المقدمة

المقدمة

هذا الكتاب محاولة لتعميق المحبة الحقيقية لأهل بيت النبوة، وإخراجها من السطحية والسذاجة والتناقض إلى المعاني الحقيقية المرادة منها، والتي تنسجم مع العقل والفطرة والدين.

ذلك أن كل تلك الأحاديث النبوية الكثيرة المتفق عليها، والتي تعتبر حبهم والولاء لهم ركنا من أركان الدين، وشعبة من شعب الإيمان، في نفس الوقت الذي تعتبر فيه بغضهم نفاقا، لم تكن تقصد ذلك الحب السطحي الذي يتغني فيه المرء بمن يحب من دون أن يكون له أي آثار عملية.

فذلك غير صحيح، لأن محبة أهل البيت تندرج ضمن محبة المسلمين جميعا، ولا يصح لأحد أن يفاضل في ذلك.. لكن المراد منها ما هو أعمق منها.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بما أعطاه الله من علم بما سيحصل لأمته من تحريف وتبديل ـ يعلم جيدا حاجة الأمة إلى البوصلة التي تحدد لها الاتجاه الصحيح، والسفينة التي تحتاج إلى ركوبها، حتى لا تغرق في بحر الفتن..

وكان أولى الناس بذلك ـ لا بسبب نسبهم فقط ـ أهل البيت، لا بذلك المعنى الساذج الذي يتصوره البعض، ويفاخر به، ويطلب من الناس أن يحسنوا إليه، ويقفوا تعظيما له بسبب ذلك النسب الذي يحمله.. فذلك لا يتناسب مع الدين، ولا مع قيم الدين، بل هو يتناقض معها، وقد ورد في الحديث الصحيح: (من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه)([1])

ولكن أهل البيت الموصى بهم هم أولئك الذين وقفوا في وجه الطغيان، وبذلوا دماءهم في سبيل الحفاظ على الدين الأصيل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما آتاه الله من نور النبوة يدعو إلى الانضمام إلى صفوفهم، وترك صفوف أعدائهم..

كان صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الأحاديث يدعو إلى الانضمام إلى الإمام علي عند خلافه مع أهل الجمل أو أهل صفين أو أهل النهراوين.. أو غيرهم.. وليس الوقوف مع أعدائه، أو الوقوف موقف الحياد.. سواء في ذلك الزمن الذي جرت فيه تلك المعارك، أم في سائر الأزمنة، لأن الدين أسس في ذلك الوقت، وآثار ما حصل بقيت إلى اليوم.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الانضمام للإمام الحسن حتى لا يضطر إلى عقد ذلك الصلح الذي يتنازل فيه عن ولاية المسلمين، ويتركها للبغاة الذين استطاعوا أن يشتروا الذمم التي لم تفقه جيدا معنى الولاء والمحبة لأهل بيت النبوة.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الانضمام للإمام الحسين، وعدم تركه وحيدا، بين رمال الطفوف، ثم يتهم أهل الكوفة وحدهم بالخيانة، مع أن كل من لم يتحرك لمساعدته كان خائنا، ومخالفا لتلك الوصايا التي تدعو إلى حبه.. فهل يمكن أن يحب شخص شخصا، ثم يتركه أحوج ما يكون إليه؟

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الانضمام إلى صف زيد بن علي بن الحسين في مواجهة هشام والأمويين.. وإلى الانضمام إلى صف محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم في مواجهة المنصور.. وإلى الانضمام إلى إدريس وغيره في مواجهة هارون..

وإلى الذهاب إلى تلك السجون والزنازن التي امتلأت بالعلويين والحسنيين والحسينيين وكل أهل بيت النبوة، بسبب اعتراضهم على تحريف دين جدهم، لإخراجهم منها، لا الوقوف موقف المتفرج، بل المثني على المستبدين الذين ملأوا بهم السجون، ثم التغني بعد ذلك كذبا وزورا بحب أهل البيت.

هذا هو الولاء الحقيقي لأهل بيت النبوة، وهذه هي المحبة الحقيقية التي مثلها عمار بن ياسر الذي لم يترك سيفه في الوقوف مع الإمام علي، كما لم يتركه في وقوفه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فكلاهما واحد، والوقوف مع أحدهما، سببه ربط الدين بالبشر لا بالله..

ذلك أن دعوة الإمام علي لم تكن سوى دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم نبه إلى ذلك في كل تلك الأحاديث التي تذكره.. فهو لم يذكره لأجل قرابته، ولا كونه صهره، وإنما للمسؤولية المناطة به.. فهو تلميذه الأول والأكبر.

ولكن كل هذه المفاهيم عراها ما عرى غيرها من سطحية، حيث صارت المحبة لهم لا تختلف عن ذلك الغزل الرقيق الذي لا أثر له في الواقع.

بل عراها التناقض العجيب الذي تصرخ منه الفطرة والعقول السليمة ألما.. فمن العجيب أن ينادي المتناقضون بحبهم للإمام علي، وحبهم لأعدائه في وقت واحد.. ولست أدري كيف يجتمع هذان المتناقضان في قلب واحد؟

ولو أننا حللنا حقيقة ذلك القلب لوجدنا حبه الحقيقي لمعاوية، وليس للإمام علي، ذلك أنهم يفرحون لكل حديث مكذوب في حق معاوية، ويحزنون لكل حديث صحيح في حق الإمام علي، ويحاولون أن يسدلوا عليه كثبانا من رمال النسيان..

وهكذا تجدهم يرمون بالبدعة من يحب الإمام علي، ويدعو إليه وإلى القيم التي جاء بها، ويرمونه بالرفض والمجوسية والشرك وكل أنواع الكفر، في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه محب معاوية والمدافع عنه سنيا وسلفيا وصحيح العقيدة، حتى لو جاءت كل الأحاديث تذمه، وتدعو إلى ذمه، وتدعو إلى مواجهة التحريفات التي جاء بها.

بل إن النسائي ـ صاحب السنن ـ قُتل بسبب تأليفه لكتاب في خصائص الإمام علي، وقد طلب منه حينها أن يكتب مثله في فضائل معاوية فقال: ما أعرف له فضيلة إلا: (لا أشبع الله بطنه!)، فضربوه حتى قتلوه([2]).

وهكذا نجد المعاصرين لنا يطلبون منا ألا نكتفي بذكر فضائل أهل البيت، بل علينا إذا أردنا أن ندخل رياض أهل السنة أن نكتب في فضل أعدائهم الذين حاربوهم وقتلوهم وشردوهم.. ثم يصخون آذاننا كل حين بأنهم يحبون أهل بيت النبوة.. ولست أدري كيف تجمع قلوبهم كل هذه التناقضات.

لذلك كان هذا الكتاب زفرات ألم على المظالم التي تعرض لها أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء من أمه وأبيه، واللذين رميا بالشرك، وحكم عليهما بأنهما من أهل النار، بينما اعتبر جميع المشركين بمنجاة منها، لأنهم من من أهل الفترة.

وهو زفرات ألم في حق عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الذي فداه بكل شيء، وضحى في سبيله بكل ما يملك، لكنهم يذكرون أنه مات على الشرك، مع أنه لم يعرف الشرك في حياته، وآمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتنزل عليه ملاك الوحي.

وهو زفرات ألم في حق خديجة سيدة نساء العالمين تلك الطاهرة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مريم وآسية وفاطمة في محل واحد.. والتي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يعوض بمثلها، ولا بمن يدانيها، ولكنا لا نكاد نسمع بها.

وهو زفرات ألم في حق الإمام الحسين وأصحابه في الطفوف.. والذي صار ذكرهم بدعة، والبكاء عليهم هرطقة.. والتغني بأعدائهم سنة.

وهو زفرات ألم في حق أولئك الأبطال المنسيين الذين كانوا أكبر من نصر الإسلام، وفدوه بأنفسهم، لكنهم أهملوا، ونسب الفضل لغيرهم.

وهو زفرات ألم في حق أولئك الثوار المضطهدين الذين قاموا لمواجهة الاستبداد والظلم وتحريف الدين، فقمعوا وقتلوا وعلقوا في الصلبان وامتلأت بهم السجون.

وقد كنا نود أن نذكر زفرات أخرى أكثر ألما وحزنا.. لكنا أمسكنا عن ذلك.. ونستغفر الله تعالى من التقصير..

وقد حاولنا قدر المستطاع ألا نترك للعاطفة وحدها حق الكلام، بل خلطنا كلامنا بالحجاج الذي تقتنع بها العقول السليمة.. فالعاطفة المجردة عن العقل هوى مجرد.. ولذلك كان كمال العاطفة انسجامها مع العقل.

لذلك كانت هذه الخطابات خطابات عقلية مصاغة بصياغة عاطفية، ذلك أنه لا يملك أحد من الناس مهما أوتي من قوة، أن يتكلم عن مظالم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن تهزه العاطفة، وتتغلب عليه المشاعر الجياشة.

وكيف لا يفعل ذلك، وهو يقرأ بأم عينينه ومن كل المصادر، ذلك التنكيل والتشريد والتقتيل والعزل الذي أصابهم، وكأنهم أبناء أبي جهل، لا أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقرابة أبي سفيان لا قرابة رسول رب العالمين.

مع أن الله تعالى في القرآن الكريم عند حديثه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعطي أهمية خاصة لذريتهم، ويبين أن لهم مكانة كبيرة، لا من الجانب العاطفي فقط، وإنما من جانب العملي أيضا، باعتبار أن لهم اصطفاء خاصا، ودورا مهما في الرسالة وحفظها والوفاء بمقتضياتها.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33، 34]، فمن العجيب أن يطالب عشاق آل بيت النبوة بالدليل بعد هذه الآية الكريمة، وهي أوضح الواضحات.. فإن كان الله تعالى قد اصطفى آل إبراهيم وآل عمران.. وهما أدنى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثير.. فكيف لا يصطفى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

ولذلك قرأ الإمام الحسين على ابن الأشعث تلك الآية عندما قال له: (يا حسين بن فاطمة، أيّ حرمة لك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست لغيرك؟)، ثمّ قال له: (والله إنّ محمداً لمن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد)([3])

ولم يكتف القرآن الكريم بتلك الإشارة الصريحة التي تضمنتها تلك الآية الكريمة، بل ورد في ذلك نصوص أخرى كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)﴾ [الأنعام: 83 – 87]، فهذه الآيات الكريمة توضح الصلات النبسية بين الأنبياء جميعا، وتبين أن الاجتباء الإلهي شملهم بهذا الشكل، ولا راد لاجتباء الله.

ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التعميم، بل ذكر تفاصيل كثيرة تدل عليه، حتى يترسخ في الأذهان أن اصطفاء الأنبياء فضل إلهي باعتباره استمرارا للنهج الرسالي وتوحيدا لمسيرته حتى لا تنحرف به الطرق والمناهج، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل إبراهيم عليهم السلام في آيات متعددة، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]

ومنها ما ذكره من أن إبراهيم عليه السلام نفسه دعا الله أن يكون الخط الرسالي ممتدا في ذريته، فقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]

بل إن الله تعالى صرح بأن الأمر باق في عقبه، فقال: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 28]

بل إن الله تعالى ذكر أن إبراهيم عليه السلام – كما سأل ربه أن يجعل ذريته أئمة للناس – سأله أيضا أن يوفق الناس لمودتهم والاقتداء بهم، فقال – على لسان إبراهيم عليه السلام -: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل موسى وآل هارون عليهم السلام، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في قصة طالوت: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]

بل إننا نجد أن الله تعالى اختار هارون أخا موسى عليه السلام ليكون معينا له ووزيرا بناء على طلب موسى، فقال:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ [الفرقان: 35]

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل يعقوب عليهم السلام، وهم وإن كانوا جزءا من آل إبراهيم، لكن القرآن خصهم بالذكر عند الحديث عن يوسف بن يعقوب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 6]

وذكرهم عند الحديث عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل وطلب الذرية الصالحة، فقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل داود عليهم السلام،والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقد بين القرآن الكريم أن سليمان ورث داود، فقال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]

لكن كل ذلك لم يلتفت إليه، وكأن الله تعالى بين اصطفاءه الخاص لذريات الأنبياء، وأقاربهم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو وحده المخالف لهم، مع أن الأصل أن يكون أولى بذلك منهم، إن لم يكن نظيرا لهم فيه، وقد قال تعالى عنه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]

لهذا نجد ابن تيمية ـ وهو من أكبر المنظرين للنصب والعداوة لأهل البيت في هذه الأمة ـ يعتبر تقديم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على غيرهم أثر من آثار الجاهلية في تقديم أهل بيت الرؤساء، كما نص على ذلك في (منهاج السنة) – على طريقته الخاصة في التحايل – بقوله: (وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية. لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان، وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام)([4])

وابن تيمية ـ وكل من وافقه على هذا القول وغيره من الأقوال الشنيعة ـ يرمي كما كبير من النصوص التي يوصي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآل بيته، ويعتبرهم مراجع الأمة من بعده، بل يعتبرهم صمام أمنها، وسفينة نجاتها كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق)([5])

وفي الحديث المتواتر في كتب السنة، قال r: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)([6])

وفي رواية: (أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب. وإني تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي)([7])

وللأسف فإن هذا الحديث مع وروده بلفظ (كتاب الله وعترتي) ومع كثرة الروايات الواردة فيه بهذا المعنى استبدل بحديث آخر، وصار هو المعروف عند الناس، وهو استبدال (عترتي) بلفظ (سنتي) مع أنه لم يرد في أي من الصحاح الست، وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسلا غير مسند، وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلا كما ورد عن مالك.

مع العلم أنه في قانون المحدثين لا يروى الحديث إلا بأصح صيغه، هذا في حال كون الصيغة المروية عن مالك صحيحة باعتبار المحدثين لأنها مرسلة، ولكنه للأسف صار الحديث المرسل هو الأصل، وصار الحديث المتواتر في حكم المكتوم، بل لو أن شخصا حدث به لاتهم في دينه.

بالإضافة إلى هذا، فقد وردت الأدلة الكثيرة التي تدل على وجوب الرجوع إلى آل البيت لتلقي الدين، وهي لا تعد ولا تحصى، فقد ورد في الحديث الصحيح المعروف: (علي مني وأنا منه. ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)([8])

وقال r: (ومن أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعدني بها ربّي، وهي جنّة الخلد، فليتوّلَ عليّاً وذرّيته من بعدي؛ فإنّهم لن يخرجوكم من هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة)([9])

وقال r: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. ولكنه خاصف النعل وكان علي يخصف نعل رسول الله في الحجرة عند فاطمة)([10])

وفي رواية أخرى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لتنتهن معشر قريش، أو ليبعثن الله عليكم رجلا مني امتحن الله قلبه للإيمان، يضرب أعناقكم على الدين. قيل يا رسول الله أبو بكر؟ قال: لا. قيل: عمر. قال: لا. ولكن خاصف النعل في الحجرة)([11])

لكن ـ للأسف ـ حصل الإعراض الكبير عن كل هذا، حيث قدم الطلقاء واليهود على آل بيت النبوة، حتى أن مرويات كعب الأحبار في تفسير القرآن الكريم وفي كتب العقيدة أكبر بكثير من المرويات التي رووها عن أهل البيت.. بل إننا نجد الجماهير تعظم السنة التي حصل فيها المأساة الكبرى حين حصل الصلح بين الحسن بن علي مع معاوية، ويسمون تلك السنة سنة الجماعة.. ويعتبرون معاوية بموجبها خليفة للمسلمين مع تلك النصوص الكثيرة التي تعتبر الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة.. وأن له مكانة عظيمة في الدين..

ولكن مع ذلك يعتبرون ذلك الموقف إقرارا منه بحقانية معاوية، وهم ينسون أن يقرؤوا قوله تعالى في وصف وضع قريب من الوضع الذي كان فيه الحسن بن علي: ﴿قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 92 – 94]

فهذه الآيات توضح سنة من سنن الغواية التي يتلاعب بها الشيطان بأتباع الأنبياء حين يسول لهم أن يأخذوا دينهم من السامري، ويتركوا النبي وآل بيت النبي.

ومثلما حصل للحسن بن علي حصل لأخيه الحسين بن علي الذي ورد في الأحاديث الكثيرة بيان فضله ومرتبته من الدين، وأنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك نجد أصحاب السنة المذهبية حين يذكرون تلك التضحية العظيمة التي قام بها الحسين للحفاظ على الدين في وجه من يريد تحريفه، يحتقرون ما فعله، بل يعتبرونه من الأخطاء الكبرى التي لا منفعة فيها.. ويقدمون عليه مواقف ابن عمر وغيره من الصحابة، كما قال ابن تيمية: (ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئــك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده. فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار ذلك سبباً لشر عظيم)([12])

وهكذا أصبح ابن تيمية وغيره أساتذة وأئمة وناصحين لذلك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سِبْطٌ من الأسباط)([13])

بل أعلن صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في حياته الشريفة أنه سلم لمن سالم وحرب لمن حارب، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى ابنته فاطمة وإلى علي ومعهما الحسن والحسين وقال لهم: (أنا حرب لمن حاربكم، وسِلْمٌ لمن سالمكم)([14])، وقال: (من أحب الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله جهنم وله عذاب مقيم)([15])

هذه دوافعنا من هذه الكتاب، وأغراضنا منه، ونحن نعلم أنه لن يستفيد منه إلا أولئك الذين تحرروا من ربقة التقليد، وخرجوا من السجون التي وضعهم فيها أصحاب الملك العضوض، وسدنة الدين المزيف الممتلئ بالتحريفات..

أولئك فقط من يمكنهم الاستفادة من هذا الكتاب لإقامة علاقة محبة حقيقية بأولئك الذين أمرنا بحبهم ومودتهم والولاء لهم ونصرتهم والعيش في ظلال القيم التي كانوا يمثلون، وضحوا بأنفسهم في سبيلها.


([1])  رواه مسلم (2699) ، وأبو داود (1455) و (4946) ، وابن ماجه (225)

([2])  سير أعلام النبلاء 14: 125، وفيات الأعيان 1: 77.

([3]) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 222..

([4])  منهاج السنة النبوية (6/ 455)

([5])  رواه الفاكهي في أخبار مكة (3/رقم1904)، وأبو يعلى في مسنده الكبير [كما في تفسير ابن كثير4/115]، والقطيعي في زوائده على فضائل الصحابة (2/785/1402)، والحاكم في المستدرك (2/343) و(3/150) وصحّحه على شرط مسلم.

([6])  رواه أبو داود (السنن 5/ 5/ 13/ رقم 4607) واللفظ له، والترمذي (العلم 16/ رقم 2676) وابن ماجه (المقدمة 6/ 42 و43 و44) والحاكم (العلم 1/ 175/ 329) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني، وقال الترمذي: حسن صحيح..

([7]) رواه مسلم ح / 2408، سنن الترمذي: ح / 3788، مسند أحمد 3/ 17، المستدرك 3/ 148 وغيرها.

([8]) رواه أحمد 4/164، وفي (4/164 و165، والنسائى في فضائل الصحابة (44)، وابن ماجة (119).

([9]) رواه الحاكم مستدرك الحاكم ج 3 ص 128.

([10]) رواه أحمد (1/155) (1335) وأبو داود (2700)، والترمذي (3715).

([11]) المصادر السابقة.

([12])  منهاج السنة ج4 ص530-531.

([13])  رواه أحمد (4/172) وابن ماجة (144) والترمذي (3775).

([14])  قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 169): رواه أحمد والطبراني.

([15])  رواه الطبراني في الكبير: 6/296.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *