الفصل الثالث: البعد الأخلاقي في تربية الأولاد

الفصل الثالث

البعد الأخلاقي في تربية الأولاد

وهو من أهم الأبعاد، وأكثرها تأثيرا في الحياة، وإنما جعلناه البعد الثالث من أبعاد التربية، لكونه نتيجة وثمرة للبعدين السابقين، فالأخلاق تنبني على العقائد، وعلى مدى الإذعان لها.

ويعني هذا البعد ـ باختصار ـ الحفاظ على سلامة الفطرة الإنسانية من كل ما قد يؤثر فيها من انحرافات نتيجة ملابسة البيئة والاختلاط بالناس والتعرض للمؤثرات المختلفة.

ولهذا اعتبرنا ركن الصوم من الأركان التي ترمز إلى هذا البعد، باعتبار رياضة الصوم أو تمرين الصوم جزءا من الجهد الذي يحد به من تأثيرات ملابسة الإنسان للشهوات.

وفي هذا الفصل نحاول البحث في القواعد والتطبيقات والأصول التي تحدد لنا كيفية تحقيق هذا البعد في حياة الأولاد، فهو لا يبحث في تفاصيل الأخلاق، بل يختص ببيان أصول هذا البعد وأسسه ومنابعه.

وقد قسمناه إلى ثلاثة مباحث، تكاد تحصر كل ما يتعلق به، وهي:

1. وقاية الأولاد من أسباب الانحراف، وهي أول عملية يقوم بها المربي، وهو كالأرضية لما بعده.

2. مظاهر الانحراف ومنابعها وكيفية علاجها، وهي العملية التالية لما قبلها، فالوقاية تسبق العلاج.

3. الفضائل الخلقية، وكيفية تنميتها وتحصيلها، وهي الهدف الأسمى من هذا البعد، وقد أخرناها، باعتبارها لا يمكن تحقيقها بدون تحقيق المرتبتين السابقتين.

ونحب أن ننبه هنا إلى أنا أكثرنا من النماذج والأمثلة في هذا الباب، لأهميتها من جهة، ولتكون نماذج لغيرها من جهة أخرى.

أولا ـ الوقاية من أسباب الانحراف

وهو أول ما ينبغي أن يهتم المربي به، كما يهتم في بداية عمر الصغير بتلقيحه من كل الأوبئة التي قد تصيبه، لأنه لا يمكنه أن يبني بناء أخلاقيا رفيعا ما دام هناك من يحمل المعاول لهدم ذلك البناء.

ويشير إلى هذه الناحية المهمة في التربية الأخلاقية خصوصا، بل في سائر النواحي التربوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرِّقوا بينهم في المضاجع)([1]) فقرن الاهتمام بالتفريق بينهم في المضاجع بالاهتمام بالصلاة نفسها، لأن الصلاة إنشاء وبناء، والتفريق وقاية من الهدم، والعاقل من يبني، ويقوي البناء، ثم هو يصوب نظره في كل ناحية مخافة الهدم.

انطلاقا من هذا سنتحدث في هذا المبحث عن أهم أسباب الانحراف وكيفية الوقاية منها، وقد رأينا من خلال استقراء الواقع أنها تعود إلى سببين كبيرين:

1. البيئة والمحيط بتياراته المختلفة، والأنماط الجديدة للحياة، والتي عزل على أساسها الوالدان من أن يكون لهما الحظ الأكبر في التربية.

2. وسائل الإعلام المختلفة، والتي صار لها تأثيرها الكبير في التربية سلبا أو إيجابا.

1 ـ البيئة والمحيط التربوي

لا خلاف في مدى ما للبيئة من تأثير عظيم في التربية ـ سلبا كان ذلك التأثير أو إيجابا ـ ويشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)

فهؤلاء المستضعفين لم يعذروا مع استضعافهم، بل اعتبروا من الظالمين لأنفسهم، بسبب أن استضعفاهم كان بسبب كسلهم وتثاقلهم إلى الأرض، فقد كان بإمكانهم أن يهاجروا، ولكنهم لم يفعلوا.

ولهذا، ورد في القرآن الكريم ربط الأمر بالعبادة ببيان سعة الأرض، قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت:56)، وقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)

وسر ذلك أن البيئة التي تحيط بالإنسان والتي تبدأ بالأسرة لتتعداها إلى كل ما يحيط به لها تأثيرها الخطير في استقامته أو استقامة من يربيه.

انطلاقا من هذا نحاول أن نذكر هنا بعض المسؤولين في هذه البيئة التربوية، والسلبيات التي قد تقع منهم، فيقع الأولاد بسببها في الانحراف.

الأسرة

وهي أول ما يتعرض له الطفل من المؤثرات البيئية، فلذلك كان لاستقرارها واضطرابها التأثير الكبير على سلوكه.

وقد بحثَت مؤسسة (اليونسكو) في هيئة الأمم المتحدة عن المؤثرات الخارجة عن الطبيعة في نفس الطفل، وبعد دراسةٍ مستفيضةٍ قام بها الاختِصَاصِيّون قَدَّموا هذا التقرير:(مِمَّا لا شكَّ فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجياً، والأسرة الموحدة التي يعيش أعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تَكيّف الطفل من الناحية العاطفية، وعلى هذا الأساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة مُرضِية، أما إذا شُوِّهَت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع)

وقد ذهب علماء النفس إلى أن اضطراب البيئة، وما تحويه من تعقيدات، وما تشتمل عليه من أنواع الحرمان، كل هذا يجعل الطفل يشعر بأنه يعيش في عالم متناقض، مليء بالغش والخداع، والخيانة والحسد، وأنه مخلوقٌ ضعيف لا حَولَ له ولا قُوَّة تجاه هذا العالم العنيف.

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي يبين عظم مسؤولية الوالدين في عجن طينة الصبي:(ما من مولود إلا ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)([2])

ولهذا نجد خطاب المربين في العادة موجها للآباء باعتبارهم المسؤول الأعظم عن التربية، كما قال الغزالي:(والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذَجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابلٌ لكل ما يُنقش، ومائلٌ لكل ما يُمال إليه، فإن عُوِّد الخبر وعُلِّمَه نشأ عليه وسُعِدَ في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه كل مُعلمٍ له ومؤدب)([3])

انطلاقا من هذا، فإن الأسرة يمكن أن تكون محلا صالحا للتربية، بحيث ينشأ الولد في ظلها مستقيما معتدلا مسلما، ويمكن أن تتحول إلى مستنقع آسن يخرج الأجيال المنحرفة الضالة عن سواء السبيل.

وهذا يستدعي البحث عن الشروط التي يمكن تحقيقها في الأسرة لينجح مسعاها التربوي، ولن نفصل الكلام في هذه المسألة هنا، فكل هذه السلسلة تبحث عن السبيل لتحقيق هذه الغاية المثلى، ولكنا سنقتصر هنا على بيان شرط أساسي في نجاح التربية، وهو حسن الاختيار.

ونريد به ما سبق أن ذكرناه في المجموعة الأولى من هذه السلسلة من حسن اختيار الرجل لزوجته، وعدم قبول المرأة بغير الكفء لها في دينها.

ويدخل في هذا الباب ما سبق ذكره في محله من هذه السلسلة من التشديد في الزواج بالكافرات، لخطرهن على تربية الأبناء، وقد قال سيد قطب في تعليل قوله بالحرمة:(ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم، فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام، وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر، والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك)([4])

وسر هذا التشديد على ضرورة اختيار الزوجة هو ما للأم من تأثير خطير على تربية ابنها، فالصبي في مراحله الأولى ـ والتي تبدأ من خلالها تربيته ـ يأخذ من أمه أكثر من أبيه، بل يمتد هذا التأثير فيما لو كان الأب مشغولا خارج البيت، وهو الأعم الأغلب، بحيث تنفرد الأم عادة بالتربية في أكثر الأوقات.

ولهذا جعل الشرع الحضانة لها في حال الافتراق، وقد روي في النصوص ما يدل على تعليل ذلك، وهو يدل على المسؤولية العظمى المناطة بالأم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنت أحق به ما لم تنكحي)([5])

 قال الصنعاني تعليقا على هذا الحديث:(الحديث دليل على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا أراد الأب انتزاعه منها، وقد ذكرت هذه المرأة صفات اختصت بها تقتضي استحقاقها وأولويتها بحضانة ولدها، وأقرها صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وحكم لها، ففيه تنبيه على المعنى المقتضي للحكم، وأن العلل والمعاني المعتبرة في إثبات الأحكام مستقرة في الفطر السليمة)([6])

ولهذا اعتبرها صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولة عن بيت الزوجية، فقال:(والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)

ووردت النصوص الكثيرة الآمرة بحسن الصحابة لها، ففي الحديث أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)([7])

وقد أثنى صلى الله عليه وآله وسلم على المرأة التي تتفرغ لأبنائها، وتنشغل بمصالحهن عن مصالحها، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ؛ أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على بعلٍ في ذات يده)([8])

ومثل هذا ما يروى عن أم سُليم، وهي إحدى السابقات إلى الإسلام، أنه لما قتل زوجها وكانت شابة حدثة، فقالت: لا أفطم أنسًا حتى يد الثدي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني، فوفت بعهدها وبرت بولدها، ثم لما قدم صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وكبر أنس أرسلت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخدمه ويتعلم من أدب النبوة ويعلمها.

قال أنس يذكر مظهرا من مظاهر تربية أمه له: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فسلم علينا، ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له فجئت وقد أبطأت عن أمي، فقالت: ما حبسك؟ أين كنت؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاجة فقالت: وما هي؟ فقلت: إنها سر، فقالت:(أي بني، لا تحدث بسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

وكان أنس يعرف لها تلك المنة ويقول:(جزى الله أمي عني خيرًا، لقد أحسنت ولايتي)

وقد ضرب القرآن الكريم المثل بدور الأم الخطير بقصة موسى u، فقد كان في أول طفولته تحب رعاية أم وصلت من الشفافية الروحية إلى درجة أن أوحى الله تعالى إليها، قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)

ثم تلقفته يد أخرى لها من الإيمان العظيم ما جعلها تقول: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم:11)

وأصبحت بذلك مثلاً ضربه الله للرجال والنساء المؤمنين، قال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ }(التحريم:11)

ومن نماذج الأمهات الصالحات في القرآن الكريم أم مريم التي نذرت ما في بطنها محررا لله، خالصا من كل شرك أو عبودية لغيره، داعية الله أن يتقبل منها نذرها، قال تعالى: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (آل عمران:35)

بل نرى توجهها الدائم لله، تخاطبه بحضور في أدق الشؤون، قال تعالى: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران:36)

ومنهن مريم ابنة عمران أم المسيح u، فقد جعلها القرآن الكريم آية في الطهر والقنوت لله، والتصديق بكلماته، قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12)

وهذا الدور الخطير للأم يستدعي تربية خاصة وتعليما خاصا يؤهلها للقيام بهذا الدور الخطير، كما قال الشاعر:

الأم مدرسةٌ إذا إعددتها

  أعدت شعبًا طيب الأعراقِ

وقال الآخر:

وإذا النساء نشأن في أمية

   رضع الرجال جهالة وخمولا

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

   هم الحياة وخلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

   أمًّا تخلت او أبًا مشغولا

وقد كتبت بعضهن بعض المقترجات في هذا لا بأس من سوقها هنا، فهي من فقه البدائل والحلول الشرعية، فمما اقترحته([9]):

غربلة المناهج الدراسية: بحيث يكون الغرض الأساسي من تلك الغربلة وإعادة الصياغة إعانة (المرأة الأم) في وظيفتها داخل منزلها الذي يُعد المقر الوظيفي الرئيسي لها ؛ لا أن يكون دور المناهج الدراسية تهيئة المرأة لتمارس وظيفة خارج المنزل، وفي حالة إعادة التكوين والصياغة هذه ؛ فإن المناهج ستساهم في دعم دور الأبوين في إعداد الفتيات للاقتناع أولاً بمهمتهن الأولى، ثم في التعرف على صور وأنماط عديدة لأصول التربية السليمة وطرقها، والتي من الممكن الانتقاء منها حسب عدد من المعطيات ووفقاً للظروف المواتية، وبهذا ستؤدي المناهج الدراسية دورين أساسين:

1. دوراً إعدادياً للمرأة للقيام بوظيفتها التربوية.

2. دوراً مسانداً ؛ حيث ستشكل المناهج معيناً نافعاً تستمد منه المرأة سبلاً وطرقاً تربوية ناجحة ونافعة.

الإعلام: نظراً لأن إعداد المرأة لممارسة وظيفتها التربوية يشكل ثقلاً عظيماً في النظرة الشاملة لمصلحة الأمة عموماً ؛ فإن إعادة اهتمامات الإعلام بتلك المسألة من الأهمية بمكان؛ وهو أمر يستلزم قيام جميع القنوات الإعلامية بإبراز ذلك الدور والتركيز على ممارسة المرأة دورها بنفسها ؛ فهي وظيفة لا يجوز فيها التوكيل، بل إن تصدي المرأة لدورها بنفسها بوصفها أيضاً مربية يعد مسلكاً عظيماً في رقي الأمة، بل هو الطريق الأساسي لتحقيق آمال الأمة ثم إعادة صياغتها فعلياً عبر التربية إلى نواتج قيِّمة تضاف إلى رصيد الأمة الحضاري، ولأجل ذلك فإن من الضروري أن تضع وسائل الإعلام ضمن أهدافها تبني المفهوم القائم على أن رقي الأمة مطلب إسلامي حضاري لن يتأتى إلا من خلال إعادة تكوين النظريات التربوية وتأسيسها بما يتفق مع الأصول والمصادر السليمة التربوية المعتمدة على المصادر الإسلامية، وأيضاً من خلال إعداد الكوادر التي تستطيع ترجمة تلك النظريات إلى واقع ؛ أي العناية والتشجيع لإعداد المرأة الأم المربية التي تمتص ما يجب أن تفعله لتعيد تكوينه رحيقاً تربوياً يداوي جراح الأمة.

تبني مسؤولية التربية: لا تستطيع المرأة أن تؤدي دورها التربوي ما لم تتبنَّ تلك القضية وجدانياً من خلال حملها لهمّ التربية، ويقينها التام بدورها في إعداد الفرد، وانعكاس ذلك على صلاحه وصلاح الأمة، ثم سعيها الدؤوب نحو تزويد من تعول تربوياً بما صح وتأكد من مغانم تربوية كسبتها من خلال ما نالته في رقيها التربوي الإسلامي، ويتأتى ذلك عن طريق دعم حصيلتها العلمية الشرعية ؛ إذ إن جزءاً من مهامها التربوية يعنى بتشكيل عقيدة الأبناء ومراقبتها، وتعديل أي خلل يطرأ عليها.

الخادم

سبق أن ذكرنا في (الحقوق المادية للزوجة) أن أكثر الفقهاء نصوا على اعتبار الخادم حقا من حقوق الزوجة على زوجها، وقد رجحنا ـ هناك ـ عدم اعتبار الخادم حقا من حقوق الزوجة لـ (عدم ورود أي دليل صريح في وجوب إخدام الرجل لزوجته، ولا دليل يدل عليه من المصالح الشرعية، بل هو من الرفاهية التي قد يحسن بها الرجل إلى زوجته، وتكون مستحبة بذلك، وقد يكون من الترف الذي تضيع بموجبه الحقوق وتقع الحرمات فيحرم بسبب ذلك)

وقد رجحنا ـ من الوجهة الواقعية ـ أن (ما نراه ربما يوجه القول إلى الحرمة أكثر من توجيهه للاستحباب، فالخادم تهان، وقد يستعلى عليها، وقد تتهم في عرضها، والزوجة تتربع في بيتها، كسلطانة على عرشها، تأمر وتنهى، ولا تنشغل بغير زينتها، وبغير أخلاق الترف التي زاد فيها استخدامها للخدم، فهي رعناء كسول مستعلية متكبرة.. وقد ترمي بأولادها إلى الخادم تطعمهم، وتسقيهم، وتربيهم كما تشاء، فلا يعرفون إذا شبوا أما لهم غير الخادم، أما أمهم فهي منشغلة عنهم بنفسها أو ترفها)

ونحن لا نتراجع عن ذلك الترجيح هنا، وإنما نريد تأكيده بالأخطار الكبيرة التي يجرها الخدم على أولاد المسلمين، وسنفسح المجال للدراسات والإحصائيات لتثبت ذلك وتؤكد ما رأيناه من ترجيح.

وسنذكر هنا آثار الخدم سواء على ما ذكرنا من أبعاد التربية أو أساليبها أو على الحقوق النفسية للطفل:

فللخدم ـ على حسب ما نرى في الواقع، وعلى حسب ما تدل الإحصائيات ـ تأثير كبير على الأبعاد التي جاء الشرع لترسيخها في نفس النشء المؤمن الصالح، وكأمثلة على ذلك:

على التربية الإيمانية: أفادت إحدى الدراسات الميدانية في إحدى الدول الخليجية أن (60 – 75%) غير مسلمات، وأن (97.5%) منهن يمارسن طقوسهن الدينية، ونسبة كبيرة منهن وثنيات، كما أن (50%) منهن يقمن بالإشراف الكامل على الأطفال وأن (25%) منهن يكلمن الأولاد في قضايا الدين والعقيدة.

فكيف يتسنى للطفل أن يتربى تربية إيمانية سليمة وقوية، وهو يتعرض لهذه الزوابع العظيمة من دواعي الانحراف؟

على التربية الأخلاقية: أثبتت الدراسات الميدانية أن (58.6%) من الخادمات (المربيات) جئن من مجتمعات تحبذ إقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج، فلا يتورعن عن الاختلاط بالرجال، ولا مانع لديهن من تناول الخمر والسجائر، والأغرب من ذلك أن (68.3%) منهن لا تزيد أعمارهن عن العشرين، و(42.4%) منهن لم يسبق له الزواج.

وفي دراسة أُخرى دلّت على أن (58.6%) منهن يحبذن ممارسة الجنس قبل الزواج، و(36.2%) منهن جئن من مجتمعات تتناول أطعمة محرمة، و(43%) منهن جئن من مجتمعات تتناول الخمور بصورة عادية، و(14%) منهن يستقبلن أصدقائهن (الرجال) في البيوت التي يعملن بها و(51.18%) منهن يشرحن لأطفالهن عن حياة الأطفال في مجتمعاتهن.

على البعد المعرفي: فالمربية أتت من مجتمعات مختلفة في ثقافتها ولغتها، وهي نفسها قد تكون ضائعة بين ثقافتين، حائرة بين نظامين، فلا هي تجيد اللغة العربية حتى تنقل ثقافتنا العربية الإسلامية للطفل، ولا هي تستطيع نقل ثقافتها الأجنبية والنتيجة عزلة عن ثقافته.

ولا شك أن الخادمات والمربيات يحاولن تنشئة الأبناء حسب قناعاتهم، فهي إن كانت مثقفة – كما هو الحال في الأسر الغنية – فإنها تؤثر في الأطفال أكثر من والديهم لإنشغال الوالدين وتخليهما عن مهمة التربية للخادمة (المربية)، بدعوى أنها مثقفة ومتخصصة في التربية، كما أن لهؤلاء المربيات – في تلك الأسر – مقدرة على الإقناع والتأثير على الوالدين، فضلاً عن الأبناء.

وبالتالي تنقل عدوى المفاهيم غير الإسلامية إلى البيوت المسلمة، فالمربية هي التي تختار ملابس الأطفال وبخاصة البنات، وهي التي تؤثر عليهن في نظرتهن إلى الحجاب والأزياء، وغير ذلك من الآداب والأخلاق.

زيادة على هذا، فإن لها تأثيرها الخطير على اللغة، فمن المعلوم أن المربية تلازم الطفل في مرحلة نموه الأولى والتي يكتسب فيها اللغة، ومن البديهي أن الطفل يلتقط منها ما يسمعه من ألفاظ، فيها من العربية الركيكة، والإنجليزية الركيكة، والأوردو وغير ذلك، مما يعتبر حاجزًا يعوّق نمو الطفل اللغوي، إذ يضطر إلى محاكاتها.

وقد دلّت الدراسات على أن (8%) من مجموعة المربيات في بعض دول الخليج لهن إلمام باللغة العربية، وفي بعض الدول الأخرى (6.2%) فقط، وأن (25%) من أطفال الأسر الغنية يقلدون المربيات في اللهجة، وأكثر من (40%) منهم تشوب لغتهم لغة أجنبية، ويتعرضون لمضايقات من أقرانهم بسبب ذلك.

على أساليب التربية الشرعية: ذكرنا في الجزء السابق أهمية الأساليب التربوية الصحيحة في التنشئة السليمة للأولاد، فهي ركن من أركان التربية لا يستغنى عنه، وقد ذكرنا الكثير من الأمور التي قد تسيء إلى تربية الطفل، والتي نرى الخدم منبعا من منابعها، وكأمثلة على ذلك مما تدل عليه الدراسات:

القدوة السيئة: فالطفل مولع بتقليد من يراه – مع ضعفه واعتماده على من حوله – من الكبار، ومع ما ذكرناه من أحوال هؤلاء الخدم، هل ستناط بهم مسؤولية تربية وإعداد جيل المستقبل؟ ومن يكون القدوة لهم في البيوت، للتفريق بين الحلال والحرام عند غياب الوالدين ووجود الخادمة؟!

الجزاء: ذلك لأن القيم تُصاغ في نفس الطفل منذ طفولته المبكرة، من خلال تفاعله مع ما حوله ويتشرب موازين الحكم على الأشياء والأفعال، والخير والشر، ومع ما هو معروف من أحوال الخدم والمربيات، هل نتوقع قيمًا سوية؟ فإن الخادمة قد تكافىء الطفل على أفعاله القبيحة وتعاقبه على أفعاله الحسنة، وإذا وجدت مؤثرات تربوية إيجابية سوية كالمدرسة والوالدين والمسجد وغير ذلك، فإنها معرضة للتشويش والنقض في نفس الطفل بتلك الأخرى السلبية.

افتقاد القوامة التربوية: فالمربية (الخادمة) التي تقوم عن الطفل بجميع المهام، وهي مطالبة بأن تبادر إلى خدمته وطاعته في كل ما يريد ويرغب، فهي تريد إرضاء الطفل، ولا تفكر في لومه أو عقابه لأنها (خادمة) وحينئذٍ لا يستطيع الطفل أن يفرق بين الخير والشر، وبالتالي لا ينمو ضميره بل إن ذلك ينسحب في نفس الطفل وفي سنواته الأولى – خاصة – على مدرسيه – فقد لاحظنا بعض الأطفال – وبسذاجة وعفوية وبراءة – يتوقع من أُستاذه ما يراه من الخادمة.

التدليل السلبي: والذي يؤدي إلى الاتكالية التي تنتج الإخفاق والفشل، حيث لا يعتمد الطفل على نفسه، وإنما تقوم عنه الخادمة بجميع المهام فينشأ بعيدًا عن النشاط، قريبًا من الكسل، ومن وجد كل أمر يُهيأ له دون عناء أنّى له أن يسعى وأن يحاول، وبالتالي يتعرض للإخفاق في أول احتمال له.

كما يؤثر ذلك على تفاعله وانسجامه مع المجتمع، حيث لم يتدرب على تحمل المسؤولية، لذا نجده عندما يخرج من بيته ويتعامل مع قوانين المدرسة والمجتمع، سرعان ما يضيق ذرعًا بما يواجهه من مواقف، أو ما يطلب منه من تكليفات.

على الحقوق النفسية: فالمربية (الخادمة) غير مؤهلة لإشباع عاطفة الأمومة عند الأطفال، فالعواطف لا تدخل ضمن وظيفة المربية، وإنما تفيض تلقائيًا من قلب الأم إلى أبنائها، والنتجية أن ينشأ الطفل في حياة ينقصها الحب والعطف فتتولد عنده الميول العدوانية.

كما أن وجود المربية يُضعف علاقة الطفل بوالديه، فإن عاطفة الطفل توزع على من يرعاه ويُحسن إليه.

وللطفل حاجات في أن يكون موضع تقدير ومحبة الآخرين، وأن يبادلهم نفس المشاعر والانفعالات، والخادمة غير مؤهلة لذلك. فمن يستطيع أن يجبرها على أن تكون سعيدة ومبتسمة دائمًا في وجهه، كما هو شأن الأم مع أبنائها، ومن الذي يطالبها أن تتكلف ما لا تستطيع، وهي البعيدة عن أسرتها وموطنها، تفتقر إلى الأمن النفسي، وفاقد الشيء لا يعطيه.

وبسبب هذه الآثار السلبية السيئة التي يفرزها هذا المرض الداخلي العُضال على المجتمع الخليجي، خاصة، سارع مكتب التربية العربي لدول الخليج إلى توجيه كتاب إلى مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية في الدول العربية الخليجية في دورته الرابعة بالرياض (يناير 1982م) والذي نظم بدوره ندوة علمية حول أثر المربيات الأجنبيات على تقاليد الأسرة المسلمة في منطقة الخليج، ناقشت المخاطر الناجمة عن الآثار الاجتماعية والدينية والثقافية والتربوية للمربيات الأجنبيات على المجتمع الإسلامي.

المحيط التربوي

ونريد به المحيط الذي يتلقى فيه الولد تعليمه، وبالتالي يتلقى تربيته، فلكل طرف من الأطراف المكونة لذلك المحيط تأثيره التربوي الخطير، ولن نتحدث هنا ـ كما سلف الذكر ـ عن إيجابيات هذا المحيط أو ما ينبغي حوله، فقد خصصنا لذلك فصلا خاصا، وإنما نريد أن نتحدث عما يمكن أن يتعرض له الولد في هذا المحيط من مؤثرات سلبية يتحتم على القائمين المصلحين أن يقوموها، وأول التقويم الوقاية.

فمع أن المناهج الحديثة لا تخلو من الإيجابيات إلا أن هناك سلبيات كثيرة يتعين على المربي أن يتعرف عليها ليقي من يربيه من نتائجها، ونحن من خلال استعراض هذه الآثار والنتائج ـ كما ينص عليها المختصون ـ لا نقول بمقاطعة هذه المناهج ولا ننصح به، ولا نرى صحة فتوى من يفتي بذلك، بل نرى أمرين:

الأول: السعي الدؤوب لتغيير هذه المناهج لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، وذلك بالتخطيط طويل المدى، لنواجه تخطيط غيرنا، وهذا التخطيط يستدعي حضورنا في هذه المناهج، بل تفوقنا فيها، لا غيابنا، بل إن الآثار الخطيرة لغيابنا هي التي أفرزت هذا الواقع.

الثاني: هو وضع المناهج البديلة لمقاومة سلبيات هذه المناهج، والتي سنوضح تصرورنا لها في محلها الخاص من الفصل الخاص بالبعد التعليمي.

2 ـ وسائل الإعلام

وهي من الأهمية والتغلغل في المجتمع والتأثير بحيث يمكن اعتبارها موازية لما سبق من مؤثرات، فلذلك خصصناها بمطلب خاص، والذي من خلاله نحاول أن نبين كيفية الوقاية من آثار وسائل الإعلام([10])، وكيفية الإفادة منها من جهة أخرى باعتبار الإعلام في العصر الحالي أصبح من أخطر الأدوات ـ سلبا أو إيجابا ـ فقد تطورت وسائل الإعلام ومضامينه تطورا كبيرا مستغلة التطورات التقنية المتسارعة حتى وصلت إلى ما نعرفه من التلفاز والإذاعة والصحافة والإنترنت وغيرها.‏

فالإعلام ـ في هذه الوسائل جميعا ـ يخاطب كافة شرائح المجتمع، ومنهم الأطفال، والطفل – وهو المستقبل لوسيلة الإعلام- عنصر غض طري سهل التشرب لما ينقل إليه، فصفحته البيضاء قابلة للإشباع بأي شيء يقدم له.‏

وتأثر الطفل بالوسيلة الإعلامية أعظم وأشد من الكبير، فالكبير يفكر ويدرك ويميز ويختار ويرفض، أما الصغيرفيفتقد الكثير من القدرة على الرفض بل حتى عندما يربى على رفض بعض المواد الإعلامية فإنه سرعان ما يعود إليها عندما يغيب الموجه والمسؤول عنه، وليس الأمر عنادا إلا أنه يحسن الظن بكل ما يعرض عليه من الجانب الآخر كما يفتقد القدرة على الرفض المطلق ويضعف عن الاختيار والتمييز.‏

لذلك كان الطفل هدفا رئيسا لكثير من الأنظمة حيث يربى الطفل ويوجه لأهداف سيئة بجهود إعلامية وتوجيهية متأنية وتكبر معه هذه الوسائل الإعلامية لدرجة أنها تصبح جزءا من شخصيته عندما ينضج([11]).‏

انطلاقا من هذا سنذكر هنا أهم هذه الوسائل الإعلامية، مركزين على ما فيها من سلبيات بغية التنبيه إلى مخاطرها، معتقدين في نفس الوقت أنها من الوسائل التي يمكن الاستفادة منها إن أحسن المربي كيف يستثمرها، خاصة مع دخول الإعلام الإسلامي هذه الوسائل.

فمن الإيجابيات المتعلقة بالطفل على سبيل المثال لا الحصر([12]):

تنمية الجانب المعرفي للطفل: حيث تقوم وسائل الإعلام بمهمة التعليم سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر وتكون مرتبطة بما يقدم خلال المدرسة وأحيانا تقدم مواد تعليمية لطفل ما قبل المدرسة.‏

تنمية وصقل مهارات الطفل: حيث تعنى الكثير من هذه الوسائل بتنمية المهارات سواء ما تعلق منها بالعمل اليدوي، أو ما تعلق بالقدرات الذهنية والعقلية، ومع ذلك فقد تكون هذه المهارات إيجابية ضمن أهدافها مثل التجارب العلمية، وقد تكون سلبية مثل سلوكيات المجرمين وحيلهم التي تعرض في القصص على سبيل المثال.‏

الارتباط بالمجتمع: حيث يربط الإعلام الطفل بمحيطه وبيئته وييسر له سبل التواصل معه بشكل سهل وفعال ويحبب له الجماعية في العمل ويؤكد له ارتباطه بقيم المجتمع وأخلاقه وسلوكه وقبل ذلك دينه وشريعته إذا كانت الوسيلة الإعلامية تعتني بهذه المواضيع وتجعلها ضمن أهدافها وقد يكون الأثر عكس ذلك تماما إذا كانت الوسائل الإعلامية لا تقيم اعتبارا للقيم والأخلاق والدين.‏

الترويح: وهذا الأمر ليس ترفا أو رفاهية بل واقع ويسد حاجة لدى الطفل لكن لابد أن يتناسب مع سن الطفل وقدراته وبيئته ولا يتعارض مع واجباته الأخرى ومسؤولياته.‏

بعد هذه الأمثلة عن بعض منافع وسائل الإعلام نعرج إلى بعض السلبيات لتوقيها، وقد اخترنا لذلك ثلاث وسائل إعلامية، هي أهم الوسائل وأكثرها انتشارا، وهي التلفزيون، والمجلة، والإنترنت.

التلفزيون

وهو من أهم وسائل الإعلام وأكثرها انتشارا، بحيث لا يكاد يخلو بيت منه، بل من كل الأجهزة المرتبطة به، والتي تتيح استقبال قنوات العالم أجمع، وقبل أن تحدث عن السلبيات التي ينبغي على المربي حماية من يربيه عنها، نذكر ـ للذين يتصورون أن مجرد رمي هذه الوسيلة بالسلبية تحجر ممقوت ـ بعض أقوال عقلاء الغرب، ممن رأى خطورة هذه الجهزة على إنسانية الإنسان([13]).

يقول يوري ديو زيكوف وهو أخصائي اجتماعي:(إدمان مشاهدة التلفاز وباء سيكولوجي جديد يعم كوكبنا ؛ إنه إذ يسلِّينا يلوث طبيعتنا السيكولوجية والحِسِّية)([14])

وذهب الكاتب الأمريكي (جيري ماندر) في كتابه (أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون) الذي أودعه خلاصة تجربته في حقل الإعلام إلى القول:(ربما لا نستطيع أن نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية والقنابل النيوترونية، ولكننا نستطيع أن نقول (لا) للتلفزيون ونستطيع أن نلقي بأجهزتنا في مقلب الزبالة ؛ حيث يجب أن تكون، ولا يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجهاز من تأثيرات على مشاهديه، هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل لا تنفصل عن تجربة المشاهدة)([15])

 وأضاف:(إنني لا أتخيل إلا عَالَماً مليئاً بالفائدة عندما أتخيل عَالَماً بدون تلفزيون، إن ما نفقده سيعوض عنه أكثر بواسطة احتكاك بشري أكبر، وبعث جديد للبحث والنشاط الذاتي)([16])

أما السياسيون، فقد ناشد (هيلموت شميت) مستشار ألمانيا الغربية السابق (الآباء والأمهات أن يغلقوا أجهزة التلفزيون على الأقل يوماً واحداً خلال الأسبوع)، وقد رفض رئيس جمهورية فنزويلا أن يسمح بإدخال التلفزيون الملون إلى بلاده، زاعماً أنه سيكون دافعاً جديداً لزيادة الروح الاستهلاكية المحقونة)([17])

وحكى الأستاذ مروان كجك أن صديقاً له زار أستاذه الجامعي في بيته وكان هذا الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون فسأله عن سبب ذلك فأجاب:(أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟)([18])

بعد هذه الشهادات، فإن من أهم الآثار الخطيرة لهذا الجهاز:

التغريب: وهو من أعظم الأخطار، لأنه لا يتعلق بالسلوك وحده، وإنما يتعلق بالحياة جميعا، حيث أنه يشيع نمطية معينة من الحياة بفكرها وسلوكها هي نمطية الإنسان الغربي، باعتباره المصدر الأول للمواد الإعلامية.

 وفي دراسة أجراها اليونسكو تذكر:(إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن)([19])

وفي تعليقه على دخول البث المباشر إلى تونس قال الأستاذ فهمي هويدي:(خرج الاستعمار من شوارع تونس عام 1956م ولكنه رجع إليها عام 1989م لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسِرَّة نومنا. رجع ليقضي على الدين واللغة والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب، نتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد لا كاستعمار الأرض وإنما استعمار القلوب، إنه الخطر الذي يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء والأمهات)([20])

وفي بحث كتبه جون كوندري حول التلفزيون والطفل الأمريكي أكد أن البيئة القيمية للتلفزيون يشوبها الخلل بنفس القدر الذي يشوب البيئة الفكرية، ومن خلال ما تطرحه الإعلانات التلفزيونية كانت قيم السيطرة والنفعية والأناقة والتميز الاجتماعي من أكثرها ورودًا، وكانت قيم الشجاعة والتسامح من أقلها ورودًا ؛ هذا بالإضافة إلى تحريف الحقائق والقيم حول الجريمة والعقاب.

وفي نهاية البحث يقول جون كوندري: إن التلفزيون لا يمكن أن يكون مفيدًا كمصدر للمعلومات للأطفال ؛ بل إنه يمكن أن يمثل مصدرًا خطرًا للمعلومات ؛ فهو يقدم أفكارًا تتسم بالزيف والبعد عن الواقعية، وهو لا يملك نسق قيم متماسكًا، بخلاف تعميقه للنزعة الاستهلاكية. وهو لا يقدم سوى قدر محدود من المعلومات عن الذات، وذلك كله يجعل من التلفزيون أداة رديئة للتكيف الاجتماعي)

وهذه النمطية هي التي حطمت، ولا زالت تحطم قيم مجتمعاتنا المحافظة، فتنشر الرذيلة، وتقتل الغيرة، فلا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئاً عادياً، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية، إلى غير ذلك من الأحوال.

فلهذا صرنا نرى البسطاء من الناس صاروا يقبلون أن يحتضن رجل بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه، وتعجب أن ترى الزوج المسلم يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه أمام التلفزيون، وهم يرون ما يعرضه من مشاهد إباحية، وتسكر أهله تلك المشاهد، ويلذ لزوجته وبناته وأبنائه هذه المناظر وهو قرير العين، يضحك ملء فيه، وينام ملء جفنه، وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان الفواحش، والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون التطبيع مع المعاصي والكبائر والدياثة([21]).

أما على مستوى العقيدة والفكر، فمن خلال سيطرة السوق الأمريكية واليابانية على مسلسلات وأفلام الصغار نرى انعكاس الاعتقاد في قوة الشمس والطبيعة والصليب وغيرها ؛ بل إن المسلسل يتضمن أحيانًا أكثر من رب، هذا بالإضافة إلى تشويه مسيرة الإسلام وقيمه من خلال المواد المعروضة.

أما على مستوى المثل العليا للإنسان، فإن هذه المثل أصبحت لا تعدوا الإنسان الغربي او من يلهث خلفه، يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها بعض طلبة مدرسة معروفة للمتفوقين يقول الكاتب:(كان المتوقع أن تكون الحلقة إلى آخر دقيقة فيها من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في التفوق. وسأل مقدم البرنامج الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة، وكانت الإجابات مذهلة ؛ فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي؟: عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي، نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور. قلت تعقيباً على هذه الإجابات: لم أكن أنتظر من هؤلاء المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى هو أبو بكر أو عمر أو علي أو خالد بن الوليد، بل كنت أتوقع أن يقول واحد منهم: إن مثلي الأعلى هو: أبي)([22])

الانحراف الخلقي: وقد رأينا أن الشريعة حرمت كل الوسائل المفضية إلى الانحراف مهما اختلفت ألوانه، والتلفزيون من أعظم وسائل الانحراف بمختلف أنواعه.

كالانحراف الإجرامي مثلا حيث توصلت الدراسات التحليلية إلى (أن التلفاز بما يعرضه من أفلام ومناظر إجرامية أو انحلالية([23]) قد يؤدي إلى انحراف كثير من النشء عن طريق ما تخلفه من خيالات يعيشها، كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين قد تناولتهم تلك الدراسة أن أحد الأفلام أثارت فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمتهم كيفية ارتكاب السرقات وتضليل البوليس، وشجعتهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم)([24])

وفي ولاية ميامي هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها بمؤخرة المسدس، وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماماً مثلما شاهدا في الأفلام البوليسية([25])

وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وكان عمر هذا الصغير ست سنوات([26]).

وكيف لا يحصل هذا، وقد أحصت إحدى المجلات الفرنسية مشاهد العنف التي رآها المشاهدون خلال أسبوع واحد من شهر أكتوبر 1988، فكانت كالتالي:670 جريمة قتل، 15 حالة اغتصاب، 848 مشاجرة، 419 حالة تراشق بالرصاص أو انفجار، 14 حالة خطف أو سرقة، 32 حالة احتجاز رهائن، 27 مشهد تعذيب، علمًا أنه لم يؤخذ بالحسبان مشاهد العنف النفسي أو اللفظي أو الإيجابي.

والدراسات الغربية كافة تؤكد أن الذين يقومون بالأعمال العدوانية هم من المدمنين على مشاهدة برامج التلفزيون العنيفة ؛ وقد أثبت باحثان أمريكيان أن معدل انتحار المراهقين ازداد بنسبة 13.5% لدى الفتيات و5.2% لدى الصبيان خلال الأيام التي تعقب الإشارة أو الإعلان عن وقوع حالة انتحار في الأخبار المصورة أو في أحد الأفلام.

أما الانحراف الجنسي، فحدث ولا حرج، فكثير من الأطفال في بداية سن المراهقة أو قبلها بقليل يشاهدون التلفزيون على أنه مصدر للمعلومات حول السلوك الجنسي ؛ وهو يصور الجنس على نحو زائف ومحرف، وعلى وجه حيواني لا يراعي قيمًا ولا مُثلاً ولا آدابًا.

وهو لذلك أعظم وسيلة لقتل الحياء الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم:(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت)([27])، فمن أخطر مفاسد التلفزيون هو القضاء على ذلك الخلق الفطري الأصيل.

أخطاره على الصحة النفسية: تكاد الدراسات العلمية التي أجريت لدراسة آثار التلفاز على الصحة النفسية تجمع على ما يلي:

1. أنه يدرب مشاهديه على الكسل الذهني، ويشيع فيهم روح السلبية، ويجعلهم إمَّعات يميلون مع الريح حيث مالت، وأنه ينفث في روعهم روح (عدم المسؤولية) والاستسلام، والانهزامية، ويصرفهم عن معالي الأمور، ويشغلهم عن الأهداف السامية، ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم([28]).

2. أنه يولد الغلظة في المشاعر، والبلادة في الحس، كما تؤثر المسلسلات البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية الأطفال([29]).

3. أنه يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيشوه مفاهيمهم مبكراً.

4. التعود على الضجيج والصخب الذي يضر بحاسة السمع فيسبب كثيراً من حالات الصداع والاضطرابات العصبية والتوتر.

5. تعلق قلب الشباب المراهقين بمذيعة أو ممثلة أو مغنية حسناء، وابتلاؤه بمعصية العشق الذي يتلف الدنيا والدين، والأخطار نفسها يخشى منها على الفتيات اللائي هن أضعف قلوباً وأسرع استجابة لداعية الهوى.

المجلات

وهي من وسائل الإعلام التي لها أهميتها الكبرى في التثقيف والتوعية، ولها خطورتها كذلك على السلوك الأخلاقي، أو القيم التي لها أثرها الخطير في التربية، وسنركز هنا على المجلات المختصة بالأطفال([30])، ونكتفي منها بذكر نموذج من تأثير هذه المجلات على غرس العنف في نفوس الصغار.

ولن نذكر هنا آثار المجلات الغربية، فإن سمومها تتعدى العنف إلى غيره من جميع مظاهر الانحراف، بل سنذكر بعض المجلات العربية، وذلك على ضوء دراسة حول (صحافة الطفل في العالم العربي وتأثيرها على شخصيته واتجاهه نحو العنف والعدوانية)، وهو موضوع رسالة دكتوراه التي تقدمت بها الباحثة (سحر فاروق الصادق) إلى كلية الإعلام جامعة القاهرة([31]).

فقد تناولت الدراسة أربعة عناصر أساسية هي مضمون العنف ووسيلته مجلات الأطفال، وجمهوره وهم قُرّاء هذه المجلات، ثم كُتّاب السيناريو والرسامون القائمون بالعمل.

ورصدت الدراسة مظاهر العنف المقدم للطفل من خلال مجلاته، وتحليل ملامح هذا العنف، ومعدلاته المنشورة في قالب قصصي فقدمت دراسة تحليلية لتسع مجلات للأطفال تمثل ست مجلات مصرية هي علاء الدين، وميكي، وسوبر ميكي، وسمير، وكابتن سمير، وقطر الندى، إلى جانب ثلاث مجلات عربية هي العربي الصغير، وماجد، وباسم، بمجموع (104) أعداد منها في الفترة من يناير حتى ديسمبر 1997م. ثم قامت بدراسة جمهور الأطفال القارئ لهذه المجلات وقوامه (400) طفل تتراوح أعمارهم ما بين (11 و16) عامًا وينتمون جميعًا لمرحلة التعليم الإعدادي وتم أخذ العينة من أحياء شعبية وصناعية وراقية (الدقي – بولاق الدكرور – حلوان – مدينة نصر)، ومن مدارس مختلفة (حكومية – تجريبية – خاصة)، ومن الصفوف الدراسية الثلاثة (الأول والثاني والثالث الإعدادي)، ومن الذكور والإناث، وداخل كل حي من الأحياء الأربعة تم اختيار أربع مدارس بشكل عشوائي بمعرفة الإدارات التعليمية التابعة لها هذه الأحياء بحيث تتمثل بها أنواع المدارس الثلاث المذكورة، وداخل كل مدرسة من خلال قوائم الفصول لسنوات الدراسة تم تحديد فصل في كل سنة دراسية تبعًا لعدد فصولها بالمدرسة، وتم اختيار الأطفال من داخل الفصول مع مراعاة العدد الكلي داخل كل فصل والتمثيل النسبي للإناث والذكور وأجاب (99%) من أطفال العينة بأنهم يقرأون مجلة للطفل أما من يتابع مجلتين أو أكثر فكانت النسبة (54.1%).

وكشفت نتائج الدراسة عن ارتفاع معدلات العنف المنشور في صحف الأطفال المصرية والعربية بشكل يدعو إلى القلق، حيث بلغت نسبة القصص التي تحمل عنفًا (40.4%) من إجمالي القصص موضوع الدراسة.

وبدت مجلات سوبر ميكي، وميكي، وباسم، على رأس قائمة صحف الأطفال من حيث كم العنف المنشور على صفحاتها، بينما بدت مجلات علاء الدين، وقطر الندى،والعربي الصغير، أقل صحف الدراسة من حيث العنف المقدم بها، واتسم العنف المنشور بمجلات الأطفال بسمات تمثل في مجملها عوامل جذب للطفل نحوه، كما بدت النسبة الكبرى من مظاهر العنف المنشور نابعة من دوافع اجتماعية مألوفة للطفل يمكنه فهمها والتفاعل معها، كما ظهرت أماكن العنف قريبة من واقع الطفل يمكنه تقليدها، الأمر الذي يقرّب العنف من عقله ويمكّنه من اختزان صوره وأحيانًا تقليده.

وكانت مظاهر العنف عنفًا بدنيًا مثل:(الضرب – مطاردات – تكسير أشياء – تلويح أو ضرب بالسلاح – دفع الآخرين بعنف – قتل – اغتيال – سرقة – اختطاف)، أو عنفًا لفظيًا مثل:(السب والقذف والتشبيهات الجارحة وكلمات التهديد بأعمال انتقامية، أو سخرية من الآخرين باللفظ أو بالضحك، أو الصراخ أو حتى كلمات التحريض والتهديد بالعنف)، ويتم تقديم هذه المادة في سياق يخلو من أي أشكال للعقاب، بل قدم البعض منها في شكل ينصف القائم به.

وأوضحت الدراسة الارتفاع الواضح في نسبة الميول العنيفة لدى أطفال العينة، وكشفت النتائج عن زيادة هذه الميول بين من يتعرضون لوسائل الإعلام، مما يؤكد دعم وسائل الإعلام لتلك الميول لدى الأطفال، وتبين أن اتجاهات الأطفال الذين يتخذون قدوتهم من النماذج الإعلامية (الأبطال والشخصيات الكرتونية والدرامية وغيرها)، قد بدت مرتفعة نحو العنف بينما كانت منخفضة لدى من يتخذون قدوتهم من نماذج الاتصال الشخصي (الأب – العم – المدرس) وأوضحت الدراسة كذلك أن هناك دوراً إيجابيًا للتنشئة الأسرية يتعلق بمعاملة الأبناء ومشاركتهم بالمناقشة لما يقرأون، أو هذا الدور يكون إيجابيًا مع الأبناء إذا بدأ في سن مبكرة، تكون فيه اتجاهات الأطفال نحو العنف منخفضة، بينما يتضاءل هذا الدور إذا بدأ مع الأبناء في سن متقدمة يكون الأبناء قد كوّنوا اتجاهاتهم العنيفة بالفعل.

وأظهرت الدراسة أيضًا أن الطفل إذا تعرض أو لاحظ بشكل دوري مجموعة من الأبطال يمارسون العنف فإنه يمكن أن يتعلّم العنف منهم، وأحيانًا يمكنه تقليدهم، خاصة إذا كان سياق العمل يبرز العنف في صورة حسنة يحقق لصاحبه مزايا، كذلك عدم وجود أي شكل من أشكال العقاب، كذلك كلما تزايد معدل قراءة الأطفال لمضامين عنيفة زادت لديهم الاتجاهات المرتفعة نحو العنف، وتمثلت هذه النتيجة بشكل كبير لمن ينتمون لبيئة عمالية وفي مراحل عمرية متوسطة (13-14سنة) وينتمون للتعليم التجريبي.

وإذا تعرض الطفل لظروف تنشئة أسرية سلبية تزداد اتجاهاته نحو العنف ويتضح هذا الأمر بين أبناء التعليم الخاص والمنتمين لبيئات عمالية.

وقدمت الدراسة حصرًا لحجم العنف، فتم رصده تبعًا لعدد القصص العنيفة حيث بلغت نسبة القصص العنيفة (40.4%)، وجاء حجم العنف تبعًا لعدد صفحاته (الصفحات الكاملة من العنف) نسبتها (26.8%)، وتبعًا لعدد البراويز العنيفة التي تضمنتها قصص الرسوم المتتابعة المصورة (33.5%)، وعلى نطاق القصص الأدبية التي تقدم للطفل في شكل أسطر بلغت نسبة الأسطر العنيفة بها 12.3% وهي أقل نسب العنف المنشور. كذلك أوضحت الدراسة أنه كلما كان مضمون القصة مترجمًا كانت نسبة العنف مرتفعة بعكس لو كان كاتب القصة عربيًا.

كذلك قامت الباحثة بدراسة ثمانية عشر مبدعًا وهم من المنتجين والمنتظمين في نشر أعمالهم الخاصة بالطفل في المجلات المذكورة، وأوضحت الدراسة أن هناك اتجاهًا سائدًا بين العاملين في حقل الطفل يقر تقديم العنف ونشره للأطفال من منطلق ضوابط لا تحد من تأثيره السلبي على الطفل، كذلك تساعد الأوضاع الصحفية والمادية لصحف الأطفال على دعم تقديم العنف عبر صفحاتها وذلك لعدم تحقق الدور التربوي والاجتماعي لهذه الصحف، إضافة إلى اتجاه القائمين على هذه الصحف لتعويض انصراف الأطفال عن صحافتهم بتقديم العنف، لهم في محاولة منهم لإعادة جذب الطفل لمطبوعاتهم. كذلك تساعد الأوضاع المهنية على نشر العنف، فالقائمون على سياسات التحرير لا يمانعون في تقديمه، والمناخ المجتمعي أصبح العنف أحد مظاهره حيث يتفاعل المبدعون معه فتولد أفكارهم مشبعة به.

وتوصي الباحثة في نهاية دراستها بأنه إذا كان هناك ضرورة لتقديم مادة صحفية عنيفة للأطفال وحتى هذه النسبة القليلة لا بد أن تحتوي على ضوابط للحد من تأثير العنف المقروء على الطفل، بحيث ترتكز على زيادة ووضوح العقاب داخل القصة، ولا تتضمن أية نتائج لصالح مقترفي العنف.

وهذا ما يدعو إلى الاهتمام بالبديل الذي يقي النشء من أمثال هذه الانحرافات، وقد كتب بعض الباحثين المعاصرين مشروعا لمجلة إسلامية خاصة بالأطفال([32])، تكون بديلا عن الكم الضخم من المجلات التي تمتلئ بها الأسواق، وقد خلص في الأخير إلى بعض الخصائص التي تتصف بها هذه المجلة، لا بأس من سوقها هنا لأهميتها:

1. الاستفادة من التوجيهات التربوية المعاصرة بحيث تكون المجلة رافدا تربويا هاما للأطفال.‏

2. إدراك أهداف المجلة بشكل كامل وإنزال مواد المجلة على هذه الأهداف.‏

3. وجود متخصصين في أدب الأطفال وعلم التربية وعلم النفس إضافة إلى متخصصين في الشؤون الفنية قادرين على تحويل الفكرة إلى واقع عملي ملموس جذاب ومقبول للأطفال.‏

4. الوعي بخصائص الطفولة وحاجتها وميولها.‏

5. تحديد شخصيات المجلة بشكل دقيق بحيث تحقق أغراض المجلة من خلالها التنوع بين الأساليب الصحفية المستخدمة.‏

6. التنويع في المواد بما يشوق الأطفال ويحفزهم على القراءة.‏

7. الكتابة باللغة العربية البسيطة وبأسلوب سهل قادر على إيصال الرسالة المطلوبة للمرحلة العمرية المقصودة.‏

8. التوازن بين القصص المصورة وباقي مواد المجلة بحيث لا تطغى الأولى على صفحاتها.‏

9. الاستفادة من الفنون المعاصرة في الإخراج والتصميم والطباعة.‏

10. إشراك الطفل في تحرير أجزاء من المجلة.‏

لذلك لابد من مراعاة ما يلي في مجلات الأطفال:‏

1. أن يكون الكاتب -ما أمكن- من المختصين بأدب الأطفال.‏

2. عدم تكثيف المادة والموضوعات.‏

3. مراعاة السن.‏

4. التنوع في المواد.‏

5. البعد عن التكرار المتماثل.‏

6. التجديد والتنوع في القالب الفني والأساليب المستخدمة بين فترة وأخرى.‏

7. استخدام الصور والرسوم بشكل جيد يغري بالاطلاع.‏

8. الاستفادة من الإمكانات الحديثة في التصميم والإخراج والطباعة فالطفل يميز بين هذه الأمور والألوان عنصر أساس في تذوق الطفل للمادة.‏

9. التشويق في المحتوى.‏

10. التواصل مع الطفل من خلال مساهماته ونشرها.‏

11. البساطة وسهولة الفهم بالنسبة للمادة المطروحة.‏

12. الحركة والحيوية في الجانب الفني والموضوعي.‏

13. الأسلوب السلس الخفيف المناسب.‏

14. عدم إغفال جانب المرح والفكاهة المحبب للطفل.‏

الإنترنت

وهي من الوسائل المعاصرة، بل من أخطرها وأنفعها في نفس الوقت، ولذلك تحتاج مراقبة خاصة، لأن ما فيها من الخير لا يمكن أن يترك لأجل ما فيها من الشر، وما فيها من الشر يستدعي مراقبة مستمرة، ويستدعي مع ذلك جهودا جبارة من المخلصين ليضعوا من بدائل الخير، ومن قوامع الشر ما يضاعف خيرها، ويقمع شرها.

وبما أن غرضنا في هذا المبحث ذكر ذرائع الفساد في هذه الوسائل لتجتنب، لا ذكر نواحي الخير، فسننقل هنا من المختصين ما يبين خطورة هذه الوسيلة([33])، وهي خطورة لا تستدعي إيقافها أو منعها أو القول بتحريمها، وإنما تستدعي التوجيه والمراقبة المستمرة.

وقد كتبت إحدى المجلات بالشبكة تحت عنوان (أطفالك والإنترنت آمنون وسعداء دائماً):(الإنترنت مصدر إمتاع للأطفال سواء استخدمت للعب أو لأداء الواجبات ببرامجها المفيدة وصورها الجميلة وألعابها، ومع ذلك فهي لا تخلو من الخطر عليهم)

ثم تفصل بعض نواحي الخطر، فتقول:(رغم روعة الإنترنت إلا أنه لا يخلو من الأخطار خصوصاً على الأطفال ؛ وذلك بسبب العدد الضخم من المواقع غير اللائقة الموجودة في مواقع الويب ؛ لذلك فإن شبكة الإنترنت لا تعد المكان المناسب ليبحث الأطفال فيها ويجولون دون رقابة ؛ فهي تمتلئ بطوفان من المواقع التي تحض على العنصرية والضغينة، وتشجع على تعاطي المخدرات وصنع القنابل وكل الطرق الأخرى التي من الممكن جداً أن تؤثر سلباً على سلوك أطفالنا)([34])

وقد أخرجت دار الشبكة العربية عدداً بعنوان (الإسلام والإنترنت) وكان أحد المواضيع بعنوان (الطفل المسلم مظلوم)، ومما جاء فيه:(الطفل المسلم مظلوم على الإنترنت ؛ فلا يكاد يجد في المواقع الإسلامية ركناً يأوي إليه ويجد فيه ما يشد انتباهه ويشبع نفسيته ويراعي عقله… وإنما نشير إلى حقيقة أن هذه المواد جميعاً ليس فيها ما هو مصاغ خصيصاً للطفل يناسب عقله وتفكيره)([35])

وكتب آخر في مجلة (مفتاح الإنترنت) يقول:(للأسف لم نجد مواقع عربية للأطفال تهتم كما تهتم المواقع الأجنبية وتقدم لأطفالنا ما يقدمون سواء في المعلومات وروعة في التصميم، وكلنا أمل في رؤية شيء عربي ملفت وقيم)([36])

وكتب آخر في مجلة (عصر الحاسب) يقول:(دعا عدد من الخبراء المتخصصين في مجال الأمن على شبكة الإنترنت إلى وضع معايير فنية تحدد طبيعة المواقع التي يتعامل معها الأطفال وتحديد الفئات السنية المناسبة) إلى أن يقول:(وكان مسح أجراه مركز أن برج للسياسات في واشنطن الأمريكية قد أكد أن أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 8 – 17 سنة قد أبدوا رغبتهم في كشف أسرارهم على الإنترنت والأوضاع المالية لآبائهم مما يعتبر مؤشراً لنشر خلافات أسرية يتسبب فيها الأطفال عبر الإنترنت)([37])

وكتب آخر في مجلة (مفتاح الإنترنت) تحت عنوان (نصائح في التصفح الآمن) قال فيه كاتبه لأحد الأبوين:(نقول أخبر أطفالك ألا يعطوا أية معلومات عن مكان سكنهم أو عن أنفسهم. أخبرهم ألا يردوا على أية رسائل إلكترونية عن مصادر غير معروفة. أخبرهم أن يعلموك إذا استلموا أية رسائل إلكترونية غريبة. راقب أطفالك عندما يتحدثون عبر الإنترنت واعرف مع من كانوا يتخاطبون. أخبر أطفالك ألا يقابلوا أشخاصاً تعرفوا عليهم عبر الإنترنت مقابلة شخصية)([38])

وكتبت مجلة (آفاق الإنترنت)([39]) في زاوية (آباء وأبناء) بعنوان (لا تتكلم مع الغرباء) وبجانبه عنوان كبير هو (راقب أولادك) ذكر فيه المؤلف وأطال عن الأضرار والطريقة لحماية الأطفال، وبعض المواقع السيئة التي حصلت عليها لبعض الأطفال من جراء الاتصال بالإنترنت.

فهذه التحذيرات جميعا تدل على مبلغ خطورة استعمال هذه الوسيلة وخاصة مع النقص الشديد للمواقع الإسلامية الخاصة بهذا المجال.

فلهذا نجد في هذه الوسيلة كل أسباب الانحراف ووسائله، وقد كتبت إحدى المجلات([40])عنواناً باسم: (عالم الإنترنت السفلي… قرصنة برامج… إباحية… مافيا… غسيل أموال… مخدرات… قمار… عنصرية… منظمات الهاكر… إرهاب… متفجرات…)، ثم عنونت داخل المجلة (عالم إنترنت السفلي يناديك، يبسط لك ذراعيه، يلوح لك بكافة المغريات القذرة التي ابتكرها الإنسان عبر التاريخ… برامج كاملة بالمجان… صور وأفلام إباحية… مخدرات… قمار… أموال قذرة… فهل تستجيب؟) وهكذا كان العنوان، واستمر العرض اثنتي عشرة صفحة في نفس العدد.

قال المؤلف في نفس الموضوع:(ربما يقول البعض إن العديد من البلدان العربية حجبت هذه المواقع عن مستخدمي إنترنت فيها فلا توجد ضرورة لفتح هذا الملف. ونقول لهؤلاء: إن الواقع يؤكد استحالة الحجب الكامل لأسباب عديدة أهمها:

1. تظهر على شبكة ويب يومياً آلاف المواقع الجديدة ومن المستحيل حجبها مباشرة وفق التقنيات المستخدمة حالياً في عملية الفلترة.

2. يمكن استخدام خدمات إنترنت مثل التخاطب والدردشة والبريد الإلكتروني للاتصال مع المشبوهين وتبادل معلومات ممنوعة أو صور فاضحة.

3. توفر تقنيات لتجاوز البروكسي وإلغاء الفلترة المرتبطة به.

4. تتوفر حالياً إمكانية استقبال إنترنت عبر الأقمار الصناعية.

 ويستمر المؤلف في دراسة عالم الشبكة السفلي في أعداد من المجلة منها لعدد الثاني، وفي العدد الثامن لذات المجلة من نفس العام جاء غلاف المجلة يحمل العنوان الآتي (أول جريمة قتل بسبب منتديات ويب العربية)

وكتبت مجلة الإسلام والإنترنت تقول (كيف نحتمي من شرور الإنترنت – كفر وجنس وعنف و..؟)

وكان هذا هو عنوان المقال، وبدأ كاتب المقال بقوله:(اكتسب الإنترنت سمعة سيئة بسبب انفتاحها غير المحكوم أخلاقياً ولا سياسياً ولا ثقافياً، وبسبب استغلالها البشع من قبل عصابات الجريمة المنظمة وتجار الأعراض والداعين إلى كل رذيلة وفاحشة وفوضى تمردية… ففرغت كثير من فوائدها العظيمة وإنجازاتها الضخمة في بحر آسن كريه من الرائحة والمنظر…) إلى أن يقول:(هذه مشكلة لا نعاني منها في الشرق فحسب كما يظن البعض… بل إن العائلات الغربية تشكو مر الشكوى ما يغزو عقر بيوتهم وعقول أولادهم وحواسبهم عبر أجهزة الكمبيوتر المنزلية الموصولة بالإنترنت. كما أن عدداً من الدول تشكو من الغزو الثقافي الغربي الذي يتدفق عليها من كل مكان عبر الأرض والفضاء وعبر خطوط الهاتف وأسلاك الكهرباء)([41])

وكتبت مجلة (سعودي شوبر) تكتب في العدد العاشر للسنة الثانية مقالاً بعنوان (إغلاق (ياهو) لماذا؟) وقد نقلت المجلة تفسيرات على لسان المتحدث باسم مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية يقول فيها (إن حجب أندية (ياهو) جاء بدعوى إلحاق الضرر بالأخلاق والقيم والآداب الشرعية… إلخ)([42])

وفي حوار من خلال مجلة (الجندي المسلم) حول الإباحية في الإنترنت مع مشعل بن عبد الله القرحي الأستاذ المساعد في معهد بحوث الحاسب الآلي في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية قال:(قامت بعض الشركات بدراسة عدد زوار صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت فوجدت إحدى الشركات أن بعض هذه الصفحات يزورها عشرون ألف زائر يومياً، وأكثر من 200 صفحة مشابهة تستقبل 1400 زائر يومياً ؛ ولذلك صرحت وزارة العدل الأمريكية قائلة: لم يسبق في فترة من تاريخ وسائل الإعلام بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائل من مواد الدعارة أمام هذه الكثرة من الأطفال في هذه الكثرة من البيوت، كما تفيد الإحصائيات بأن 63% من المراهقين الذين يرتادون صفحات وصور الدعارة لا يدري أولياء أمورهم بطبيعة ما يتصفحونه على الإنترنت. علماً بأن الدراسات تفيد أن أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين 12 – 17 سنة)([43])

زيادة على هذا، فإن أكثر ما في شبكة الإنترنت مما يتعلق بتربية الأولاد سلبي جداً، فلا توجد مواقع مجدية في تربية الأولاد عدا العناية ببعض الجوانب الجزئية وخصوصاً في المواقع الغربية مثل العناية بالجسم والصحة والرياضة والفن فقط.

ثانيا ـ علاج مظاهر الانحراف

وهو من العلوم المهمة التي يسعى المربي لتعلمها، كما يسعى لتعلم أعراض الأمراض الحسية، ليتقيها أو يعالجها.

ولا نستطيع في هذا المحل أن نفصل كل ما يتعلق بهذا الجانب، فمظاهر الانحراف أكثر من أن يحيط بها كتاب، والمربي لا يحتاج إلى التفاصيل الكثيرة التي قد لا يرى نفسه بحاجة إليها.

ولذلك اكتفينا هنا بإعطاء القواعد الكبرى التي وضعها علماء الإسلام لتحقيق هذا النوع من التطبيب.

وقد ذكرنا من النماذج والأمثلة التطبيبية في بعض المحال ما يستدل به على غيره، فهي ليست مقصودة بذاتها، بقدر ما هي أمثلة لغيرها.

وقد رأينا أن الكلام المنهجي في هذا يستدعي الحديث عن عنصرين:

1. التعرف على منابع الانحراف وأصولها، والمظاهر التي تبدو من خلالها.

2. التعرف على الأساليب المختلفة لعلاج ما يبدو من مظاهر الانحراف، أو ما ينبع منها.

1 ـ منابع الانحراف ومظاهره

أول ما ينبغي على المربي البدء به لعلاج الانحراف الذي قد يقع فيه من تكفل بتربيته هو التعرف على الانحراف ونوعه، لأنه بدون معرفة المرض لا يمكن العلاج.

وما سنذكره في هذا المطلب موجه خصوصا للمربي، لأنه قد لا يفطن إلى مواضع الانحراف، بل قد يلتبس عليه الأمر، فيتصور المرض صحة والمعصية طاعة والانحراف استقامة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران:188)، فهؤلاء لجهلم معصيتهم تصوروها طاعة، وطمعوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.

ولهذا كان تعلم هذا النوع من العلم فرضا على كل مرب، كما يتعلم مظاهر الأمراض الحسية ليتسنى له علاجها أو الذهاب إلى من يعالجها.

وانطلاقا من هذا سنتحدث في هذا المطلب عن منابع الانحراف، ثم عن مظاهر الانحراف:

منابع الانحراف

وهو أهم ما ينبغي على المربي التعرف عليه، لأن لكل انحراف منبعه الخاص في النفس الإنسانية، وذلك يستدعي التعرف على حقيقة الإنسان ومكوناتها وما ينتج عن تكونها من تفاعلات، وقد ضرب الغزالي لذلك مثلا، فقال:(وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة، فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثراً من الآثار كما يقتضي السكر والخل والزعفران في السكنجبـين آثاراً مختلفة)([44])

وقد اختلف المصنفون في هذه المنابع، وهو ليس خلافا فقهيا له أدلته النابعة من الاجتهاد، وإنما هو اختلاف تحليلي، يكاد يكون من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.

وسنكتفي هنا بذكر تصنيفين لهذه المنابع، تصنيف ابن القيم، وتصنيف الغزالي.

فقد ذكر ابن القيم أن (منشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب)([45]) ويبين وجه هذا التقسيم ما يلي:

1. أن الجهل يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصا، والنقص كمالا.

2. أن الظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.  

3. أن الشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل والدناءات كلها.

4. أن الغضب يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه.

ثم ذكر أن منبع هذه الصفات الأربعة أصلان، هما نبع المنابع، وهما: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة.

فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأمور والأخلاق.

ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش.

ويتولد من تزاوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون، (فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا، فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة، جبان عن القوي، جريء على الضعيف)([46])

وقد قسم الغزالي منابع الانحراف في النفس الإنسانية إلى إلى أربع منابع، فقال:(اعلم أنّ للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: صفات ربوبـية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية)([47])

ويختلف المحل الذي تنبع منه الذنوب التي تنبع من هذه المنابع، فمنها ما ينبع على القلب، ومنها ما ينبع على الجوارح، يقول الغزالي:(ثم تنفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس، وبعضها على العين والسمع، وبعضها على اللسان، وبعضها على البطن والفرج، وبعضها على اليدين والرجلين وبعضها على جميع البدن)([48])

ويختلف الخلق ـ كذلك ـ في غلبة بعض الصفات على بعض، فمنهم من تغلب عليه البهيمية، ومنهم تغلب عليهم السبعية، وهكذا.

وتختلف كذلك غلبة بعض الصفات بحسب عمر الإنسان،يقول الغزالي:(وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة، فالصفة البهيمية هي التي تغلب أوّلاً ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهي الصفة الشيطانية، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبـية وهي الفخر والعز والعلو وطلب الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق)

وسنذكر هنا باختصار ما قد ينبع من هذه المنابع من أنواع الانحراف:

الصفات الربوبـية: وهي ما أودع في الإنسان من شعور بأنانيته وحقيقته العظيمة وما سخر لها من مخلوقات، فيعتقد بربوبيته على الأشياء، سواء صرح بذلك كما صرح فرعون، عندما صرخ قائلا: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعـات:24)، أو لم يصرح.

وهذه الصفة بهذا الفهم السيئ، ينتج عنها الكثير من الانحرافات منها ـ كما يذكر الغزالي ـ الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والعز والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، (وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوباً: وهي المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي)([49])

الصفة الشيطانية: وهي الصفات التي ابتدأت بها شيطانية الشيطان، ومنها انطلقت، ولذلك أطلق الله هذا اللقب على الإنس كما أطلقه على شياطين الجن، فقال تعالى: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة:14)، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام:112)، وقال تعالى: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الاسراء:27)

بل أمر بالاستعاذة من شياطين الإنسان، كالاستعاذة بشياطين الجن سواء بسواء، قال تعالى: { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس:4 ـ 6)

وينبع من هذه الصفات ـ كما يذكر الغزالي ـ (الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمنكر وفيه يدخل الغش والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال) وغيرها.

وكل هذه الصفات أشار إليه القرآن الكريم في مواضع مختلفة عند تعريفه لكيد الشيطان وكيفية مواجهته.

الصفة البهيمية: وهي الانحرافات التي تنبع من بهيمية الإنسان، وذلك لأن الله تعالى أودع الإنسان من الشهوة ما يحفظ به وجوده على هذه الأرض، فلولا شهوة الأكل لفني جسده، ولم يستطع أداء ما كلف به من وظيفة، ولولا شوهة الفرج ما استمر نوعه.

ولكن الانحراف هو استعمال هذه الشهوة في غير ما خلقت له، كما عبر تعالى عن انحراف قوم لوط u حين خرجوا بالشهوة عن محلها الذي خلقت له، فقال تعالى: { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (الشعراء:166)

وقال عن انحراف الزنا الذي يضع الشهوة في غير محلها: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)

وينبع من هذه الصفات ـ كما يذكر الغزالي ـ الشره والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنه يتشعب الزنى واللواط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات.

الصفة السبعية: وهي الانحرافات التي تنبع من سبعية الإنسان، وذلك لأن الله تعالى أودع الإنسان من الغضب والحمية ما يدافع به عن وجوده على هذه الأرض، لأنه لولا هذه الحمية لافترسته السباع، ولما استطاع حفظ وجوده الذي تتعلق به وظيفته.

يقول الغزالي في بيان الحاجة إلى هذه الغرائز:(فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن، وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء. وظاهر، وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها)([50])

وينبع من هذه الصفات ـ كما يذكر الغزالي ـ الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والقتل واستهلاك الأموال، ويتفرّع عنها جمل من الذنوب.

مظاهر الانحراف

أشار القرآن الكريم إلى تصنيفات مختلفة للذنوب([51])، ورتب على كل تصنيف منها ما يتعلق به من آثار:

ومن ذلك تصنيف الذنوب إلى ذنوب ظاهرة وذنوب باطنة، كما قال تعالى: { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام:120)، فقد قسم الذنوب في هذه الآية إلى ذنوب ظاهرة وذنوب باطنة، وأمر بترك جميعها، ومثله في هذا التصنيف قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (لأعراف:33)

ومنها تصنيف الذنوب إلى صنفي الإثم والعدوان، وقد ورد ذلك في خمس مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (البقرة:85)، وقال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (المائدة:2)، وقال تعالى: { وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:62)، وقال تعالى: { وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } (المجادلة:8)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} (المجادلة:9)

والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه. وقد قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر اللّه بفعله، والعدوان مجاوزة ما حد اللّه في دينكم ومجاوزة ما فرض اللّه عليكم في أنفسكم وفي غيركم.

ومنها تصنيف الذنوب إلى كبائر وصغائر، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)

ومنها تصنيف الذنوب إلى إثم وفواحش، ثم كبائر ولمم، كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (لنجم:32)

وقد اهتم علماء السلوك المسلمين ـ انطلاقا من القرآن الكريم، وانطلاقا من تحليل الذنوب وآثارها وكيفية علاجها ـ بتصنيف أنواع الانحراف، ليذكروا بعدها ما يرونه من علاج لكل صنف.

وقد اتفق العلماء عل التقسيمين التاليين:

مظاهر الانحراف بحسب متعلقها: وربما يشير إلى هذا النوع من الذنوب ما قسم الله تعالى به الذنوب إلى إثم وعدوان، وذلك لأن الإثم ما كان بين العبد وربه تعالى أما العدوان، فهو ما كان من التعدي على مصالح الخلق، يقول الغزالي:(اعلم أنّ الذنوب تقسم إلى ما بـين العبد وبـين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد. فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير، فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه، وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهيـيج أسباب الجرأة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف)([52])

ولهذا التقسيم أهميته الكبرى من جهات مختلفة:

فمن جهة المغفرة، فإن (ما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ، وما بـين العبد وبـين الله تعالى إذا لم يكن شركاً فالعفو فيه أرجى وأقرب، وقد جاء في الخبر، الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك: فالديوان الذي يغفر: ذنوب العباد بـينهم وبـين الله تعالى، وأما الديوان الذي لا يغفر: فالشرك بالله تعالى. وأما الديوان الذي لا يترك. فمظالم العباد أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها)

ومن جهة تشديد المربي على من يربيه، فإنه لا ينبغي للمربي، وخاصة الوالد أن يتساهل مع ابنه في مصالح الناس، فإن لذلك خطورته الكبيرة على مستقبل ابنه، كما سنوضح ذلك في الفصل الخاص بالبعد الاجتماعي.

مظاهر الانحراف بحسب صغرها وكبرها: نعم، إن كل معصية لله كبيرة([53])، والمربي الصالح هو الذي يحمي من يربيه عن كل المعاصي، ولكن مع ذلك، فإن الإنسان غير معصوم، ومن الخطا أن نتعامل مع أخطائه معاملة واحدة، فلا نفرق بين من ما كبر منها وعظم، وبين ما صغر منها.

ولهذا ورد القرآن الكريم بهذا التقسيم، فقال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} (النساء:31)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (لنجم:32)

وقد وردت النصوص الكثيرة بعد بعض الذنوب الكبائر، وهي ـ كما يذكر ابن حجر ـ نوعان:

النصوص الصريحة باعتبار الذنب كبيرة: وهي الأصل الذي يعتمد عليه في عد الكبائر، ومن تلك النصوص قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)([54])، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم:(أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)([55])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من الكبائر شتم الرجل والديه، قيل: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل وأمه، فيسب أباه وأمه)([56])، وفي رواية للبخاري أن هذه الأخيرة من أكبر الكبائر، وفي رواية له أيضا عد الشرك، والعقوق، والقتل، واليمين الغموس من الكبائر، وعد في أخرى الشرك، والقتل إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات موبقات، وفي رواية صحيحة عد هذه السبع وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام كبائر.

النصوص المخبرة باللعن أو الغضب أو الوعيد شديد: فهي تشير إلى كون الذنب كبيرا، وإلا لما رتب عليه ذلك العقاب الشديد، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. قال أبو ذر: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره: – أي خيلاء كما في روايات أخر – والمنان: الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)([57])، وفي رواية أنهم:(شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)([58])، وفي رواية أنهم (رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف له)([59])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم)، قيل:(ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: متبرئ من والديه راغب عنهما أو متبرئ من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم)([60])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يدخل الجنة قتات)([61])أي نمام، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر)([62])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره)([63])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا نمام)([64])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر)([65])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض أي طرقها)([66])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء)([67])

وقد اختلف العلماء ـ انطلاقا من أمثال هذه النصوص ـ في عد الكبائر، بل بدأ الخلاف من لدن الصحابة، فقال ابن مسعود: هن أربع. وقال ابن عمر: هن سبع. وقال عبد الله بن عمرو: هن تسع. وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع، يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع.

وللغزالي تقرير جيد في هذه المسألة يمكن الاستفادة منه في تحديد الكبائر التي لم ترد بها النصوص، انطلق فيه من النظرة المقاصدية لأحكام الشريعة، قال:(نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعاً أن مقصود الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله.. ولا يكون العبد عبداً ما لم يعرف ربه بالربوبـية ونفسه بالعبودية ولا بدّ أن يعرف نفسه وربه، فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبـياء، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا.. فصار حفظ الدنيا أيضاً مقصوداً تابعاً للدين لأنه وسيلة إليه. والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان: النفوس والأموال، فكل ما يسدّ باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسدّ باب حياة النفوس ويليه باب ما يسدّ المعايش التي بها حياة الناس)([68])

فهذه هي النواحي الثلاثة التي جاءت الشريعة لحفظها، قال الغزالي:(فهذه ثلاث مراتب، فحفظ المعرفة على القلوب، والحياة على الأبدان، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، وهذه ثلاثة أمور لا يتصوّر أن تختلف فيها الملل، فلا يجوز أنّ الله تعالى يبعث نبـياً يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله؛ أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك لأموال)

انطلاقا من هذا صنف الكبائر إلى ثلاثة أقسام:

ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله: كالكفر، فلا كبـيرة فوق الكفر، إذ الحجاب بـين الله وبـين العبد هو الجهل، والوسيلة المقرّبة له إليه هو العلم والمعرفة، وقربه بقدر معرفته، وبعده بقدر جهله.

ويتلوه الجهل الذي لا يسمى كفراً، وذلك مثل الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته، فإن هذا أيضاً عين الجهل، فمن عرف الله لم يتصوّر أن يكون آمناً ولا أن يكون آيساً.

ويتلوه كل البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشدّ من بعض، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه.

ما يمنع من حفظ النفوس: لأنه ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله، فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر، لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود، إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى.

ويتلو هذه الكبـيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض، ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنى واللواط، لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل، ودفع الموجود قريب من قطع الوجود.

ويتلوه الزنى، فإنه ـ مع كونه لا يفوت أصل الوجود ـ يشوّش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها([69]).

ما يمنع من حفظ الأموال: لأنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما، بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها، نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر.

بالإضافة إلى هذا، فإن ما دلت الأدلة على كونه من الصغائر قد يصير من الكبائر إذا اتصف بالصفتين التاليتين:

الإصرار والمواظبة: وإليه الإشارة بقوله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (لنجم:32)، فمن الأقوال في تفسيرها ما قاله مجاهد والحسن:(هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده)، وقال الزهري:(اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود)

ويدل على هذا قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:135)، فقد ضمن لهم المغفرة بقوله تعالى عقبها: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران:136)، ومثل ذلك قوله عقيب اللمم: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (لنجم:32)

ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبـيرة مع استغفار، فكبـيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصوّر ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها.

وقد شبه الغزالي ذلك بقطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه، وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة واحدة لم يؤثر.

احتقار الذنب: ويشير إلى هذا قوله تعالى: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور:15)، وبقول بعض الصحابة م:(إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات)

ويعلق الغزالي على هذا بقوله:(إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم، فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر، وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل، ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف، لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف)([70])

وقد روي أنه أوحى الله تعالى إلى بعض أنبـيائه:(لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها)

ولهذا قال من قال من العلماء بأن الذنوب كلها كبائر، كما ذكرنا ذلك سابقا.

والسر في هذا ـ كما يذكر الغزالي ـ أن استعظام العبد للذنب ـ مهما كان صغيرا ـ يصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به، أما استصغاره، فيصدر عن الألف به وذلك يوجب شدّة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات، والمحذور تسويده بالسيئات، ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة.

ويدخل في هذا النوع ـ وإن كان الغزالي قد ذكره قسما مستقلا ـ السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة.

وهو يدخل في ما سبق ذكره، بل هو مرتبة أعظم من المرتبة السابقة، لأن هذا لم يحتقر المعصية فقط، بل وتبجح بها أيضا.

ويذكر الغزالي الأمثلة الواقعية لذلك، فيقول:(حتى إن من المذنبـين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدّة فرحه بمقارفته إياه، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه، ويقول المناظر في مناظرته: أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساوئه حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه؟ ويقول المعامل في التجارة: أما رأيت كيف روّجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته؟)([71])

 ويعلق على هذه الأمثلة بقوله:(فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات، وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدوّ عليه وبسبب بعده من الله تعالى، فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواءه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه)

ويدخل في هذا النوع ـ وإن كان الغزالي قد ذكره قسما مستقلا ـ أن يأتي الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فغلظت به، فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعة وتفاحش الأمر.

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:(كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه فيصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه)([72])

ويدخل في المجاهرة أن يقع الذنب من شخص يكون قدوة لغيره، لأنه بفعله المعصية يضل خلقا كثيرا ممن يقتدي به فيها، يقول الغزالي بعد عده لبعض الذنوب التي يقع فيها بعض العلماء بلا شعور أو اكتراث:(فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماداً متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه)([73])

ويشير إلى هذا النوع من الذنوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من سنَّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً)([74])، وقال ابن عباس:(ويل للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق)

وشبه بعضهم زلة العالم، فقال:(مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها)

ويذكر الغزالي أن عالماً ـ من الأمم السالفة ـ كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهراً، فأوحى الله تعالى إلى نبـيهم:(قل له إن ذنبك لو كان فيما بـيني وبـينك لغفرته لك، ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار)

2 ـ أساليب علاج الانحراف

انطلاقا مما سبق فإن المربي الناصح إذا ما رأى منبعا من منابع الانحراف، أو مظهرا من مظاهره يتسرب لمن يربيه ليدنسه بأوحاله، فإنه يسارع لتطهيره ووقايته بكل ما أمكنه من السبل والوسائل.

وهذا يستدعي علما خاصا، لا يمكننا ذكر تفاصيله هنا، ولكنا نحاول انطلاقا مما ذكره المربون وعلماء السلوك من المسلمين أن نلم بجمله وقواعده ليتخذها المربي قوانين يسير على ضوئها في إصلاح من تكفل بتربيته.

وقبل أن نذكر هذه الأساليب المقاومة للانحراف أو المعالجة له، نحب أن نرد على من يتصور الأخلاق صفات راسخة يستحيل تحويلها أو تغييرها، لينطلق من ذلك إلى استحالة تأثير التربية في الإصلاح، وتنتشر الأمثال المثبطة في المجتمع عن هذه الفكرة، وهي خطيرة جدا لا بما تحمله من يأس فقط، وإنما لأنها تضاد دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ الذين كان من أهم وظائفهم التزكية التي تعني تطهير عباد الله من رذائل الأخلاق، وتحليتهم بمحاسنها، كما ذكر تعالى ذلك في مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة:129)، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2)

ومن الأدلة التي ذكرها الغزالي للقائلين بأن الأخلاق لا تتغير بطريق الرياضة:

1 ـ أن الخُلُق هو صورة الباطن كما أن الخَلْق هو صورة الظاهر، فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغيـيرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً، ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً، ولا القبـيح يقدر على تحسين صورته، فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى.

2 ـ أن حسن الخلق لا يكون إلا بقمع الشهوة والغضب، والتجربة تدل على استحالة هذا، لأنهما من مقتضيات المزاج والطبع.

والرد على هذا من النصوص لا يمكن استيفاؤه ـ هنا ـ لأن كل النصوص الحاضة على التخلق بالأخلاق الحسنة أو الناهية عن الأخلاق السيئة ترد على هذا، لأن الشرع لا يأمر بالمستحيل، وقد قال تعالى: { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة:233)، وقال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة:286)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } (لأعراف:42)، وقال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا } (الطلاق:7)

ومن النصوص الصرريحة الدالة على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأشج عبد القيس:(إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة([75])، فقال:(أخلقين تخلقت بهما، أم جبلني الله عليهما؟) فقال:(بل جبلك الله عليهما) فقال:(الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله)([76])

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعاء الاستفتاح:(اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت)([77])

أما من حيث الواقع، وهو ما تتذرع به أمثال هذه الأقوال المثبطة، فننقل ما قال الغزالي، وفيه أبلغ الرد:(وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيـير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيـير للأخلاق)([78])

انطلاقا من هذا، فإن هناك أسلوبين أساسيين لعلاج الانحراف، يحتاج المربي إلى استعمالهما جميعا ـ على ضوء ما ذكرنا في الجزء الخاص بأساليب التربية ـ هما: العلم والعمل.

الأساليب العلمية

وينطلق هذا الأسلوب من المقولة المعروفة المشهورة (حياتك من صنع أفكارك)، فالأفكار التي ينصبغ بها العقل هي التي ينصبغ لها بعده الوجدان والسلوك والحياة جميعا.

فلذلك كان أول ما ينبغي أن يهتم به المربي هو حفظ عقل المتلقي من كل شبهة أو أفكار منحرفة قد تجرفه إلى الانحراف من حيث يشعر أو لا يشعر.

والأساس لذلك هو ما ذكرنا في التربية الإيمانية من الاجتهاد في تقوية إيمان المتلقي، فالإيمان الصحيح القوي المؤثر هو الكفيل بتحويل أبخس المعادن ذهبا خالصا.

ولهذا يقرن الله تعالى الإيمان بالعمل الصالح، ويقدم الإيمان عليه، وكأنه يشير إلى أن العمل الصالح أثر من آثار الإيمان، قال تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (البقرة:25)

وقد تكررت هذه اللازمة { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } في خمسين موضعا من القرآن الكريم، وكل ذلك لأهمية اقتران الإيمان بالعمل الصالح.

ويشير إلى هذا المعنى بصراحة قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الاحقاف:13)، فقد عطف الله تعالى الاستقامة، التي تضاد الانحراف على الإيمان بحرف (ثم) الذي يفيد الترتيب، وكأنه يقول:(إن الاستقامة أثر من آثار قولهم (ربنا الله)

ويشير إلى هذا في التربية النبوية، قول الصحابة:(الإيمان قبل القرآن)

ولهذا، فإن أكثر الذنوب تحوي شركا شعر به صاحبه أو لم يشعر، وكمثال على ذلك ارتباط الطغيان بالاستغناء عن الله، كما يشير إليه قوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6 ـ 7)، فقد رتب الله تعالى الطغيان الذي هو منتهى أنانية الإنسان وكبريائه على شعوره بالاستغناء عن الله، وكأنه عالم قائم بذاته، فلذلك يطلب من غيره أن يتوجه له بالعبودية كما يتوجه لله.

وكمثال على ذلك أيضا قوله تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:15)، فإن انبهار عاد بما أعطيت من قوة جعلها تغفل عن قوة الله، وهو ما جعلها تستكبر في الأرض بغير حق.

ومثلما يؤدي الشرك والكفر إلى الانحراف، فإن الانحراف يؤدي كذلك إلى الشرك والكفر، وهذا من أخطر آثاره، ولهذا يقال (المعاصي بريد الكفر)، وإلى هذا يشير قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:34)، فقد رتب تعالى كفره على معصيتين خطيرتين هما الإباء الذي هو الاعتراض على الله، والكبر.

ولهذا أخبر تعالى أن كل من رد الحق الذي جاء به الأنبياء رده بسبب كبره، الذي هو أثر من آثار كفره، كما أن الكفر ثمرة من ثمار تكبره، قال تعالى: { ِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (البقرة:87)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف:36)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (الأعراف:40)، وقال تعالى: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الأعراف:76)، وقال تعالى: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} (الأعراف:88)

وانطلاقا من هذا، فإن التوجهات بمختلف أنواعها سياسية أو اقتصادية أو نفسية أو اجتماعية لها التأثير الكبير في صناعة الأخلاق منحرفة كانت أو مستقيمة، لأن لكل معرفة تأثيرها المباشر في حقيقة الإنسان الكلية، والتي تبرزها في سلوكها الظاهري إن وجدت الفرصة لإبرازها، أو تخبئها متى وجدت لذلك محلا.

وكمثال على ذلك ما يمكن تسميته بالأخلاق الرأسمالية([79])، وهي أكثر أخلاق العصر، فهي ثمرة طبيعية للواقع العقدي المنحرف، وهي أخلاق تنمحي في ظلها كل المبادئ الإنسانية، لأن كل المبادئ لا تساوي شيئا أمام رنين الدنانير والدراهم، يروي الأستاذ محمد قطب عن شقيقه سيد أنه أثناء زيارته لأمريكا كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟ فأجاب سيد: من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم، قال: نعم، قال: إذن حدثني عن الإسلام، فأخذ سيد يحدثه عن الإسلام، والرجل منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه، عندها قال الرجل: جميل ما قُلته، ولكن الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه.

فالرأسمالية حولت الإنسان إلى عبد ذليل أمام المال، يقدم له كل عرابين الذل، بل يحرق في محرقته كل القيم والأخلاق، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)([80]).

فقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث نموذج العبد المقهور التعيس أمام الثروة والمظاهر، وذكر في مقابله المؤمن المتحرر الأشعث الأغبر المتخلص من كل عبودية عدا عبوديته لربه، ثم ذكر أن هذا العبد هو وحده الذي يستطيع الضرب في الأرض في سبيل الله.

ومن نتائج هذه الأخلاق الرأسمالية على المستوى الأممي ما نراه من جشع وحرص قد تباد لإروائه شعوب بأكملها، كما فعل بالهنود الحمر بحثاً عن الذهب الأصفر، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث اقتيد منهم الألوف – بعد أن نهب خيرات أوطانهم – مكبلين بالأغلال في الأعناق والأيدي والأقدام استغلالاً لسواعدهم وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته.

ثم من وحي أخلاقه الرأسمالية اعتمد معيار اللون والثراء في التفاضل ؛ فالنازية في ألمانيا، جعلت العرق الآري أفضل من وجد على الأرض، والرجل الأبيض عموماً في أوروبا وأمريكا وأفريقيا مارس أخلاقيات التفريق العنصري، واصطفى ذاته لتكون في القمة، واضطهد السود – لمجرد أنهم سود – في أمريكا، وحتى وقت قريب في جنوب إفريقيا، ولم تنعتق هذه الشعوب من قبضته واضطهاداته إلا عبر تضحيات باهظة التكاليف ونضالات عنيدة ومتواصلة حتى انتزعت من بين فكيه شيئاً من حقوقها، ثم في تناقض صارخ كثيراً ما نسمع ضجيجه عن حقوق الإنسان، مصاغة وفق اختياراته واستحساناته، منطلقة من جذور عقائد محرفة، وأهواء قاصرة، وأخلاقيات نفعية، تساير الظلم وتسانده إذا ما رأت فيه مبتغاها.

وما يقال في الأخلاق الرأسمالية يقال في الأخلاق الاشتراكية والشيوعية، وهي أخلاق ظن البعض أنها تنقذهم من وحش الرأسمالية الكاسر، لكنها أوقعتهم في وحش آخر، لا يقل فتكه عن فتك الوحش الرأسمالي.

فهي أخلاق تنطلق من أصوله الإلحادية، كما تنطلق الأخلاق الرأسمالية من أصول شركية، وهي تقرر أن سعادة الإنسان تكمن في أخلاقيات الصراع الطبقي التي تدفع به – حسب زعمهم – إلى حياة الرفاه والرغد في مجتمع شيوعي تغيب عنه الدولة وتختفي فيه شارات الشرطة ويحكمه قانون (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته)، وهو نهج يرفض في نظمه الأخلاقية كل سلوك يعيق تقدمه أياً كان مصدره وينعته بالأخلاق البرجوازية، وقبح الشيء وحسنه يتحدد فقط بالنظر إلى مردوده على طبقة البروليتاريا على حد تعبيرهم.

وانطلاقاً من هذه النظرة انحرف المؤمنون بهذه العقائد في كل شعاب السلوكيات المتردية، فأشاعوا حالة الخوف الدائم، وأفسدوا بالمرتبات الكبيرة والامتيازات رجال الجيش والبوليس والأجهزة السياسية والأفراد المطيعيين من طبقة المثقفين، وأسكتوا قمعاً كل صوت مقاوم.

وفي كتاب مدرسي عن الأخلاق الماركسية معد للمدارس الثانوية في المجر سنة 1978 م، يقول:(إن الطفل ابناً كان أو بنتاً لا يصح بحال أن يُقدم على قتل أمه إلا إذا أصبحت خائنة للطبقة العاملة..)([81])

وخيانة الطبقة العاملة ـ في تصور هذه العقيدة ـ هي إبداء النقد لسلوكيات الفكر الاشتراكي وأئمته أو التعامل معه بشيء من الحذر والحيطة، والأمانة الأخلاقية في زعمهم هي الفناء في شخصية القيادة الماركسية، والدينونة لمقولاتها، وتكريس عبادتها، ولعلنا لاحظنا جميعاً كيف أن الشعب الكوري الشمالي أحتشد حول صنم الزعيم الكوري غداة هلاكه ساجداً راكعاً، بل إن من الحجارة من اكتسب شيئاً من القداسة في كوريا لكونه حظى بجلسة من رائد الفكر الاشتراكي الكوري ؛ ففي تابوت زجاجي بساحات أحد المصانع بكوريا الشمالية عرض حجر بداخله، ومكتوب عليه هذه العبارة:(الحجر الذي جلس عليه الرفيق الحبيب المبجل عندما كان يتحدث)([82])

انطلاقا من هذا نحاول أن نذكر هنا بعض النماذج عن كيفية استعمال هذا الأسلوب في علاج الانحرافات الخلقية أو في الوقاية منها، مع التنبيه إلى الرجوع إلى الجزء الخاص بأساليب التربية لصياغة هذه الأساليب وفق الضوابط المقررة هناك.

وسنذكر هنا بعض النماذج عن الانحرافات والعلاج العملي لها، ثم نذكر نفس هذه الانحرافات عند ذكر الأساليب العملية للجمع بين الأسلوب العلمي والعملي في علاج الانحرافات.

الانحراف الجنسي

وهو من أخطر الانحرافات التي قد يتعرض لها الأولاد في المراحل الأولى لتربيتهم، ولهذا قرن صلى الله عليه وآله وسلم بين الأمر بالصلاة، وبين التفريق بينهم في المضاجع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرِّقوا بينهم في المضاجع)، وهو كالحماية لهم من أي انحراف قد يتعرضون له.

وقد أشار الأخصائي النفسي بديع القشاعلة في مقال له بعنوان (نظريات في علم النفس والحديث الشريف) إلى الأسرار المودعة في هذا الحديث، فقال:(يحدد محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث فترات زمنية للتعامل مع الطفل…. أما الجزء الأخير من الحديث وهو (فرقوا بينهم في المضاجع) فنابعٌ من تطور النمو الجنسي في هذه المرحلة والتي تعد نقطة تحول من الكمون الجنسي إلى حالة النشاط الجنسي والذي يبدأ مع مرحلة البلوغ، حيث نجد أن الأطفال حينما يصلون إلى سن العاشرة يكثر لديهم حب الاستطلاع عن النواحي الجنسية والفسيولوجية كما وأن الانتباه في هذه المرحلة يزداد وتزداد دقته الأمر الذي يساعده على إدراك الاختلاف بين الأشياء وإدراك الشبه أيضاً بينها. نتيجة لهذا فإنه يستطيع أن يقدم تفسيراً بسيطاً للأمور، وهذه صورة راقية من التفكير لم نكن نلحظها في المراحل السابقة من النمو.

إن هذه الفترة هي فترة ميل إلى الأمور الجنسية والتعرف عليها والعبث بها وهذا جعله الله تعالى ليكون تمهيداً لمرحلة البلوغ والتي يمكن أن تحدث فيها عملية الزواج)

وانطلاقا من هذا، فإن أهم ما يحمي الولد من الانحراف الجنسي هو توعيته بأحكامه الشرعية وآثارها النفسية والاجتماعية والصحية، وآاثرها في علاقته مع ربه.

وقد رأينا في الجزء الخاص بأساليب التربية كيف عالج صلى الله عليه وآله وسلم الشاب الذي أراد أن يؤذن له في هذا النوع من الانحراف، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أترضاه لأمك؟!)، قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، قال:(أترضاه لأختك؟!)، قال: لا، قال:(فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)([83])، وهكذا صار الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب فيما بعد، بسبب هذا الإقناع العقلي.

فلذلك يمكن أن يعرف الولد في مراحل تمييزه عن مخاطر الزنى، بحيث يقبح في نفسه قبحا شديدا، لا يمكن للمغريات ولا للوسائل الحديثة مهما بلغ تفننها أن تؤثر فيه.

وقد شهد أساتذة الصحة النفسية على مدى تأثير الوعي الإيماني في الحماية من هذا الانحراف، يقول د. حامد زهران أستاذ الصحة النفسية:(إن علينا كمربين أن نعرف أن الأطفال يصلهم معلومات من زملائهم في المدرسة والشارع.. وقد يقرأون كتبا بها أفكار مشوهة، وقد يطلعون في عصرنا الحالي علي مصادر سيئة في الإنترنت، وهناك ايضا القنوات الفضائية، علينا أن نعلم أطفالنا آداب السلوك الجنسي. إن أقرب العلوم للتربية الجنسية هي التربية الدينية، لأن الدين يعترف تماما بالغريزة الجنسية وينظم السلوك الجنسي تماما من الناحية الدينية قبل أي شيء آخر، ولهذا فالمفروض أن نهتم بتعليم أحكام الدين.. وحدود الله فيما يتعلق بالسلوك الجنسي والحلال والحرام فيه.. ومن هنا سنجد أن الإطار الذي نتحدث عنه سوف يؤدي إلي نتائج أفضل من إهماله)

الكبر

 وهو من أخطر الانحرافات التي تحول بين من وقع فيها وبين كل مصلحة يحققها لنفسه أو يحققها لغيره، ولا نستغرب أن يبدأ هذا الانحراف للصبية من صغرهم، فإن كل الرذائل منشأها من الصغر، ثم تزيد الأيام والتربية الفاسدة بعدها رسوخها.

وعلاج هذا الانحراف بحسب ما تدل النصوص، وبحسب ما يذكر علماء السلوك نوعان: إجمالي، وتفصيلي:

العلاج الإجمالي: ونريد به العلاج الذي يصلح لكل مظهر من مظاهر المرض، فلا يختص بمرض من الأمراض، ولا بسبب من الأسباب، وهو في حقيقته علاج وقائي، فإذا ما دب الداء، فلا يكتفى به، بل ينظر إل أسبابه ليعالج من خلالها، كما سنرى في العلاج التفصيلي.

وقد نص القرآن الكريم علىأن العلاج العلمي لهذا الانحراف يشمل نوعين من المعارف:

معرفة ضعف النفس: فيعرف قصورها وضعفها، وأنها أقل من أن تترفع أو تتعدى طورها، وهذه المعرفة تجعل صاحبها يطأطئ رأسه تواضعا وخجلا من أن يتعدى طوره أو يدعي ما ليس له.

ويشير إلى هذه المعرفة قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:56)، لأن هؤلاء قوم رأوا أنهم أن اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل ارتفاعهم، ونقصت أحوالهم، وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب.

ولهذا يرد القرآن الكريم المتكبرين إلى نشأتهم الأولى ليعرفوا حقيقتهم، قال تعالى: { قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ }(عبس:17 ـ 20)

يقول الغزالي معلقا على هذه الآية الكريمة:(فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية. أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقد كان في حيز العدم دهوراً بل لم يكن لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم؟ وقد كان كذلك في القدم، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء، ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعله عظماً، ثم كسا العظم لحماً، فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئاً مذكوراً، فما صار شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملاً بل خلقه جماداً ميتاً لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرّك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوّته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته)([84])

وإلى هذا العلاج يشير قوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يّـس:78)، يقول سيد معلقا على الآية:(فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا.. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل، والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟)([85])

معرفة عظمة الله: وهي العلاج العلمي الثاني، لأن كل متكبر لا يتكبر ـ في الحقيقة ـ على الخلق، وإنما يتكبر على الله، ولهذا كان الصالحون يرددون:(لا تحقر أحداً من خلق اللّه فإنه تعالى ما احتقره حين خلقه)، ويقولون:(فلا يكون اللّه يظهر العناية بإيجاد من أوجده من عدم وتأتي أنت تحتقره فإن ذلك احتقار بمن أوجده)

ويدل على هذه المعرفة النصوص القرآنية الكثيرة،كقوله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91)، وقال تعالى: { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74)، وقال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)

فقد جعل الله تعالى عدم تقدير الله ومعرفة عظمته سببا في كل تلك الانحرافات الخلقية التي تنبع من منبع الكبر.

ولهذا كان جهل النمروذ بالله هو الذي يجعل يدعي الألوهية، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:258)

وجهل فرعون بالله هو الذي جعله يدعي الألوهية، ويستعلي في الأرض بغير حق، قال تعالى: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} (العنكبوت:39)، بل هو الذي جعله يقول: { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38)

العلاج التفصيلي: ونريد به العلاج الذي ينظر إلى الأسباب الداعية لهذا النوع من الانحراف، وهي في عادتها شبه ناتجة عن أخطاء فكرية ابتدعتها النفس أو انتشرت في المجتمع، فتلقاها من تلقاها تليقنا وتقليدا، بل قد يظن الكمال في اعتقادها.

وقد ذكر الغزالي انطلاقا من استقراء الأسباب الداعية لهذا النوع من الانحراف في عصره إلى سبعة أسباب، تكاد تكون حاصرة لأسباب الكبر، ولا يكاد يخرج عنها في عصرنا أي سبب من الأسباب، فلذلك نكتفي هنا بذكر هذه الأسباب التي ذكرها الغزالي، وكيفية علاجها، لتكون أنموذجا لغيرها من أنواع الانحراف:

النسب: وهو تعاظم الإنسان بنسب يدلي به لمن يتصور فيهم الشرف أو الرفعة، وقد ذكر الغزالي علاجين معرفيين لهذا السبب([86]):

الأولى: أن المتكبر بالنسب إن كان خسيساً في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره؟ بل لو كان الذي ينسب إليه حياً لكان له أن يقول: الفضل لي: ومن أنت؟، وهذا كما قيل:

لئن فخرت بآباءٍ ذوي شرفٍ لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

الثانية: أن يعرف نسبه الحقيقي، فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجدّه البعيد تراب ذليل، فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأً مسنوناً كيف يتكبر؟ وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال:(يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة)

 فإن كان كونه من أبـيه أقرب من كونه من التراب فنقول: افتخر بالقريب دون البعيد، فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك، ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته؟ وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده؟

الجمال: والعلاج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب الذي قد يدفع صاحبه للكبر أن لا يقتصر نظر هذ المتكبر إلى ظاهره كما تقتصر البهائم، بل ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، فإنه مهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه: الرجيع في أمعائه، والبول في مثانته، والمخاط في أنفه، والبزاق في فيه، والوسخ في أذنيه، والدم في عروقه، والصديد تحت بشرته، والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بـيده كل يوم دفعة أو دفعتين، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلاً عن أن يمسه أو يشمه، كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه.

 ولو ترك نفسه في حياته يوماً لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار، وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط. فإذا نظر إنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي، فبـينما هو كذلك إذ صار هشيماً تذروه الرياح، كيف ولو كان جماله باقياً وعن هذه القبائح خالياً لكان يجب أن لا يتكبر به على القبـيح، إذ لم يكن قبح القبـيح إليه فينفيه، ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه؟ كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصوّر أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أو سبب من الأسباب؟ فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب؟ فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها.

 وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور، من النطفة، وأخرج من مجرى الأقذار. إذ خرج من الصلب، ثم من الذكر مجرى البول، ثم من الرحم مفيض دم الحيض، ثم خرج من مجرى القذر.

القوّة: وهي من أسباب الكبر التي كثر ورودها في القرآن الكريم، لأنها أهم الأسباب التي حالت بين المستبدين والتسليم لرسل الله، قال تعالى ضاربا المثل بعاد: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(فصلت:15)

وهو الذي حال بين أكثر القرى وبين طاعة أنبيائها والإسلام لله، فكان فرحهم حائلا بينهم وبين كل خير،قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}(التوبة:69)

بل إن القرآن الكريم يخبر بأن هذا الترفع بالقوة والقدرة هو السبب المباشر في هلاك القرى وتدمير الحضارات، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(يونس:24)

وهذا النوع من الكبر قد لا يقتصر على فرد بعينه، بل يعم شعوبا بأكملها تظن نفسها أرفع من شعوب أخرى، لفضل قوة رزقتها جعلتها تملأ الأرض كبرا واستعلاء.

والعلاج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب هو نظر العقل لما يمكن أن يسلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل، وأنه لو سلبه الذباب شيئاً لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته، وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وأن حمى يوم تحلل من قوّته ما لا ينجبر في مدّة.

فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أنّ يدفع عن نفسه ذبابة لا ينبغي أن يفتخر بقوّته، ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل، وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم([87]

المال والجاه: وهما ـ كما ينص القرآن الكريم ـ من أكبر أسباب الكبر الحائلة بين الأقوام وأنبيائهم:

أما المال، فقد ذكر تعالى أن المترفين، وهم عبيد الأموال، هم أول من يقف في وجه الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قال تعالى معبرا عن هذه السنة الاجتماعية: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(سبأ:34،35) قال قتادة:مترفوها: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها.

أما الجاه، فقد أخبر تعالى أنه الحائل بين قريش، واتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بحجة أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له من الجاه ما كان لوجهاء القريتين، قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)

والعلاج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب من أسباب الكبر هو النظر في مآل ذلك المال والجاه الذي يتعزز به، فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره، ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً، والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على قلب هو أشدّ غلياناً من القدر، فإن تغير عليه كان أذل الخلق، وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل، كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل؟ فأف لشرف يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلاً مفلساً؟ فهذه أسباب ليست في ذاته، وما هو في ذاته ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال، فالتفاخر به غاية الجهل، وكل ما ليس إليك فليس لك، وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك، وما أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء. ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره.

وقد مثل الغزالي لهذ المصير بمثال قد يستبعد في الواقع، ولكنه عين حق اليقين الذي يحيق بكل متكبر، وهو أن هذا الذي يفتخر الغافل بقوّته وجماله وماله وحرّيته واستقلاله وسعة منازله وكثرة خيوله وغلمانه، إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأنّ أبويه كانا مملوكين له، فعلم ذلك وحكم به الحاكم، فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده، وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف أنّ له مالكاً، ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوساً في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها، وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله ولا يعرف طريقاً في الخلاص ألبتة، أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوّته وكماله أم يذل نفسه ويخضع؟ وهذا حال كل عاقل بصير فإنه يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضائه وماله، وهو مع ذلك بـين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك. فمن هذا حاله لا يتكبر بقوّته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة([88]).

العلم: وهو من أسباب الكبر الخطرة، لأن (قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إلا إذا كان معهما علم وعمل)([89])

وقد أخبر تعالى أن هذا النوع من الكبر كان من أسباب ابتعاد الجهال المتسترين بحجاب العلم عن الحق وعن متابعة الأنبياء، فقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(غافر:83)

وقد ذكر القرآن الكريم نموذج المتكبر بعلمه في شخص قارون عندما قال معبرا عن حقيقته: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)، فرد عليه تعالى قائلا: { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ } (القصص:78)

وقد ذكر الغزالي لعلاج هذا السبب من أسباب الكبر معرفتين:

الأولى: يشير إليها قوله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5)، وقوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (لأعراف:175)، وقال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:176)

فقد مثل الله تعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب، وهو دليل على خسة قدر من يترفع بعلم لم ينفعه، فهو أشبه فيه بما يستقذره من الحمار والكلب.

ولهذا وردت النصوص الكثيرة تحذر من المخاطر التي يتعرض لها من يكون علمه حجة عليه يوم القيامة، قال الغزالي:(فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أنّ قدره أعظم من قدر غيره، فهذا بذاك. وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيراً، فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال؟ والعياذ بالله منه. فهذا الخطر يمنع من التكبر، فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه، فكيف يتكبر من هذا حاله؟ فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة، وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر: ليتني كنت طيراً أؤكل ويقول الآخر: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً كل ذلك خوفاً من خطر العاقبة، فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالاً من الطير ومن التراب. ومما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره، ورأى نفسه كأنه شر الخلق)([90])

وضرب الغزالي مثالا مشخصا لهذه المعرفة، بعبد أمره سيده بأمور فشرع فيها، فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا؟ فأخبره مخبر أنّ سيده أرسل إليه رسولاً يخرجه من كل ما هو فيه عرياناً ذليلاً ويلقيه على بابه في الحرّ والشمس زماناً طويلاً، حتى إذا ضاق الأمر عليه وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه وفتش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة، وقد علم أنّ سيده قد فعل بطوائف عبـيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي الفريقين يكون؟ فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه ولم يتكبر على أحد من الخلق، بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب.

قال الغزالي معقبا على هذا المثل:(فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره، وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة)([91])

الثانية: معرفة محبة الله للتواضع، وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له: إن لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لنفسك قدراً فلا قدر لك عندي، فلا بدّ وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه.

الدين: وهو من الأسباب التي قد تكون داعية للكبر، خاصة لمن اقتصر من الدين على ظواهره الحرفية، وغفل عن مقاصده، وحقائقه الباطنية.

ولعلاج الكبر بالدين أدوية كثيرة، كلها مما وردت النصوص بالدلالة عليه، أهمها التأمل فيما حجب عن الإنسان من خاتمته، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(.. فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة)([92])

 يقول الغزالي:(اعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة، بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه، إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر، والكبـير من هو كبـير عند الله في الآخرة، والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك، فكم من مسلم نظر إلى عمر قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين؟ إلا أبا بكر وحده، فالعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة، وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة)([93])

وقد ذكر الغزالي أدب المتواضعين والمعارف التي ينطلقون منها، فقال:(فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد. بل إن نظر إلى الجاهل قال: هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني. وإن نظر إلى عالم قال: هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى كبـير هو أكبر منه سناً قال: هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال: ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن، فليس دوام الهداية إليَّ، كما لم يكن ابتداؤها إليَّ؟ فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه)([94])

الغضب

وهو من أخطر الانحرافات وأعقدها، وذلك لكونه من حيث أصله شيئا فطريا طبيعيا، لا ينفك عنه أحد، بل هو ـ أحيانا ـ يظهر في الصغير أكثر من ظهوره في الكبير.

ولذلك يتطلب معالجة حاذقة لا تزيله من أصله، فهو كما ذكرنا فطري لا يمكن انفكاك الطبع عنه، وإنما تحد من آثاره أو توجهه الوجهة السليمة.

وقبل أن نذكر ما يمكن استثماره من المعارف لعلاج هذا الانحراف، نحب أن نذكر بعض الطرق الخاطئة التي يواجه بها ـ عادة ـ غضب الصغير، وأهمها وأخطرها الاستسلام أمام غضبه، بحيث تنفذ طلباته مهما اشتدت حرصا على كفه عن غضبه، وهذا أسلوب خاطئ يجعله يعمد إلى الغضب كأسلوب من أساليب الحصول على ما يريد.

ومنها الصرامة الشديدة في معاملته، لأنّ الطفل في مرحلته الاولى تأبى شخصيته النامية ان توجه اليه الأوامر بحدة وتهكم.. لان عدم احترام شخصيته يعتبر احد انواع الاعتداء التي تثير غضب الطفل، بل كل إنسان.

انطلاقا من هذا، فإن المعارف التي يعالج بها الغضب نوعان، كما سبق ذكره في العلاج العلمي للكبر:

العلاج الإجمالي: ونريد به ـ ما ذكرنا سابقا ـ من أنه العلاج الذي يصلح لكل مظهر من مظاهر المرض، فلا يختص بمرض من الأمراض، ولا بسبب من الأسباب، وهو في حقيقته علاج وقائي، فإذا ما دب الداء، فلا يكتفى به، بل ينظر إل أسبابه ليعالج من خلالها، كما سنرى في العلاج التفصيلي.

ومن المعارف التي يمكن استخدامها، بل يبذل المربي كل وسعه لملء عقل ووجدان من يربيه بمعانيها:

الثواب: فيتفكر في النصوص التي وردت في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفيء عنه غيظه.

ويدل على هذا من فعل السلف ما روي أن عمر بن عبد العزيز أمر بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى: { والكَاظِمينَ الغَيظَ }، فقال لغلامه: خل عنه.

العقاب: فيتفكر في العقاب الذي أعده الله تعالى لمن نفذ ما يتطلبه غضبه من غير حق، ويشير إليه ما روي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهيمة، فقالت أراك تلعبين بهذه البهيمة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوك فقالت:(لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك)([95])، وفي رواية:(لضربتك بهذا السواك)، فقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم مخافة القصاص يوم القيامة سببا يمنعه من إيلام هذه الخادم.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلاج ما ستعرض له الخدم والمستضعفون من سوء المعاملة بتذكير أهليهم وسادتهم بالقصاص يوم القيامة، عن أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي: اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقلت لا أضرب مملوكا بعده أبدا)([96])، وفي رواية: فقلت:(يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى) فقال:(أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار)

وعن عائشة أن رجلا قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل)، فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أما تقرأ قول الله تبارك وتعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)، فقال الرجل:(يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم كلهم أحرار)([97])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة)([98])

وقد روى الغزالي عن بعض الكتب القديمة:(يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق)، وروى أنه ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها (ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة)، فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه.

وقد ذكر الغزالي القناعات التي يقنع الصالح بها نفسه إن ألم به الغضب، فقال:(أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الإنتقام ويمنعه من كظم الغيظ، ولا بد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس فيقول لنفسه: ما أعجبك تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بـيدك وانتقم منك؟ وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبـيـين؟ فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله، وذلك يعظمه عند الله، فما له وللناس؟ وذلك من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله لو انتقم الآن، أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا؟ فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه)([99])

العواقب: فيتفكر في النتائج التي يؤول إليها غضبه، من الانتقام والحقد والعداوة والشماتة وغير ذلك مما قد يقابل به، بخلاف ما لو أمسك غضبه وتعامل تعاملا عقلانيا مع ما استدعاه غضبه.

يقول الغزالي:(وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه، لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض، إلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه)([100])

وما ذكره الغزالي ـ هنا ـ مهم في علاج الانحراف بما يقتضيه ضده، فتعالج حدة الغضب بالشهوة التي تقلل أثره، وتحد من خطره، كما تقلل الشهوة الجارفة بالغضب الذي يستدعي النخوة وحماية العرض.

حاله عند الغضب: فيتفكر في حاله عند الغضب من ذهاب وقاره واحترامه وصيرورته محلا للسخرية والاستهزاء، بل يتحول في حال غضبه من الإنسان اهادئ الوقور إلى صورة لا تختلف كثيرا عن صورة الكلب العقور، قال الغزالي:(ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي، ومشابهة الحليم الهادي التارك للغضب للأنبـياء والأولياء والعلماء والحكماء، ويخير نفسه بـين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأراذل الناس وبـين أن يتشبه بالعلماء والأنبـياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان قد بقي معه مسكة من عقل)([101])

العلاج التفصيلي: ونريد به ـ ما ذكرنا سابقا ـ من أنه العلاج الذي ينظر إلى الأسباب الداعية لهذا النوع من الانحراف، وهي في عادتها شبه ناتجة عن أخطاء فكرية ابتدعتها النفس أو انتشرت في المجتمع، فتلقاها من تلقاها تليقنا وتقليدا، بل قد يظن الكمال في اعتقادها.

وقد روي أن يحيـى قال لعيسى ـ عليهما السلام ـ: أي شيء أشد؟ قال: غضب الله، فما يقرب من غضب الله، قال أن تغضب، قال: فما يبدي الغضب وما ينبته؟ قال عيسى: الكبر والفخر والتعزز والحمية.

وقد ذكر الغزالي الأسباب المهيجة للغضب، أو المنابع النفسية الدافعة له، فذكر: الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيـير والمماراة والمضادّة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه.

ثم بين طريق العلاج في مواجهة الغضب من خلالها، فقال:(وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها. فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك، وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة؟ وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك. وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك. وأما التعبـير فالحذر عن القول القبـيح وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة)([102])

ومن أهم أسباب الغضب وأخطرها تعظيم الغضب واعتقاد أنه نوع من الشجاعة والرجولية وعزة النفس وكبر الهمة، (وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه. وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه)([103])

ولهذا عالج صلى الله عليه وآله وسلم هذا السبب بأن اعتبر الشديد القوي المتمكن من الرجولة من يمسك نفسه عند الغضب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([104])، وفي رواية أخرى:(أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه)([105])، وفي رواية:(ألا أدلكم على أشدكم؟ أملككم لنفسه عند الغضب)([106])

وتأمل الواقع وحده يدل على أن الغضب المذموم لا يقع في العادة إلا من الضعفاء الذين يستسلمون لأهوائهم أو تصرعهم أهواؤهم لا من الأقوياء المتمكنين من أنفسهم، قال الغزالي:(وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها، وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبـي أسرع غضباً من الرجل الكبـير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيـىء والرذائل القبـيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، ولبخله إذا فاتته الحبة، حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه. بل القوي من يملك نفسه عند الغضب)([107])

الأساليب العملية

وهي الأساليب التي تستدعي مواجهة حاسمة وعملية للانحراف الذي قد يقع فيه الإنسان، وهي تكملة للأساليب العلمية التي سبق ذكرها، فلا يفيد العمل دون العلم، كما لا يغني العلم الخالي عن العمل، فكلاهما جندان أساسيان لمواجهة الانحراف والقضاء على آثاره.

وقد دلت النصوص الكثيرة على إمكانية تغيير أخلاق النفس بالمجاهدة والرياضة الروحية، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (التوبة:16)، فإن الولاء التام لله والتبرؤ التام من غيره يستدعي مواجهة عملية حاسمة، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)، فقد اعتبر ما تبذله النفس من عناء في سبيل الاستقامة على منهج الله نوعا من أنواع الجهاد.

وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)([108])، وهو يدل على أن رياضة النفس للحصول على الحلم ممكنة.

والأساس الذي ينطلق منه ما سنذكره من الأساليب العملية هو الإرادة الجازمة القوية التي تقرر مواجهة الخطيئة وقمعها للحصول على الاستقامة، وهذه الإرادة تستدعي ما ذكرنا سابقا من تقوية الإيمان، وتقوية الصلة الروحية بالله بالعبادة، فالعبادة الصادقة هي أساس الفضائل ومنبعها، وقد قال تعالى في الصلاة: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45)، وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:153)

والقاعدة التي يتفق عليها كل ما سنذكره من أدوية، وما لم نذكره هو ما يمكن التعبير عنه بمضادة الصفات.

فالأخلاق الإنسانية كالجسد، تداوى علله بما يداوى به الجسد، وكما أن أدواء الجسد تداوى بما يناقضها، فكذلك أدوية الأخلاق، قال الغزالي مفسرا هذا المثال ومبينا وجه التشابه بين الجسد والنفس التي هي محل الخلق:(مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ـ أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل ـ وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربـية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربـية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبـيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة، فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوّة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها)([109])

وانطلاقا من هذه القواسم المشتركة بين الجسد والنفس، يذكر الغزالي كيفية علاج النفس متخذا من الجسد معبرا لذلك، قال:(وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد)

وهذا التداوي الروحي يستدعي ضوابط ومعايير كما يستدعيه علاج الجسد سواء بسواء، يقول الغزالي:(وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ـ ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه وبالكثرة والقلة، ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد ـ فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار الدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبـيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية؟ فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها)([110])

وهذا يستدعي في نظر الغزالي قائمين على العلاج الروحي كما أن للجسد من يقوم على علاجه، وهذا المعالج الروحي هو الشيخ المتبوع، يقول الغزالي مبينا دور هذا الشيخ:(فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبـيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم)([111])

ويذكر الغزالي الأمثلة عن كيفية تطبيب الشيخ للمريدين، فيقول:(ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته. فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه، فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال، فإن عزة النفس والرئاسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذلّ أعظم من ذلك السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة، وإن رأىالغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بـيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بـينهم وبـين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بـين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله، ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه)([112])

وهذا الشيخ المربي يحتال على النفس بما يعيدها إلى صوابها، فـ (من لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم. كما يرغب الصبـي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة، فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه، وكذلك سائر الصفات)([113])

ومثل ذلك ما لو رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه الصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفه أن يهيـىء الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه.

ومثل ذلك ما لو رآه شاباً متشوقاً إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم، وربما لا تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء. ويمنعه اللحم والأدم رأساً حتى تذل نفسه وتنكسر شهوته… فلا علاج في مبدإ الإرادة أنفع من الجوع.

ومثل ذلك ما لو رأى الغضب غالباً عليه فإنه يلزمه الحلم والسكوت وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.

وقد حكى الغزالي عن بعضهم أنه كان يعوّد نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل.

وذكر عن بعضهم أنه كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب، فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج.

وذكر عن عباد الهند أنهم يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على نصبة واحدة.

انطلاقا من هذا، نحاول في هذا المطلب أن نذكر بعض النماذج عن كيفية ممارسة الأساليب العملية مع الانحرافات الثلاث السابقة:

الانحراف الجنسي

وهو أخطر أنواع الانحراف، وذلك يحتاج إلى مجاهدة كبيرة في الوقاية منه، وخاصة عند ظهور مباديه، كمان به إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(وفرقوا بينهم في المضاجع)

وذلك لأن معالجة الأمر من بدايته تمكن من مواجهته، بخلاف ما لو ترك يعلم في النفس عمله، فإنه من الصعوبة الشديدة مقاومته، وقد ضرب الغزالي لذلك مثلا قريبا يتعلق بنوع من أنواع الانحراف الجنسي، وهو العشق، فقال:(مثال من يكسر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها. ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها. وما أعظم التفاوت بـين الأمرين في اليسر والعسر، فليكن الاحتياط في بدايات الأمور فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح)([114])

انطلاقا من هذا، فإن أهم الأساليب العملية لعلاج الانحراف الجنسي هو الابتعاد عن الاختلاط المسبب للفتنة، وهو ما أشار إليه الحديث السابق.

فلذلك كان من الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها أكثر المجتمعات الإسلامية هو إشاعة الاختلاط في التعليم، بحيث أصبح من الصعوبة الشديدة وقاية كل جنس من إغراءات الجنس الآخر.

ومن العلاج العملي لهذا الانحراف هو شغل وقت من خيف عليه الوقوع في هذا الانحراف بكل شغل يلفت نظره عن هذا الباب.

وذلك لأن الخواطر الشهوانية التي تعمر قلب الإنسان بسبب غفلته وفراغه هي التي تحرضه على المعصية وتحمله عليها.

وقد ضرب الغزالي مثال النفس الإنسانية في ذلك بقبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، أو هو مثل هدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة، ولا تخلو عنها، أو هو مثل حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه([115]).

ومداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ظاهرة وباطنة:

أما الظاهرة فالحواس الخمس، وأخطرها بالنسبة لما نحن فيه حاسة البصر، وأما الباطنة فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان، فإذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب، فإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر.

فالقلب في تغير وتأثر دائم نتيجة هذه الخيالات والأفكار الحاصلة فيه، وأخص هذه الآثار ما يطلق عليه بالخواطر([116])، وهي (ما يحصل في القلب الأفكار والأذكار إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر)

وهذه الخواطر هي المحرك الذي ينشر الرغبة والإرادة (فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالبال لا محالة فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء)

فلذلك كانت الخواطر هي الأساس الذي تنشر منه العفة أو الرذيلة، وكانت هي المحل الذي يبدأ به العلاج، وتتأسس الوقاية.

فالقدرة على صرف الخواطر وتوجيهها وجهة صحيحة يقي القلب من السهام التي يوجهها هذا الحب الآثم إلى القلب، كما قال الشافعي:(صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين أحدهما قولهم الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك وذكر الكلمة الآخرى ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا اشتغلتك بالباطل)

والطريق إلى ذلك هو توجيه القلب إلى الخواطر الصالحة، (وهي على أربعة أصول: خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه، وخطرات يستدفع بها مضار دنياه، وخطرات يسجلب بها مصالح آخرته، وخطرات يستدفع بها مضار آخرته)([117])

فإذا تمكن العبد من حصر فكره في جلب هذه المصالح ودفع تلك المفاسد نجا من هذا النوع من الانحراف، وكسب من المصالح ما يعوض تلك اللذة الوهمية التي تجلبها له خواطره، قال ابن القيم:(فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه فى هذه الاقسام الأربعة، فإذا انحصرت له فيها فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره وإذا تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها قدم الأهم فالاهم الذي يحشى فوته وأخر الذي ليس باهم ولا يخاف فوته)([118])

الكبر

بعد امتلاء الوجدان بالمواعظ الناهية عن هذا الانحراف، والتي سبق ذكر جملها في العلاج العلمي، فإن العلاج العملي ينطلق من مضادة المجتهد ما يتطلبه كبره من سلوك، فإن طلب كبره الوقوف جلس، وإن طلب الجلوس وقف، وإن طلب أرفه الثياب لبس أزهدها، وإن طلب عدم المرور بطريق مر بها، وإن طلب عدم التحرك بحركة تحركها، وهكذا إلى أن يتم علاجه.

ومن الأمور العملية التي ذكرها الغزالي (أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب، فإن ثقل عليه فهو كبر، فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل، فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن، فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر)([119])

ومنها (أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البـيت، فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء، فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلوّ الطريق فهو كبر، وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء، وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك)

ويروى في ذلك عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا يوسف: قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال: أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك؟ فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جرّبها أهي صادقة أم كاذبة؟

ويعينه على ذلك مطالعة أخلاق المتواضعين، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ويقول:(إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ)([120])، وقيل لسلمان. لم لا تلبس ثوباً جديداً؟ فقال:(إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً)

وأكبر ما يفيد في هذا هو التذلل لله والخشوع بين يديه، والذي لا يكمل إلا في الصلاة الحقيقية، فكل أقوالها وحركاتها تربي معاني التواضع في نفس القائم بها، قال الغزالي:(وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عماداً، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود، وقد كانت العرب قديماً يأنفون من الإنحناء، فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه.. فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم، وبه أمر سائر الخلق، فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع)([121])

ومن مظاهر الصدق في معالجة هذا النوع من الانحراف، أن يمتحن الإنسان نفسه أو يمتحنه من يربيه، ليقمع الأسباب الخفية لهذا الانحراف.

ومن صور الامتحان التي ذكرها الغزالي أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه، فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبـيهه وتعريفه وإخراجه الحق، فذلك يدل على أن فيه كبراً دفيناً، فيعالجه بالعلم ـ كما ذكرنا سابقا ـ بأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى.

وبالعمل بأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء، ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول: ما أحسن ما فطنت له وقد كنت غافلاً عنه فجزاك الله خيراً كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها.

ويشترط الغزالي لهذا السلوك المواظبة عليه مدة إلى أن يؤتي ثماره في النفس، قال:(فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعاً، وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له قبوله، ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه ما فيهم ففيه كبر، فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء)([122])

وفي هذه الحالة يحتاج إلى علاج الرياء بأساليبه العلمية والعملية الخاصة، والمذكورة في محالها من كتب السلوك.

ومن صوره ـ كما يذكر الغزالي ـ أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم، فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر، فليواظب عليه تكلفاً حتى يسقط عنه ثقله، فبذلك يزايله الكبر.

وقد نبه الغزالي ـ هنا ـ إلى حيلة شيطانية يتلبس بها المتكبر الذي يرى في صورة المتواضع، فقال:(وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجعل بـينه وبـين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر، فإن ذلك يخفّ على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل، فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضاً، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بـينهم بجنبهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال، فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن)([123])

الغضب

ينطلق العلاج العملي لانحراف الغضب من مواجهة أسباب الغضب بما يضادها، كما ذكرنا في الكبر ـ قال الغزالي:(وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل)([124])

وهذا يستدعي في كثير من الأحيان أعوانا يستعان بهم على دفع هذا الانحراف، ويروي المعتمر بن سليمان من ذلك أنه كان رجل من الأمم السالفة يغضب فيشتدّ غضبه فكتب ثلاث صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول: إذا غضبت فأعطني هذه، وقال الثاني: إذا سكن بعض غضبـي فأعطني هذه، وقال الثالث إذا ذهب غضبـي فأعطني هذه، فاشتد غضبه يوماً فأعطي الصحيفة الأولى فإذا فيها (ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً)، فسكن بعض غضبه، فأعطي الثانية فإذا فيها (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)، فأعطي الثالثة فإذا فيها (خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك)

ويروى أن المهدي غضب على رجل فقال شبـيب:(لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه)، فقال: خلوا سبـيله.

ومما يعين على هذا انشغال القلب بالمهمات التي تصرفه عن غضبه، وعما يستدعيه غضبه من سلوك، لأن انشغال القلب دواء لأكثر العلل.

ومن أعظم الأشغال اشتغال الإنسان بمصيره، ويروى في هذا أن سلمان شتمه بعضهم، فقال له:(إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول)، فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم.

ومثل ذلك ما يروى أنه شتم رجل الربـيع بن خثيم فقال:(يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول)

أو ينشغل بحقوق ربه وعيوب نفسه، ويروى في هذا أن رجلا سب أبا بكر فقال:(ما ستر الله عنك أكثر) قال الغزالي معلقا على قوله:(فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان، إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره)

ومثل ذلك ما يروى أن امرأة مالك بن دينار قالت له: يا مرائي، فقال:(ما عرفني غيرك)

وسب رجل الشعبـي فقال:(إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك)

أما حال الغضب، فيعالج بما ورد في السنة من أنواع العلاج، ومنها:

الاستعاذة: كما ورد في الحديث عَنْ سليمان بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجلان يستبان، وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:(إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عَنْه ما يجد، لو قال أعوذ باللَّه مِنْ الشيطان الرجيم ذهب عَنْه ما يجد)، فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(تعوذ باللَّه مِنْ الشيطان الرجيم)([125])

تغيير الحركة: وذلك بالجلوس في حال كونه قائماً، والاضطجاع إن كان جالساً لأن (سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة) فقد قال رسول الله:(ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض)([126])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)([127])

الوضوء: فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل)([128])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)([129])

ثالثا ـ الفضائل الخلقية وكيفية تنميتها

بعد تهيئة تربة نفس المتلقي بوقايته من كل أسباب الانحراف، ثم علاج ما يظهر من مظاهره، أو ما يختفي من منابعه، فإن العمل الأضخم الذي يقوم به المربي هو تكميل نفس المتلقي، وغرس الفضائل الخلقية التي تهيئها للمقامات الرفيعة، وتحققها بالكمال الإنساني.

وذلك لأن درجة التحقق بالفضائل هي التي تحدد درجة كمال الإنسان، ولهذا أثنى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)

ولهذا وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خياركم أحاسنكم أخلاقا)([130])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)([131])

بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حسن الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا:(يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال:(المتكبرون)([132])

ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)([133])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)([134])، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.

وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال:(تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:(الفم والفرج)([135])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)([136])

انطلاقا من هذه المنزلة الرفيعة لهذه الفضائل الخلقية سنتحدث في هذا المبحث عن أمرين مهمين، كلاهما من قواعد هذا الباب وأصوله:

الأول: هو التعرف على حقيقة الخلق وضوابطه، والتي من خلالها يمكن التعرف على منابعه ومظاهره.

الثاني: هو التعرف على الطرق التي تنال بها الفضائل الخلقية، والتي من خلال ممارستها يمكن للمربي أن يغرس هذه الفضائل في النفس.

1 ـ حقيقة الخلق وضوابطه

حقيقة الخلق

لعل أشهر تعريف للخلق هو أنه (هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر)([137])، ولعل أول من أطلق هذا التعريف بهذه الألفاظ هو أبو حامد الغزالي([138])، وقد دعاه إلى هذا التعريف، هو تحليله للمكونات التي يصدر منها أي سلوك أخلاقي، وهي ـ بحسب النظر العقلي ـ أربعة أمور:

الفعل: وهو السلوك الظاهر سواء كان جميلا أو قبيحا، وهذا لا يعتبر بحد ذاته خلقا، يقول الغزالي:(ليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء)

القدرة: وهو المصدر الذي انطلق منه الفعل، والغزالي لا يعتبرها أيضا خلقا، ولا محلا للخلق، وذلك (لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدّين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك، وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء)

المعرفة: لأنه من المكونات الأساسية لأي سلوك أخلاقي، وهو كذلك ليس خلقا، ولا من الخلق، لأن (المعرفة تتعلق بالجميل والقبـيح جميعاً على وجه واحد)([139])

الهيئة النفسية: التي يتمكن بها صاحب الخلق من الميل إلى أحد الجانبين، ويتيسر عليه أحد الأمرين؛ إما الحسن وإما القبـيح، والغزالي يقصر الخلق عليها، لأنها هي موضع الاختيار الذي يحدد الجهة التي يميل إليها الإنسان حسنا أو قبحا.

أصول الأخلاق:

انطلاقا من معرفة حقيقة الخلق، وأنه الهيئة الراسخة التي تنطلق منها الأفعال الحسنة أو القبيحة، فقد تحدث علماء الأخلاق من المسلمين ـ كما تحدث من قبلهم ـ عن الأصول التي تنطلق منها الأخلاق، منطلقين في ذلك من قياس الخلق الظاهر على الخلق الباطن، فالخلق هو الصورة الظاهرة، كما أن الهيئة التي تصدر منها الأخلاق هي الصورة الباطنة، يقول الغزالي:(كما أن حسن الصورة الظاهر مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر؛ فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق. فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق)

وهذه الأركان الأربعة، كما يرى الغزالي هي (قوّة العلم، وقوة الغضب، وقوّة الشهوة، وقوّة العدل بـين هذه القوى الثلاث)

وقبل أن نذكر رأي الغزالي في أصول الأخلاق ومنابعها، نحب أن ننبه إلى أن النصوص القرآنية، ومثلها النصوص النبوية قد ذكرت أنواعا من أصول الأخلاق بحسب التقسيمات المختلفة، بل إن الغزالي نفسه ـ كما سنرى ـ ينص على أن الأصول التي اعتمدها وردت الإشارة إليها من القرآن الكريم.

وأول ما يفاجئنا في القرآن الكريم من هذه الأصول هو قوله تعالى وهو يجمع مكارم الأخلاق: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199)

فقد نص السلف على أن هذه الآية من أجمع الآيات لمكارم الأخلاق، قال الإمام جعفر الصادق:(أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية) ([140])

بل قد وردت النصوص النبوية الدالة على احتواء هذه الآية على أصول الأخلاق، مفسرة لها بما يقتضي انحصار الأخلاق فيها، فعن جابر قال: لما نزلت هذه الآية { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال: حتى أسأل، فصعد ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك)([141])

وهذا يد على انحصار الخلاق في هذه الأصول، وقد نظمها بعض الشعراء فقال:

مكارم الأخلاق في ثلاثة

   ممن كملت فيه فذلك الفتى

إعطاء من تحرمه ووصل من

   تقطعه والعفو عمن اعتدى

ويدل على هذا ما ورد في نصوص أخرى من أن هذه الأخلاق المذكورة في الآية هي من أمهات الأخلاق وخيرها، كما روي ذلك في أحدايث مختلفة، فعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟ قال: قلت يا رسول الله، نعم. قال: تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك)([142])، وعن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)([143])، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(ألا أدلكم على كرائم الأخلاق للدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتجاوز عمن ظلمك)([144])

ولهذا كانت هذه الآية الكريمة ـ بما تحمله من المعاني الجليلة ـ شعارا للصالحين، وضياء يهتدون به في تعاملهم مع الخلق.

وقد حاول العلماء انطلاقا من هذا أن يبينوا وجه انحصار الأخلاق في هذه الأصول، فقال القرطبي:(هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: { خُذِ الْعَفْوَ } دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة)([145])

وقال ابن القيم، وهو يبين وجه انحصار الأخلاق في هذ الآية:(لا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال:

1. أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم.

2. أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة.

3. أن الناس معه قسمان: موافق له موال ومعاد له معارض.

وعليه في كل واحد من هذه واجب، فواجبه في أمرهم ونهيهم أن يأمر بالمعروف وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم، وينهاهم عن ضده، وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة أن يأخذ منهم ما سهل عليهم وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا، ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم، وواجبه عند جهل الجاهلين عليه الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه)([146])

فهذه الآية الكريمة هي أول ما نسترشد به في بيان أصول الأخلاق وأركانها، وعلى هديها تحدث السلف ومن بعدهم على أصول أخرى للأخلاق بحسب التقسيمات المختلفة.

ومن الأقوال في ذلك، وهي تحتاج إلى تحليل لا نرى محلا لتفصيله هنا قول الإمام علي:(حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال)، وقال الحسن:(حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى)، وقال الواسطي:(هو أن لا يخاصِم ولا يخاصَم من شدّة معرفته بالله تعالى)، وقال شاه الكرماني:(هو كف الأذى واحتمال المؤن)، وقال بعضهم:(هو أن يكون من الناس قريباً وفيما بـينهم غريباً)، وقال الواسطي:(هو إرضاء الخلق في السراء والضراء)، وقال أبو عثمان:(هو الرضا عن الله تعالى)، وسئل سهل التستري عن حسن الخلق فقال:(أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه)، وقال مرة:(أن لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بـينه وبـينه وفيما بـينه وبـين الناس)

ومن الأقوال في ذلك قول الشيخ عبدالقادر الكيلاني:(كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس)، وقد ذكر ابن القيم هذا القول معظما له، وقال:(مدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق على حرفين ذكرهما الشيخ عبدالقادر الكيلاني)([147])

ثم ذكر وجه انحصار الخلق، بل السلوك فيهما جميعا، فقال:(فتأمل ما أجل هاتين الكلمتين مع اختصارهما وما أجمعهما لقواعد السلوك ولكل خلق جميل، وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله تعالى وتوسط النفس بينك وبين خلقه، فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله تعالى، وعزلت النفس حال كونك مع الخلق فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم وشمروا إليه وحاموا حوله)([148])

ومن أصول الأخلاق ما نص عليه ابن القيم من اجتماع الأخلاق في ثلاثة أشياء في (العلم والجود والصبر)([149])، ووجه انحصار الأخلاق في هذه الأصول هو أن:

1. العلم يرشد إلى مواقع بذل المعروف، والفرق بينه وبين المنكر، وترتيبه في وضعه مواضعه فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا بالعكس ولا الإمساك موضع البذل ولا بالعكس، بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق أين يضعه وأين يحسن استعماله.

2. الجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه والاستقصاء منها بحقوق غيره، فالجود هو قائد جيوش الخير.

3. الصبر يحفظ عليه استدامة ذلك، ويحمله على الاحتمال وكظلم الغيظ وكف الأذى وعدم المقابلة، وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب من خير الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)

ومن أصول الأخلاق ما نص عليه ابن القيم ـ كذلك ـ من قيام الأخلاق على أربعة أركان (لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل)([150])، ووجه انحصار الأخلاق في هذه الأصول هو أن:

1 ـ الصبر، وهو يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.

2 ـ العفة، وهي تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة.  

3 ـ الشجاعة، وهي تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهوحقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه)  

4 ـ العدل، وهو يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس.

ومن أصول الأخلاق ما سبقت إليه الإشارة من محاولة الغزالي حصر أمهات الأخلاق في اربعة أصول هي (الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل)، واعتبار باقي الأخلاق فروعا لها، قال الغزالي:(ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه، فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بـين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال، ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بـين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد، فينبغي أن يبعد، كما أن الأوّل قريب من الملك المقرّب فينبغي أن يقتدي به ويتقرّب إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق)([151])

وقد استتدل الغزالي لهذه الأصول بقوله تعالى في أوصاف المؤمنين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)

وبين وجه الإشارة في الآية، فقال:(فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوّة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوّة الغضب على شرط العقل وحدّ الاعتدال)

وقد انطلق الغزالي لوضع هذا التصنيف الحاصر من القوى الموهوبة للإنسان، لأن الهيئة الراسخة التي تصدر عنها الأخلاق تتعامل مع تلك القوى وتوجهها.

وهذا تعريفه لهذه الأصول، ومنابعها، والثمرات الأخلاقية التي تصدر منها:

الحكمة: وهي حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية.. من اعتدالها يحصل: حسن التدبـير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس.. ومن إفراطها: يصدر المكر والخداع والدهاء.. ومن تفريطها: يصدر البله والحمق والجنون وقلة التجربة في الأمور.

والفرق بـين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له رؤية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرص، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً.

العدل: وهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع، أو هي حالة للنفس وقوّة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.

وقد فسر هذه التعريف بقوله:(فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس. والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروّضاً مؤدّباً وتارة يكون جموحاً، فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض)([152])

ولذلك، فإن هذا الأصل هو الضابط لسائر الأوصاف والقوى الإنسانية، بل هو الأصل في اعتبارها أخلاقا، فـ (حسن القوّة الغضبـية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوّة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة، فإن مالت قوّة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوّراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوّة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً، وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً، والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان، والعدل إذا فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضدّ واحد ومقابل وهو الجور، وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة، ويسمى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة).

وسنرى في المطلب التالي أن ما سماه الغزالي (العدل) هنا هو نفس (الاستقامة) كما اصطلح عليها الشرع، فهي ضابط الأخلاق ومقوم اعوجاجها.

الشجاعة: وهي كون قوّة الغضب منقادة للعقل في إقدامها واحجامها، ويصدر منها الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة. وأما إفراطها وهو التهوّر. فيصدر منه الصلف والبذخ والاستشاطة والتكبر والعجب. وأما تفريطها: فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب.

العفة: وهي تأدّب قوّة الشهوة بتأديب العقل والشرع، ويصدر منها السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع.

وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط: فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.

ضوابط التخلق

كما أن جمال الأشياء وحسنها يتجلى أكثر ما يتجلى في تناسقها، وانتظامها مع بعضها انتظاما ينفي طغيان بعضها على بعض، فكذلك الأخلاق ـ التي هي صورة الباطن ـ تستدعي تناسقا بين أصولها، يجعل منها مظهرا من مظاهر الجمال، ومجلى من مجالي الحسن.

وكمثال قرآني على ذلك موقفه من أكل الشهوات أو استعمالها، والذي تنشأ عنه الأخلاق الخاصة بهذه القوة من قوى الإنسان، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم مقيدا بما يمنعه من الطغيان، قال تعالى، وكأنه يعرض مائدة نعمه على خلقه: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام:141)

ففي الآية الكرية دعوة للأكل تنافي ما يدعو إليه الرهبان من الجوع، ولكنها لا تنسجم كذلك مع ما يدعوا إليه أهل الشهوات من الاقتصار على الأكل المجرد، بل تضم إليه أمرين:

1. عدم الإسراف، حتى لا ينمي هذا الأكل في الإنسان أخلاق اليهيمية التي لا تبالي ما تأكل، ولا كيف تأكل، وهذا ما نص عليه قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لأعراف:31)

2. البذل، وعدم نسيان المحتاجين، لأن الشهوة قد تولد الحرص المولد للبخل، فلذلك تعارض الشهوة بالبذل.

ومن الأمثلة ـ كذلك ـ قوله تعالى، وهو يحض في وقت واحد على الإنفاق والتقتير: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)، فغل اليد إلى العنق يولد صفة البخل، وهي من شر الصفات، وبسط اليد كل البسط، قد يولد الفاقة والفقر، وهو كذلك منبع من منابع الانحراف، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(كاد الفقر أن يكون كفرا)([153])

وهكذا نجد كل سلوك محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان، ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم لذلك: أن الجود يكتنفه خلقا البخل والتبذير، والتواضع يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو (فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس)([154])  

ومنها أن الهيئة النفسية إن انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجر طبع كما قال بعضهم:

تبكي علينا ولا نبكي على أحد  فنحن أغلظ أكبادا من الإبل

ومنها أن الهيئة النفسية إذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة، ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل:

كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجىء إليها اللئام

ومنها أن الهيئة النفسية إذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة، والرفق والأناة بينهما.

وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر، وإما إلى ذل، والعزة المحمودة بينهما.

 وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.

وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.

وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت إما إلى حرص وكلب، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة.

وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، (كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد، ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك، وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود، ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم، وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم)([155])

ومثل ذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود، فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد وطي البشر عن البشر، وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة ويزيل الوقار ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة والنفرة في قلوب الخلق، وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب عزيز جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه)

وانطلاقا من هذا، فإن الأخلاق تحتاج إلى ضوابط تحميها من من طرفي الإفراط والتفريط، وتجعلها متناسقة مع بعضها البعض، فلا يطغى فيها جانب على جانب بحيث يؤثر ذلك في جماله وكماله.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الضوابط التي تحمي الأخلاق بمصطلح (الاستقامة)، الذي ورد في مواضع متعددة من القرآن الكريم، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الاحقاف:13)، وقال تعالى: { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (الجـن:16)

وأمر تعالى بالدعوة إليها، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (فصلت:6)، وقد لبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر الإلهي، عن سفيان بن عبدالله قال: قلت:(يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك) قال:(قل آمنت بالله ثم استقم)([156])، وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)([157])

وقد فسرها في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:1121)، فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود فى كل شىء.

والاستقامة ـ كما عرفها العماء ـ هي الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين ولا جهة الشمال؛ ولا جهة الإفراط ولا جهة التفريط.

وهذا هو مصدر صعوبة تحقيقها، لأن الوسط الحقيقي الذي لا ينحرف إلى أي جهة من الجهات صعب تحقيقه في الحس، فكيف بتحقيقه في المعنى، قال الغزالي:(ولما كان الوسط الحقيقي بـين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحدّ من السيف فلا جرم ومن استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم ـ أعني الوسط ـ حتى لا يميل إلى أحد الجانبـين فيكون قلبه متعلقاً بالجانب الذي مال إليه. ولذلك لا ينفك عن عذاب ما، واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} (مريم:71)، أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة)([158])

ولهذا ذكر أن أمره تعالى بتحقيق غاية الاستقامة الوارد في سورة هود هو الذي شيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([159])، فقد روى عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلمفي المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت:(شيبتني هود) فقال:(نعم) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال:(لا، ولكن قوله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(هود:1121).

وقد ذكر الغزالي أصلا سلوكيا مهما في التربية على الاستقامة الممثلة لحقيقة الأوامر الإلهية، فقال (إن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتسيير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك)([160])

وهو أصل سلوكي مهم، ولكنه مع ذلك فيه من الصعوبة ما فيه، لأن الاطلاع على حقيقة ما تستلذه النفس وما يخف عليها يكاد يكون مستحيلا، فللنفس من التقلبات ما يعجز معه التعرف على حقيقة مطالبها وأذواقها عرفانا كاملا.

ولهذا أذن الشرع في المقاربة، وهي درجة أدنى من الاستقامة، كما نص على ذلك قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التغابن:16)، فقد أمر بالتقوى في حدود الاستطاعة، وهي نوع من المقاربة.

ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) حتى يزعم النسخ، لأن القرآن الكريم كله محكم، وإنما لكل آية مجالها.

ومجرد التأمل في سياق الآيتين يكفي للدلالة على مجال كل منهما:

فالآية المرخصة في المقاربة وردت أثناء قوله تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(التغابن: 14 ـ 16)

فهي ترخص في المقاربة في الأمور التي يصعب فيها الضبط، بل قد يستحيل، وذلك في علاقة الرجل مع أهله وأولاده، ونحو ذلك كما قال تعالى في صعوبة تحقيق العدل الكامل بين الزوجات: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:129)

ولهذا ورد التيسير وسرعة المغفرة في الأخطاء المتعلقة بهذا الجانب، مادام من وقع فيها يتحرى الاستقامة ما استطاع، فعن حذيفة قال: كنا جلوسا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفتنة كما قال؟ قال فقلت: أنا، قال: فقال: إنك لجريء! وكيف؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الحديث([161]).

بل ورد في حديث ضعيف أن ما يحصل للإنسان بسبب همومه في طلب المعيشة يكفر الذنوب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، تكفرها الهموم في طلب المعيشة)([162])

وفي هذا وأمثاله ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)([163])

أما الآية المشددة الآمرة بلزوم تقوى الله حق تقاته، أو الآمرة بلزوم الاستقامة في قمة درجاتها، فقد وردت في سياق قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(آل عمران:100 ـ 103)

وهو سياق المفاصلة بين الإيمان والكفر، بإخلاص الوجه لله والتبرؤ المطلق من الكفر، وهو أمر مستطاع من جهة، ويستدعي الحسم من جهة أخرى، ولهذا قال تعالى في هذا النوع من التقوى مبينا موقف إبراهيم u من أبيه: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114)

ويدل لهذا قول ابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ بعدم نسخها، فقد روي أنه قال:(إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم)، وهو نفس ما ذكرنا مما يدل عليه السياق.

أما ما أورده المفسرون من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)([164])، وهو أمر يكاد يكون مستحيلا، فليس هو من هذا الباب، بل مراده صلى الله عليه وآله وسلم ـ والله أعلم بمراد رسوله ـ أن التقوى الكاملة هي هذه التقوى، لا أنها هي التقوى المأمور بها، لأن التقوى المأمور بها نوعان:

نوع شديد: وهو تحقيق كل الطاعات بأعلى قممها مع البراءة من جميع المعاصي إيمانا وسلوكا، وهذا لا يتحقق في منتهى كماله بهذه الصفة إلا في حق المعصومين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، وإنما ذكر وأمر به حتى يشعر كل شخص بتقصيره في حق الله مهما اجتهد في ذلك الحق.

نوع مستطاع: وهو إخلاص الوجه لله والبراءة من الكفر، وهو أصل أصول الدين الذي لا مندوحة في تركه.

وقد ورد في السنة ما يؤيد أن المطلوب هو بذل الجهد المستطاع للوصول إلى قمة الاستقامة، لا الأمر بالاستقامة ذاتها، بل الاستقامة غاية شريفة تتفاوت النفوس الفاضلة في الدنو منها، ومع ذلك لا تكف عن طلبها لذلك الدنو وشوقها له، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لن يدخل أحدا عمله الجنة)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته، فسددوا وقاربوا، ولا يتمن أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد خيرا، وإما مسيء فلعله أن يستعتب)([165])

وعلى ما ذكرناه من الاكتفاء بالمقاربة مع الشوق للاستقامة هو ما نص عليه علماء السلوك المسلمين، قال الغزالي:(فالاستقامة على سواء السبـيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعدّدها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب)([166])

انطلاقا من هذا يذكر السلف أصلين يكثرون الوصية بهما من تحقق بهما قرب من الاستقامة ـ التي هي قمة قمم الأخلاق الفاضلة ـ قربا عظيما، هما (الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة)([167])

قال بعض السلف:(ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصان)،

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبدالله بن عمرو:(يا عبد الله بن عمرو إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنة أفلح ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر)([168])، وقد قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل.

يقول ابن القيم معلقا على أهمية هذه الوصايا، ووجه الاكتفاء بها في حصول الاستقامة:(إن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها كما أن الأول خارج عن هذا الحد فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر)([169])

2 ـ طريق التخلق

قبل الحديث عن المنهج الإسلامي للتخلق نردد ما ذكرنا سابقا من أن كل الأدلة الشرعية والعقلية والعادية تدل على أن الأخلاق من الأمور القابلة للتغيير، وهذ هو الأساس الأول للاهتمام بالمناهج المثلى التي تحقق التخلق.

لأن القول بعدم إمكانية تغيير الأخلاق، أو أن الطبع يغلب التطبع، أو ما يشاع من الأمثال الشعبية الكثيرة التي تجعل كل إنسان قالبا معينا يستحيل تحريفه لأي جهة يحيل البحث عن المناهج، لأن البحث عنها أو تنفيذها يصبح تعبا لا طائل وراءه.

ولكن مع ذلك، فإن النفوس مختلفة في قدرتها على تغيير أخلاقها، انطلاقا من أسباب كثيرة، لها أهميتها الكبرى في هذا الباب، وقد عد الغزالي من هذه الأسباب على سبيل الحصر:

1 ـ قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداده مدّة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان، ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيـير قوة الشهوة، فإنها أقدم وجوداً، إذ الصبـي في مبدإ الفطرة تخلق له الشهوة، ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب، وبعد ذلك يخلق له قوة التميـيز.

2 ـ أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه([170]).

وانطلاقا من هذا قسم أصناف الخلق من حيث القدرة على تغيير أخلاقهم إلى أربع مراتب، لها أهميتها الكبرى في التعامل التربوي مع مختلف الأصناف:

الأولى: وهي مرتبة من لا يميز بـين الحق والباطل والجميل والقبـيح، بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات، وقد سماه الغزالي (الإنسان المغفل)، وذكر انه أسرع الناس للعلاج، فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد، وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان، وسبب ذلك أن انحرافه كان بسبب جهله فقظ.

الثانية: وهي مرتبة من عرف قبح القبـيح، ولكنه لم يتعوّد العمل الصالح، بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه، ولكن علم تقصيره في عمله، والغزالي يعتبره جاهلا وضالا.

وهو ـ في نظر الغزالي ـ محل قابل للرياضة، إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم، ولكن مع ذلك، فإن أمره أصعب من الأول، إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه؛ إذ عليه قلع ما رسخ في نفسه أوّلاً من كثرة الاعتياد للفساد، ثم يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح.

الثالثة: وهي مرتبة من يعتقد في الأخلاق القبـيحة أنها الواجبة المستحسنة، وأنها حق وجميل وتربى عليها، والغزالي يعتبره جاهلا وضالا وفاسقا، ويرى أن علاجه يكاد يكون مستحيلا، بسبب تضاعف أسباب الضلال.

الرابعة: وهي مرتبة من يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربـيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر، واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره، والغزالي يعتبره جاهلا وضالا وفاسقا وشريرا.

وهو يرى الصعوبة الشديدة لعلاج من هذا حاله، ويرى أن ما ذكر من استحالة تعيير الأخلاق قد ينطبق عليه، قال:(وهذا هو أصعب المراتب. وفي مثله قيل: ومن العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب)([171])

انطلاقا من هذا، فقد ذكر علماء السلوك المسلمين طريقين مهمين للتخلق، يختلف الجهد المبذول فيهما بحسب طبيعة النفوس ومرتبتها في سرعة الانقياد أو بطئه، وهذان الطريقان هما:

مجاهدة النفس

كما أن كل كمال في الإنسان لا يتحقق إلا بجهد عظيم يبذله لتحقيقه، كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد:4)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق:6)، فإن الهيئة النفسية للإنسان، والتي تصدر عنها الأخلاق تحتاج هي الأخرى ـ إذا ما أراد صاحبها تعديلها ـ إلى جهد عظيم ورياضة شديدة، خاصة إذا انحرفت انحرافا خطيرا عن الجبلة التي خلقت عليها.

ويشير إلى هذا الطريق قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات:40 ـ 41)، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)

بل يشير إلى هذا كل النصوص التي تدل على اختلاف مراتب النفوس، لأن الانتقال من مرتبة إلى مرتبة يحتاج إلى مجاهدة عظيمة، قال تعالى عن أخطر مراتب النفس: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف:53)، وقال عن النفس المجاهدة: { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة:2)، وقال عن النفس التي بلغت مرادها: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر:27)

وتنطلق المجاهدة من مسلمة هي (أن إعطاء النفس مناها، وتيليغها ما تريده من شهواتها هو سبب انتكاستها عن حقيقتها)، فلذلك كانت المجاهدة هي رد النفس إلى جادة الصواب بالتشدد عليها والتضييق على مراداتها حتى تستقيم على الحق.

وقد يشير إلى هذا قول طالوت لجنوده: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} (البقرة:249)، فقد كان هذا نوعا من الابتلاء، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى.

فالماء مباح لا حرمة فيه بدليل أنه أجاز الاغتراف منه، ولكنه أمرهم بمجاهدة النفس في تركه، ليظهر مدى تحكمهم في أنفسهم وشهواتهم، لأن أساس الفساد هو تحكم النفس في الإنسان، لا تحكم الإنسان في النفس.

ولهذا وردت العقوبة الشديدة لمن أفطر متعمدا في رمضان، وذلك لتعود لإنسان سيطرته على نفسه، فلا تهلكه في الهالكين.

وفي الدلالة على هذا تروى الآثار الكثيرة التي تكاد تجعل هذه المسألة إجماعا، كما قال جعفر بن حميد:(أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم)

ومن الآثار المروية عن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في ذلك ما يروى أن الله تعالى أوحى إلى داود u:(يا داود حذر وانذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة)، وقال عيسى u:(طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره)، ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف u، بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابـية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفاً من عظماء مملكته:(سبحان من جعل الملوك عبـيداً بالمعصية وجعل العبـيد ملوكاً بطاعتهم له. إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبـيداً وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبـيد ملوكاً)، فقال يوسف u، كما أخبر الله تعالى عنه: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90)

وهكذا الآثار الواردة عن السلف، فعن الإمام علي قال:(من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا)، وعن سفيان الثوري قال: ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نفسي مرة لي ومرة عليَّ، وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه: يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين كأني بك بـين الجنة والنار تحبسين، يا نفس ألا تستحين وقال الحسن: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام، وكان مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك عليَّ.

ووصف يحيـى بن معاذ الرازي طريقا كاملا من طرق السلوك الأخلاقي، فقال:(جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام، فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات، وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى، وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت عليها سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بـين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها؛ فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان)

وقد يقال هنا: لقد وردت النصوص الكثيرة بإباحة الطيبات، والشهوات، فكيف يقال بتركها ومجاهدة النفس في مخالفتها، وما علاقة ذلك بالسلوك الأخلاقي؟

والجواب عن هذا: أن الطيبات تظل مباحة لا يحرمها أحد، وكيف يجسر أحد على تحريم ما أحل الله { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)

ولكن الذي أباح هذه الطيبات هو الذي نهى عن الانشغال بها عن الله، وعن تكميل النفس، وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)، وقال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46)

زيادة على ذلك، فإن من لم يجرب نفسه في إمساكها عن المباح، ما الذي يضمن له قوته على إمساك نفسه عن الحرام، ولأجل هذا شرع الصوم، حتى تترك النفس شهواتها المباحة بمحض إرادتها، ولهذا قال تعالى عقب الأمر بالصوم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)

فتقوى الله تحتاج إلى التورع عن بعض الحلال لتجنب الوقوع في الحرام، قال الغزالي:(لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات)([172])

وضرب الأمثال على ذلك، فقال:(من أراد حفظ لسانه من الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت؛ إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين، حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة. ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلا ما لا يحل، وكذلك سائر الشهوات، لأن الذي يشتهي به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام، فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعوّدها الاقتصار على قدر الضرورة من الشهوات غلبته. فهذه إحدى آفات المباحات)

وزيادة على هذا، فإن التنعم المبالغ فيه بالدنيا، بحجة إباحتها يجعل النفس (ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره. وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة، وهذا هو موت القلب)

ولهذا ورد في القرآن الكريم النهي عن الركون للدنيا، والاطمئنان إليها، قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86)، وقال تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32)، وقال تعالى: { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } (الأنعام:70)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} (يونس:7)

انطلاقا من هذا، فإن المجاهدة الصحيحة المضبوطة بالضوابط الشرعية، هي المجاهدة التي يكون لها برنامج خاص هادف ينطلق من معرفة صفات النفس، وأمراضها، ثم كيفية علاجها، وقد وضع الغزالي في كتاب (التفكر) برنامجا لذلك يمكن الاستفادة منه في هذا المجال، وقد فصلنا هذا البرنامج في رسالة خاصة من رسائل السلام سميناها (مرابطات النفس اللوامة)

ولذلك سنكتفي هنا بذكر موضوع المجاهدة، وكيفية استثمارها في تنمية الاستقامة كما أردتها الشريعة، فالمجاهدة تستلزم ركنين أساسيين:

المراغمة:

وذلك بحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب من سلوك، فيتصرف بفعله، وإن خلا من ذلك قلبه وهيئته النفسية، وذلك لأن لافعال الجوارح آثارها ـ لا محالة ـ على القلب والهيئة النفسية، كما أن للهيئة النفسية تأثيرها على الجوارح.

وقد ضرب الغزالي لهذا أمثلة ونماذج يمكن الاستفادة منها في التربية عل ىسائر الأخلاق، قال:(فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً ويتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له وطبعاً فيتيسّر عليه)([173])

ثم قال معمما ذلك على سائر الأخلاق:(وجميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذاً فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة، وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها، ويكره الأفعال القبـيحة ويتألم بها، كما قال: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)، ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به)

المواظبة:

انطلاقا من الركن الأول، فإن حمل النفس على خلق من الأخلاق لن يؤتي ثماره بترسيخ الخلق في النفس إلا بالمواظبة والتكرار، فللتكرار أثره العظيم في ترسيخ الخلق، كما أن للتكرار أثره في ترسيخ أي شيء من الأشياء في الذاكرة، قال الغزالي:(وهذا من عجيب العلاقة بـين القلب والجوارح ـ أعني النفس والبدن ـ فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دور)([174])

ويضرب لذلك مثالا بمن أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية ـ حتى يصير كاتباً بالطبع ـ فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع.

ويطبق هذ المثل على التربية الأخلاقية، فيقول:(وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك، وكما أن طالب فقه النفس لا يـيأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم)([175])

ولهذا كانت العبادات حميعا تستدعي التكرار وتتطلبه لتؤتي ثمارها التي أرادها الشرع، ولذلك قال تعالى في الصلاة: { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج:23)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام:92)

وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أحب الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ)([176])، وقالت عائشة:(وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه)، وقال لابن عمرو:(يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل)([177])

ولهذا ذكرنا في المبحث السابق أن المواظبة على الصغائر قد تكون أخطر من فعل كبيرة واحدة من غير تكرار ولا عودة.

ومما يدل على تأثير المواظبة على الفعل في ترسيخه في النفس أن النفس إذا أدمنت شيئا صعب إقلاعها عنه، بل قد يصبح خروج الروح أهون عليها من الإقلاع، يقول الغزالي في رد استغراب تأثير المواظبة في ترسيخ الأخلاق والعبادات والتلذذ بها:(لا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين، ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛ فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة، ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار، مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بـيته وتركه مفلساً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة. وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائماً على رجليه وهو لا يحسّ بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء، بل نرى الفاجر العيار يفتخر بما يلقاه من الضرب والقطع والصبر على السياط، وعلى أن يتقدم به للصلب وهو مع ذلك متبجح بنفسه وبقوّته في الصبر على ذلك، حتى يرى ذلك فخراً لنفسه، ويقطع الواحد منهم إرباً إرباً على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية، فقد صارت أحواله مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره، بل لا حالة أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكماله في تخنثه يتباهى به مع المخنثين، حتى يجري بـين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجرى بـين الملوك والعلماء. فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف)([178])

فإذا كانت هذه السلوكيات مع انحرافها وخروجها عن الفطرة والطبيعة الإنسانية قد رسخت في قلوب أصحابها هذا الرسوخ فكيف لا يرسخ الحق والخير والجمال، وهو من مقتضيات الجبلة وطبيعتها؟

ولعله لأجل هذا قال تعالى في تأثير الصلاة بالمداومة عليها: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)

فقد أخبر بأن الصلاة بذاتها بشرط القيام بها ـ وهو يعني أول ما يعني المحافظة عليها ـ سيكون له تأثيره لا محالة في نهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر.

سياسة النفس

وهي الركن الثاني من أركان التخلق، وقد يحسبه البعض توجها من التوجهات، أو مدرسة من مدارس السلوك ـ كما سنذكر عن ابن القيم ـ ولكنه في الحقيقة لا يغني الركن الأول عن الثاني، ولا الثاني عن الأول، وإن كان قد أسيء فهم الركن الأول بسبب عدم ضبطه بالضوابط الشرعية.

ولشرح هذا الركن وكيفيته نذكر مقالة ابن القيم وتعظيمه لهذا الركن، فقال مقدما لحديثه عن هذا الركن:(فصل نافع جدا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب ويسيره بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها، فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها)([179])

وهو يرد على من اجتهد في الرياضات الصعبة من غير الحصول على طائل، فيقول:(وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها، ولم يظفر أكثرهم بتبديلها، لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها، فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على مملكة الطبع)  

بينما هذا الطريق الذي ذكره ـ وهو ما سميناه بسياسة النفس ـ (يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها)

وقد ذكر مثالا قدم به ـ وهو مهم جدا في تصوير قيمة هذا الركن ـ، وهو المواقف المحتملة من نهر جار في صببه ومنحدره يريد تغريق أرض وعمران ودور وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم، وهذا النهر الجاري يشبه في الحقيقة ما أمدت به النفس من قوى يمكنها إن جرت بحسب الهوى تخريب جميع حقيقة الإنسان.

فالمواقف حول هذا النهر لها ثلاث احتمالات لا تعدوها:

1 ـ فإما أن تنصرف القوى إلى سكره وحبسه وإيقافه، فلا تصنع هذه الفرقة كبير أمر، لأنه يوشك أن يجتمع، ثم يحمل على السكر، فيكون إفساده وتخريبه أعظم.

2 ـ وإما أن تروم إغلاقه من منبعه، ولكنه يأبى عليها غاية الإباء، لأن الطبيعة النهرية لا تستسلم بسهولة لهذا، فلذلك (هم دائما في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار)([180])

3 ـ وإما أن تصرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به، (فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات وسقوها به فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة الأصناف)

وهذا الاحتمال الأخير هو خير الاحتمالات وأحسنها واصوبها، وهكذا تكون سايسة النفس مع قواها الجارفة، يقول ابن القيم:(فإذا تبين هذا المثل فالله تعالى قد اقتضت حكمته أن ركب الإنسان بل وسائر الحيوان على طبيعة محمولة على قوتين غضبية وشهوانية و، هي الإرادية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان، فبقوة الشهوة والإرادة يجذب المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار عنها، فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة، فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدا به أورثه الحسد، فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبروالفخر والخيلاء فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه)([181])

وهكذا لو تركت هذه القوى النفسية تفعل فعلها، فإنها لا بد أن تنتهي بصاحبها إلى هذه الأنواع الخطيرة من الانحراف، وهي بمثابة تهديم عمران النفس، وتنكيس حقيقتها، وهذا ما فعلته النفوس الجاهلة، يقول ابن القيم:(فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه، فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم، وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد)

وبخلاف النفوس الزكية الفاضلة، فإنها أدركت خطورة جريان هذا النهر على حقيقة االإنسان، فراحت تبحث عن مخرج يقيها طغيان هذا النهر، فافترقت إلى ثلاث فرق:

أما الفرقة الأولى، وهم أصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرينات، فقد راموا قطعه من ينبوعه، فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى، وما طبع عليه الجبلة البشرية ولم تنقد له الطبيعة، فاشتد القتال ودام الحرب وحمى الوطيس وصارت الحرب دولا وسجالا، وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات.

أما الفرقة الثانية، فقد أعرضوا عن جريان النهر، وراحوا يحصنون العمران، ويحكمون بناءه وأساسه، لاعتقادهم أن ذلك النهر لابد أن يصل إليه، فإذا وصل وصل إلى بناء محكم، فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وشمالا، فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة، وإحكام البناء وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء.  

أما الفرقة الثالثة، وهي أحكم الفرق وأعدلها، فـ (رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب، وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها، وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر، فرأوا أن الكبر نهر يسقي به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان، ويسقي به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم، وهذه درة في صدفة فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس، واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع)([182])

وهذه الفرقة هي التي استثمرت صفات النفس، بل حولت مجرى نهرها لتسقي بها الخلال الرفيعة والأخلاق النبيلة.

ويشير إلى ما فعلته هذه الفرقة من النصوص قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي دجانة، وقد رآه يتبختر بين الصفين:(إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع)، يقول ابن القيم معلقا على هذا الحديث:(فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية، وكيف استحال القاطع موصلا)([183])

بينما تظل الفرقتان اللتان خافتا من النهر ولم تستسخراه بمنأى عن ما يحمله النهر من صدف وجواهر، بل قد يوقعه ذلك في الخلط والشبه بقدر مبالغاتهم في رياضاتهم، وبعدهم عن ما أرشدت إليه الرسل من سبل الإصلاح، قال ابن القيم:(صاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات والخلوات هيهات هيهات إنما يوقعه ذلك في الآفات والشبهات والضلالات فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2))

ويشبه ابن القيم من اقتصر في تطهير نفسه من غير رجوع لما جاء في الشريعة بالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، (أين يقع رأيه من معرفة الطبيب، فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم) 

وقد يحسب بعض المغرمين بالخلاف أن هذا خلاف بين ابن القيم والغزالي، وأن الغزالي يرى قمع صفات النفس، بينما ابن القيم يرى سياستها، وهذا خطأ كبير، فإن سياسة النفس لا تتم إلا بمجاهدتها.

أما قمع النفس، فإن الغزالي لم يقل به، بل رد عليه أبلغ الرد، قال في رده على من قال باستحالة تغيير الأخلاق:(وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به: وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائر هذه الأخلاق، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال)([184])

ولهذا، فإن المطلوب ـ كما يرى الغزالي ـ ليس إماطة ذلك بالكلية، (بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بـين الإفراط والتفريط. والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهوّر وعن الجبن جميعاً. وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً ومع قوته منقاداً للعقل. ولذلك قال الله تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح:29) وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد، وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبـياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك)

واستدل الغزالي لهذ بقوله تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ} (آل عمران:134)، فلم يقل تعالى:(والفاقدين الغيظ)، بل (رد الغضب والشهوة إلى حدّ الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه، بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن، وهو المراد بتغيـير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها فيقدم على الانبساط إلى الفواحش. وبالرياضة تعود إلى حدّ الاعتدال فدل أن ذلك ممكن، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها)([185])


([1]) رواه أحمد وأبو داود.

([2])  رواه أبو داود.

([3]) إحياء علوم الدين: 3/72.

([4]) في ظلال القرآن: 1/241.

([5])  رواه الحاكم: 2/225، البيهقي: 8/4، الدارقطني: 3/304 أبو داود: 2/283، أحمد: 2/182.

([6]) سبل السلام: 3/227.

([7]) رواه البخاري ومسلم.

([8])  رواه البخاري:7/7.

([9]) دور المرأة التربوي المأمول والمعوقات، د. أفراح بنت علي الحميضي، مجلة البيان: العدد: 161،ص:134.

([10]) عرف الإعلام بأنه عملية نقل المعلومات من المرسل صاحب الرسالة إلى المستقبل المعني بها متضمنة الوسيلة المستخدمة والمضمون داخلها والإعلام.

([11]) انظر: مشروع مجلة رائدة للطفل، للدكتور مالك إبراهيم الأحمد.

([12]) انظر: مشروع مجلة رائدة للطفل، للدكتور مالك إبراهيم الأحمد.

([13]) انظر: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، بصمات على ولدي، التلفزيون بين الهدم والبناء، سموم على الهواء، فريد التوني ؛ الإنسان حيوان تلفزيوني، البث المباشر حقائق وأرقام، د ناصر العمر ؛ التلفزيون وحكمه في الشريعة الإسلامية، الشيخ عبد الله بن حميد.

وانظر: محمد بن أحمد إسماعيل، ماذا تعرف عن: العجل الفضي، أعدها للنشر:إسلام دعدوشة، مجلة البيان: 143، ص:70.

([14]) بصمات على ولدي، ص6 نقلا عن جريدة الأنباء الكويتية، بتاريخ13 /7/198م، مقال حول تأثير التلفزيون على الأسرة.

([15]) الأسرة المسلمة، ص 252.

([16]) أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون ص 346 بتصرف.

([17]) انظر الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ص 238.

([18]) أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون، ص348، بتصرف.

([19]) البث المباشر، ص73 نقلا عن أصوات متعددة، ص 338.

([20]) نقلا عن الأهرام، 27/6/1989م.

([21]) بصمات على ولدي، ص11.

([22]) الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ص 271 ـ 272.

([23]) راجع كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، ص 134 لبيان أثر مشاهد العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب.

([24]) راجع: الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، ص32 حيث يقول د ستيفن بانا حبيب بجامعة كولومبيا: إذاكان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.

([25]) الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص189 190.

([26]) الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص185.

([27])  رواه أحمد والبخاري وأبو داود.

([28]) انظر الأسرة المسلمة، ص113ـ 114.

([29]) انظر بصمات على ولدي ص 23ـ 24.

([30]) برزت مجلات الأطفال بشكل ملموس في الغرب في بداية القرن العشرين مواكبة انتشار الصحافة وتطورها وكانت في بداياتها محدودة الانتشار تعنى بالرسوم الهزلية بشكل كبيركذلك صدرت ملاحق للأطفال في الصحف الرئيسة كعامل جذب للأسرة لاقتناء الصحيفة.‏

وغلب على هذه المجلات جانب التسلية والفكاهة ثم تطورت بشكل كبير متوافقة مع تطور الطباعة وانتشار أدواتها فضلا عن تيسر سبل المواصلات وقدرات الناس الشرائية.‏

ومع تقدم العلم والمعرفة أخذت القصص المصورة جانبا واسعا من مجلات الأطفال وحتى الكبار وانتشرت بشكل كبير.‏

كذلك تنوعت المجلات بحسب سن المخاطب وغطت مراحل عمرية مبكرة جدا حتى إن هناك مجلات للأطفال في السنة الأولى من أعمارهم كما تصدر مجلات للأطفال خاصة بالذكور وأخرى بالإناث وهناك مجلات متخصصة بالتعليم وأخرى علمية وثالثة منوعة ونالت فترة ما قبل المدرسة نصيبا هاما من سوق المجلات.‏

ففي اليابان -على سبيل المثال- هناك مجلة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3-5 سنوات توزع 300 ألف نسخة أسبوعيا وفي فرنسا هناك مجلة بوبي تصدر للأطفال في سن 15 شهرا وتعتمد على الرسوم التوضيحية للأشياء القريبة من الطفل ويطلع عليها الطفل بمساعدة والديه وفي اليابان كذلك مؤسسة تجارية واحدة تعنى بلعب الأطفال تصدر 54 مجلة للأطفال شهريا أما في أمريكا فتصدر 338 مجلة 1988م تغطي كافة أعمار الأطفال وكافة اهتماماتهم توزع أكثر من 53 مليون نسخة.‏

وتصدر عن بعض المؤسسات الكنسية والأحزاب الدينية الغربية مجلات للأطفال تهتم ببث القيم النصرانية لدى الأطفال ولا تخلو من مواد أدبية أو فكاهية تساعد على ترويج المجلة وهي توزع في كثير من الأحيان مجانا أو بسعر تشجيعي للأطفال وهي غالبا لا تعبأ بالتكاليف المالية نظرا لأهدافها الدينية ووجود مصادر مالية قوية وثابتة تدعمها.‏

إضافة للنصارى يحرص اليهود -بمؤسساتهم الدينية- على إصدار مجلات للأطفال لتحقق ارتباط أبناء اليهود بالتوراة والمجتمع اليهودي.‏

ويحرص الغرب -كجزء من اهتمامه الواسع بالإنسان الغربي – على المعاقين بكافة فئاتهم وبالأخص الأطفال فيقدم لهم خدمات إعلامية خاصة حيث تصدر بعض المجلات في أوروبا وأمريكا طبعة خاصة بالعميان لغة برايل وهذا خلاف المجلات الخاصة أصلا بالمعوقين مثل العميان والصم وغيرهم.

([31]) انظر: صحافة الأطفال تعلّم أولادنا العنف، كريمة حسن، جريدة القاهرة، دراسات إعلامية.

([32]) مشروع مجلة رائدة للطفل، من سلسلة كتاب الأمة، للدكتور مالك إبراهيم الأحمد.

([33]) انظر: دراسات تربوية، الإنترنت وتربية الأولاد، عبد الرحمن بن عبد الله المطرودي.

([34]) مجلة مفتاح الإنترنت العدد الثالث، ص 14.

([35]) مجلة مفتاح الإنترنت العدد الثالث، ص 26.

([36]) مجلة مفتاح الإنترنت العدد الثالث، ص 16.

([37]) مجلة مفتاح الإنترنت، العدد الأول، ص 28.

([38]) مجلة مفتاح الإنترنت العدد الثالث، ص 16.

([39]) مجلة آفاق الإنترنت، العدد الثاني، ص 69.

([40]) إنترنت العالم العربي، في عددها الثاني للسنة الثالثة.

([41]) إنترنت العالم العربي، العدد الأول السنة الرابعة، ص 36.

([42]) إنترنت العالم العربي، العدد الأول السنة الرابعة، ص 16.

([43]) إنترنت العالم العربي، العدد الأول السنة الرابعة، ص 107.

([44]) إحياء علوم الدين: 4/16.

([45]) مدارج السالكين: 2/308.

([46]) مدارج السالكين: 2/309.

([47]) إحياء علوم الدين: 4/16.

([48]) إحياء علوم الدين: 4/16.

([49]) إحياء علوم الدين: 4/16.

([50]) إحياء علوم الدين: 3/6.

([51]) لهذه التصنيفات أهمية كبيرة في استعمال العلاج المناسب لكل ذنب، وهو كتصنيف الأطباء للأمراض ليسهل عليهم التعامل مع كل نوع بما يناسبه من أدوية.

([52]) إحياء علوم الدين: 4/36.

([53]) أنكر بعض العلماء هذا التقسيم، وذهبوا إلى أن كل المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في ” الإرشاد “، وابن القشيري في ” المرشد ” بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره فقال:( معاصي الله تعالى عندنا كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها )، ثم أول الآية الآتية: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾ (النساء:31) بما لا يدل عليه ظاهرها.

وما ذهب إليه هؤلاء العلماء صحيح من جهة أن كل المعاصي خطيرة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بل من الحرج تلقيب المعصية بكونها صغيرة، قال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة، إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر.

ويشير إلى هذا الجمع ما رواه الطبراني عن ابن عباس، أنه ذكر عنده الكبائر فقال:( كل ما نهي عنه فهو كبيرة )، وفي رواية عنه:( كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة )

([54])  رواه البخاري ومسلم.

([55])  رواه البخاري ومسلم.

([56])  رواه البخاري ومسلم.

([57])  رواه مسلم وغيره.

([58])  رواه مسلم.

([59])  رواه البخاري ومسلم.

([60])  رواه أحمد.

([61])  رواه البخاري ومسلم.

([62])  رواه أحمد.

([63])  رواه أحمد والبخاري.

([64])  رواه أحمد والنسائي.

([65])  رواه أحمد وابن ماجه.

([66])  رواه مسلم وغيره.

([67])  رواه الحاكم وصححه.

([68]) إحياء علوم الدين: 4/19.

([69]) ما ذكره الغزالي هنا في حفظ النفوس خصه آخرون بقسم خاص، سموه ( حفظ النسل )، ويدخل فيه ( حفظ العرض)

([70]) إحياء علوم الدين: 4/32.

([71]) إحياء علوم الدين: 4/32.

([72])  رواه البخاري ومسلم.

([73]) إحياء علوم الدين: 4/32.

([74])  رواه ابن ماجه، رقم 23.

([75]) التثبت وترك العجلة.

([76])  رواه مسلم والترمذي.

([77])  رواه البيهقي.

([78]) إحياء علوم الدين: 3/56.

([79]) انظر: الصلة بين الأخلاق والعقيدة، د. جلال الدين محمد صالح، مجلة البيان: العدد85، ص22.

([80])  رواه البخاري .

([81]) انظر علي عزت بيكفوتش: الإسلام بين الشرق والغرب / 206 بتصرف.

([82]) انظر علي عزت بيكفوتش: الإسلام بين الشرق والغرب / 207.

([83])  رواه أحمد بإسناد جيد، المسند [5/256].

([84]) إحياء علوم الدين: 3/358.

([85]) في ظلال القرآن: 2977.

([86]) إحياء علوم الدين:3/361.

([87]) إحياء علوم الدين: 3/362.

([88]) إحياء علوم الدين: 3/362.

([89]) إحياء علوم الدين: 3/363.

([90]) إحياء علوم الدين: 3/363.

([91]) إحياء علوم الدين: 3/363.

([92])  رواه البيهقي.

([93]) إحياء علوم الدين: 3/364.

([94]) إحياء علوم الدين: 3/364.

([95])  رواه أبو يعلى.

([96])  رواه مسلم وغيره.

([97])  رواه أحمد بسند صحيح.

([98])  رواه الطبراني بسند حسن.

([99]) إحياء علوم الدين:3/173.

([100]) إحياء علوم الدين:3/173.

([101]) إحياء علوم الدين:3/173.

([102]) إحياء علوم الدين:3/172.

([103]) إحياء علوم الدين:3/172.

([104])  رواه أحمد والبيهقي .

([105])  رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب.

([106])  رواه الطبراني في الكبير.

([107]) إحياء علوم الدين:3/172.

([108])  رواه ابن عساكر .

([109]) إحياء علوم الدين:3/60.

([110]) إحياء علوم الدين:3/60.

([111]) إحياء علوم الدين:3/61.

([112]) إحياء علوم الدين:3/61.

([113]) إحياء علوم الدين:3/62.

([114]) إحياء علوم الدين:3/101.

([115]) إحياء علوم الدين:3/26.

([116]) وتسمى بالخواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها.

([117]) الجواب الكافي:108.

([118]) الجواب الكافي:108.

([119]) إحياء علوم الدين: 3/368.

([120])  رواه ابن عدي في الكامل.

([121]) إحياء علوم الدين: 3/360.

([122]) إحياء علوم الدين: 3/367.

([123]) إحياء علوم الدين: 3/367.

([124]) إحياء علوم الدين: 3/172.

([125]) البخاري ومسلم.

([126])  رواه الترمذي:رقم 2192 وقال: حسن صحيح.

([127])  رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.

([128])  رواه ابن عساكر.

([129])  رواه أحمد وأبو داود.

([130])  رواه أحمد . 

([131])  رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. 

([132])  رواه الترمذي.

([133])  رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([134])  رواه الطبراني، وإسناده صحيح.

([135])  رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. 

([136])  رواه أبو داود.

([137]) إحياء علوم الدين: 3/52.

([138]) ويدل على هذا قوله في إحياء علوم الدين:( اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو، وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضراً في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته المحيطة بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب ) انظر: إحياء علوم الدين: 3/52.

([139]) إحياء علوم الدين: 3/52.

([140])  رواه البخاري وأبو داود والنسائي.

([141])  رواه ابن مردويه.

([142])  رواه البيهقي في شعب الإيمان.

([143]) رواه البيهقي.

([144])  رواه البيهقي.

([145]) القرطبي: 7/344.

([146]) مدارج السالكين:2/305.

([147]) مدارج السالكين:2/326.

([148]) مدارج السالكين:2/326.

([149]) مدارج السالكين:2/317.

([150]) مدارج السالكين:2/308.

([151]) إحياء علوم الدين: 3/55.

([152]) إحياء علوم الدين:3/58.

([153])  رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه الطبراني.

([154]) مدارج السالكين: 2/309.

([155]) مدارج السالكين: 2/310.

([156])  رواه مسلم.

([157])  رواه مسلم.

([158]) إحياء علوم الدين: 3/63.

([159]) قال ابن عباس 🙁 ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، [يقصد قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾(هود:112)] ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال:( شيبتني هود وأخواتها)

([160]) إحياء علوم الدين: 3/63.

([161]) رواه مسلم وغيره.

([162])  رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر، وقال: غريب جدا.

([163])  رواه مسلم وغيره.

([164])  رواه البخاري.

([165])  رواه البخاري ومسلم .

([166]) إحياء علوم الدين:3/64.

([167]) مدارج السالكين:2/107.

([168])  رواه الترمذي برقم (2455) وقال: هذا حديث صحيح غريب.

([169]) مدارج السالكين:2/107.

([170]) إحياء علوم الدين:3/63.

([171]) إحياء علوم الدين:3/56.

([172]) إحياء علوم الدين:3/67.

([173]) إحياء علوم الدين:3/58.

([174]) إحياء علوم الدين:3/67.

([175]) إحياء علوم الدين:3/67.

([176])  رواه البيهقي.

([177])  رواه البخاري.

([178]) إحياء علوم الدين: 3/59.

([179]) مدارج السالكين: 2/311.

([180]) مدارج السالكين: 2/311.

([181]) مدارج السالكين: 2/312.

([182]) مدارج السالكين: 2/314.

([183]) مدارج السالكين: 2/314.

([184]) إحياء علوم الدين:3/58.

([185]) إحياء علوم الدين:3/58.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *