الفصل الأول: مدخل إلى أحكام الفرقة الزوجية

القسم الأول

حق الزوجين في حل عصمة الزوجية

الفصل الأول

 مدخل إلى أحكام الفرقة الزوجية

سنتناول في هذا الفصل التمهيدي الحديث عن موضوعين كلاهما له دور كبير في التأسيس لما سنذكره في الفصول التالية:

أما الأول، فهو الحديث عن أنواع الفرقة الزوجية، وأحكامها وآثارها بصفة عامة، باعتبار هذا الجزء وما يليله من أجزاء مخصصة لهذه الأنواع، ويحتاج التفصيل فيها إلى النظرة الإجمالية التي قدمناها في هذا المبحث، وبه نرى وجه الترتيب الذي راعيناه في هذا الجزء.

أما الثاني، فهو عن الأسس التي اعتمدناها عند ذكر ما نراه من الترجيحات في هذا الباب، وذلك للاستغناء بها عن الاستدلال لكل ترجيح.

وبذلك يكون المبحث الأول مبحثا تمهيديا للمسائل والفروع الفقهية، ويكون المبحث الثاني خاصا بالرؤى الترجيحية.

أولا ـ أنواع الفرقة الزوجية ومقاصدها

قسم الفقهاء التفريق الحاصل في الحياة إلى نوعين: فسخ وطلاق، ولكل منهما آثاره الخاصة، وسنتحدث عن كلا النوعين فيما يلي:

النوع الأول ـ الطلاق

وهو النوع الأول من أنواع التفريق، ويقصد به عند الإطلاق، وسنتحدث هنا عن تعريفه وحكمه الأصلي وأحكامه العارضة، أما أركانه وشروطه وآثارها فمحلها الفصول القادمة من هذا الجزء وما يليه من أجزاء.

تعريف الطلاق:

من التعاريف التي عرف بها الطلاق، والتي تدخلت في بعضها الخلافات الفقهية للمذاهب المختلفة:

1 ـ رفع الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح إذا تم العدد ثلاثا، ويوجب زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند عدم الدخول والاعتياض عند الخلع([1]).

2 ـ هو صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبا تكررها مرتين للحر ومرة لذي رق حرمتها عليه قبل زوج([2]).

3 ـ هو قول مخصوص أو ما في معناه من شخص مخصوص يرتفع به النكاح أو ينثلم، فقول: يخرج به ارتفاع النكاح بالموت والرضاع، ومخصوص: ليخرج به ارتفاعه باللعان ونحوه من الردة والإسلام وسائر الفسوخ القولية، أو ما في معناه: ليدخل به الطلاق بالكتابة والإشارة من الأخرس، ومن شخص مخصوص: هو الزوج أو وكيله. ([3])

وعلاقة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي هي كما يقول ابن منظور:(طَلاَقُ النساء لـمعنـيـين: أَحدهما حلّ عُقْدة النكاح، والآخر بمعنى التخلية والإِرْسال. ويقال للإِنسان إِذا عُتِقَ طَلِـيقٌ أَي صار حرّاً، وأَطْلَقَ الناقة من عِقَالها وطَلَّقَها فَطَلَقَت: هي بالفتـح، وناقة طَلْق وطُلُق: لا عِقال علـيها) ([4])

حكم الطلاق:

الحكم الأصلي للطلاق:

اختلف الفقهاء في الحكم الأصلي للطلاق على قولين:

القول الأول: أن إيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:236)، وقوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(الطلاق:1) وغيرها من آيات الطلاق، وكلها تقتضي إباحة إيقاع الطلاق.

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ([5])، وفي لفظ:(ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق)، وإنما يكون مبغضا من غير حاجة إليه، وقد سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلالا، فإن قيل بأن كون الطلاق مبغوضا مناف لكونه حلالا، لأن كونه مبغوضا يقتضي رجحان تركه على فعله، وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه لفعله، وقد أجيب على ذلك بأن المراد بالحلال ما ليس تركه بلازم، وهو يشمل المباح والواجب والمندوب والمكروه، وقد يقال الطلاق حلال لذاته والأبغضية لما يترتب عليه من انجراره إلى المعصية([6]).

3 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة، حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها ([7])، ولم يكن هناك كبر سن ولا ريبة.

4 ـ أنه كما أن فيه معنى كفران النعمة من وجه، فإن فيه معنى إزالة الرق من وجه آخر، لأن النكاح نوع من الرق كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته)([8]). ولأجله صان الشرع القرابة القريبة عن هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات([9]).

5 ـ أن هذا إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا في الأصل كالإعتاق.. ومن هذا الباب كونه مزيلا للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، فيكون مكروها فقط لا حراما.

القول الثاني: أن إيقاع الطلاق محرم لا يباح إلا عند الضرورة، وقدذكر هذا القول السرخسي([10]) من غير إشارة إلى قائله، بينما ذكر ابن قدامة الإجماع على الجواز، قال في المغني:(أجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة، وضررا مجردا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة، مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح، لتزول المفسدة الحاصلة منه) ([11])

ولا يختلف ما ذكره ابن قدامة من الإجماع على ما ذكره السرخسي لأن الحكم الأصلي الذي يقصده السرخسي، هو الطلاق من غير حاجة إليه، وقد ذكر ابن قدامة في حكم هذا النوع من الزواج عن أحمد روايتين: إحداهما أنه محرم، والثانية، أنه مباح.

وقد ذكر العراقي أن هذا هو الحكم الأصلي للطلاق عند الحنفية، فقال عند بيان كون العدة بالحيض لا بالطهر: (وليس في ذلك تطويل عند الحنفية الذين يرون العدة بالحيض فإنهم يعتبرون ثلاث حيض كاملة، فالمعنى عندهم أن الأصل في الطلاق الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية، وإنما يباح للحاجة، والمعتبر دليلها، وهو الإقدام على الطلاق في زمن الرغبة) ([12])

بل ذكر أن هذا هو الحكم الأصلي عند المالكية، ففي العناية:(قال مالك: الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص)([13]) ومن الأدلة التي ذكروها لذلك:

1 ـ أنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حراما، كإتلاف المال، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا ضرر ولا ضرار) ([14])

2 ـ أن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده، كما قال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم:21)، وكفران النعمة حرام.

3 ـ أنه رفع للنكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى معنى قول الفقهاء (الحكم الأصلي للطلاق)، فإن أريد به الحكم العام للطلاق، والذي يتناول أكثر الناس، فإن الأرجح في هذا هو القول بالإباحة، لأن الناس عادة لا يطلقون إلا لسبب قد يعقل، وقد لا يعقل، أما التطليق لغير سبب، فقلما يحدث، وهو بذلك يعود إلى نوع من الأحكام العارضة التي سنذكرها.

أما إن أريد به الاقتصار على ذكره عند بيان حكم الطلاق، كأن يسأل شخص عن حكم الطلاق فيجاب بأنه حلال أو أنه أبغض الحلال، فإن الأرجح في هذا هو خطأ هذه الإجابة، بل قد يكون القول بالتحريم أرجح في هذه الحالة، لأن القول بالإباحة مطلقا قد يكون نوعا من التشجيع على الطلاق، فلهذا إما أن يذكر الحكم مفصلا بأنواعه المختلفة أو أن يسأل عن السبب الداعي للطلاق فيفتى على أساسه، لأن الكثير من العامة تغريه الإباحة، وقد يقع بواسطتها في المحظور.

وهذا لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يتعداه لكثير من الأحكام الشرعية، فإن الأرجح فيها جميعا هو ذكر الأحكام العارضة باعتبارها الأصل، فالأحوال مختلفة، وتعميم الحكم قد يوقع في اللبس والخطأ.

الأحكام العارضة للطلاق:

نص أكثر الفقهاء على الأحكام العارضة للطلاق، وقد اختلفت المذاهب الفقهية في التعبير عنها، وسنذكر هنا بعض ما قالوا في ذلك، ونرجئ التفاصيل المتعلقة بالفروع إلى محلها من هذا الفصل أو غيره:

فقد نص الشافعية على أن الطلاق أربعة أقسام: حرام ومكروه وواجب ومندوب ولا يكون مباحا مستوى الطرفين([15]):

الطلاق الواجب: ويتحقق في صورتين وهما:

1 ـ في الحكمين إذا بعثهما القاضي عند الشقاق بين الزوجين ورأيا المصلحة في الطلاق وجب عليهما الطلاق.

2 ـ وفي المولى إذا مضت عليه أربعة أشهر وطالبت المرأة بحقها فامتنع من الفيئة والطلاق، فالأصح عند الشافعية أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعيه.

الطلاق المكروه: وذلك إذا كان الحال بينهما مستقيما، فيطلق بلا سبب وعليه يحمل حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ([16])

الطلاق الحرام: وهو في ثلاث صور هي: في الحيض بلا عوض منها ولا سؤالها، والثاني في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل، والثالث إذا كان عنده زوجات يقسم لهن وطلق واحدة قبل أن يوفيها قسمها.

الطلاق المندوب: وهو عندما لا تكون المرأة عفيفة أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله أو نحو ذلك.

ونص الحنابلة على أن الطلاق على خمسة أقسام([17]):

الطلاق الواجب: وهو طلاق المولي بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق، إذا رأيا ذلك.

الطلاق المكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إليه، وقال القاضي: فيه روايتان؛ إحداهما: أنه محرم؛ لأنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حراما، كإتلاف المال، والثانية، أنه مباح.

الطلاق المباح: وهو عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة، وسوء عشرتها، والتضرر بها من غير حصول الغرض بها.

الطلاق المندوب: وقد ذكروا له موضعين:

1 ـ عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون له امرأة غير عفيفة، قال أحمد: لا ينبغي له إمساكها؛ وذلك لأن فيه نقصا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه، وإلحاقها به ولدا ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال، والتضييق عليها؛ لتفتدي منه، قال ابن قدامة: ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب([18]).

2 ـ الطلاق في حال الشقاق، وفي الحال التي تحوج المرأة إلى المخالعة لتزيل عنها الضرر.

الطلاق المحرم: وهو الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، قال ابن قدامة: (أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة، وترك أمر الله تعالى ورسوله) ([19])

ونكتفي بهذين المذهبين، فسائر الأقوال لا تكاد تخرج على ما ذكرا.

الحكمة من الطلاق

يتصور الكثير من محدودي النظر، الذين يعشون بأجسادهم في مستنقعات من الدناءة، وبعقولهم في عوالم من المثل، بأن تشريع الطلاق جريمة من الجرائم وإثم من أكبر الآثام.

وهذه النظرة ـ كالنظرة للتعدد أو الحجاب أو غيرها من أحكام الدين ـ نظرة لا علاقة لها بالواقع، لأن الدراسة المتمعنة للواقع وللفطرة البشرية لا بد أن تهدي إلى ضرورة إباحة الطلاق وتشريع القوانين التي تحفظه من التعسف، وتحفظ آثاره من الضياع.

أما الإسلام فإنه (يشرع لأناس يعيشون على الأرض، لهم خصائصهم، وطباعهم البشرية، لذا شرع لهم كيفية الخلاص من هذا العقد، إذا تعثر العيش، وضاقت السبل، وفشلت الوسائل للإصلاح، وهو في هذا واقعي كل الواقعية، ومنصف كل الإنصاف لكل من الرجل والمرأة.

فكثيراً ما يحدث بين الزوجين من الأسباب والدواعي، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير، والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما، فقد يتزوج الرجل والمرأة، ثم يتبين أن بينهما تبايناً في الأخلاق، وتنافراً في الطباع، فيرى كل من الزوجين نفسه غريباً عن الآخر، نافراً منه، وقد يطّلع أحدهما من صاحبه بعد الزواج على ما لا يحب، ولا يرضى من سلوك شخصي، أو عيب خفي، وقد يظهر أن المرأة عقيم لا يتحقق معها أسمى مقاصد الزواج، وهو لا يرغب التعدد، أولا يستطيعه، إلى غير ذلك من الأسباب والدواعي، التي لا تتوفر معها المحبة بين الزوجين ولا يتحقق معها التعاون على شؤون الحياة، والقيام بحقوق الزوجية كما أمر الله، فيكون الطلاق لذلك أمراً لا بد منه للخلاص من رابطة الزواج التي أصبحت لا تحقق المقصود منها، والتي لو ألزم الزوجان بالبقاء عليها، لأكلت الضغينة قلبيهما، ولكاد كل منهما لصاحبه، وسعى للخلاص منه بما يتهيأ له من وسائل، وقد يكون ذلك سبباً في انحراف كل منهما، ومنفذاً لكثير من الشرور والآثام.

لهذا شُرع الطلاق وسيلة للقضاء على تلك المفاسد، وللتخلص من تلك الشرور، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجاً آخر، قد يجد معه ما افتقده مع الأول، فيتحقق قول الله تعالى:{ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء:130)

وهذا هو الحل لتلك المشكلات المستحكمة المتفق مع منطق العقل والضرورة، وطبائع البشر وظروف الحياة)

وقد كان الغرب ـ وهو الذي يتصور إيمانه بالمسيحية وخضوعه للكنيسة ـ حياته متزمتا ملتزما بالزوجة الواحدة طول العمر، رافعا شعار المثالية، ولكن الفطرة سرعان ما أغارت عليه، ليعترف بالطلاق، ويقنن له، بل إن نسبة ارتفاع الطلاق فيه تفوق التصور.

ونحن نورد هنا لمن يتصورون أن لهم الحق في مناقشة الإسلام في تشريعه الطلاق ما قاله (بيتام) رجل القانون الإنجليزي، قال:(لو وضع مشروع قانوناً يحرم فض الشركات، ويمنع رفع ولاية الأوصياء، وعزل الوكلاء، ومفارقة الرفقاء، لصاح الناس أجمعون: أنه غاية الظلم، واعتقدوا صدوره من معتوه أو مجنون، فيا عجباً أن هذا الأمر الذي يخالف الفطرة، ويجافي الحكمة، وتأباه المصلحة، ولا يستقيم مع أصول التشريع، تقرره القوانين بمجرد التعاقد بين الزوجين في أكثر البلاد المتمدنة، وكأنها تحاول إبعاد الناس عن الزواج، فإن النهي عن الخروج من الشيء نهي عن الدخول فيه، وإذا كان وقوع النفرة واستحكام الشقاق والعداء، ليس بعيد الوقوع، فأيهما خير؟.. ربط الزوجين بحبل متين، لتأكل الضغينة قلوبهما، ويكيد كل منهما للآخر؟ أم حل ما بينهما من رباط، وتمكين كل منهما من بناء بيت جديد على دعائم قوية؟، أو ليس استبدال زوج بآخر، خيراً من ضم خليلة إلى زوجة مهملة أو عشيق إلى زوج بغيض) ([20])

زيادة على هذا، فإن تشريعات الإسلام في هذا الجانب تحفظ الطلاق من استعماله في غير ما وضع له، وتحفظ كل ما قد ينجر عنه من آثار سلبية، ومن ذلك:

1 ـ أنه نفّر من الطلاق وبغضه إلى النفوس فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة)، وحذر من التهاون بشأنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما بال أحدكم يلعب بحدود الله، يقول: قد طلقت، قد راجعت)

2 ـ أنه اعتبر الطلاق آخر العلاج، بحيث لا يصار إليه إلا عند تفاقم الأمر، واشتداد الداء، وحين لا يجدي علاج سواه، وأرشد إلى اتخاذ الكثير من الوسائل قبل أن يصار إليه، فرغب الزوج في الصبر والتحمل على الزوجات، وإن كانوا يكرهون منهن بعض الأمور، إبقاء للحياة الزوجية، قال تعالى:{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيرا }(النساء:19)

3 ـ أنه أرشد الزوج إذا لاحظ من زوجته نشوزاً إلى ما يعالجها به من التأديب المتدرج: الوعظ ثم الهجر، ثم الضرب غير المبرح، قال تعالى:{) وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}(النساء:34)

4 ـ أنه شرع التحكيم بينهما، إذا عجزا عن إصلاح ما بينهما، بوسائلهما الخاص.

5 ـ أنه أرشد الزوجة إذا ما أحست فتوراً في العلاقة الزوجية، وميل زوجها إليها إلى ما تحفظ به هذه العلاقة، ويكون له الأثر الحسن في عودة النفوس إلى صفائها، بأن تتنازل عن بعض حقوقها الزوجية، أو المالية، ترغيباً له بها وإصلاحاً لما بينهما.

6 ـ أن الطلاق كما يكون لصالح الزوج، فإنه أيضاً يكون لصالح الزوجة في كثير من الأمور، فقد تكون هي الطالبة للطلاق، الراغبة فيه، فلا يقف الإسلام في وجه رغبتها وفي هذا رفع لشأنها، وتقدير لها، لا استهانة بقدرها، كما يدّعي المدّعون، وإنما الاستهانة بقدرها، بإغفال رغبتها، وإجبارها على الارتباط برباط تكرهه وتتأذى منه.

7 ـ أنه أثبت للأم حضانة أولادها الصغار، ولقريباتها من بعدها، حتى يكبروا، وأوجب على الأب نفقة أولاده، وأجور حضانتهم ورضاعتهم، ولو كانت الأم هي التي تقوم بذلك.

النوع الثاني ـ الفسخ

تعريف الفسخ:

من التعاريف التي عرف بها الفسخ، مع التنبيه إلى أن هذه التعاريف ليست مختصة بفسخ التفريق بين الزوجين، بل تشمله كما تشمل غيره:

1 ـ أن لا يترتب على العقد أثر في المستقبل لا بطلان أثره أصلا([21]).

2 ـ الفسخ رفع الأصل والوصف([22]).

3 ـ الانفساخ انقلاب كل واحد من العوضين إلى دافعه، والفسخ هو قلب كل واحد من العوضين إلى صاحبه([23]).

وقد فرق الفقهاء بين فرقة الفسخ وفرقة الطلاق مع أن كلاهما فسخ، بأن (الفسخ الحقيقي هو الرافع للعقد كالفسخ بعيب المبيع أو الثمن المعين أو تلف واحد منهما قبل القبض، أو بعيب أحد الزوجين. والمجاز أن لا يكون رافعا، بل قاطعا كالطلاق ليس رفعا لعقد النكاح بل قطعا للعصمة) ([24])

أسباب الفسخ:

اختلفت المذاهب الفقهية في الأسباب التي تكون بها الفرقة فسخا بما يعسر ضبطه، ولذلك سنذكر هنا أقوال المذاهب الفقهية مع إرجاء أدلتها وتفاصيلها في محالها الخاصة بها:

مذهب الحنفية:

نصوا على أن الفرقة الزوجية تكون فسخاً في مواضع، منها([25]):

1 ـ تباين الدار حقيقة وحكماً، ومعنى ذلك أن يترك أحد الزوجين الحربيين دار الحرب إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، فإذا فعل ذلك بانت منه امرأته أما المستأمن، وهو الذي يدخل دار الإسلام بأمان لتجارة ونحوها بنية العودة إلى بلاده، فإن امرأته لا تبين منه.

2 ـ فساد العقد بسبب من الأسباب كما إذا تزوجها بغير شهود، أو إلى مدة معينة، أو نحو ذلك، مما تقدم تفصيله في محاله المختلفة.

3 ـ أن يفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأصول المرأة الاناث وفروعها، كأن يقبل بنت زوجته بشهوة. أو أمها. أو نحو ذلك، مما هو مفصل في الفصل الخاصة بالموانع المؤبدة للزواج.

4 ـ إذا فعلت الزوجة ما يوجب حرمة المصاهرة مع أصوله، أو فروعه الذكور، كتقبيل ابن زوجها البالغ بشهوة، ونحوه.

5 ـ إسلام أحد الزوجين الكافرين في دار الحرب، فإذا أسلمت الزوجة وهي في دار الحرب تبين من زوجها الكافر بعد ثلاث حيض كما ذكر في فصل الكفاءة.

6 ـ أن ترضع الزوجة ضرتها الصغيرة، فإنها تصبح أمها في الرضاع، فتبين منه هي ومن أرضعتها وهذه البينونة فسخ لا طلاق لأنهما يحرمان عليه مؤبداً.

7 ـ أن يرتد أحد الزوجين، فإنه إذا وقع ذلك بانت منه امرأته فسخاً لا طلاقاً.

أما فرقة الطلاق، فتكون فيما عدا هذه المواضع، ومنها صريح الطلاق وكنايته، والعيوب المفرقة بين الزوجين كالجب. والعنة، والفرقة بالإيلاء، والفرقة باللعان.

وضابط ذلك عندهم أن كل فرقة جاءت من قبل المرأة لا بسبب من الزوج فهي فسخ، كخيار العتق والبلوغ، وكل فرقة جاءت من قبل الزوج فهي طلاق، كالإيلاء والجب والعنة، وإنما كانت ردته فسخا مع أنها من قبله لأن بها ينتفي الملك فينتفي الحل، والفرقة إنما جاءت بالتنافي لا لوجود المباشرة من الزوج، وإنما شرط القضاء في الفرقة بالجب، وما عطف عليه، لأن في أصلها ضعفا، فتوقف عليه كالرجوع في الهبة، وفيه إيماء إلى أن الزوج لو كان غائبا لم يفرق بينهما للزوم القضاء على الغائب.

مذهب الشافعية:

وقد نصوا على أن الفسخ ينقسم إلى قسمين([26]):

فسخ اختياري: ويشمل العيوب الخمسة والغرور وعدم الكفاءة ابتداء ودواما، ليدخل الفسخ بالخلف والعتق تحت عبد، والعجز عن العوض؛ ليدخل الفسخ بالإعسار بالنفقة وبالمهر قبل الدخول.

فسخ قهري: وهو ما ينفسخ فيه بنفسه، ولا يتوقف فيه على تفريق الحاكم ولا أحد الزوجين، ومن أصنافه التي ذكروها:

1 ـ اختلاف دين الزوجين بالردة.

2 ـ إسلام المشرك على أكثر من أربع ينفسخ في الزائد قال ابن الرفعة: من اندفع نكاحها، فهو بطريق البينونة بلا شك.

3 ـ اللعان.

4 ـ الرضاع.

5 ـ إسلام أحد الزوجين وتخلف الآخر حتى انقضت العدة.

6 ـ فرقة الردة.

أما التفريق بالطلاق، فهو فيما عدا الحالات السابقة، وهي ألفاظ الطلاق صريحة، وكناية والخلع، وفرقة الإيلاء، وفرقة الحكمين، فإذا وكل الزوج حكمين في تطليق امرأته أو وكلتهما الزوجة في طلاقها بعوض مالي ففعلا، فإنه يكون طلاقاً لا فسخاً.

مذهب المالكية:

اختلف المالكية في تمييز ما يفسخ بطلاق مما يفسخ بغير طلاق قولين، هما([27]):

القول الأول: أن كل نكاح كان للزوج أو للزوجة أو للولي إمضاؤه وفسخه ففسخه بطلقة بائنة، وما كانوا مغلوبين على فسخه ففسخه بغير طلاق، والأول كنكاح الأجنبي يرده الولي، فالخيار فيه للولي وإذا كان بالزوجة عيب فالخيار للزوج، أو به عيب فالخيار للزوجة، ثم مثل للثاني وهو ما كانوا مغلوبين على فسخه بولاية المرأة والعبد ونكاح الشغار والمريض والمحرم بحج أو عمرة، وكالصداق الفاسد قبل البناء، وكالمجمع على فسخه.

القول الثاني: أن ما اختلف في إجازته وفسخه ففسخه بطلاق كولاية المرأة والعبد ونكاح الشغار ونكاح المريض والمحرم وكالصداق الفاسد قبل البناء، وما اتفق على فسخه ففسخه بغير طلاق كالخامسة وأخت المرأة أو عمتها أو خالتها، وقد روي عن مالك ورجع إليه ابن القاسم.

انطلاقا من هذا فقد ذكروا المواضع التي تكون فيها الفرقة فسخا وهي كما يلي:

الفسخ: تكون الفرقة فسخاً فيما يلي:

1 ـ في العقد الفاسد المجمع على فساده، ومنه نكاح المتعة على المعتمد.

2 ـ الفرقة بالرضاع، فإنها فسخ بلا طلاق.

3 ـ الفرقة باللعان، فإنها توجب تأبيد التحريم، فلا يحل له أن يتزوجها بحال، فلا يعتبر ذلك طلاقاً.

4 ـ الفرقة بسبب السبي، فإنها تقطع علاقة الزوجية بين الزوجين، فإذا سبيت المرأة الحربية وهي كافرة وزوجها غير كافر، فإنها تصير غير زوجة له فتحل لغيره بمجرد أن تحيض مرة واحدة.

5 ـ إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، فإن الفرقة بينهما فسخ بغير طلاق.

وما عدا هذه الحالات، فهو طلاق، وهو كما يلي:

1 ـ كل عقد فاسد مختلف فساده كنكاح الشغار،ونكاح السر، والنكاح بدون ولي ونحو ذلك مما تقدم في محله، فكل عقد فاسد عند المالكية صحيح عند غيرهم فإنه يفسخ بطلاق يحسب من عدد الطلقات، أما إذا كان مجمعاً على فساده فإنه يفسخ بغير طلاق، ومن ذلك العقد على امرأة في عدة الغير، أو العقد على محرمة من المحارم، أو العقد على خامسة وتحته أربعة، أو نحو ذلك من العقود المجمع على فسادها فإنها تفسخ بغير طلاق.

2 ـ فسخ الحاكم بالغيب طلاق بائن، سواء طلق هو أو أمرها بأن تطلق نفسها إلا إذا كان مولياً وطلق عليه، فإن طلاق الحاكم في هذه الحالة يكون رجعياً، ومثله ما إذا طلق عليه الحاكم بسبب الإعسار عن دفع النفقة فإن طلاقه يكون رجعياً.

3 ـ الردة طلاق بائن على المشهور.

4 ـ الخلع، وهو طلاق صريح عندهم.

5 ـ الطلاق الصريح، والكناية.

6 ـ الفرقة بسبب الإيلاء طلاق.

7 ـ الفرقة بسبب العيب طلاق، فيأمره القاضي بالطلاق أو يطلق عليه القاضي أو جماعة المسلمين. أو يأمرها به فتطلق نفسها، ويحكم القاضي به أو يثبته طلاقاً على الخلاف في الطلاق بالعيب، إلا أنه بائن في العيب ورجعي في الإيلاء إلا إذا طلق هو رجعياً.

8 ـ الفرقة بسبب الإعسار عن دفع الصداق أو دفع النفقة، فإن الحاكم يطلق عليه طلقة واحدة رجعية إن أبى عن تطليقها، أو يأمرها بأن تطلق نفسها ثم يحكم به كما تقدم.

مذهب الحنابلة:

وقد نصوا على أن الفسخ يكون في أمور هي:

1 ـ الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق أو نيته.

2 ـ ردة أحد الزوجين.

3 ـ الفرقة لعيب من العيوب التي سنذكرها في هذا الفصل، ولا يفسخه إلا حاكم.

الفرقة بسبب إعساره عن دفع الصداق والنفقة ونحوها، ولا يفسخه إلا حاكم أيضاً.

4 ـ إسلام أحد الزوجين، وينفسخ نكاحهما إذا انقضت عدتها، أما إذا أسلمت المرأة ثم أسلم زوجها وهي في العدة فإن نكاحهما يبقى.

5 ـ فرقة الإيلاء، وهي منوطة بالحاكم كما سنرى في محله.

6 ـ الفرقة بسبب اللعان فإن اللعان يوجب التحريم بينهما على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي بحيث لا تحل له بعد ذلك.

أما الطلاق، فهو فيما عدا هذه الأحوال المذكورة.

مذهب الظاهرية:

ذكر ابن حزم أن ما يقع به فسخ النكاح بعد صحته ثمانية أوجه فقط، هي([28]):

1 ـ أن تصير حريمة برضاع.

2 ـ أن يطأها أبوه، أو جده بجهالة؛ أو بقصد إلى الزنا.

3 ـ أن يتم التعانه والتعانها.

4 ـ أن تكون أمة فتعتق، فلها الخيار في فسخ نكاحها من زوجها أو إبقائه.

5 ـ اختلاف الدينين إلا في جهة واحدة، وهي أن يسلم الزوج وهي كتابية، فإنهما يبقيان على نكاحهما، وينقسم اختلاف دينهما في غير ذلك إلى خمسة أقسام: أن يسلم هو وهي كافرة غير كتابية، أو أن تسلم هي، وهو كافر كتابي، أو غير كتابي، أو أن يرتد هو دونها، أو أن ترتد هي دونه، أو أن يرتدا معا. ففي كل هذه الوجوه ينفسخ نكاحهما سواء أسلم إثر إسلامها، أو أسلمت إثر إسلامه، أو راجع الإسلام، أو راجعت الإسلام، أو راجعاه معا، لا ترجع إليه في كل ذلك إلا برضاهما وبصداق، وبولي، وإشهاد. ولا يجب أن يراعى في ذلك شيء من عدة، ولا عرض إسلام.

6 ـ أن يملكها، أو بعضها.

7 ـ أن تملكه أو بعضه.

8 ـ موته أو موتها، ولا خلاف في ذلك.

مذهب الزيدية:

وقد نصوا على أن الفسخ يكون بأحد أمور أربعة ([29]):

1 ـ أن تكون ملتهما واحدة حال الزوجية، ثم يطرأ عليها اختلاف فإنه يرتفع النكاح بينهما بتجدد اختلاف الملتين بينهما سواء ارتدا عن الإسلام أم كانا يهوديين فتنصروا أم العكس في وقتين لا في وقت والتبس فهما على نكاحهما، ومثال ذلك أن يكونا مسلمين فيرتد أحدهما أو كافرين فيسلم أحدهما أو يهوديين فيتنصر أحدهما أو العكس فقد اختلفت ملتهما في جميع هذه الصور وهي كلها توجب ارتفاع النكاح بينهما.

2 ـ تجدد الرق عليهما، ومثال ذلك أن يكونا كافرين في دار الحرب ولو مملوكين لحربي فيسبيهما المسلمون أو غيرهم، أو كانا رقين مسلمين لمسلم فسباهما أهل الحرب فإنهما يملكا في الصورتين وينفسخ النكاح بتجدد الرق عليهما أو على أحدهما نحو أن يسبى الزوج وحده أو الزوجة وحدها.

3 ـ ملك أحدهما الآخر أو بعضه، وذلك نحو أن تكون هي حرة وهو عبد، فتشتريه أو ترثه أو يوهب لها أو نحو ذلك، أو هو الحر فيملكها بأي هذه الوجوه، فإن النكاح يرتفع بينهما، ولا ينفسخ النكاح بأن يملك أحدهما الآخر أو بعضه إلا إذا كان ملك الرقبة لا المنفعة نافذا كالبيع بغير خيار والإرث مع عدم الاستغراق ونحو ذلك، فأما إذا لم يكن قد نفذ لم ينفسخ النكاح حتى ينفذ.

4 ـ رضاع طرأ بعد الزوجية صيرها محرما نحو أن ترضع زوجها الصغير أو ترضعه أختها أو ترضع زوجة له أخرى صغيرة أو نحو ذلك وهكذا لو كانت هي الصغيرة فأرضعتها أم الزوج أو زوجته أو نحو ذلك.

مذهب الإمامية:

من الموارد التي ذكروا فيها حق الزوجين في الفسخ ما يسمى خيار العيب، فإذا علم الزوج بعد العقد بوجود أحد العيوب الستة الآتية في الزوجة حين العقد فيكون له الفسخ من دون طلاق:

1 ـ الجنون ولو كان أدوارياً، وليس منه الإغماء والصرع.

2 ـ الجذام.

3 ـ البرص.

4 ـ العمى.

5 ـ العرج ولو لم يبلغ حدّ الإقعاد.

ولا يثبت الخيار للزوج في العيوب المتقدمة إذا حدثت بعد العقد وإن كان قبل الوطء.

ونصوا على أنه يثبت خيار العيب للزوجة إذا كان الزوج ممجبوباً أو مصاباً بالعنن سواء كان الجب أو العنن سابقاً على العقد أم كان حادثاً بعده أو بعد العقد والوطء معاً..

واختلفوا في ثبوت خيار العيب لها في جنون الزوج سواء كان سابقاً على العقد أم حادثاً بعده أو بعد العقد والوطء أم لا؟ وكذا فيما لو كان خصياً حين العقد أو وجيّاً أو مجذوماً أو أبرص، فإن اختارت الفسخ فلا يترك الاحتياط في جميع ذلك بعدم ترتيب أثر الزوجية أو الفرقة إلاّ بعد تجديد العقد أو الطلاق.

ونصوا على أنه يجوز للرجل الفسخ بعيب المرأة من دون إذن الحاكم وكذا المرأة بعيب الرجل، نعم مع ثبوت العنن إذا لم ترضَ المرأة بالصبر معه لا يحق لها الفسخ إلاّ بعد رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي.. وإذا علم بشهادة الطبيب الأخصائي الموثوق به أن الزوج سوف لا يقدر على الوطء أبداً جاز لها الفسخ من دون الانتظار إلى تمام السنة.

ونصوا على أنه إذا فسخ الرجل بأحد عيوب المرأة فإن كان الفسخ بعد الدخول استحقّت المرأة تمام المهر وعليها العدة كما في الطلاق وإن كان الفسخ قبله لم تستحقّ شيئاً ولا عدّة عليها. هذا إذا لم يكن تدليس، وأما مع التدليس (المتحقق بتوصيف المرأة للرجل عند إرادة الزواج بالسلامة من العيب مع العلم به أو بالسكوت عن بيان العيب ممن عليه البيان مع إقدام الزوج بارتكاز السلامة منه) فإن كان المدلِّس نفس المرأة لم تستحق المهر إذا اختار الرجل الفسخ وإن اختار البقاء فعليه تمام المهر لها، وإن كان المدلّس غير الزوجة فالمهر المسمى يستقرّ على الزوج بالدخول ولكن يحقّ له بعد دفعه إليها أن يرجع به على المدلِّس.

وإذا فسخت المرأة بعيب الرجل استحقت تمام المهر إن كان بعد الدخول وإن كان قبله لم تستحق شيئاً إلاّ في العنن فإنها تستحق عليه فيه نصف المهر المسمى ([30]).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في تصنيف أنواع الفرقة الزوجية هو أنه يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع، وليس ذلك من باب التصنيف العلمي فقط، وإنما لكثير من المقاصد التي ترتبط بهذا التصنيف، وهذه الأصناف هي:

الطلاق: ويختص بحالة واحدة، وهي التفريق الحاصل من الزوج لزوجته قصدا من غير إكراه، فلذلك لو أكرهه القاضي على تطليقها لا يعتبر طلاقا، وإنما يدخل في التفريق القضائي، لأن الزوج لم يفعل غير ما أمره القاضي دون قصد منه لذلك، والمصلحة التي نريدها من هذا الحصر، هو تضييق عدد الطلاق، والحفاظ على فرص الرجعة، لأن اعتبار التفريق القضائي مثلا طلاقا يقلل من الفرص التي جعلها للشرع للزوج للرجعة، ومثل ذلك اعتبار الخلع أو الإيلاء أو غيرها من أنواع التفريق.

والدليل الشرعي على ذلك سنفصله في محله، ولكن من باب الاختصار فإن النصوص الشرعية لم تذكر الطلاق إلا مرتبطا بالرجل، ثم قيدت هذا الارتباط بالقصد، فدل مجموع هذين على أن الطلاق هو ما كانت هذه صفته لا غير.

حل العصمة الزوجية بيد المرأة: وله موضع واحد هو الخلع، ويمكن أن يضاف إليه التفريق للضرر من غير قضاء القاضي كما نص المالكية، أو التفريق بالتمليك والتخيير كما نص أكثر الفقهاء، وسنناقش اعتبار ذلك في محله، وكل هذه الأنواع يمكن تسميتها فسخا، باعتبارها لا تؤثر في عدد الطلاق، ولا تنتج عنها آثار الطلاق.

حل العصمة الزوجية بيد القضاء: وهو التفريق المرتبط بقضاء القاضي، لاحتياجه إلى التحري والتوثيق والتأكد، وأكثر ما يكون هذا النوع من التفريق مرتبطا بمطالبة الزوجة أو الزوج، وهذا التفريق لا يؤثر كذلك في عدد الطلاق، ولا يحرم الزوج من الفرص التي جعلها الشرع له.

حل العصمة الزوجية المعلق بالكفارة: وهو نوعان: الظهار والإيلاء فأحكامهما أقرب إلى مسائل الأيمان منها بمسائل الطلاق، وما دعانا إلى عدم إدراج هذا النوع في أنواع التفريق الأخرى، هو الحرص على بيان عدم تشابه هذا النوع مع سائر الأنواع، في حقيقته أو أحكامه، لأن بعض الفقهاء خلطوا أحكام هذا النوع بسائر الأحكام مما نشر الاعتقاد من أن هذا النوع طلاق كسائر الطلاق.

أما سائر الأنواع الأخرى التي ذكرها الفقهاء، وأدرجوها في الفسخ بسبب فساد الزواج أو بطلانه، فليست من هذا الباب لأن الزواج الباطل، وهو المجمع على بطلانه بحسب تعريف الجمهور ليس زواجا، فلذلك لا يسمى التفريق فيه بأي اسم من الأسماء، لأن الأسماء الشرعية توضع للحقائق الشرعية لا لغيرها.

أما الزواج الفاسد، وهو المختلف فيه، والذي اعتبر فيه الفقهاء آراءهم ومذاهبهم كإجراء العقد بدون شهود، فإن المالكية قالوا: بصحة العقد من غير شهود، خلافا للجمهور، والزواج من أم المزني بها، والمنظور إليها بشهوة، فإن العقد عليها صحيح عند بعض الفقهاء فاسد عند بعضهم، فإن هذا النوع من الزواج لا يصح تسميته زواجا فاسدا، لأن من العلماء المجتهدين من يصححه، فلذلك الأرجح في تسميته هو أنه (زواج مختلف فيه)، وهذا الزواج لا يصح فسخه أو التفريق فيه بين الزوجين إلا إذا رأى ولي الأمر ذلك، فيكون من باب الولاية لا من باب الفتوى، لأن المفتي لا يحق له أن يفرض قناعته على غيره في المسائل المختلف فيها.

ثانيا ـ المقاصد الشرعية من أحكام الفرقة الزوجية

من حكم الشرع الجليلة أنه لم يقصر التفريق في الزواج على جنس دون جنس، بل وضع لكل من الرجل والمرأة النوع الذي يخصه من التفريق، وفي ذلك حكم جليلة ومقاصد الشريفة، سنذكر بعضها فيما يلي:

1 ـ حق الرجل في التفريق

لقد خص الشرع الرجل دون المرأة بالتطليق، وقد تحدث الفقهاء هنا عن الحكمة من اشتراط الذكورة في المطلق، ويمكن جمع الحكم المذكورة في ثلاثة حكم ترجع لثلاثة معان هي: طبيعة الرجل وطبيعة المرأة والتكاليف المعلقة على الرجل، فكل واحد من هذه الثلاثة يقتضي أن يجعل الطلاق بيد الرجل، لأنه من المفسدة العظيمة جعله بيد كليهما:

طبيعة الرجل:

فالرجل في مثل هذه الأمور أقوى وأكثر صبرا من المرأة، وأكثر احتمالا للأذى، وقد ذكرنا بعض مبررات ذلك في محله من هذه السلسلة.

التكاليف المالية التي أنيطت بالرجل:

وهي حق للمرأة، وهذه التكاليف قد تقف حاجزا بين الرجل وبين إيقاع الطلاق لأي نزوة،، فالشريعة قد كلفت الرجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزوجية وبعدها، وكلفته بأن يبذل لها صداقاً قد يكون بعضه مؤجلاً إلى الطلاق، وأن يدفع لها أجرة حضانة ورضاع إن كان له منها أولاد في سن الحضانة والرضاع، وهذا كله يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق، فمن العدل أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، لأنه هو الذي يغرم المال.

طبيعة المرأة:

فالمرأة مهما أوتيت من حكمة فإنها سريعة التأثر بطبيعتها، فليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل، فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال لأنها لا تستطيع ضبط نفسها كما يستطيع الرجل، فمن العدل والمحافظة على استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، زيادة على ذلك أنه ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينها وبين إيقاع الطلاق، بل ربما زين لها غضبها إيقاع الطلاق لإرغام زوجها على دفع حقوقها لترهقه بذلك انتقاماً منه.

ثم إن من كرامة المرأة أن لا يكون الطلاق بيدها، لأنه لو كان بيدها، ولم تفارق زوجها بعد أي خلاف يحصل قد يشعرها ذلك بأنها تفرض نفسها على زوجها فرضا، فلذلك من كرامتها أن تجعل كون الأمر بيد زوجها ذريعة للحفاظ على تواجدها في بيت الزوجية.

ومع ذلك فإن هناك بعض المفاسد التي قد تنتج عن الطلاق نتيجة سوء استخدامه من الرجل، ولكن تلك المفاسد لا يصح اعتبارها أصلا يلغى الطلاق بسببها لأن المفاسد الناتجة عن إلغائه أخطر وأكثر من المفاسد المتعلقة بوجوده، وقد ذكر ابن القيم تعارض المصالح والمفاسد في الطلاق، وبين رجحان المصالح فيها عند ذكره للحيلة السريجية، والتي يتوهم محتالوها أنه بها يمكن إلغاء الطلاق كلية، فلا يمكن للرجل تطليق زوجته، وتصوروا ذلك مصلحة محضة، فقال:(الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة، ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية، وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها، ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما، وهكذا ما نحن فيه سواء؛ فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكبر من مصلحة سده عليهم، ومفسدة سده عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم. وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة، وإنما العبث والجور والشدة في خلافها) ([31])

ثم إن الواقع بعد هذا يدل على هذا فقد حرمت المسيحية الطلاق تحريماً باتاً عند الكاثوليك، وباستثناء علة الزنا عند الأورثوذكس، فكانت النتيجة أن خرج الكثير من المسيحيين على هذا التحريم، مما اضطر معظم الدول المسيحية إلى سن قوانين وضعية، تبيح لهم الطلاق بغير القيود التي شرعها الإسلام، فصاروا يطلقون لأتفه الأسباب، وأصبحت حياتهم الزوجية عرضة للانحلال في كل حين، بل صاروا يغيرون الزوجات كما يغيرون تسريحات الشعر وأنواع الثياب.

2 ـ حق المرأة في التفريق

وقد جعل الشرع للمرأة من الأسباب التي تحفظ حقها في التفريق بينها وبين زوجها ما يمنع من تسلط الزوج عليها، ويحفظ حقوقها، فلا تستشعر أي قيد يفرضه زوجها عليه غير القيود التي تحتمها العشرة الزوجية، وسنذكر هنا باختصار بعض هذه الأنواع، والتي سنفصل الحديث عنها في محلها من هذا الجزء:

تشريع الخلع:

وهو طلاق المرأة لزوجها ببذلها ما أعطاه لها من مهر، ولا يستغرب هذا التعريف للخلع، لأن التفاصيل التي ذكرها الفقهاء له، والتي سنراها في الفصل الخاص به تصب في ذلك.

وأسبابه لا تعدو من نفور المرأة من زوجها، وقد يكون نفورا ذوقيا لا مبرر له في الرجل، وقد وردت التعابير الكثيرة عن السلف ما يدل على ذلك، فقد قال الحسن البصري: (إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما حل الخلع(، وقال عطاء بن أبى رباح:(يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إنى أكرهك ولا أحبك(، وقال مالك:(لم أزل اسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها ويضرها رد عليها ما أخذ منها) ([32])

بل قد ورد في السنة ما يدل على ذلك، ففي الحديث الذي تستند إليه معظم التفاصيل الفقهية المتعلقة به نرى هذا الاعتبار، فقد جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردتها عليه، وأمره ففارقها. وفي رواية، فقال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ([33])

فقد كان سبب مخالعتها هو أنها كانت تبغضه أشد البغض، مع أنه كان يحبها أشد الحب ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما بطريق الخلع، كما روي عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، إذ هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال: أتردين عليه حديقته قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما.

ولأجل كون العلة منها والنفور بسببها، فإن الحكمة تقتضي أن ترد عليه ما بذل لها عساه أن يتزوج غيرها، وإلا تضرر ضررا محضا، بل يصبح ذلك ملهاة فتتزوج المرأة متى تشاء، وتطلق متى أحبت دون أن تتضرر أدنى ضرر بينما يعاني الرجل الأمرين مرارة فراق زوجته، ومرارة خسارة ماله.

تشريع التفريق القضائي:

وقد شرع كبديل للخلع حتى لا تفقد المرأة حقها في مالها، وحتى لا يتسلط الزوج عليها، لأن ولي أمر المسلمين في تلك الحالة له الحق في فسخ الزواج بينها وبينه.

ومعظم دواعي التفريق القضائي تعود لمصلحة المرأة، كما سنرى، فمن ذلك مثلا التفريق لتضييق الرجل على زوجته في النفقة أو تفريطه فيها باعتباره قواما عليها، فقد نص الفقهاء على أن المرأة في هذه الحالة مخيرة بين الصبر عليه، وبين فراقه، وأن للقاضي أن يفرق بينهما لهذا العجز والإعسار كماله أن يفرق بينهما لامتناعه عن الإنفاق مع قدرته عليه واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: { فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة:229)، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف، فيتعين التسريح، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني، ويقول الولد إلى من تدعني)([34])، وعن ابن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: سنة؟ قال: سنة، وهذا التعبير ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ذلك التفريق لثبوت الضرر من الزوج، فقد نص الفقهاء على هذا الحق في مواضع مختلفة، بل ورد عن مالك أن للمرأة أن تطلق نفسها منه، من غير عوض، ففي العتبية من رواية عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب فيمن تشكت امرأته ضرره، فأشهد لها إن عاد فهي مصدقة في ذلك، وأمرها بيدها تطلق نفسها ألبتة، فأشهدت بعد أيام وزوجها غائب أن زوجها عاد إلى أذاها، وأنها طلقت نفسها، وأنكر الزوج أن يكون أذاها ثم قدمت المرأة وزعمت أنها كذبت فيما شكت من الأذى ولا يعرف ذلك إلا بقولها قال: قد بانت منه ولزمه ما قضت؛ لأنه جعلها مصدقة وقال مثله أشهب([35]).

وغيرها من أنواع التفريق كالتفريق للعيوب والفقد والغيبة واللعان وغيرها، وكلها تصب في مصالح الزوجة، كما سنرى تفاصيلها في محلها.

ثالثا ـ أسس الترجيح في مسائل الطلاق

اختلفت مواقف الفقهاء من أحكام الطلاق اختلافا شديدا متباينا، بحيث كان فيها المتشدد الذي يسرع بالتطليق لأتفه الأسباب، ولأبسط الصيغ، بل يوقعه بائنا بينونة لا ينفك عنها إلا بتزوجها زوجا آخر، بل أزواجا آخرين كما في هذه المسألة التي نص عليها المالكية بقولهم:(إن شك أطلق زوجته طلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم تحل إلا بعد زوج لاحتمال كونه ثلاثا، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فلا تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه اثنتين وهذه ثالثة، ثم إن تزوجها وطلقها لا تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان، ثم إن طلقها ثالثة بعد زوج لم تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه ثلاثا، وقد تحقق بعدها ثلاث وهكذا لغير نهاية، إلا أن يبت طلاقها كأن يقول أنت طالق ثلاثا، أو إن لم يكن طلاقي عليك ثلاثا فقد أوقعت عليك تكملة الثلاث، فينقطع الدور وتحل له بعد زوج هذه المسألة الدولابية، لدوران الشك فيها) ([36])

وكما نص الحنفية في طلاق المخطئ أن من أراد أن يقول لامرأته اسقيني ماء فقال لها: أنت طالق، وقع، واستدلوا على ذلك بأن الفائت بالخطأ ليس إلا القصد، وهو ليس شرطا لوقوع الطلاق كالهازل واللاعب بالطلاق([37]).

ومنهم في مقابل ذلك من حاول أن يلغي الطلاق إلغاء كليا بوضع الصيغ التي تحبس صاحبها عن التعليق، وتجعل كل ما وضع الشارع من أساليب للتفريق بين الزوجين لغوا وهدارا، كهذه الصيغة المنسوبة لابن سريج، فقد نصوا على أنه لو قال: كلما طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، لا يقع منه الطلاق بعد ذلك؛ لأنه لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز، فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه، وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد([38]).

وذكر ابن دقيق العيد وجها آخر معاكسا لهذه الحيلة، فقال: (الحيلة في حل الدور: أن يعكس، فيقول: كلما لم يقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثا، فإذا طلقها وجب أن يقع الثلاث؛ لأن الطلاق القبلي – والحالة هذه – معلق على النقيضين، وهو الوقوع وعدمه وكل ما كان لازما للنقيضين، فهو واقع ضرورة، ويشبهه قولهم في الوكالة: كلما عزلتك، فأنت وكيلي، نفاذ العزل: أن يقول: كلما عدت وكيلي، فأنت معزول، ثم يعزله) ([39])

وقد أضاف السيوطي إلى هذا نظائر أخرى، فقال:(ذكر نظائر هذه المسألة، قال: إن آليت منك، أو ظاهرت منك، أو فسخت بعيبك؛ أو لاعنتك، أو راجعتك فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم وجد المعلق به لم يقع الطلاق وفي صحته الأوجه) ([40])، وبهذا شملت هذه الحيلة معظم ما وضعه الشرع من وسائل التفريق بين الزوجين، فينتفي ما وضعه الشارع من المصالح التي قد تدعو إليها الحاجة للتفريق.

وقد ذكر ابن تيمية السبب الداعي لوضع هذه الصيغة والاحتيال بها على عدم وقوع الطلاق، فقال:(وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على دفع الطلاق أم قاله طردا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده، لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق، ولهذا صاغوها بقوله: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا؛ لأنه لو قالوا إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كلاهما في الدور سواء) ([41])

وبين هذين الموقفين المتناقضين وقف بعض العلماء مواقف نراها وسطية مقاصدية لا هي بالمتشددة، فتقطع العصمة بسبب وبغير سبب، ولا هي متراخية، فتزيل الطلاق بالكلية، وهذا الموقف يمثله علماء كثيرون ومن مذاهب مختلفة.

ومنهم ابن تيمية، وتبعه ابن القيم في كثير مما ذكره، بل زاد عليه في مسائل كثيرة، وقد كان موقفه من طلاق الغضبان داعية للرصافي لوضع قصيدة تمدحه، وترد في نفس الوقت على الفقهاء الذي يبالغون في إيقاع الطلاق، سنذكر منها هنا ما يتعلق بهذا الباب، قال الرصافي:

ألا قل في الطلاق لموقعيه

   بما في الشرع ليس له وجوب

غلوتم في ديانتكم غلوا

   يضيق ببعضه الشرع الرحيب

أراد الله تيسيرا وأنتم

   من التعسير عندكم ضروب

وقد حلت بأمتكم كروب

   لكم فيهن لا لهم الذنوب

وهي حبل الزواج ورق حتى

   يكاد إذا نفخت له يذوب

كخيط من لعاب الشمس أدلت

   به في الجو هاجرة حلوب

يمزقه من الأفواه نفث

   ويقطعه من النسم الهبوب

وبعد أن ذكر مواقف الفقهاء المتشددة أتبعها بالثناء على ابن القيم وشيخه ابن تيمية، بقوله:

فدى ابن القيم الفقهاء كم قد

  دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي إعلامه للناس رشد

   ومزدجر لمن هو مستريب

نحا فيما أتاه طريق علم

   نحاها شيخه الحبر الأديب

وبين حكم دين الله لكن

   من الغالين لم تعه القلوب

لعل الله يحدث بعد أمرا

   لنا فيخيب منهم من يخيب

هذا عند علماء المدرسة السنية، أما الإمامية فهم أوسع المذاهب الفقهية في باب الطلاق، وأقرب إلى مقاصد الشريعة في هذا الباب.

يقول عـلاء آل جـعـفـرفي كتابه (أصل الشيعة وأصولها) مبينا وجهة نظر الإمامية في مسائل الطلاق:(وعرفت أن من شأن ذلك الربط [أي عقد الزواج] وطبيعته ـ مع إرسال العقد وإطلاقه ـ أن يبقى ويدوم إلى الموت، بل وما بعد الموت، إلا أن يحصل له رافع يرفعه، وعامل يزيله، ولما كانت الحاجة والضرورة، والظروف والأحوال قد تستوجب حل ذلك الربط، وفك تلك العقدة، ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك، لذلك جعل الشارع الحكيم أسباباً رافعة، وعوامل قاطعة، تقطع ذلك الحبل، وتفصل ذلك الوصل.

 فإن كانت النفرة والكراهة من الزوج، فالطلاق بيده، وإن كانت من الزوجة فالخلع بيدها، وإن كان منهما فالمباراة بيدهما، ولكل واحد منها أحكام وشروط، ومواقع خاصة لا تتعداها، ولا يقوم سواها مقامها.

 ولكن لما كان دين الاسلام ديناً اجتماعياً، وأساسه التوحيد والوحدة، وأهم مقاصده الاتفاق والإلفة، وأبغض الأشياء اليه التقاطع والفرقة، لذلك ورد في كثير من الأحاديث ما يدل على كراهة الطلاق والردع عنه، فكانت الحاجة والسعة على العباد، وجعلهم في فسحة من الأمر تقتضي بتشريعه، والرحمة والحكمة، وإرشاد العباد إلى مواضع جهلهم بالعاقبة:{ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(النساء:19) كل ذلك يقتضي التحذير منه، والردع عنه، والأمر بالتروي والتبصر فيه) ([42])

وانطلاقا من هذه النظرة المقاصدية حدد وجهة نظر الإمامية في مسائل الطلاق، فقال:(ونظراً لهذه الغاية، جعل الشارع الحكيم للطلاق قيوداً كثيرة، وشرط فيه شروطاً عديدة، حرصاً على تقليله وندرته، والشيء إذا كثرت قيوده، عز وجوده، فكان من أهم شرائطه ـ عند الإمامية ـ: حضور شاهدين عدلين:{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم)(الطلاق:2)، فلو وقع الطلاق بدون حضورهما كان باطلاً، وفي هذا أبدع ذريعة، وأنفع وسيلة، إلى تحصيل الوئام، وقطع مواد الخصام بين الزوجين، فإن للعدول وأهل الصلاح مكانة وتاثيراً في النفوس، كما أن من واجبهم الإصلاح والموعظة، وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصمين إلى مجاريها، فاذا لم تنجع نصائحهم ومساعيهم في كل حادثة، فلا أقل من التخفيف والتلطيف، والتأثير في عدد كثير) ([43])

ثم ينتقد ما عليه الحال عند أهل السنة، فيقول:(وقد ضاعت هذه الفلسفة الشرعية على إخواننا من علماء السنة، فلم يشترطوا حضور العدلين، فاتسعت دائرة الطلاق عندهم، وعظمت المصيبة فيه، وقد غفل الكثير منا ومنهم عن تلك الحكم العالية، والمقاصد السامية، في أحكام الشريعة الإسلإمية، والأسرار الإجتماعية، التي لو عمل المسلمون بها لأخذوا بالسّعادة من جميع أطرافها، ولما وقعوا في هذا الشقاء التعيس، والعيش الخسيس، واختلال النظام العائلي في أكثر البيوت)

 ثم ذكر بعض النواحي التي ذهب إليها الإمامية والتي تؤيد النظرة المقاصدية التي التزموها، فقال:(ومن أهم شرائط الطلاق أيضاً: أن لا يكون الزوج مكرهاً ومتهيجاً، أو في حال غضب وانزعاج، وأن تكون الزوجة طاهرة من الحيض، وفي طهر لم يواقعها فيه. وقد اتفقت الإمامية أيضاً على أن طلاق الثلاث واحدة، فلو طلقها ثلاثاً لم تحرم عليه، ويجوز له مراجعتها، ولاتحتاج إلى محلل. نعم، لو راجعها ثم طلقها وهكذا ثلاثاً حرمت عليه في الطلاق الثالث، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولو طلقها ثم راجعها تسع مرات مع تخلل المحلل حرمت عليه في التاسعة حرمة مؤبدة) ([44])

***

 انطلاقا من هذا سنذكر هنا الأسس التي يقوم عليها ما نراه من ترجيحات في هذا الباب، وهي بالتالي نوع من الاستدلال على كل ما سنذكره:

الأساس الأول ـ اعتبار كل الاجتهادات الفقهية

وقد عبر القدماء عن هذه القاعدة بأن كل مجتهد مصيب، ونقصد بالمجتهد هنا من استكمل أدوات الاجتهاد، ونقصد بالاجتهادات ما كان من أهلها، ولو اعتبرها البعض شذوذا أو أقوالا ضعيفة لا سند لها، أو قولا مرجوحا، أو قولا مهجورا، لأن هذه الأقوال جميعا قد يكون فيها وجه من الحق يستدعي ترجيح العمل بها في حاجة من الحاجات أو لمصلحة من المصالح.

وقد أشار إلى هذا الأساس ابن القيم، بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة اعتبار أن كل مجتهد مصيب ـ وذلك عند بيانه لمخارج الطلاق، فقد عقد فصولا مهمة للمخارج من الوقوع في التحليل، قال في مقدمتها:(أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعذر عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه، ومباءته باللعنة) ([45])

ثم ذكر مصدره الذي اعتمده لاستنباط هذه المخارج، فقال: (فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة، بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج عن أقوالهم، أو هو قول جمهور الأمة أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة، أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر، ولا ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه، ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل) ([46])

وهذه القاعدة تستدعي إحسان الظن بالعلماء، واللجوء إليهم على اختلاف مذاهبهم لعلاج المشكلات الواقعية، وإصلاح ما يفسده المتعصبون الذين يفتون بآرائهم، أو بما يفهمونه من الأدلة، بغض النظر عن الواقع وحاجات الناس ومصالحهم.

وقد نص ابن القيم على أنه إذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا أو لا يدخل داره، فأفتاه مفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين، اعتقادا لقول علي بن أبي طالب وطاوس وشريح، أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادا لقول أشهب أنه إذا علق الطلاق بفعل الزوجة أنه لم يحنث بفعلها، أو اعتقادا لقول أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطلاق المعلق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر.

قال ابن القيم:(لم يحنث في ذلك كله، ولم يقع الطلاق، ولو فرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولا مقلدا ظانا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص، ولم يسأل غير من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث، ولم يسأل عن المحلوف عليه، فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة، فكيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟)([47])

ثم ساق الأمثلة الكثيرة على عدم مؤاخذة المقلد أو المتأول، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم، ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من أكل نهارا في الصوم عمدا لأجل التأويل، ولم يؤاخذ أصحابه حين قتلوا من سلم عليهم، وأخذوا غنيمته لأجل التأويل، ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاة لأجل التأويل، ولم يؤاخذ عمر حين ترك الصلاة لما أجنب في السفر، ولم يجد ماء، ولم يؤاخذ من تمعك في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل، ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر حين رمى حاطب بن أبي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل، ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج:(إنك منافق تجادل عن المنافقين) لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم:(ذلك المنافق نرى وجهه وحديثه إلى المنافقين) لأجل التأويل.

قال ابن القيم بعد عرضه لهذه الأدلة وغيرها على عدم المؤاخذة بالتأويل والتقليد:(فلا يحل لأحد أن يفرق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الذي قلد فيه بغير حجة؛ فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم عليه بأنه حانث في حكم الله ورسوله، ولم يتعمد الحنث، بل هذه فرية على الله ورسوله وعلى الحالف، وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك، وله مقام، وأي مقام بين يدي الله يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلده) ([48])

واعتبار أن كل مجتهد مصيب، له قيمة عظيمة فيما يسمى بالاجتهاد الانتقائي الذي يختار المفتي فيه أصلح ما يراه للناس، ويعتبر المذاهب المختلفة كلها وجوها من الشريعة يضع كل واحد منها في موضعه الخاص.

ولعل أحسن من استدل لهذه القاعدة، وانتصر لها في واقع كان يموج بالتعصب للمذاهب المختلفة هو الإمام أبو حامد الغزالي، وسنذكر هنا أدلته على هذه القاعدة، وإجابته عن الشبه التي أثارها المخالفون، وهي عين الشبه التي ينطلق منها من يفتي جميع الناس بقول واحد، ويداوي أمراضهم جميعا بعلاج واحد، فيشفي قوما، ويقتل أقواما.

قال الغزالي بعد ذكره للخلاف في المسألة:(والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى)([49])، ثم ساق الأدلة على اعتبار هذه القاعدة، فقسم الأدلة التي يستدل بها الفقهاء إلى نوعين من الأدلة:

النوع الأول: أدلة نصية قاطعة لا مجال فيها للنظر، ولا يصح الخطأ فيها إلا مع عدم بلوغها، وهو ما إذا كان في المسألة نص للشارع أخطأه المجتهد، قال الغزالي:(ينظر، فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطئ وآثم بسبب تقصيره؛ لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه) ([50])

فالخطأ فيه هذه الحالة معتبر، ولا يصح القول معها بأن كل مجتهد مصيب، لأن هناك مرجعا ينبغي أن يرجع إليه المجتهد، ولكنه لم يفعل، أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فهذا يختلف حكمه، قال الغزالي:(قد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه، ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة؛ وذلك أنه لو صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا؛ لأن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته، فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين، إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه؛ فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين؛ لأنهم ليسوا مقصرين) ([51])

النوع الثاني: المسائل غير النصية، وهي التي لا نص فيها، وهي موضع الكلام في هذه القاعدة، وإليها ترجع أكثر الاختلافات الفقهية، وقد بدأ الغزالي استدلاله على هذا النوع بهذا التساؤل الوجيه:(كيف يتصور الخطأ فيها؟)([52]) أو بعبارة أكثر وضوحا: ما هو المرجع الذي نفرق به بين الاجتهاد المصيب والاجتهاد المخطئ مع عدم الدليل النصي.

وقد وضع الغزالي الاحتمالات الممكنة في ذلك، وأجاب عنها، فقال: (فإن قيل: فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه، قلنا: عليه دليل قاطع أو دليل ظني؟ فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية، وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع، ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم، فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل، أفيقولون: لم يعثر عليه جميع الصحابة م فأخطأ أهل الإجماع الحق أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه؟ وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها) ([53])

ثم ذكر انطلاقا من أن معظم المسائل الفقهية مسائل ظنية، بسببها وقع الخلاف، وليس هناك مرجع يرجع إليه في إثبات المصيب، فإن القول بتخطئة واحد منهم تخطئة مطلقة لا يصح، قال الغزالي:(ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها، وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير دليل قاطع تكليف محال، فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ) ([54])

وقد يحتج هنا من يبالغ في القول بقطعية الظني بناء على قناعته الشخصية، وهو ما يحصل الآن في أكثر مواطن الخلاف، قال الغزالي ردا على هذه الشبهة:(الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها، بل يختلف ذلك بالإضافات، فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به، وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال، بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لأفاد الظن ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض) ([55])

ثم ذكر مثالا على ذلك لا يختلف فيه، وهو من مواقف الصحابة وهو أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء، إذ قال:(الدنيا بلاغ، كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله)، أما عمر فنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة فقال:(كيف تساوي بين الفاضل والمفضول؟)، فقد رأى التفاوت لكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل، ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق، قال الغزالي تعليقا على هذين الموقفين المتناقضين: (والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر ما ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن ولا مال قلبه إليه)

ثم بين أن العلة في ذلك اختلاف الطبائع والمشارب، ويصعب مع هذا الاختلاف حمل الناس كلهم على رأي واحد وفهم واحد، فقال:(وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون) ([56])

ثم ذكر أن هذا الاختلاف الذي يرجع للطبائع والمشارب هو الذي يتحكم في أكثر الاختلافات، قال:(فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواع من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة، فالأمارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس)([57])

وانطلاقا من هذه المقدمات يذكر الغزالي السبب الذي جعل الفقهاء يتصورون أدلتهم الخلافية أدلة قطعية، يضيقون بها على غيرهم، ويتعصب لها من يتعصب زاعما الخطأ في غيرها، وأنه لا دليل سواها، فيقول (أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة، وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة) ([58])

ومن الشبه التي قد تعترض بعد هذا، وهي من الشبه التي نجد بعض الفقهاء على أساسها يتنابزون بالألقاب، وينكر كل واحد على الآخر الخطأ في فهم المسألة مع وضوحها، وهو أن الأدلة مع قطعيتها قد تكون غامضة، فيدركها قوم دون قوم، فمن أدركها كان الصواب معه، ومن أخطأها كان مخطئا يلزم تنبيهه.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بقوله:(الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر؛ فإن كان درك الحق المعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال، وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به، وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلو إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر، فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتال الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصي إذا تركه.. وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسر إن أمر به فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق، بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه، بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع) ([59])

ثم لخص هذا التوجيه للمسألة وبيان أثرها بقوله: (وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة، وهو أن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه، وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر، ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيه المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا، إذ الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد) ([60])

هذا ما ذكره الغزالي من أدلة، ونرى أنه من الناحية العملية،ولو مع عدم القول بهذا، فقد نص كثير من العلماء على أنه لا الإنكار في المسائل المختلف فيها، فلا يصح الإنكار على من أخذ بقول من الأقوال لأي قناعة من القناعات، قال السيوطي:(الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا) ([61])

ونختم هذا الأساس بمقولة لها قيمة كبيرة في التعامل مع النصوص بها يمكن التوفيق بين الأقوال المختلفة، نوجهها خاصة لمن يزعم الانفراد بفهم النصوص، وكأن الكتاب والسنة حكر عليه، وهي لإمام من أئمة الزيدية، هو أحمد بن يحي بن المرتضى قال: (ولا يمتنع أن يخاطبنا الله بخطاب يختلف مفهومه، ويريد من كل ما فهمه لجواز تعلق المصلحة به) ([62])

فكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يحيط به فهم، أو يحده قول، أو يحصيه مذهب.

الأساس الثاني ـ أن الفقه ليس محصورا في المذاهب الأربعة

وهذا الأساس هو الذي دعانا للبحث في أقوال السلف، ولو لم يقل بها إمام من أئمة المذاهب الأربعة، لأن البعض يتعامل مع هذه المذاهب، وكأن اتفاقها إجماع يحرم خرقه، ويعتبر شاذا من لا يقول به، ثم ينتقون من أقوال هذه المذاهب ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل، ويعتبرون ما عداه ضعيفا أو مهجورا مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره، أو يضعف مع شخص ليقوى مع غيره.

ولأجل هذا الأساس لم نعتبر رجحان قول من الأقوال المذكورة في هذا الباب إلا وله سنده من أقوال السلف، وخاصة ابن عباس وتلاميذه، والتي لا يصح القول بأن ابن عباس تراجع عنها، فالأسانيد تثبت صحة ما ذكره وتنفي تراجعه.

وقد أشار كثير من العلماء لهذا الاعتبار مع وضوحه وعدم الحاجة إلى البرهنة عليه، وقد عقد له ابن القيم فصلا في الإعلام قال فيه:(فصل: القول في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوي الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين، وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين) ([63])

ثم بين خطأ الاقتصار في الفتوى على مذاهب المتأخرين وهجر أقوال المتقدمين مع كونها أقرب لزمن الوحي، فقال:(ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري، وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وأمثالهم، بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد، وأمثالهم، بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح، وأبي وائل وجعفر بن محمد، وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب، وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وأضرابهم، فلا يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاويهم، وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين الأخذ بها حكما، وإفتاء، ومنع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم) ([64])

وما ذكره ابن القيم يصدق على كثير من الآراء التي سنراها، التي زعم فيها الإجماع، واعتبر الخلاف فيها شذوذا مع أنه يتصدر القائلين بها جبال من رجال السلف، وكأن تلك الجبال سراب لم يلتفت إليه عند الحكم بدعوى الإجماع.

بل إن ابن القيم يذهب إلى أكثر من ذلك، حيث أنه يرى جواز الأخذ بقول الشيعة الإمامية في مسائل الخلاف، وأنه لا فرق في ذلك بينهم وبين سائر المذاهب الإسلامية، يقول في كتابه [الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة] عند بيانه لبعض مخارج الطلاق: (الوجه التاسع: إن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت، وهب أن مكابرا كذبهم كلهم وقال قد تواطئوا على الكذب عن أهل البيت ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر في اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل، وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة وحملوا حديثهم واحتج به المسلمون ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم ويبحثون معهم والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن الأمة فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله) ([65])

ولست أدري ما يجيب به من يزعمون أنهم أتباع لابن القيم عن قوله هذا، وهم يعتبرون الشيعة أصحاب دين آخر، لا علاقه له بالإسلام، ولا بالدين الذي يدينون به.. وهذا يدل على مزاجيتهم واتباعهم لأهوائهم، وأنه لا علاقة لهم بمن يزعمون أنهم يتبعونهم.

الأساس الثالث ـ أن الورع هو حفظ كيان الأسرة المسلمة

وسبب اعتبار هذا أساسا من الأسس التي يعتمد عليها في الترجيح أو الإفتاء في هذا الباب هو ذلك الورع البارد الذي يحمل البعض على الإسراع بالإفتاء بالتطليق خشية أن تصبح معاشرة المستفتي مع زوجته معاشرة سفاح، وأن يصبح أولادهما أولاد زنى، فيفتي بالطلاق كما يفتي ببطلان الصلاة، متصورا أن كلتا النتيجتين واحدة، بل إنه في الصلاة قد يبرز تضلعه الفقهي ليبين للعامي كيف يرقع صلاته، ويبذل من الجهد في ذلك ما لو بذل عشره لحمى بيوت المسلمين من التصدع.

والورع في هذا الباب كما نراه ليس في التفريق بين المرء وزوجه وإنما في البحث المضني وببذل أقصى الطاقة لإرجاعه لزوجته إرجاعا شرعيا، ولو بغير ما يقتنع به من أقوال الفقهاء، فقناعته لا ينبغي أن تتحكم في مصالح المسلمين.

وقد قال الإمام أحمد، مبينا موضع الورع الحقيقي في هذا الباب: (الذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا، وأنا اتقي جميعها) ([66])

وبين ابن القيم أن هذا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، فللورع ميادينه الخاصة التي لا يصح تجاوزها، قال ابن القيم:(فعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة، فما جاءه مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته، فما فرق بين زوجين إلا عن وطر واختيار، ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار، ولم يخرب ديار المحبين بغلظ اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان، بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان أو الإكراه والسبق على طريق الاتفاق) ([67])

ونذكر هنا للاستدلال على هذا الأساس ما أورده الغزالي من ردود على الشبه التي يستند إليها أهل هذا النوع من الورع، وعلى أساسها قد يلزمون أنفسهم وغيرهم قولا واحدا يأبون ما عداه، وسنسوق ما ذكره من شبه ثم رده عليها:

وقد قسم الشبه التي أوردها المخالفون من المتشددين في التزام الأقوال إلى قسمين نذكرهما فيما يلي:

الشبه العقلية:

وقد أورد أربع شبه، نقتصر منها على الشبهتين التاليتين، لعلاقتها بالموضوع:

الشبهة الأولى:

أن هذا المذهب في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما، والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا، والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب، فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب، وقد قال بعضهم: هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتي لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده([68]).

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالتنبيه إلى نوع الخطاب بالحكم الشرعي، فهو ليس كما يظن من أورد هذه الشبهة، بل ما يعتقده الكثير من الناس من أنه يتعلق بالأعيان، بل إن الشرع علقه بأفعال المكلفين، فلذلك لا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، فالمرأة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي، والميتة تحل للمضطر دون المختار، والصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض.

والتناقض الحقيقي ليس في هذا، وإنما هو أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض، فالصلاة في الدار المغصوبة حرام وقربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه، فاختلاف الأحوال ينفي التناقض.

وهذا عام في الأحوال المختلفة والأسباب المختلفة، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا.

وبناء على هذا نص الغزالي على وجه الورع في التزام الأقوال، فليس الورع فيها بمراعاة أعيانها، وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها، والتي تختلف باختلاف الأحوال، يقول الغزالي: (ولو قال الشارع: يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما وكذلك لو صرح الشارع وقال: من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض) ([69])

وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتبار الأحوال المختلفة التي لا يجدي معها التعصب لقول بعينه.

ثم إن الغزالي بأسلوبه الجدلي على طريقة المتكلمين سلم لأصحاب الشبهة ما أوردوه من اعتبار الحل والحرمة وصفا للأعيان، ورد بأن القول بذلك أيضا لا يتناقض مع ما ذكره، لأنه يكون من الأوصاف الإضافية، فلا يتناقض عقلا أن يكون الشخص الواحد أبا ابنا لكن لشخصين وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لاثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر.

الشبهة الثانية:

وهي الشبهة التي يتمسك بها المغالون في التعصب للمذاهب الفقهية بحيث يعتبرون الخروج عن الالتزام بها بدعة، وقد عبر الغزالي عن هذه الشبهة في واقع كان يموج بالتعصب المذهبي، وهو في ذلك لا يبتعد عن واقع كثير من المجتمعات الإسلامية المحافظة اليوم، فقال:(لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر؛ لأن صلاة كل واحد صحيحة، فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته؟ وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة، وصلاة الحنفي أيضا صحيحة؛ لأنه بناها على الاجتهاد، فلما اتفقت الأمة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد) ([70])

وقد رد الغزالي على هذه الشبة بأن الاتفاق في هذا غير مسلم، لأن كل مصل يصلي لنفسه ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة، وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها فكيف يمتنع الاقتداء؟

ومثل هذا يجاب عنه في كثير من مسائل الطلاق كما سنرى، لأن الزعم باعتبار بقائه مع زوجته سفاحا قول من أقوال مذهبه الذي يأتم به، ويصح له أن يأتم بغيره ويتفادى وقوع الطلاق، ويكون مع ذلك ورعا، لأنه لم يخرج من أحكام الشريعة.

الشبه النقلية:

وقد ذكر الغزالي خمس شبه نوردها جميعا فيما يلي([71]):

الشبهة الأولى: وهي الاستدلال بقوله تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء: 78،79)، ووجه الدليل أن فيها اختصاص سليمان u بمدرك الحق وأن الحق واحد.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما، ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم، فكيف ينسب الخطأ إلى داود u ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد؟

الوجه الثاني: أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال تعالى:{ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما، ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما في معرض المدح والثناء.

الوجه الثالث: وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان، ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان u فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي.

الشبهة الثانية: وهي الاستدلال بقوله تعالى:{ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83) وقوله تعالى:{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(آل عمران:7) ووجه الدليل أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط.

وقد رد الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين:

الوجه الأول: أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات والقطعيات، إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط.

الوجه الثاني: أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء، فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض.

الشبهة الثالثة: وهي من أقوى الشبه، وهي الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر) ووجه الدليل أنه ذكر فيه خطأ وصوابا.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين:

الوجه الأول: أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى، كيف يستحق الأجر؟

الوجه الثاني: هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطإ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه، فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود، وكذلك كل من اجتهد في القبلة.

الشبهة الرابعة: وهي الاستدلال بقوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}(آل عمران:103) وقوله تعالى:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }(آل عمران:46) وغيرها من الآيات الحاثة على التآلف، والإجماع منعقد على الحث على الألفة والموافقة والنهي عن الفرقة، وقد أجاب الغزالي على ذلك بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أن اختلاف الحكم باختلاف الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار.

الوجه الثاني: أن الأمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره، والأمر باتباع المختلف أمر بالاختلاف.

الشبهة الخامسة: وهذه الشبهة هي أساس الورع الذي ذكرنا، وتنطلق من الآثار الكثيرة الدالة على حذر الصحابة من الخطأ في الاجتهاد، ومنها قول أبي بكر:(أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان)، وقول علي لعمر ما: (إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطئوا، أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا وأما الدية فعليك) ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه:(هذا ما أرى الله عمر) فقال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك خطأ فمن عمر، وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن المبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بأن الخطأ في الاجتهاد الذي لا يجوز اعتباره، ويتورع عن القول به، يكون في أربعة مواضع، هي:(أن يصدر الاجتهاد من غير أهله، أو لا يستتم المجتهد نظره، أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع، أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا، فينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطإ بالإضافة إلى طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق مناط الأحكام) ([72])

أما ما ورد عن الصحابة من ذلك فقد يكون خوفا من دليل قاطع غفل عنه، أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه، أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى.

بعد هذا العرض للأدلة، نرى أنه من الورع البحث في أقوال المجتهدين من السلف ومن بعدهم لحفظ بيوت المسلمين من التصدع وحفظ أولاد المسلمين من التشرد، وأن لا يلزم أحد بقناعته غير نفسه، فالشريعة لا يمثلها قول أو رأي أو مذهب أو اتجاه، بل تمثلها جميع الأقوال والآراء والمذاهب والاتجاهات.


([1])   المبسوط: 6/2.

([2])   شرح حدود ابن عرفة: 184.

([3])   التاج المذهب: 2/118.

([4])   لسان العرب: 10/227، وانظر: طلبة الطلبة: 52.

([5])   قال ابن حجر: رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث محارب بن دثار عن بن عمر بلفظ « الحلال »  بدل المباح ورواه أبو داود والبيهقي مرسلا، تلخيص الحبير: 3/205، وانظر: البيهقي: 7/322، أبو داود: 2/255، ابن ماجة: 1/650.

([6])   انظر: عون المعبود: 6/161.

([7])   الحاكم: 4/16، المعجم الكبير: 23/188، مجمع الزوائد: 9/244.

([8])   قال العراقي في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين للغزالي: حديث: النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته ـ رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، قال البيهقي: وروي ذلك مرفوعاً، والموقوف.

([9])   المبسوط:6/2.

([10])   المبسوط:6/2، وانظر: تبيين الحقائق: 3/253.

([11])   المغني: 7/277.

([12])   طرح التثريب: 7/84.

([13])   العناية: 3/468.

([14])   أخرجه مالك (2/745، رقم 1429)، والشافعى (1/224) والدارقطنى (3/77)، والحاكم (2/66، رقم 2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقى (6/69، رقم 11166) وغيرهم.

([15])   شرح النووي على مسلم:10/62.

([16])   أخرجه أبو داود (2/255، رقم 2178)، وابن ماجه (1/650، رقم 2018)، والحاكم (2/214، رقم 2794) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبى وقال: على شرط مسلم. وابن عدى (6/461، ترجمة 1941 معرف بن واصل)، والبيهقى (7/322، رقم 14671)

([17])   المغني: 7/277، وانظر: كشاف القناع: 5/232.

([18])   المغني: 7/277.

([19])   المغني: 7/277.

([20])   منقول من موقع islamunveiled.

([21])   رد المحتار: 5/705.

([22])   بدائع الصنائع: 5/176.

([23])   قال الزركشي بعد إيراده لهذا التعريف:« وبذلك رددنا على أبي حنيفة أن الخلع فسخ، لأنه لا يشترط فيه رد الصداق فما انقلب كل واحد من العوضين لصاحبه فذهبت حقيقة الفسخ »، المنثور في القواعد الفقهية:3/42.

([24])   المنثور في القواعد الفقهية:  3/48.

([25])   غمز عيون البصائر:2/104.

([26])   المنثور في القواعد الفقهية:3/24.

([27])   شرح ميارة:1/248، وانظر: شرح حدود ابن عرفة:177.

([28])   المحلى: 9/329.

([29])   التاج المذهب: 2/180.

([30])  انظر المسائل المنتخبة للسيد علي السيستاني.

([31])   إعلام الموقعين:3/217.

([32])   القرطبي:3/139.

([33])   البخاري:5/2022، مجمع الزوائد: 5/4، البيهقي: 7/313، الدارقطني: 3/254، النسائي: 3/369، المجتبى: 6/169، ابن ماجة: 1/663، سنن سعيد بن منصور: 379، مصنف عبد الرزاق: 6/482، أحمد: 2/296، 4/3.

([34])   أخرجه البخارى (5/2048، رقم 5040)، وابن حبان (8/149 رقم 3363). وأخرجه أيضا: البيهقى (7/470، رقم 15488)

([35])   المنتقى:4/65.

([36])   حاشية الصاوي: 2/590، وانظر: التاج والإكليل:4/88، الشرح الكبير: 2/403.

([37])   بدائع الصنائع:3/101، ومما يروى من التساهل في الطلاق واللعب به أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة‏.وذلك أنه دخل عليهن يوما فوجدهن متلاحيات متنازعات وكان شنظيرا‏.‏ فقال‏:‏ إلى متى هذا التنازع ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك يقول ذلك لامرأة منهن اذهبي فأنت طالق‏.‏ فقالت له صاحبتها‏:‏ عجلت عليها الطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا‏.‏ فقال لها‏:‏ وأنت أيضا طالق‏.‏ فقالت الثالثة‏:‏ قبحك الله فوالله لقد كانتا إليك محسنتين وعليك مفضلتين‏.‏ فقال‏:‏ وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا‏.‏ فقالت له الرابعة وكانت هلالية وفيها أناة شديدة‏:‏ ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق‏.‏ فقال لها‏:‏ وأنت طالق أيضا‏.‏ وكان ذلك بمسمع جارة له فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه فقالت‏:‏ والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة‏.‏ قال‏:‏ وأنت أيضا أيتها المؤنبة المتكلفة طالق إن أجاز زوجك‏.‏ فأجابه من داخل بيته‏:‏ هيه قد أجزت قد أجزت‏.‏

ومن ذلك أن المغيرة بن شعبة دخل على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخلل حين انفتلت من صلاة الغداة فقال لها‏:‏ إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة كنت فبنت‏.‏ فقالت‏:‏ والله ما اغتبطنا إذا كنا ولا أسفنا إذ بنا وما هو لشيء مما ذكرت ولكني استكت فتخللت للسواك‏.‏ فخرج المغيرة نادما على ما كان منه.

([38])   المنثور في القواعد الفقهية: 2/157.

([39])   نقلا عن: الأشباه والنظائر: 381.

([40])   الأشباه والنظائر: 381.

([41])   الفتاوى الكبرى:4/142.

([42])   أصل الشيعة وأصولها: 278.

([43])   أصل الشيعة وأصولها: 278.

([44])   أصل الشيعة وأصولها: 280.

([45])   إعلام الموقعين: 4/47.

([46])   إعلام الموقعين: 4/47.

([47])   إعلام الموقعين: 4/89.

([48])   إعلام الموقعين: 4/90.

([49])   المستصفى: 1/352.

([50])   المستصفى: 1/352.

([51])   المستصفى: 1/352.

([52])   المستصفى: 1/353.

([53])   المستصفى: 1/353.

([54])   المستصفى: 1/353.

([55])   المستصفى: 1/353.

([56])   المستصفى: 1/354.

([57])   المستصفى: 1/354.

([58])   المستصفى: 1/354.

([59])   المستصفى: 1/354.

([60])   المستصفى: 1/354.

([61])   المنثور في القواعد الفقهية:  2/140.

([62])   البحر الزخار: 1/195.

([63])   إعلام الموقعين: 4/118.

([64])   إعلام الموقعين: 4/118.

([65])   الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 616)

([66])   طلاق الغضبان:45.

([67])   طلاق الغضبان:25.

([68])   المستصفى: 1/355.

([69])   المستصفى: 1/355.

([70])   المستصفى: 1/357.

([71])   انظر: المستصفى: 1/359.

([72])   المستصفى: 1/361.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *