مقدمة الفصل الثاني: الاتجاه الفكري للطرق الصوفية ومشروعها الإصلاحي

الفصل الثاني

الاتجاه الفكري للطرق الصوفية ومشروعها الإصلاحي

إن المقارنة العلمية المنهجية بين كلا التيارين: الجمعية والطرق الصوفية، تقتضي منا أن لا نقصر نظرنا على بعض الظواهر السلوكية التي يمارسها بعض الصوفية أو كل الصوفية من غير أن نرجع إلى البحث عن المصادر الفكرية التي أنتجت تلك السلوكات.

وذلك لأنا رأينا أن الكثير من البحوث – مع كونها علمية أكاديمية – إلا أنها تنتقي بعض الظواهر، كالرقص الصوفي مثلا، أو بعض الحركات البهلوانية التي تقوم بها بعض الطرق الصوفية، لتنتج منها فيلما تسيمه (الطرق الصوفية)، من غير أن يكون في ذلك الفيلم أي حوار، لا مع الممثلين، ولا مع من يديرهم، لتعرف سر حركاتهم، أو لتتجاوز حركاتهم إلى المعاني التي يعيشونها أو الأفكار التي يحملونها.

وهذه النظرة – للأسف – هي التي حكمت على عقول المتنورين من أبناء الجمعية، وحجبتهم عن أن يعرفوا جلية ما يمارسه الصوفية، وما يريدون من خلال تلك الممارسات، فهم اكتفوا بما رأوا، وبما اشمأزت له نفوسهم، ولم يتركوا للطرف الآخر الفرصة ليحاورهم([1])، وليحدثهم عن فكره ومشاريعه.

ولا نخفي أن بعض تلك المظاهر سيئ للغاية، تشمئز له النفس، ويأنف منه العقل، ولكن هل يخضع الباحث لاشمئزازه، أم يجعله اشمئزازه يبحث عن الحقيقة.

وأول خطوة يخطوها الباحث عن الحقيقة هو البعد عن التعميم، فليست كل الطرق تمارس تلك الحركات التي تشمئز لها النفس، وليست كل حركة تشمئز لها النفس حركة ممقوتة، حتى أن من غير المسلمين من حجب عن الإسلام، لأن سجود المسلمين لم يعجبه، أو لأن ذبح المسلمين للحيوان اعتبره قسوة لا تتناسب مع الدين.

ولهذا، فإن الباحث العلمي المحترم هو من يتجاوز نفسه، بل يتجاوز عقله البسيط، ليبحث عن جلية الأمر من أهله، لا من غيرهم، وللأسف نجد الباحثين يعرفون الصوفية ومناهجهم ومسالكهم من خلال كتب إحسان إلهي أو عبد الرحمن دمشقية، أو الوكيل، أو ابن تيمية، من غير أن يفكر في الرجوع إلى المصادر الأصلية التي يعتمدونها، مع أن تراث الطرق الصوفية في الجزائر خصوصا تراث ضخم، والتراث الذي كتب في عهد الجمعية لا يقل قيمة عن كل ما كتب في غيرها من بلاد العالم الإسلامي.

ولكنا للأسف نجد الباحثين يعرضون عنها، ويتحججون بحجج لا قيمة علمية لها، يأخذونها من خصومها ليضربوها بها، وأذكر أني ذكرت لبعض الباحثين بعض المعاني السامية التي ذكرها الشيخ ابن عليوة في بعض كتبه، فضحك ساخرا، وقال: (ومتى كان ذلك الأمي كاتبا؟ لقد كان هناك من يكتب له، وكان هو في نفسه أميا)، وعندما سألته عن الكتب التي كتبت لهذا الأمي، وشهرت باسمه لم يعرف منها أي كتاب مع كونه من الباحثين المهتمين بجمعية العلماء، وعندما سألته عن أدلة هذا الموقف جاءني بصفحات مما قاله الزاهري والإبراهيمي والمدني وغيرهم..

وهذه للأسف عقبة كبيرة من عقبات البحث العلمي المنهجي، يعتمدها التيار السلفي عموما عندما يترك المناقشة في الفكرة ليناقش في المفكر.

لقد قلت لصاحبي ذاك: فلنفرض أن الكتب كتبت له، وهو لم يكتبها، وذلك غيب لا يعلمه إلا الله، ولكنها مع ذلك نسبت له ولطائفته، والمنطق العلمي يدعونا للبحث فيها باعتبارها تصريحات تدل على المواقف.

بناء على هذا التنبيه الذي رأينا ضرورته، نحاول في هذا الفصل أن نتعرف على التوجه الفكري والمشروع الإصلاحي للطرق الصوفية، مثلما فعلنا ذلك مع الجمعية لتتيسر المقارنة.

وبناء على هذا قسمنا هذا الفصل إلى مبحثين:

المبحث الأول: الاتجاه الفكري للطرق الصوفية

المبحث الثاني: المشروع الإصلاحي للطرق الصوفية


([1])  عرفنا فيما سبق رفض الجمعية للحوار مع الصوفية، وذلك من خلال رفضهم للصلح أو للمناظرة، وسنرى المزيد من الشواهد على هذا في المحال المناسبة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *