. اصطناع الرجال بالمكر والمال والمنزلة.. الاستئثار والاستتغلال والاستحواذ على أخصب الأراضي وأنفع الأموال.. فرض الضرائب على كل شيء حتى أصبحت بلاد المسلمين مزرعة كبيرة.. إذلال الناس، مثل ختم الأعناق والأيدي حصل مع كبار من الصحابة وعامة الفلاحين.. كراهية الشعوب وظلمهم أسلموا أو لم يسلموا.. احتقار المهن.. تحويل بيت مال المسلمين إلى خزينة للسلطان.. شن الحروب من أجل الغنيمة والتوسع.. التعذيب وأصنافه المختلفة مثل تعليق النساء من أثدائهن، وتسليط الحيوانات المفترسة على المعذبين، وتقطيع الجسد قطعة قطعة، والدفن حياً، وسمل الأعين (ونسبوا ذلك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يشرعنوه)، وبتر الأطراف، والإلقاء من المباني العالية، وقطع الألسنة، وسبي المسلمات، وذبح الأطفال أمام والديهم عمداً، وإجبار البربر على بيع نسائهم وأبنائهم في حال التقصير في ضريبة غير واجبة، وحمل رؤوس الصحابة) ([8])

وقد علق الشيخ حسن على هذه الجرائم وغيرها، بقوله: (كيف يتخذ الغلاة هؤلاء الظلمة أئمة هدى، وينافحون عنهم ويحتجون بمظالمهم في كتب العقائد، ويتعبدون الله بمظالمهم وكذبهم وفجورهم.. كيف يتخذ الغلاة هؤلاء قدوة لهم، ويتبعون سنتهم ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أن هؤلاء الظلمة لم يكونوا يؤمنوا بأن الله سيحاسب الخليفة)([9])

وكل ما ذكره الشيخ حسن بن فرحان المالكي ينطبق تماما على ما قام به هارون بناء على كونه ركنا مهما من أركان الملك العضوض..

فلذلك لا يمكن لمن يقدس الشريعة، ويعتبرها الحكم الأعلى أن يتنازل عن قيمها في سبيل ذلك المجد الكاذب الذي ملئت به كتب التاريخ، والذي يحتاج منا إلى البراءة منه، لا الفخر به أو الدعوة إليه.

2 ـ هارون.. والتلاعب بالمال العام:

من عجائب الكثير من العقول وتناقضها مع نفسها أنها عندما تقرأ قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) تربطه فقط بالسفيه الذي يبذر ما أوتي من ثروة خاصة محدودة في لهوه ولعبه، ولذلك تطالب بالحجر عليه، وترفع عنه لقب الرشد، لتسميه بالسفيه.

لكنها مع الحكام الذين لا يملكون الثروات المحدودة الخاصة فقط، بل يعتقدون أنهم يملكون كل ثروات الأمة، وأن لهم فوق ذلك حق التصرف فيها، نرى نفس تلك العقول التي حجرت على ذلك الذي يبذر ماله الخاص تتساهل مع الحاكم الذي يبذر المال العام، بل تعتبره فوق ذلك كريما، وتصنف بعثرته للأموال ضمن مناقبه وأخلاقه.

ولذلك نرى للأسف وصف هارون وتبذيره للأموال بكونه رشدا لا سفها، وهو خلاف ما نطق به القرآن الكريم، ذلك أن هارون ـ كما تدل الروايات المتواترة عنه ـ كان يوزع مال الأمة مجانا لكل من يمدحه بقصيدة، أو يضحكه بنكتة، في نفس الوقت الذي كان لا يجد فيه العلماء وعامة الناس ما يقتاتون به.

وبما أن التفاصيل المرتبطة بهذا المجال، لا يهتم بها عادة المؤرخون للتاريخ السياسي، فقد اهتم بها المؤرخون للتاريخ الحضاري، وخصوصا الأدب منه، ذلك أننا نجد فيه وصفا دقيقا للواقع الاجتماعي من خلال تلك المقطوعات النثرية أو المنظومات الشعرية أو الأخبار الأدبية.

ولا يصح أن نستبعد تلك المصادر مع اشتهارها وكثرتها واعتمادها على الأسانيد، وإلا تعاملنا نفس المعاملة مع كتب التاريخ، ذلك أن المؤرخ عادة لا يهتم بالتفاصيل على خلاف الأديب.

ولا يمكننا هنا أن نذكر هنا كل ما رواه الرواة عن تلاعب هارون بأموال الأمة، وإنما نذكر نماذج عنها فقط، لنكتشف من خلالها شخصيته، وهل هي أميل للرشد، أم أنها أميل للسفه.

ونبدأ بما ذكره السيوطي في كتابه [الإنباء في تاريخ الخلفاء]، والذي وصفه بكونه (أسمح الناس بما تحويه يده)، ثم روى أنه لما دخل بغداد، دخل إليه سلم الخاسر وأنشده:

موسى المطر غيث بكر ثم انهمر.. وكم قدر ثم غفر خير البشر

فرع مضر بدر بدر لمن نظر.. هو الوزر لمن حضر والمفتخر لمن غبر

فأمر له بمائة ألف درهم، ثم علق عليها بقوله: (وهو أول من وصل بذلك. وهي أول مائة ألف وصل بها شاعر في ولد بنى العباس)([10])

ثم روى رواية أخرى وهي أن أعرابيا دخل إليه وأنشده:

يا خير من عقدت كفاه حجزته.. وخير من قلّدته أمرها مضر

فقطع عليه وما تركه يتم وقال له: إلّا من؟ ويلك! فقال الأعرابي:

إلا النبي رسول الله إن له.. فخرا وأنت بذاك الفخر تفتخر

فأعجبته بديهته وقوله، وأمر له بمائة ألف درهم([11]).

وحتى نبسط فهم الروايتين اللتين ذكرهما السيوطي، وأثنى بسببهما على هارون، واللتين نجد أمثالهما كثير، نذكر أن ذلك المبلغ الذي دفعه له، وهو مائة ألف درهم من الفضة، يساوي عشرة آلاف دينار من الذهب، وكل دينار يساوي تقريبا 4.25 غرام من الذهب، أي أنه أعطاه في ذلك المجلس، وبتلك الكلمات القليلة التي ذكرها 42500 غرام من الذهب، أي 42 كيلو غرام ذهب.

ومن تلك النماذج ما رواه الأصمعي قال: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده:

وآمرة بالبخل قلت لها اقصري.. فليس إلى ما تأمرين سبيل

فعالي فعال المكثرين تجمّلا.. ومالي كما قد تعلمين قليل

فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى.. ورأي أمير المؤمنين جميل

فقال له الرشيد: لله درّ أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها وأبين فصولها، وأقلّ فضولها! يا غلام أعطه عشرين ألفا. قال: والله لا أخذت منها درهما واحدا! قال:

ولم؟ قال: لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري! قال: أعطوه أربعين ألفا. قال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني ([12]).

فهذه الرواية لا تشير فقط إلى إعطائه ذلك المبلغ الضخم، وإنما تشير فوق ذلك إلى أن المجتمع كان يتصور ـ من غير أن يشعر ـ أن بيد حاكمه خزائن الرزق، وأن مال الأمة ملك له، ولذلك يكفي أن يرضى الحاكم عنه، لينال ما اشتهى من مال، سواء استحقه أو لم يستحقه، ولذلك صدق الأصمعي في تسمية هارون بالملك، ذلك أن الملك هو الذي يعتقد ذلك الاعتقاد، بخلاف الخليفة الذي يعتقد أنه مستخلف على مال الأمة، وليس له الحق في التصرف فيه.

وهكذا ورد في روايات أخرى في كتاب خصص للمشهورين بالكرم، بعنوان [المستجاد من فعلات الأجواد]، والذي اعتبر هارون من كبار الأجواد، وكيف لا يفعل ذلك، وخزائن الأمة بيده، تجبى إليه الأموال من كل الأرض، ولذلك كان يخاطب السحاب في السماء بكل غرور قائلا: (امطري حيث شئت، فإن خراجك سيأتيني)

ومن تلك الروايات ما روي أن يزيد بن مزيد دخل على هارون، فقال له: يا بن مزيد من الذي يقول فيك:

لا يعبق الطيب خديه ومفرقه.. ولا يمسح عينيه من الكحل

قد عود الطير عادات وثقن بها.. فهن يتبعنه في كل مرتحل

فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله؟ فخرج من عنده خجلاً؛ فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال: من بالباب من الشعراء؟ قال مسلم بن الوليد قال: وكيف حجبته عني ولم تعلمني بمكانه، قال: أخبرته أنك مضيق، وأنه ليس في يدك شيء تعطيه، وسألته الإمساك والمقام أياماً إلى أن تتسع قال: فأنكر ذلك عليه وقال: أدخله إلي فأدخله إليه فأنشد قصيدة يقول فيها:

صدقت ظني وصدقت الظنون به.. وحط جودك عقد الرحل عن جملي

فقال له: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر، فخرج الحاجب، فقال: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم خمسون ألفاً منها لك وخمسون ألفاً لنفقته فأعطاه إياها، وكتب صاحب الخبر بذلك إلى هارون، فأمر له بمائتي ألف درهم، وقال: (اقض الخمسين الألف التي أخذها الشاعر، وزده مثلها، وخذ مائة ألف لنفسك)، فأفتك ضيعته، وأعطى مسلماً خمسين ألفاً أخرى([13]).

ويمكننا من خلال الحساب السابق أن نحسب المبلغ الضخم الذي أعطاه إياه، لا لاختراع اخترعه، أو كتاب علمي ألفه، وإنما لأبيات شعرية مدحه بها، وقد كان في إمكانه بذلك المبلغ أن لا يبقي في بغداد جميعا فقيرا واحدا.

وهكذا روي في رواية أخرى عن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهنّ على الرجال، غنيته بأبيات التي يقول فيها:

ملك الثّلاث الآنسات عناني.. وحللن من قلبي بكلّ مكان

مالي تطاوعني البريّة كلّها.. وأطيعهنّ وهنّ في عصياني

ما ذاك إلا أنّ سلطان الهوى.. وبه قوين أعزّ من سلطاني

فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم ([14]).

وهكذا كان يشتري الجواري والمحظيات بالمبالغ الضخمة جدا، والتي تأسى به فيها الأمراء والملوك العرب المعاصرون، ومن الأمثلة على ذلك أنه اشترى جارية بيعت في المزاد العلني بمائتين وخمسين ألف درهم([15])، وهو مبلغ ضخم جدا، ويمكن لمن شاء أن يحسبه، ويرى المشاريع التي يمكن أن ينفذ بها ذلك المبلغ الذي لم يكن له من دور سوى إرضاء نزوات الخليفة الذي أجمعوا على تسميته رشيدا.

لكن الصالحين لم يكونوا يسمونه كذلك، بل كان يرفضون أخذ ماله، اعتقادا منهم بأنه ينفق مما لا يملك، ومن الأمثلة على ذلك ما روي أنه لما دخل الكوفة خرج الناس للنظر إليه، فناداه بهلول([16]) ثلاثاً، فقال: من المجترىء علي في هذا الموضع؟ قيل: بهلول المجنون. فرفع السجافة وقال: بهلول؟ قال: لبيك يا أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبد الله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك؛ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك، قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك الله.

قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً فأنفق في ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في خالص ديوان الله من الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: (يا أمير المؤمنين؛ ردها على من أخذتها منه؛ فلا حاجة لي بها)، فقال: يا بهلول؛ إن كان عليك دين قضيناه. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال: فنجري عليك ما يكفيك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: (يا أمير المؤمنين؛ أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني)([17])

وللأسف، فإن الممجدين لهارون، لا ينظرون إلى المعاني التي ذكرها الرجل الصالح في وعظه لهارون، وإنما يلتفتون إلى بكائه، وهم لا يعلمون أن ذلك البكاء كان في أحسن أحواله مجرد حركة عاطفية عابرة ولم يكن لها أي أثر في حياته.

وهكذا روي أن أنه أرسل لبعض العلماء كيسا من المال، فقال لمن أوصله له: (أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن، وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصرفها إلى من أحب)([18])

هذه مجرد نماذج محدودة عن مدى تلاعب هارون بمال الأمة، مثله مثل سائر الملوك الذين نسميهم خلفاء، وهي كافية واحدة لإدراجه ضمن السفهاء، لكن الدين البشري الذي صاغه الملوك ومن أيدهم من العلماء حول كل ذلك السفه إلى رشد، وبمعايير بشرية تماما لا علاقة لها بدين الله؛ فدين الله أسمى من أن يؤيد ظالما أو متلاعبا بالمال العام في نفس الوقت الذي يدين فيه من يصرف دينارا واحدا في غير محله.

3 ـ هارون.. والصراع مع الصالحين:

من العجائب التي لا يمكن تفسيرها قدرة الكثير من العقول، وخاصة عقول الملتزمين المتدينين، من أصحاب الورع البارد، ذلك الجمع العجيب بين المتناقضات، والتي ينص المنطق أنه لا يمكن أن تجتمع معا، أو تتفرق معا، لكنها للأسف تجتمع عند تلك العقول وتتناسق، وتتآخى، وكأنه لا تنافر بينها.

وما أكثر الأمثلة على ذلك، وقد سبق أن ذكرنا في كتابنا عن مجزرة بني قريظة كيف استطاع الكثير أن يسوغ ما ذكره المدلسون من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذبح زهاء 900 رجل وشاب من بني قريظة، في نفس الوقت الذي عفا عن بني قينقاع وبني النضير وقريش وكبار المنافقين مع أن ذنب من عفا عنهم أكبر بكثير من ذنب بني قريظة، وبإقرار تلك العقول نفسها.

وهكذا يقال في هارون العباسي، الذي يترضون عنه في نفس الوقت الذي يترضون عن الذين قتلهم من العلماء والصالحين الذين لا يزالون يعتبرون الطاعن فيهم طاعنا في الدين نفسه، ولسنا ندري كيف نجمع بين الترضي على القاتل والضحية في نفس الوقت.

والعجب الأكبر أن هؤلاء الذين يستعملون كل الوسائل لستر جرائم هارون في هذا المجال، يتباكون على قتل جمال خاشقجي، ويطالبون بدم قتلته حتى لو كانوا ملوكا، مع أن الخاشقجي لا يساوي شيئا أمام تلك الشخصيات العظيمة التي قام هارون بقتلها، وبدم بارد.

فقد ذكر كل المؤرخين وباتفاق منهم جميعا على أن هارون هو الذي قتل إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (127 هـ – 177 هـ)، ذلك الذي يلقب في المغرب العربي باسم إدريس الأكبر، وينتسب إليه أكثر سادة وأشراف المغرب العربي، ويذكرون أنه كان السبب في إسلام الكثير من القبائل الأمازيغية التي لم يقنعها الفتح العسكري بالإسلام، وإنما أقنعتها طروحات المولى إدريس كما يطلقون عليه.

وهم يتفقون على الشهادة له بالصلاح والتقوى، ويزورون ضريحه، ويحيون كل المناسبات التي ترتبط به، وبالكثير من أولاده وحفدته، ولكنهم للأسف، وفي نفس الوقت يترضون عن قاتله هارون، ويذكرون مناقبه، ولست أدري كيف يوفق بين هذا وذاك.

فإن كان موقف هارون صالحا وعادلا، فإن إدريس الأكبر كان مستحقا لما حصل له، ولذلك لا يصح أن يعتبر من الأولياء، ولا من الصالحين.. وإن كان العكس، فإن حكم هارون حكم إجرامي واستبدادي، ولا يصح حينها السكوت عن هذه الجريمة حتى لو تعلقت بقتل مسلم واحد، وكيف وهارون قتل المئات بل آلاف من الصالحين، وهذا ما تذكره كل المصادر التاريخية.

وحتى نعرف فداحة الجريمة التي قام بها هارون بقتله لإدريس الأكبر ندعو القارئ ليبحث في ترجمته، ليرى دوره الدعوي الكبير في الشمال الإفريقي، حيث استطاع أن يدعو القبائل اليهودية والوثنية إلى الإسلام، ويعرفهم به، ويدخلوا فيه أفواجا، ذلك أن الفاتحين العسكريين لم يكن لهم الوقت للجلوس للناس وتعليمهم، وإنما اكتفوا بالتوسع العسكري عن الدعوة إلى الله تعالى.

ولذلك كان دور إدريس الأكبر الدعوي هو الفتح الحقيقي، وقد التفت به القبائل الأمازيغية بعد أن رأت فيه النموذج الحقيقي الذي يمثل الإسلام، لكن هارون الذي لم يكن يفكر في نشر الإسلام، وإنما كان يفكر في ملكه وفي الإتاوات التي تأتيه من المغرب والمشرق، ولذلك راح يرسل له من يقوم بقتله، متجاهلا تلك الأدوار الدعوية العظيمة التي كان يقوم بها هناك.

فقد ذكر المؤرخون أن قبائل زناتة وزواغة وسدراتة وغياثة ومكناسة وغمارة وكافة القبائل الأمازيغية في المغرب الأقصى، وبعد أن رأوا صفات إدريس الأكبر وأخلاقه العالية وعلمه العظيم راحوا يبايعونه، ويقومون معه بنشر الإسلام وتعريف الناس به في كل المناطق التي لم تدخل الإسلام بعد.. لكن حقد هارون وصل إليه عبر إرسال من قتله.

وقد قال حينها بعض الشعراء من الموالين لبني العباس يذكر قتله، ويصور في نفس الوقت اليد الإجرامية لبني العباس، والتي لم تكن تتوقف أبدا ([19]):

أتظن يا إدريس أنك مفلت.. كيد الخليفة أو يقيك فرار

فليدركنّك أو تحلّ ببلدة.. لا يهتدي فيها إليك نهار

إن السيوف إذا انتضاها سخطه.. طالت وتقصر دونها الأعمار

ملك كأن الموت يتبع أمره.. حتى يقال تطيعه الأقدار

وصدق الشاعر فيما قال، فلم يكن المولى إدريس أول أو آخر قتيل من آل بيت النبوة يقوم هارون بقتله، وإنما قتل الكثير، ومنهم الإمام موسى الكاظم الذي تتفق الأمة جميعا على صلاحه وتقواه وعلمه الغزير، وكونه إماما من أئمة بيت النبوة، وكونه في نفس الوقت من المظلومين الذي شملهم بطش هارون ليس بالقتل فقط، وإنما بالسجن قبل ذلك.

ففي الوقت الذي كان الشعراء يتمتعون فيه بالصلات والجوائز كان الإمام موسى الكاظم وغيره من الصالحين يسكنون غياهب السجون، في انتظار لحظة الموت التي يحددها السفاح الذي سمته العقول المتناقضة رشيدا، يقول الشيخ محمد جواد مغنية معبرا عن محنة الإمام الكاظم: (أرسل الرشيد جلاوزته إلى الإمام موسى بن جعفر، وكان يتعبد عند قبر جده، فأخرجوه منه، وقيدوه، وأرسله الرشيد إلى البصرة، وكان عليها عيسى بن جعفر بن المنصور، فحبسه عنده سنة، ثم كتب عيسى إلى الرشيد أن خذه مني، وسلمه إلى من شئت، وإلا خليّت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما قدرت على ذلك. فحبسه ببغداد عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيى، ثم عند السندي بن شاهك، وأخيراً تخلص منه بالسم)([20])

ولم يكتف هارون بذلك، بل راح يمارس جرائمه في كل من له صلة به من أهل بيت النبوة أو غيرهم حتى النساء لم ينجين من جرائمه، يقول السيد محسن الأمين: (بعد وفاة الإمام الكاظم أرسل الرشيد أحد قواده إلى المدينة، وهو الجلودي، وأمره أن يهجم على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً، فامتثل الجلودي، حتى وصل إلى دار الإمام الرضا، فجعل الإمام النساء كلهن في بيت واحد، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي: لابد من دخول البيت وسلب النساء فتوسل إليه وحلف له أنّه يأتيه بكل ما عليهن من حلي وحلل على أن يبقى الجلودي مكانه ولم يزل يلاطفه حتى أقنعه، ودخل الإمام، وأخذ جميع ما على النساء من ثياب ومصاغ وجميع ما في الدار من أثاث، وسلمه إلى الجلودي، فحمله إلى الرشيد)([21])

وهكذا كانت جرائم هارون في حق أهل بيت النبوة كثيرة لا يمكن حصرها، فمنذ تسلم زمام الحكم من سنة 170 هـ حتى سنة 193 هـ أدار صراعات مختلفة مع العلويين فقتل، وعذّب الكثير منهم، مستنا في ذلك بسنة أهل الملك العضوض ابتداء من معاوية وابنه يزيد.

ولم يكن الأمر قاصرا على جرائمه في حق أهل بيت النبوة، بل إنه مارسه مع كل من يخشى أن يلتف به الناس بسبب تقواه وصلاحه، والتهمة التي تسوق له ليست الزندقة كما كان الأمر في عهد والده، وإنما كونه من العلويين أو الشيعة أو الروافض، مثلما هو حاصل الآن.

ومن الأمثلة على ذلك أن محمد بن إدريس الشافعيّ (150-204هـ) ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وصاحب المذهب الشافعي المعروف، والذي قال فيه الإمام أحمد: (كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس)، اتهم بالتشيع في عصر هارون، وكاد يحصل له ما حصل لغيره من الآلاف الذين اتهموا بالتشيع أو موالاة أهل بيت النبوة.

فقد ذكر ذكر أبو زهرة في كتابه عن الشافعي المحنة التي تعرض لها، وكاد يقتل بسببها، لولا احتياله لذلك ببعض الحيل الشرعية، وفي نفس الوقت شهادة محمد بن الحسن الشيباني له.

وللأسف مع اتفاق المؤرخين على هذه الحادثة، والمحن التي أصابت أهل بيت النبوة في ذلك العصر إلا أن أكثر الناس يتجاهلونها في نفس الوقت الذي يصورون فيه محنة الإمام أحمد في عهد المأمون، وكأنها غزوة بدر أو فتح مكة، حتى قال بعضهم: (لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام)([22])، وقال علي بن المديني: (أيد اللَّه هذا الدين برجلين لا ثالث لهما أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل فِي يوم المحنة) ([23])

مع العلم أننا نعتبر كلا من هارون وابنه المأمون من الظلمة، ونعتبر كلا المحنتين من المحن التي يجب الإنكار على الذين قاموا بها، كما ننكر في نفس الوقت على العقول التي تستسيغ جرائم هارون في نفس الوقت الذي تنكر فيه على جرائم ابنه المأمون، مع أن جرائم المأمون لم تكن لتحصل لولا توريث أبيه العرش له، ولأخيه، وتدريبه على كيفية امتحان الناس في عقائدهم وأفكارهم، حتى لا تكون سببا في الثورة او المعارضة.

يقول أبو زهرة: (لما نزل الشافعي باليمن، ومن أعمالها نجران، كان بها والٍ ظالم، فكان الشافعي يأخذ على يديه، أي ينصحه وينهاه، ويمنع مظالمه أن تصل إلى من تحت ولايته، وربما نال الشافعي ذلك الوالي بالنقد، فأخذ ذلك الوالي يكيد له بالدس والسعاية والوشاية. وفي ذلك الزمانِ الذي كان فيه الحكمُ للعباسيين، كان العباسيون يُعادون خصومَهم العلويين، لأنهم يُدلون بمثل نسبهم، ولهم من رحم الرسول محمد ما ليس لهم، فإذا كانت دولة العباسيين قامت على النسب، فأولئك يَمُتُّون بمثله، وبرحم أقرب، ولذا كانوا إذا رأوا دعوة علوية قضوا عليها وهي في مهدها، ويقتلون في ذلك على الشبهة لا على الجزم واليقين، إذ يرون أن قتل بريء يستقيم به الأمر لهم، أولى من ترك مُتَّهمٍ يَجوز أن يُفسد الأمنَ عليهم.. وجاء والي نجران العباسيين من هذه الناحية، واتهم الشافعي بأنه مع العلوية، فأرسل إلى الخليفة هارون الرشيد: (إن تسعة من العلوية تحرَّكوا)، ثم قال في كتابه: (إني أخاف أن يخرجوا، وإن ها هنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي)، وقيل أنه قال في الشافعي: (يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه)، فأرسل الرشيد أن يَحضرَ أولئك النفرُ التسعةُ من العلوية ومعهم الشافعي. ويقال أنه قتل التسعة، ونجا الشافعي؛ بقوة حجته، وشهادة القاضي محمد بن الحسن الشيباني، أما قوة حجته فكانت بقوله للرشيد وقد وجه إليه التهمةَ بين النطع والسيف: (يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده، أيهما أحب إلي؟)، قال: (الذي يراك أخاه)، قال: (فذاك أنت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس، وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا إخوتكم، وهم يروننا عبيدهم، وأما شهادة محمد بن الحسن الشيباني فذلك لأن الشافعي استأنس لما رآه في مجلس الرشيد عند الاتهام، فذكر بعد أن ساق ما ساق أن له حظاً من العلم والفقه، وأن القاضي محمداً بن الحسن يعرف ذلك، فسأل الرشيدُ محمداً، فقال: (له من العلم حظٌ كبير، وليس الذي رُفع عليه من شأنه)، قال: (فخذه إليك حتى انظرَ في أمره)، وبهذا نجا)([24])

وقد عبر الشافعي عن هذه التهمة التي اتهم بها في تلك الأبيات المشهورة عنه، والتي رواها الربيع بن سليمان عنه في قوله: (خرجنا مع الشافعي من مكة نريد منى فلم ننزل واديا ولم نصعد شعبا إلا وهو يقول

يا راكبا قف بالمحصب من منى.. واهتف بقاعد خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى.. فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد.. فليشهد الثقلان أني رافضي([25])

ولم يكن كل ذلك سوى أمثلة عن بعض المشاهير ممن وصل إلينا خبر مقتلهم في عهده وبأمر منه، أما من لم يصل إلينا خبره، فالله أعلم بهم، وقد ورد في المصادر التاريخية أن حميد بن قحطبة الطائي الطوسي قال: طلبني الرشيد في بعض الليل، وقال لي فيما قال: خذ هذا السيف، وامتثل ما يأمرك به الخادم، فجاء بي الخادم إلى دار مغلقة، ففتحها وإذا فيها ثلاثة بيوت وبئر، ففتح البيت الأول، وأخرج منه عشرين نفساً عليهم الشعور والذوائب، وفيهم الشيوخ والكهول والشبان، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال وقال لي: يقول لك أمير المؤمنين اقتل هؤلاء، وكانوا كلهم من ولد علي وفاطمة فقتلتهم الواحد بعد الواحد، والخادم يرمي بأجسامهم ورؤوسهم في البئر، ثم فتح البيت الثاني، وإذا فيه أيضاً عشرون من نسل علي وفاطمة، وكان مصيرهم كمصير الذين كانوا في البيت الأول، ثم فتح البيت الثالث، وإذا فيه عشرون، فألحقهم بمن مضى، وبقي منهم شيخ، وهو الأخير، فقال: تباً لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة عند جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فارتعشت يدي، وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً، وهددني، فقتلت الشيخ، ورمى به في البئر ([26]).

4 ـ هارون.. وصراع الأسرة المشؤومة:

لم تكن دماء الصالحين فقط هي التي سالت بغزارة في الفترة التي ولي فيها هارون، بل كانت هناك دماء كثيرة أخرى، سفكت في حياته زورا وبهتانا، ثم ورّثها بعد ذلك لمن بعده من أبنائه، فسالت دماء أخرى كثيرة كلها في سبيل تحقيق نزوات هارون وأسرته المشؤومة.

لا تستعجلوا في الحكم علي قبل أن تسمعوا القصة، وتعوها، فقد تجدون أنفسكم وبلاد المسلمين ضحايا تلك الأسرة المشؤومة التي شربت هوى السلطة، فراحت تضحي بكل شيء في سبيلها، وبسببها تمزقت بلاد المسلمين، ودخل الصليبيون، ثم دخل الاستعمار، ثم صرنا إلى ما صرنا إليه.

وقبل أن أذكر لكم بعض مشاهد الدماء المسفوكة في عهد هارون، أضرب لكم هذا المثال حتى تستوعبوا مقدار الجرائم التي تسبب فيها.

تصوروا لو أن حاكما أتيح له أن تتوحد الدول الإسلامية جميعا تحت سلطته، وكان في إمكانه أن يجعل من المسلمين قوة عظمى، ممتلئة بالعلم والحضارة، وتؤسس لمستقبل صالح للبشرية جميعا في ظل القيم القرآنية العظيمة.. لكنه لم يفعل ذلك، لسبب بسيط، وهو أن له ولدين من زوجتين مختلفتين، ولم يرد أن يؤذيهما؛ فراح يقسم الدولة الإسلامية بين كلا الولدين، لأحدهما مشرق الأرض، وللآخر مغربها.

ثم ما لبثت نزوة السلطة أن ركبت كلا الولدين، حيث طلب كل واحد منهما من أخيه أن يتنازل له عن نصيبه حتى تصبح الأرض كلها بين يديه.. وطبعا كلاهما ربي على حب السلطة، وغذي بلبانها، فلذلك لم تسمح له بذلك.

وبعد أخذ ورد لم يجد الطرفان سوى أن يحضرا كل ما لديهما من جند، ويقوما بتجنيد إجباري للرعية، ويشكلا من خلال ذلك كله جيوشا قوية، ليحارب بعضهما بعضا.. ويتفرج حينها الفرنجة وغيرهم على الأسرة المتصارعة، ويفرحون كثيرا، ويقومون بكل التحضيرات التي توفر لهم القدرة على اختراق العالم الإسلامي وحربه.

ولم تكن الحرب الدائرة بين أعضاء الأسرة المشؤومة يوما أو يومين.. بل استمرت خمس سنوات كاملة.. حصد فيها الكثير من الضحايا.. وقتل فيها الكثير من الأبرياء.

بربكم.. من يمكن اعتباره المتسبب في هذا الخراب والدمار وسفك الدماء؟.. أليس ذلك الوالد الذي تعتبرونه رشيدا، بينما هو السفه بعينه؟.. وهل الدولة الإسلامية قطعة حلوى حتى يقسمها بين أولاده؟.. وهل كان ما فعله بسيطا إلى الدرجة التي نعتبرها مجرد سلبية بسيطة من سلبياته، أم أنها الطامة الكبرى التي كانت سببا بعد ذلك في تخلف المسلمين، وطمع غيرهم فيهم؟.. وهو ما حصل بعد ذلك، وبعد فترة قصيرة جدا.

المشكلة في أن هؤلاء الذين يدافعون عن أمثال هؤلاء المجرمين هو عدم قراءتهم الواقعية للقرآن.. هم يقرؤون حروفه دون معانيه، ولو أنهم طبقوا ما قرؤوا عما حصل لبني إسرائيل، وأسقطوه على ما حصل في عهد هارون.. لوجدوا المسلمين حينها لم يكونوا سوى بني إسرائيل..

فقد قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84، 85]

أليس هذا نفسه ينطبق على هذه الأمة؟.. بل إن القتلى الذين قتلوا في عهد الأسرة المشؤومة لا يمكن مقارنته بقتلى بني إسرائيل.. فهل فتح المسلمون فارس والروم من أجل أن يعرضوا عليها الإسلام، أم من أجل أن يستخدموا أهلها وقودا لحروبهم الأهلية، وصراعاتهم العشائرية التي أحيوا بها داحس والغبراء؟

سأقص عليكم القصة كما ذكرها المؤرخون الذين تعتبرونهم.. وفكروا في أنفسكم قبل أن تقوموا بأي دفاع عن الظلمة.. ولا تنسوا أن تعتبروا، فالتاريخ كله عبر..

وبداية أذكر أن هذه الحرب الأهلية التي تسبب فيها هارون.. تسمى في التاريخ الإسلامي باسم [الفتنة الرابعة] أو [الحرب الأهلية العباسية الكبرى]، ويذكرون ـ باتفاقهم جميعا ـ أن سببها ليس الروافض المجوس، ولا ابن سبأ، ولا ابن العلقمي، ولا نصير الدين الطوسي، وإنما هو هارون الذي تسمونه رشيدا.

فقد ذكروا أن تلك الحرب الطويلة كانت بسبب النزاع بين الأخوين الأمين والمأمون على خلافة العرش العباسي، ذلك أن والدهما هارون الذي يطلق عليه لقب الرشيد، كان (قد اختار الأمين كأول خليفة له، لكنه أيضاً اختار المأمون كخليفة ثاني ومنحه خراسان كإقطاعية، بينما ابنه الثالث، القاسم، خليفة ثالث، من غير أن يحسب حسابا للعواقب التي تنجر وراء هذا التقسيم)([27])

وبعد وفاة هارون، حصل النزاع بين الأخوين.. وبدأ على شكل مراسلات وسفارات متبادلة بين الأخوين حول مشكلة العهد المعلق في الكعبة، والذي كتبه هارون، وضمنه ذلك التقسيم المشؤوم.

وما لبثت تلك المراسلات أن تحولت إلى مناوشات، ففي أوائل سنة 195 هـ أمر الأمين بوقف الدعاء للمأمون وأعلن البيعة لابنه موسى، ولقبه بالناطق بالحق، ونقش اسمه على السكة وكان هذا بمثابة خلع المأمون، ثم بعث من سرق الكتابين بالكعبة وحرقهما، وأمام هذا الاعلان رأى المأمون أن يستعد للحرب فجهز جيشا كبيرا وحشده على حدود خراسان في منطقة الري، وولى عليه قائدين من أتباعه المخلصين وهما طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين الذي يرجع اليه الفضل في اعداد جيش المأمون اعدادا قويا، أما الأمين فقد اختار علي بن عيسى بن ماهان أحد كبار رجال الدولة الذي كان واليا على خراسان في عهد هارون.

تقدم ابن ماهان نحو الري لقتال طاهر بن الحسين دون أن يستعد له استعدادا كافيا وذلك لأنه كان يستهين بشأن طاهر لحداثته، وانتهت المعركة بانتصار جيش طاهر بن الحسين ومقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة 195 هـ، حينها أرسل الأمين جيوشا أخرى عديدة إلى الري، ولكن مصيرها كان الهزيمة إلى الدرجة التي استنفذت هذه الجيوش موارد الأمين فلم يستطع تحريك جيوشا أخرى ([28]).

وهنا تحولت الحرب من مداخل خراسان إلى مداخل العراق، حيث تقدم الجيش الخراساني نحو بغداد، واتفق طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين على أن يقوم الأول بمهاجمة بغداد من الغرب بينما يهاجمها الثاني من ناحية الشرق، وتقدم الجيشان حتى بلغا أرباض بغداد حيث حدثت معارك مختلفة بين قوات الأمين وقوات المأمون ولم يكن جيش الأمين قويا كما لم يكن قواده في حالة معنوية عالية، فقد استمالت قوات المأمون بعض قادة جيش الأمين بالهدايا والهبات فانضموا اليه واحدا بعد الاخر.

غير أن الذين قاوموا هذا الحصار هم أهل بغداد وبالأخص [جماعة العيارين] أو الفتيان وهي مجموعة من الناس كان أغلبهم من أبناء الأسر الفقيرة، وقد دافع العيارون عن بغداد (ببسالة نادرة وضربوا أمثلة رائعة في الصمود والشجاعة، وعلى الرغم من مقاومة هذه المجموعة، فقد استطاعت جيوش المأمون أن تضرب حصارا على حول بغداد، فاشتد الجوع بالأهالي لدرجة أن الأمين صرف كل ما لديه من أموال على جنوده واضطر إلى طلب الأمان والتسليم)([29])

و(فضل الأمين أن يسلم نفسه للقائد هرثمة لكبر سنه من جهة ولقسوة طاهر بن الحسين من جهة أخرى، وخرج الأمين وأتباعه عابرين نهر دجلة في سفينة صغيرة لم تلبث بفعل الزحام أو بفعل طاهر أن انقلبت واستطاع الأمين أن يسبح إلى الشاطيء وهناك أسره الجنود الخراسانيون وقتلوه بأمر من طاهر، وبذلك تنتهي خلافة الأمين، وتولى المأمون الخلافة) ([30])

ليست الحرب بهذه الصورة البسيطة التي اختزلناها في هذه الفقرات، نقلا عما ذكره المؤرخون المعاصرون، بل إن المؤرخين ذكروا مآسي كثيرة حصلت فيها، حتى أن بعض المعاصرين من الذين يمجدون هارون، ويعتبرونه من أبطال الإسلام قال في مقال له عن الأمين بن هارون: (كان محمد الأمين ضحية فتنة من أكبر الفتن التي شهدها التاريخ الإسلامي على مر العصور، وهي ثالث فتنة يتعرض لها المسلمون بعد الفتنة الكبرى، التي ثارت في عهد الخلفاء الراشدين، والتي انتهت بمقتل الخليفة عثمان بن عفان، وكانت الفتنة الثانية في عهد الأمويين، وذلك بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان.. فقد سقط محمد الأمين ضحية نظام ولاية العهد الثنائي، الذي ذهب ضحيته الخليفة الوليد من قبل، وكانت النتيجة واحدة في الحالتين: حياة قلقة مضطربة لخليفة مضطهد، تنتهي بصورة درامية مفزعة بحز رأسه، ثم لا يبقى من ذكراه سوى سطور مبهمة وأقوال متضاربة في سجل التاريخ)([31])

وللأسف، فإن هذا الباحث آلمه أن يحز رأس الأمين من طرف أخيه، ولم يؤلمه تلك الرؤوس الكثيرة التي حزت على مدى خمس سنوات، والتي كان سببها الأخوان المتقاتلان، وكان سببها قبل ذلك أب سفيه راح يتلاعب برؤوس رعيته، كما تلاعب قبل ذلك بأموالها.

وسنورد هنا بعض المشاهد البسيطة من تلك الحرب، ومن خلال كتاب الذهبي المسمى للأسف [تاريخ الإسلام]، وإن كان الأولى أن يسميه [تاريخ المستبدين]

ومن تلك المشاهد مشهد التجنيد الإجباري والحيل المستعملة لتحريض المسلمين بعضهم على بعض، وهو نفس ما نراه في الواقع اليوم؛ فقد ذكر الذهبي أنه كان (في حبس الرشيد عبد الملك بن صالح بن علي، فأطلقه الأمين وقربه، فدخل عليه هذه الأيام، وقال: يا أمير المؤمنين إني أرى الناس قد طمعوا فيك، وقد بذلت سماحتك، فإن بقيت على أمرك أبطرتهم، وإن كففت عن البذل أسخطتهم، ومع هذا فإن جندك قد داخلهم الرعب وأضعفتهم الوقائع، وهابوا عدوهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد لي مسارع إلى طاعتي، فإن وجهتني أتخذت لك منهم جندا تعظم نكايته في عدوه)([32])

وبعد أن قال له هذا ولاه الأمين الشام والجزيرة، و(استحثه بالخروج، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء الأجناد بجمع الأمداد والرجال والزواقيل والأعراب من كل فج، وخلع عليهم، ثم إن بعض جنده الخراسانية نظر إلى فرس كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر بالشام تحت بعض الزواقيل، فتعلق بها، فتنازعا الفرس، واجتمعت الناس وتلاحموا، وأعان كل فئة صاحبها، وتضاربوا بالأيدي، فاجتمعت بعض الأبناء إلى محمد بن أبي خالد الحربي، فقالوا: أنت شيخنا، وقد ركب الزواقيل منا ما سمعت، فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل هذه الحال، فاستعد الأبناء، وأتوا الزواقيل وهم غارون، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فتنادى الزواقيل، ولبسوا لأمة الحرب، وشبت الحرب بينهم، فوجه عبد الملك رسولا يأمرهم بالكف، فرموه بالحجارة، وكان عبد الملك مريضا مدنفا، فقال: واذلاه! تستضام العرب في دورها، وبلادها وتقتل؟! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر)([33])

ثم ذكر كيف (قام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل وقد جيشوا بالرقة، واجتمع الأبناء والخراسانية بالرافقة، وقام رجل من أهل حمص، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من الغضب، والموت أهون من الذل، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل ويعسر المهرب، ثم قام آخر من كلب فقال نحو ذلك، فسار معه عامة أهل الشام، وتفللوا.. ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، وكثر القتل والبلاء في الزواقيل، وحملت الأبناء فانهزمت الزواقيل) ([34])

ومن مشاهد تلك الحرب ما ذكره في أحداث سنة 197 هـ، فقال: (وفيها نزل زهير بن المسيب الضبي بكلواذا، ونصب المجانيق، واحتفر الخندق، وجعل يخرج في الأوقات عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالمجانيق والعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار، وجعل يؤذي المسلمين، فأتوا طاهرا يشكون منه، وبلغ ذلك هرثمة بن أعين، فأمده بالجنود، ثم نزل هرثمة نهر تير وبنى عليه حائطا وخندقا، وأعد المجانيق، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر بن الحسين البستان الذي بباب الأنبار، فضاق الأمين ذرعا، وتفرق ما كان في يده من الأموال العظيمة، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم لينفقها، ثم أمر برمي الحربية بالنفط والمجانيق، وهلك جماعة، وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد، وعملت فيها المراثي، ولم يزل طاهر مصابرا للأمين وجنده، حتى مل أهل بغداد قتاله، فاستأمن إلى طاهر الموكلون للأمين بقصر صالح، وسلموا إليه القصر بجميع ما فيه في جمادى الآخرة في منتصفه، ثم استأمن إلى طاهر صاحب شرطة الأمين محمد بن عيسى، فضعف ركن الأمين واستسلم. وقتل داخل قصر صالح: أبو العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي، وجماعة من القواد، وقتل خلق من أصحاب طاهر، ثم لحق بطاهر عبد الله بن حميد الطائي، وإخوته، وابن الحسن بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطائي، وكاتبه قوم في السر من العباسيين، ولما كانت وقعة يوم قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش، فأقبل أصحاب الهرش يؤذون الرعية وينهبونهم، فلجأ خلق ونزحوا إلى طاهر، فرأوا من أصحابه الأمن والخير، وبقي الناس في بغداد بأسوأ حال، وطال الأمر) ([35])

ومن مشاهد تلك الحرب ما ذكره الطبري من سوء الحال وصل بالأمين ـ لاحظوا جيدا هذا اللقب الذي أطلق عليه ـ احترف السلب والنهب مستعينا بالحسن الهرش زعيم قطّاع الطرق أو العيارين، فقد قال في ذلك: (وذكر عن عمرو بْن عبد الملك أن محمدا أمر زريحا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة، وأهلك خلقا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:

أظهروا الحج وما ينوونه.. بل من الهرش يريدون الهرب

كم أناس أصبحوا في غبطة.. وكل الهرش عليهم بالعطب

كل من راد زريح بيته.. لقى الذل ووافاه الحرب ([36])

إلى آخر ما ذكره من أحداث.. وهي كثيرة جدا، وقد عبر بعضهم عن بعض ما حددث حينذلك شعرا، فقال([37]):

بكيت دما على بغداد لما.. فقدت غضارة العيش الأنيق

أصابتها من الحساد عين.. فأفنت أهلها بالمنجنيق

وعبر آخر عن تلك المشاركة العامة في الحرب، والتي لم تقتصر على الجند؛ فقال([38]):

خرجت هذه الحروب رجالا.. لا لقحطانها ولا لنزار

معشرا في جواشن الصوف يغدو.. ن إلى الحرب كالأسود الضواري

وعليهم مغافر الخوص تجزيـ.. ـهم عن البيض والتراس البواري

ليس يدرون ما الفرار إذا الأبـ.. ـطال عاذوا من القنا بالفرار

واحد منهم يشد على ألـ.. ـفين عريان ما له من إزار

كم شريف قد أخملته وكم قد.. رفعت من مقامر عيار

هذه مجرد مشاهد عن تلك الحرب الدامية التي تسبب فيها موقف واحد من مواقف هارون، وللأسف فإن ذلك الموقف علق على جدار الكعبة.

وللأسف، فإن الغارقين في أوحال الطائفية من المعاصرين لم يرجعوا السبب فيها لسفه هارون، وعدم معرفته بعواقب ذلك التوريث الخطير، وإنما أرجعوا سببه للروافض المجوس ـ كما يسمونهم ـ لأنهم وحدهم المتآمرون على الإسلام، فقد قال في مقال له بعنوان [بين الأمين والمأمون وسقوط بغداد] في أكبر موقع من مواقع السلفية: (تجدُّ فتنة السبئية بكيدها حتى توقع بين الأخوين الأمين والمأمون فتشتعل الحرب بينهما، وتحمل السبئية سلاحها ضد الأمين؛ لأنه عربي خالص، أما المأمون ففيه شائبة، ثم إنه مضيع الفكر واليقين بثقافة غير إسلامية، فهو إذن صيد ثمين يسهل عليهم صيده، وتحصد نار الحرب آلاف القرابين من العرب وتقضى على الأمين، غير أن المنهزمين والمنتصرين من العرب يتناسون جراح المعركة وآلامها ويقفون دون المأمون يذودون عنه السبئية حتى لا تطبق عليه بكل مكائدها)([39])

5 ـ هارون.. والصراع مع غير المسلمين:

لم يكتف هارون بكل تلك الجرائم التي ارتكبها في حق الأمة التي ينتمي إليها، والتي كانت كافية لتشويه الإسلام، ووضع الحجب التي تحول دون الاقتناع به، وإنما راح يضيف إليها جرائم أخرى لا تقل عنها، وهي تلك المعاملة القاسية مع غير المسلمين سواء كانوا من الذين يقيمون ببلاد الإسلام، أو من الذين لا يقيمون خارجها.

وللأسف؛ فإن هذا الموقف الذي يخالف الشريعة التي أمرت المسلمين أن يكونوا شهداء على الناس بإعطائهم صورة حسنة عن الإسلام، لقي إعجابا كبيرا من كثير من العلماء ومن تبعهم من الدهماء المقلدين الذين نظروا إلى المسألة من باب عزة الإسلام، لا من باب الدعوة إليه.

ولو أنهم قرؤوا القرآن الكريم، لرأوا كيف أمر الله تعالى باستعمال كل الوسائل لتأليف قلوب غير المسلمين، حتى يكون ذلك مقدمة نفسية لهم للبحث في الإسلام، وربما الاقتناع به والدخول إليه، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الممتحنة: 8 – 9]

بل إن الله تعالى أعطى نصيبا من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)

وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة الطيبة مع ألد أعدائه من المشركين أو المنافقين، وفي الفترة التي كان فيها الإسلام في أوج عزته، حتى أن بعض المسلمين تأثر لذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أترضون أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير، وتذهبون بالنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم؟)([40])

لكن هذه النصوص جميعا، لم تُعتبر أثناء دارسة التاريخ، وتقييم الشخصيات التاريخية، بل إن الثناء كان أعرض على من استعمل كل الوسائل للإساءة لغير المسلمين بحجة العزة الإسلامية، والتي تحولت بعد فترة قصيرة إلى ذلة، عندما دخل الصليبيون والاستعمار إلى بلاد الإسلام، وكان في إمكانهم ألا يدخلوا لو أن المسلمين عرفوا كيف يؤلفوا قلوبهم، ويطرحوا لهم الإسلام بالصورة الجميلة التي ترغبهم فيه.

لكن للأسف لم يكن الأمر كذلك.. وما حصل في عهد هارون وصراعه مع غير المسلمين، سواء في بلاد الإسلام أو غيرها أكبر شاهد على ذلك..

أما صراعه مع غير المسلمين في بلاد الإسلام، فقد عبر عن بعض مظاهره ابن القيم في كتابه الذي خصصه لفقه أهل الذمة وتاريخهم، عندما ذكر معاملة هارون لهم، وأثنى عليها، بل اعتبرها نموذجا لتطبيق الحكم الشرعي في حقهم، فقد روى عن الحسن البصري قوله: (من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة)، ثم علق عليه بقوله: (وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد)([41])

ثم اعتبر ذلك سنة من السنن التي طبقها الخلفاء الصالحون، والذين سماهم بقوله: (فصل في حال خلفاء المسلمين مع أهل الذمة، ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة، كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر)([42])

ومع كون هذه السلوكات مخالفة لما ورد في القرآن الكريم الذي أشار إلى حرمة المعابد التي يتخذها أهل الديانات المختلفة، فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40] إلا أنهم يصورون أن الأمر اختلف بعد التوسع العسكري الإسلامي، وأن الإسلام صار عزيزا، يعلو ولا يعلى عليه.

وبناء على هذا أفتى ابن القيم وابن تيمية وغيرهما بحرمة بناء الكنائس، وعدم تمكين المسيحيين من بناء الجديد، بل ولا ترميم القديم، ولعل أهم وثيقة تدل على هذا، بل تضع خارطة للكنائس التي يجب هدمها في القاهرة أو في الشام أو في غيرها من البلاد رسالة لابن تيمية تحت عنوان (مسألة في الكنائس)، أجاب فيها على سؤال هذا نصه: (ما تقول السادة العلماء في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت بأمر ولاة الأمور، إذا ادعى أهل الذمة: أنها غلِّقت ظلماً، وأنهم يستحقون فتحها، وطلبوا ذلك من ولي الأمر.. فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟!)([43])

وقد أجاب ابن تيمية على هذه المسألة بقوله: (أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذبٌ مخالفٌ لأهل العلم، فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وغيرهم، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين، متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلماً منه؛ بل تجب طاعته في ذلك.. وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم، كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم) ([44])

وهذا ما أكده ابن القيم في كتابه عن أحكام أهل الذمة، فقد قال: (كل كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض العنوة فإنه يجب إزالتها إما بالهدم أو غيره، بحيث لا يبقى لهم معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة، وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة؛ لأن القديم منها يجوز أخذه ويجب عند المفسدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تجتمع قبلتان بأرض فلا يجوز للمسلمين أن يمكنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم، لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة يظهر حدوثها بدلائل متعددة، والمحدث يهدم باتفاق الأئمة.. وأما الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها من أرض العنوة، فما كان منها محدثا وجب هدمه، وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمهما جميعا؛ لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. وما كان منها قديما فإنه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم، فينظر الإمام في المصلحة: فإن كانوا قد قلوا والكنائس كثيرة أخذ منهم أكثرها، وكذلك ما كان على المسلمين فيه مضرة فإنه يؤخذ أيضا، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أخذ أيضا)([45])

ثم لخص هذه الأحكام بقوله: (فإذا عرف أن الكنائس ثلاثة أقسام: منها ما لا يجوز هدمه. ومنها ما يجب هدمه – كالتي في القاهرة مصر والمحدثات كلها – ومنها ما يفعل المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام)

وهذه النصوص والتفاصيل الكثيرة اللاحقة لها تجعل المواطن المسيحي في البلاد الإسلامية بين أمرين: إما أن يبقى محروما من محال للتعبد طول حياته، أو القتل، ذلك أنه يستحيل أن تفي المعابد القديمة قبل الإسلام بالعدد الكثير من المتدينين من المسيحيين أو غيرهم، بالإضافة إلى أن في القول بحرمة ترميم القديم من المعابد يجعل أهل الديانات أخرى في بلاد الإسلام محرومين من كل مكان للتعبد، لأنه يستحيل بقاء المعابد القديمة قبل الإسلام إلى اليوم من غير حاجة إلى ترميم.

وأمثال هذه الفتاوى هي التي تنطلق منها بعض الجماعات المسلحة في هدم الكنائس المسيحية كما حصل ذلك في مصر ونيجيريا وبلاد أخرى كثيرة، وهو أعظم تشويه لسماحة الإسلام، وأعظم خدمة للعلمانيين الذين لا يرون صلاحية الإسلام للحكم.

ولم يكتف هارون بذلك، وإنما راح يتدخل في شؤون المسيحيين وغيرهم الشخصية، وقد وصل الأمر إلى اللباس الذي يلبسونه، وقد أثنى عليه بسبب هذا الموقف المخالف للإسلام ابن القيم، فقال ـ في فصل تحت عنوان [فصل هارون الرشيد وأهل الذمة] ـ: (وأما هارون الرشيد؛ فإنه لما قلد الفضل بن يحيى أعمال خراسان، وجعفرا أخاه ديوان الخراج، أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضا منهم، وغير زيهم ولباسهم وخرب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام)([46])

وللأسف، فإن الدليل الذي تعتمد عليه تلك الفتاوى التي استحل بها هارون تلك الجرائم في حق المسيحيين وغيرهم من الذين أمرنا بالإحسان إليهم وتأليف قلوبهم، هي [عزة المسلمين وعلوهم]، أو كما عبر ابن القيم عن ذلك؛ فقال: (والذي تقتضيه أصول المذهب وقواعد الشرع أنهم ـ أي المسيحيون ـ يمنعون من سكنى الدار العالية على المسلمين بإجارة أو عارية أو بيع أو تمليك بغير عوض، فإن المانعين من تعلية البناء جعلوا ذلك من حقوق الإسلام واحتجوا بالحديث وهو قوله: (الإسلام يعلو ولا يعلى)([47]) ([48])

ولسنا ندري علاقة الحديث الشريف بالموضوع، فالحديث دل على علو المسلم، وهذا العلو يدل على المعاني لا على المحسوسات، فالمسلم يعلو بخلقه وعلمه وتفكيره ومنهجه في الحياة، لا بالتطاول بالبنيان على غيره.

وللأسف نجد التطبيق الخاطئ لهذا الحديث ساريا في الكثير من المسائل حتى في المجالس التي يجلسون فيها، قال ابن القيم: (واحتجوا بأن في ذلك إعلاء رتبة لهم على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك.. ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجؤون إلى أضيق الطرق فإذا منعوا من صدور المجالس والجلوس فيها عارض فكيف يمكنون من السكنى اللازمة فوق رؤوس المسلمين) ([49])

وهكذا راح ابن القيم يبرر ما مارسه هارون من تعسف وظلم للمسيحيين، حتى في اختيار الألبسة التي يلبسونها، مع مناقضة ذلك لكل المصادر الشرعية، وقد نقل عن أبي القاسم الطبري قوله: (وجوب استعمال الغيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته صغارا وذلا وشهرة وعلما عليهم ليعرفوا من المسلمين في زيهم ولباسهم ولا يتشبهوا بهم)([50])

ومن مقتضيات هذا الغيار الذي هو نوع من التمييز العنصري منعهم من اللباس الطيب الجميل، فقال: (ولا يترك أهل الذمة يلبسون طيالسهم فوق عمائمهم، لأن هذا يفعله أشراف المسلمين وعلماؤهم للتمييز عمن دونهم في العلم والشرف وليس أهل الذمة أهلا لذلك فيمنعون منه)([51])

ومن مقتضياته أن (تكون نعالهم مخالفة لنعال المسلمين ليحصل كمال التمييز وعدم المشابهة في الزي الظاهر ليكون ذلك أبعد من المشابهة في الزي الباطن فإن المشابهة في أحدهما تدعو إلى المشابهة في الآخر بحسبها وهذا أمر معلوم بالمشاهدة)([52])

ومن مقتضياته ما نقله ابن القيم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أمصار الشام: (لا يمشي نصراني إلا مفروق الناصية ولا يلبس قباء ولا يمشي إلا بزنار من جلد ولا يلبس طيلسانا ولا يلبس سراويل ذات خدمة، ولا يلبس نعلا ذات عذبة ولا يركب على سرج ولا يوجد في بيته سلاح إلا انتهب ولا يدخل الحمام يوم الجمعة يهودي ولا نصراني حتى تصلى الجمعة)([53])

أما المرأة، فينقل ابن القيم عن أبي القاسم الطبري هذا الاجتهاد الغريب، الذي عبر عنه بقوله: (وأما المرأة إذا خرجت فيكون أحد خفيها أحمر حتى يعرف بأنها ذمية)([54])

بل إن الأمر لم يقتصر على الشروط المرتبطة باللباس، بل تعداه إلى شؤون خاصة جدا كتسريحة الشعر، فقد عقد ابن القيم فصلا حول أحكام شعر أهل الذمة جاء فيه: (والمقصود أن أهل الذمة يؤخذون بتمييزهم عن المسلمين في شعورهم إما بجز مقادم رؤوسهم وإما بسدلها، ولو حلقوا رؤوسهم لم يعرض لهم)([55])

هذا نموذج عن المظالم التي اتفق على تشريعها الحكام المستبدون، مع أعوانهم من الفقهاء، والإسلام بريء منها، فالإسلام دين السماحة والسلام والقيم الرفيعة، ويستحيل أن يفرض مثل هذه الأحكام الجائرة، التي لا تختلف عن أنظمة التمييز العنصري.

ولم يكتف هارون بذلك أيضا، بل راح إلى غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية يعلن عليهم الحرب، ويملؤهم حقدا على المسلمين والإسلام.

وربما يعرف الكثير من الناس ما يذكره الخطباء وغيرهم بفخر واستعلاء، من أن من حسنات هارون أنه كان يغزو عاما، ويحج عاما، ولم يسألوا أبدا من يغزو، ولماذا يغزو، وهل الأصل في الإسلام السلم أم الحرب، وهل الحاكم الصالح هو الذي يسعى لحل المشاكل بينه وبين الدول الأخرى بالسلم، أم الذي يعتمد على العنف؟

وسأنقل هنا حادثة ذكرها ابن كثير وغيره من المؤرخين، وهي محل إعجاب الكثير من الناس، وخاصة أولئك الخطباء الذين يرددونها وهم في غاية النشوة والاستعلاء والكبرياء، فقد قال في تأريخه لأحداث 187 هـ: (وفيها نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة أغسطة.. وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعا، يقال إنه من سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها.. فكتب نقفور إلى الرشيد: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك)؛ فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام)، ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئا كثيرا، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك)([56])

فعند قراءة هذا النص برؤية قرآنية نشعر بألم كبير لذلك الطرح السيء للإسلام، والذي حوله من دين هداية إلى دين جباية؛ فالحاكم القوي ـ وفق هذا الدين الجديد ـ هو الذي يفرض الإتاوات على غير المسلمين، لا الذي يقدم لهم من المال والإعانات ما يؤلف به قلوبهم.

ذلك أن تلك الجزية التي فرضها هارون على الدول المجاورة له، لن تؤخذ من خزائن الملوك، وإنما تؤخذ من الرعية، ويقال لها حينها: إن هذه الضريبة ستؤخذ للمسلمين.. ولملك المسلمين ليصل به الشعراء، ويشتري به الجواري.. فهل يمكن لهؤلاء الذين تؤخذ منهم تلك الإتاوات الظالمة أن يبحثوا عن الإسلام، أو يفكروا في الدخول إليه؟.. وهل يمكن لأحد من الناس أن يقنعهم بعد ذلك بأن الإسلام دين سماحة ورحمة؟

وللأسف فإن هذا الموقف غير الشرعي من هارون، والذي كان يأكل فيه أموال جيرانه بالباطل كان محل استحباب وتعظيم، لا من عامة الناس فقط، بل من علماء المسلمين أيضا، ولست أدري كيف يوفقون بين هذا وبين تلك الدعاوى العريضة التي يعللون بها فرض الجزية، وأن القصد منها حماية أهل الذمة، مع أن نقفورا ودولته لم يكونوا من أهل الذمة، ولم يكلف المسلمون بحمايتهم.

وهؤلاء الذين يبررون موقف هارون ويفخرون به، لا يكتفون بالفخر بتلك الرسالة البذيئة التي لا تمثل أخلاق المسلمين، وإنما يفخرون أيضا بذلك التخريب الذي قام به هارون، وتلك الغنائم التي عاد بها، بما فيها استعباده لابنة ملكها، وضمها إلى جواريه ومحظياته؛ فهل هذا هو الإسلام؟.. وهل هذا هو الحاكم المسلم الذي يعد العدة، ويسير الجيوش ليحقق ذلك الهدف الأعظم وهو تخريب البلاد واستعباد العباد؟

لقد كان في إمكان هارون ـ لو كان رشيدا ـ أن يفتح صفحة جديدة مع هذا الملك، أو الملكة التي قبله، ويوفر لهم الخدمات والإعانات التي تتيح للمسلمين الانتشار بينهم للدعوة إلى الله، والتعريف بالإسلام الإلهي، لكنه لم يفعل.. لأن ذلك لن يتيح له تلك الغنائم ولا تلك المحظيات والجواري.

وأحب أن أذكر في الأخير للذين يفخرون بتلك الحادثة، ويعتبرونها نموذجا للعزة الإسلامية أن يخففوا من فرحهم قليلا، ذلك أن ابن كثير نفسه بعد إيراده للحادثة قال: (فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء)([57])

وهكذا لم تحقق تلك الغزوة أهدافها.. لكن هارون حقق أهدافه.. فهو لم يذهب إلى هناك إلا لأجل تلك الأموال، ومعها تلك المحظيات.. وهذا ما يفسر لنا سر الغزوات التي كانت مفتوحة دائما.

6 ـ هارون.. والصراع مع القيم:

بالإضافة إلى كل ما سبق؛ فإن أخطر جريمة لهارون ونظرائه من المستبدين تلك الصورة المشوهة التي صوروا بها الشخصية الإسلامية؛ والتي تبعهم فيها للأسف الكثير من العلماء والوعاظ الذين اعتبروه قدوة ونموذجا مع ما مارسه في حياته من جرائم أصابت الإنسانية جميعا، ابتداء من المسلمين.

ومن الأمثلة على ذلك أنك إذا ذكرت لأحدهم تلك الفتنة الكبرى التي أوقعها في الأمة بسبب تقسيمه البلاد الإسلامية بين أولاده، والتي انجر عنها حرب أهلية طويلة حصدت أرواح عشرات الآلاف من المسلمين، صادر على المطلوب، وراح ردد عليك بكل برودة ما قاله الشيخ ابن جبرين في فتاواه ـ عندما سئل عما ورد في كتب التاريخ والأدب من لهوه وشربه الخمر ـ: (هذا كذب صريح، وظلم قبيح، فإن هذا الخليفة من خيرة الخلفاء، وكان يحج عاماً، ويغزو عاماً، وقد فتح الله في زمنه الكثير من البلدان، واتسعت رقعة الإسلام، واستتب الأمن، وعم الرخاء، وكثر الخير، بما لا نظير له، ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة، يجالس العلماء، ويأخذ منهم، ويسمع المواعظ ويبكي، ويخشع ويكثر العبادة والتهجد والقراءة والذكر، كما ذكر في سيرته المشهورة التي أفردت بالتأليف، فأما هذا الكتاب فإنه أكاذيب مختلقة، لا حقيقة لها، وإنما لَفَّقَه شخص لا أمانه له، وأراد بذلك شغل الأمة عن واجباتها، وإضاعة الأوقات في قراءة أو سماع تلك الخرافات، فلا يغتر به) ([58])

أو ما ذكره قبله ابن خلدون عندما راح يستعمل كل الحيل ليكذب كل تلك الروايات التي تتحدث عن انحرافاته الأخلاقية مع كثرتها، ومع كونها من نفس المصادر التي يستند إليها في إثبات صلاحه، مختصرا دفاعه فيما روي من روايات تدل على عبادته، من غير أن يعرض لمن قتلهم من الصالحين، ولا لما سببه في الأمة من بعده من فتن، يقول في ذلك: (وأمّا ما تموّه له الحكاية من معاقرة الرّشيد الخمر واقتران سكره بسكر النّدمان فحاشا الله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرّشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدّين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السّماك والعمريّ ومكاتبته سفيان الثّوريّ وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكّة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصّلوات وشهود الصّبح لأوّل وقتها. حكى الطّبريّ وغيره أنّه كان يصلّي في كلّ يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عاما ويحجّ عاما ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرّض له بمثل ذلك في الصّلاة لمّا سمعه يقرأ، { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } [يس: 22]، وقال والله ما أدري لم؟ فما تمالك الرّشيد أن ضحك ثمّ التفت إليه مغضبا، وقال: يا ابن أبي مريم في الصّلاة أيضا إيّاك إيّاك والقرآن والدّين ولك ما شئت بعدهما)([59])

 وهكذا راح يستدل بأمثال هذه الروايات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنه بعد أن وجد نفسه غير قادر على رد تلك الروايات الكثيرة في معاقرة الخمر، راح يدافع عنه بقوله: (إنّما كان الرّشيد يشرب نبيذ التّمر على مذهب أهل العراق وفتاويهم فيها معروفة، وأمّا الخمر الصّرف فلا سبيل إلى اتّهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها فلم يكن الرّجل بحيث يواقع محرّما من أكبر الكبائر عند أهل الملّة، ولقد كان أولئك القوم كلّهم بمنحاة من ارتكاب السّرف والتّرف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدّين الّتي لم يفارقوها بعد فما ظنّك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلّة إلى الحرمة) ([60])

ونحن لا يعنينا صدق تلك الروايات ولا كذبها، ولو أنه بدأ خلافته سكرانا، وانتهى بها كذلك، لما اعتنينا به واهتممنا له، بل ربما مدحنا ذلك فيه باعتباره صارفا له عن دماء المسلمين وغيرهم، والتي أزهق عشرات الآلاف منها بغير حق.

وللأسف تناسى ابن خلدون وابن جبرين وعشرات بل مئات العلماء الذين دافعوا عنه ـ عند إيرادهم للروايات الدالة على عبادته ـ أحكام وفتاوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن، فقد ورد في الحديث أنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها)، قال: (هي في النار)، فقيل له: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها، قال:(هي في الجنة)([61])

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف من الحكم على الشخصية المسلمة من خلال تلك الممارسات التعبدية، ولا من خلال ذلك الخشوع الكاذب، وإنما حكم عليها من خلال سلوكها في حياتها، بل اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم مجرد إذيتها لجيرانها بلسانها سببا لدخول النار، فكيف بمن يقتل الآلاف وعشرات الآلاف.. ويقتل الصالحين بدم بارد، ويتلاعب بأموال المسلمين، ويقف حجابا بين غير المسلمين والإسلام.

وهكذا تراهم يذكرون غزواته وكثرتها، ويعتبرونها من دلائل صلاحه، ولست أدري هل قاموا بدراسة لتلك الغزوات وفق المعايير الشرعية، أم أنهم اكتفوا بكونه يقتل غير المسلمين، وكأن المسلمين طولبوا بقتل غيرهم، ولم يطالبوا بدعوتهم إلى الدين الحق، وإعطائهم النموذج الصالح عنه.

ومع ذلك، فإنهم لو عادوا للسنة المطهرة، وقرأوا ما ورد فيها من حكمه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك الرجل الذي غل الشملة، لكفوا من ذلك المديح الكاذب؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا من شهد له بالجنة، وراح يهنئه بها، معتبرا إياه شهيدا: (كلا! والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم: لتشتعل عليه نارًا)، وعندما سمع ذلك الناس، جاء رجل منهم بشراك أو شراكين إليه صلى الله عليه وآله وسلم،فقال: (شراك من نار، أو شراكان من نار)([62])

وهكذا نجد النصوص المقدسة ترسم صورة أخرى للشخصية الإسلامية غير تلك الصورة التي يعرضها أصحاب الملك العضوض، والذين تصوروا أنه يكتفى من المسلم بدموع يجريها، أو ركعات يصليها.

ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم سلوك المؤمن مع إخوانه والبشرية هو المعبر عن حقيقة إيمانه، فقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن). قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)([63])

وفي حديث آخر حذر صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الفئة التي تهتم بالشعائر التعبدية، وتمارس معها كل ألوان الموبقات، وهو ما ينطبق تماما على هارون، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)([64])

وبناء على هذا كله اعتبر الغزالي كل أولئك الذين يشيدون بأمثال هذه الشخصيات من المغرورين الذين يكذبون على أنفسهم، ذلك لأنهم قلدوا بني إسرائيل في الأخذ ببعض الكتاب، وترك بعضه، كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]

وانطلاقا من هذه الآية الكريمة ذكر في رسالته حول [أصناف المغرورين] الكثير من النماذج التي ترد على ذلك الدفاع المستميت الذي يحاول المدافعون عن الظلمة أن يلمعوا من خلاله صورة هارون، فقد قال ـ عند حديثه عن الفرقة التاسعة من فرق المغرورين من العُبّاد ـ: (وفرقة أخرى حرصت على النوافل، ولم يعظم اعتدادها بالفرائض.. فتارة يفرح بصلاة الضحى، وصلاة الليل.. وأمثال هذه النوافل، فلا يجد لصلاة الفريضة لذة ولا خير من الله تعالى، لشدة حرصه على المبادرة فى أول الوقت.. ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور.. بل قد يتعين على الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت.. أو نفلان أحدهما يضيق وقته والآخر متسع وقته.. فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا.. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.. فإن المعصية ظاهرة.. وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض.. كتقديم الفرائض كلها على النوافل.. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التى لا قائم بها على ما قدم بها غيره.. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه.. وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد.. وتقديم الدين على القروض غيره.. وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك.. ويرتبه.. ولكن الغرور فى الترتيب دقيق خفى لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون فى العلم رضى الله عنهم وغفر لهم)([65])

وقال ـ عند حديثه عن الفرقة الخامسة منهم ـ: (وفرقة أخرى اغتروا بالصوم.. وربما صاموا الدهر.. وصاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم من الغيبة.. ولا خواطرهم من الربا.. ولا بطونهم من الحرام عند الافطار ولا من الهذيان من أنواع الفضول.. وذلك غرور عظيم.. وهؤلاء تركوا الواجب.. وأبقوا المندوب.. فظنوا أنهم يسلمون.. وهيهات.. إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم)([66])

وقال ـ عند ذكره للفرقة الأولى من المغرورين أرباب الأموال ـ: (فرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والصهاريج للماء.. وما يظهر للناس.. ويكتبون أسماءهم بالآجر عليه.. ليتخلده ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم.. وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك.. وقد اغتروا فيه من وجهين.. أحدهما: أنهم قد اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجهات المحظورة.. وهم قد تعرضوا لسخط الله فى كسبها.. فإذن قد عصوا الله فى كسبها.. فالواجب عليهم فى التوبة ردها إلى ملاكها إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم.. فإن لم يبق منهم أحد وانقرضوا فالواجب صرفها فى أهم المصالح.. وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين.. وأى فائدة فى بنيان يستغنى عنه ويتركه ويموت.. وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر.. والوجه الثانى: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير فى الانفاق.. وعلو الأبنية.. ولو كلف أحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك.. لأن حب المدح مستكن فى باطنه)([67])

ونحب أن نذكر في الأخير أن ما يذكره الكثيرون من أن الصورة السلبية لهارون ومجونه، كانت وليدة كتاب [ألف ليلة وليلة] أو كتب الأدب فقط، بأن ذلك غير صحيح، بل إننا نجدها في كتب التاريخ نفسها، بل نجدها في تلك الكتب التي تعتمدها أشد المدارس الإسلامية ولاء وحبا لهارون، ومنها تاريخ الطبري، فقد ورد فيه عند ذكره لقتل هارون للبرامكة: (وذكر الكرماني أن بشارا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر ابن يحيى معه قد خلا به دون ولاة العهد، وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه، وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه، ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني على الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضا واطرب، لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت، فانصرف عنه إلى منزله، فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعه تأتيه بالانفال والأبخرة والرياحين، حتى ذهب الليل ثم بعث إليه مسرورا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاما الأبرش بباب يحيى بْن خالد، ولم يعرض لمحمد بْن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه)([68])


([1])  رواه الخطيب في تاريخه، 7/4.

([2])  تاريخ الخلفاء (ص: 210)

([3])  تاريخ الخلفاء (ص: 210)

([4])  تاريخ دمشق لابن عساكر (70/ 30)

([5])  مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (8/ 306)

([6])  رواه الطبراني وأحمد البزار والروياني، انظر: جمع الجوامع: 2/1191..

([7])  سنن الترمذي: 4/ 436 ــ سنن أبي داوود: 5/ 36، فضائل الصحابة- للامام أحمد بن حنبل ص 17، مسند احمد ج 5 ص 221.

([8])  خلاصات أموية، حسن المالكي..

([9])  خلاصات أموية، حسن المالكي..

([10])  الإنباء في تاريخ الخلفاء (ص: 74)

([11])  المرجع السابق، (ص: 74)

([12])  العقد الفريد، (1/ 217)

([13])  المستجاد من فعلات الأجواد (ص: 27)

([14])  العقد الفريد، (7/ 49)

([15])  الإماء الشواعر، أبو الفرج الأصبهاني، دار النشر : عالم الكتب – بيروت/لبنان – 1404ه – 1984م، الطبعة : الأولى، تحقيق : د.نوري حمودي القيسي، د.يونس أحمد السامرائي (ص: 46)

([16])  قال في [جمع الجواهر في الملح والنوادر، إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، (ص: 62)] تعقيبا على الرواية: (وقيل: إن بهلولاً كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه)

([17])  طبقات الفقهاء الشافعية، عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح، المحقق: محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1992م (1/ 134)

([18])  الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى الجريرى النهرواني، المحقق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1426 ه – 2005 م، (ص: 116)

([19])  مقاتل الطالبيين (ص: 408)

([20])  الشيعة والحاكمون، مغنية، ص 162.

([21])  أعيان الشيعة، ج 1، ص 29..

([22])  طبقات الحنابلة (1/ 13)

([23])  المرجع السابق،  (1/ 13)

([24])  الشافعي، محمد أبو زهرة، ار الفكر العربي – القاهرة، ص22.

([25])  طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (1/ 299)

([26])  عيون أخبار الرضا، الصدوق، ج 1، ص 101..

([27])  في التاريخ العباسي والأندلسي: أحمد مختار العبادي، دار النهضة، ص88.

([28])  المرجع السابق،  ص97.

([29])  المرجع السابق، ص98.

([30])  المرجع السابق، ص100.

([31])  محمد الأمين ضحية الفتنة الثالثة (في ذكرى توليه الخلافة 3 من جمادى الآخرة 193 هـ)، سمير حلبي، موقع إسلام أون لاين..

([32])  تاريخ الإسلام (4/ 1040)

([33])  المرجع السابق، (4/ 1041)

([34])  المرجع السابق، (4/ 1041)

([35])  المرجع السابق، (4/ 1046)

([36])  تاريخ الطبري، (8/ 463)

([37])  المرجع السابق، (4/ 1046)

([38])  المرجع السابق، (4/ 1047)

([39])  بين الأمين والمأمون وسقوط بغداد، الشيخ عبدالرحمن الوكيل، موقع الألوكة، 10/11/1434 هـ.

([40])  رواه البخاري 8/ 37 – 42، ومسلم رقم (1061)

([41])  أحكام أهل الذمة (3/ 1194)

([42])  المرجع السابق،(1/ 456)

([43])  مسألة في الكنائس، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق : علي بن عبدالعزيز الشبل، مكتبة العبيكان – الرياض، الطبعة: الأولى 1416هـ، (ص: 99)

([44])  المرجع السابق، (ص: 102)

([45])  أحكام أهل الذمة،(3/ 1195)

([46])  المرجع السابق،(1/ 464)

([47])  سنن الدارقطني، أبو الحسن علي البغدادي الدارقطني ، حققه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الارنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2004 م، ج4، ص371.

([48])  أحكام أهل الذمة (3/ 226)

([49])  المرجع السابق،  (3/ 226)

([50])  المرجع السابق،(3/ 249)

([51])  المرجع السابق،(3/ 262)

([52])  المرجع السابق،(3/ 257)

([53])  المرجع السابق،(3/ 254)

([54])  المرجع السابق،(3/ 269)

([55])  المرجع السابق،(3/ 261)

([56])  البداية والنهاية، (10/ 209)

([57])  المرجع السابق، (10/ 209)

([58])  فتاوى إسلامية: (4/487)

([59])  تاريخ ابن خلدون (1/ 24)

([60])  المرجع السابق،  (1/ 24)

([61])  قال المنذري في الترغيب (2/ 356) وقال: رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة. وقال بإسناد صحيح أيضا..

([62])  رواه البخاري (4234)، ومسلم (115)، وأبو داود (2711)، والنسائي في الكبرى (8763)، وفي المجتبى (7/ 24)

([63])  البخاري- الفتح 10 (6016) ..

([64])  رواه البخاري 9/ 86..

([65])  أصناف المغرورين (ص: 59)

([66])  المرجع السابق،  (ص: 55)

([67])  المرجع السابق، (ص: 61)

([68])  تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (8/ 299)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *