الفصل الأول: البعد الإيماني في تربية الأولاد

الفصل الأول

البعد الإيماني في تربية الأولاد

أولا ـ ضرورة التربية الإيمانية لبناء الشخصية السوية

إن الهدف الأساسي الذي يسعى كل مرب لتحقيقه هو بناء شخصية سوية لمن يربيه، تجعله إنسانا سليما في نفسيته، أمينا في أخلاقه، قويا في عمله وإنتاجه.

فهذه العناصر الثلاثة هي الأركان الأساسية التي تتكون منها الشخصية([1]) السوية:

لأن من فقد السلام النفسي سيسقط في كهوف الخوف المرعبة التي تلمؤه حزنا وأسفا وضيقا واكتئابا، فيغرق في أوهامها، أو يتخلص منها بالهرب من كل شيء أو الهرب لكل شيء، ولذلك كان السلام هو بشرى المؤمن في الدنيا والآخرة، بل هو مقدمة كل كمال ولذة في الدنيا والآخرة.

أما من فقد الأمانة، فهو لص أو خائن أو كاذب، قد يغفل عنه المجتمع والقانون، فيخرج بزيه ومظهره لا يستر عورته أي ساتر، وقد لا يغفلون عنه، فيتسر عورات خيانته بأثواب شفافة قد تلقي عنه في أي حين ليظهر على حقيقته.

أما من فقد القوة، فهو متواكل ضعيف عاجز لا يستطيع من أمره ولا من أمر الناس شيئا، فوجوده كعدمه وحياته كموته.

فالعنصر الأول لازم لبناء (أنا) الإنسان السوي، والعنصر الثاني لازم لوقاية النفس والمجتمع من الوحش الذي قد يسكن (أنا الإنسان)، والعنصر الثالث لازم لإخراج الإنسانية من السلبية إلى الإيجابية، ومن الاستهلاك بكل أنواعه إلى الإنتاج بكل أنواعه.

انطلاقا من هذا، فإن الأدلة على ضرورة التربية الإيمانية في بناء الشخصية السوية للطفل وغيره تتكشف من خلال ضرورة الإيمان لتحقيق هذه الأركان الثلاثة، فالإيمان هو المنبع الذي تستقى منه هذه الفضائل العظيمة، ولذلك كان أول ما وعظ به لقمان u ابنه أن قال له: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)

فالشرك إشارة لكل ما ينحرف بالعقيدة عن حقيقتها وأهدافها، ويدخل فيه الإلحاد والتحريف، ويدخل فيه الكثير من الضلالات التي تسربت للمؤمنين كما تسربت قبل ذلك لغيرهم، فبقدر الضلالة يكون البعد عن الله، ويقدر البعد عن الله يكون انحراف الشخصية.

ويشير إلى هذه الضرورة أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعظ ابن عباس:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([2])

وفي رواية:(احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)

ففي هذه الموعظة إشارة للجوانب الثلاثة من السلام والأمانة والقوة، وهو ما سنبين مواضع الإشارة منه في محالها.

ونحب أن نبين أن الدراسات النفسية الحديثة أكدت أهمية هذا الجانب وضرورته، ولا بأس أن نسوق هنا ما قاله بعض المختصين في هذا، وهو الدكتور (هنري لنك) الطبيب النفسي الأمريكي، صاحب كتاب (العودة إلى الإيمان)

فقد قال منكرا على النظريات التي أشاعتها بعض المدارس النفسية الحديثة، رادا بذلك على خصوم التربية الدينية:(إن تربية الأطفال لمن أشق الواجبات وأخطرها وأدقها، ومشاكلها شديدة التعقيد والعسر، وهي بعد ذلك ذات أوجه متناقضة عند حلها يكون معها الآباء في مسيس الحاجة إلى أية معونة خارجية، مهما بلغت درجة تواضعها وبساطتها.. وقد كان طبيعياً: بعد أن استغنى الآباء المستنيرون عن المعتقدات الدينية، وضربوا بها عرض الحائط، أن يولوا وجوههم شطر مصدر جديد من مصادر المعونة، فلم يجدوا أمامهم سوى علم النفس الخاص بالأطفال، ولكن علم نفس الأطفال لم يكن بعد، على استعداد لتقديم المعونة لهم، لأن الثقة بهذا العلم لم تكن قد تعدت الثقة النظرية حتى ذلك الوقت. وكان البرهان العلمي حينذاك في مهده صغيراً برغم تعدد نظرياته. ومن هنا بدأ الآباء يعتنقون هذه النظريات التي كان أبرزها أن العقوبة البدنية ضارة من الوجهة النفسية. وأنه من الأفضل إقناع الطفل بعمل شيء ما، لا إرغامه بالقوة والعنف عليه، وأنه لا يجوز كبت الطفل بل على العكس يجب منحه الفرصة كي يعبر عن ذاته.. وأنه يجب منح الأطفال علاوة منتظمة حتى يمكنهم إدراك قيمة المال، وأن بعض الأطفال يولدون بطبيعتهم عصبيين أو ذوى حساسية مرهفة، وعليه فلا يجوز إرغامهم على أن يفعلوا، ويعملوا ما يفعله ويعمله غيرهم. وللأسف، لم يظهر أي برهان علمي أو نفسي يؤيد هذه النظريات، بل بالعكس ثبت أن كل هذه النظريات خاطئة)([3])

وانطلاقا من هذا العجز الذي مني به علم النفس في القيام بدور البديل عن الإيمان يدعو هذا الطبيب النفسي إلى ضرورة العودة إلى الإيمان، يقول:(فقد سمعنا الكثيرين من الآباء يرددون: انهم لا يبعثون بأولادهم إلى الدروس الدينية أو إلى محلات العبادة، حتى يصلوا إلى السن التي يدركون عندها ما يجري. غير أن ما يضايقهم، ويقض مضجعهم هو هذا السؤال: ترى هل يكتسب هؤلاء الأولاد ذلك الشعور القوي الذي يمكنهم به أن يميزوا بين الخطأ والصواب؟ هل يؤمنون بتلك المثل الخلقية الواضحة التي آمنا بها منذ طفولتنا؟.. لقد قلنا فيما مضى أن بعض الأعمال خطأ والبعض الآخر صواب، لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، أو لأن كتابه قد أورد ذلك بمعنى آخر. وقد تكون هذه الطريقة فطرية بدائية، غير أنه مما لا شك فيه أن تأثيرها كان طيباً فقد عرفنا على الأقل الكثير عن طيب الأفعال وخبيثها. أما الآن فإننا لا نقول لأولادنا إلا أن هذا التصرف خطأ، وأن ذاك صواب، لأننا نرى ذلك، أو لأن المجتمع قد اتفق على ذلك. فهل لهذا الود من القوة والبيان ما لسابقه؟ وهل له مثل أثره وهل يكتسب أطفالنا القيم الخلقية الأساسية للحياة دون الحاجة إلى ضغط العقائد الدينية، تلك القيم التي نتقبلها ونسلم بها حتى بعد أن أصبحنا لا نسلم بمصدرها الإلهي؟)([4])

ويعود إلى ذلك حين يتحدث عن مقدار ما يسديه الدين من عون للآباء في تربية أبنائهم وتهذيبهم، وتكوين شخصياتهم الفاضلة فيقول:(وبديهي أن الأطفال يختلفون، سواء بطبيعتهم أم بحسب وراثتهم، ولكن مهما كانت هذه الطبيعة أو الوراثة طيبة جيدة، فإنه لا يمكن غرس العادات الأساسية بغير (النظام) ولما كان استياء الطفل من النظام واتجاهه عكسياً، كلما حاولت إنماء العادات الطيبة فيه، أمراً لا مفر منه، كان من الواجب استخدام كل وسيلة ذات تأثير أو ذات صفة إرغامية، تساعد على الإسراع في اكتساب هذه العادات. والواقع أن معظم الآباء يكونون في أشد الحاجة إلى الاستعانة بنصائح غيرهم، في أثناء عملية غرس العادات المرغوبة في أطفالهم. وإذا بحثنا من الناحيتين: العقلية والنفسية، وجدنا أن أعظم مصادر هذا العون هو الدين.. فالايمان بوجود الله ورسله وكتبه يهيئ للأبوين ملجأ أميناً موثوقاً به يلجئون إليه، ويضع بين أيديهم سلطة كبرى على أطفالهم كانوا يفتقرون إليها حتى لو لم يؤمنوا بها. فإن هؤلاء الآباء الذين كانوا يتساءلون كيف ينمون عادات أولادهم الخلقية ويشكلونها، في حين تنقصهم هم أنفسهم تلك التأثيرات الدينية التي كانت قد شكلت أخلاقهم من قبل، كانوا في الحقيقة يجابهون مشكلة لا حل لها، فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق وبناموسه الخلقي الإلهي في قلوب الناس.فتجد الآباء الذين تحرروا من الإيمان عن طريق ثقافتهم وأعمال فكرهم حيارى متسائلين على الدوام. إذن كيف يتسنى لأولئك الحيارى أن يكونوا أنفسهم ملجأ لأولادهم؟)([5])

وهو يذكر الدراسات المقارنة المؤكدة لذلك، فيقول، وهو يتحدث عن أثر دور العبادة في تشكيل شخصية الطفل:(ليس من المستغرب أن يدلنا الاختبار السابق الذكر على أن الطفل الذي يستمع إلى الدروس الدينية يتمتع بصفات شخصية أفضل ممن لا يحضرها، وأن الطفل الذي يذهب والداه إلى المعبد ذو شخصية أحسن من الطفل الذي لا يذهب والداه إليه. وقد اتضح لي بعد دراسة كاملة لعشرة آلاف شخص، أن أولئك الذين يواظبون على الذهاب إلى دور العبادة، كانوا ذوى صفات شخصية أفضل ممن لا يذهبون)([6])

وهو يطلب من الآباء الاهتمام بهذه الناحية منذ السنين الأولى للطفل، قبل أن يتسرب إليه الانحراف، يقول:(إن الوقت الأمثل لتعليم الطفل كيف يخضع دوافعه لقيم عليا، هو السن التي يستطيع فيها أن يتقبل ما يقال له دون أن يفهمه، فإذا استقر رأي الآباء على عدم إرسال أولادهم إلى الدروس الدينية، حتى يبلغوا السن التي يفهمون عندها ما يستمعون إليه، فهم في الحقيقة يتبعون مبدأ هاماً، لأن الوقت يكون قد فات لإصلاح ما فسد إذا بلغ الطفل السن التي يفهم بها كل ما حوله، فانه حينئذ يكون قد أضاع من عمره سنين ثمينة)([7])

انطلاقا من هذا الكلام الذي سقناه لمن يستهينون بهذه الناحية المهمة من التربية، سنحاول في هذا المبحث أن نبين أثر الإيمان في تحقيق الأركان الثلاثة التي تتكون منها الشخصية السوية للإنسان:

1 ـ السلام النفسي

ويشير إليه من موعظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس قوله:(احفظ اللَّه يحفظك)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)

ففيها يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس بأن الله هو الحفيظ الذي يحفظ العبد من كل طوارق السوء، وأنه ـ لذلك ـ لو اجتمعت كل القوى على أن تضر من حفظه الله، فلن تستطيع، ولو اجتمعت على عكس ذلك بأن تنفعه لم تستطع، لأن الله هو النافع الضار، وهذا ما يجمع شتات الإنسان وهمته فلا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله.

ولهذا يخبرنا القرآن الكريم أنه لا يشعر بالأمن الحقيقي إلا المؤمن الذي شغل قلبه بالله، ولم يشتت قلبه بين الشركاء، قال تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، وفي ذلك إشارة إلى أن مصدر المخاوف هو الشرك، واشتغال القلب بغير الله.

وكلما اشتد الشرك وعظم عظمت المخاوف، وكلما نقص الشرك أو تلاشى نقصت المخاوف أو تلاشت، فمعرفة الله والتوجه إليه هي بر الأمان، وهي سفينة نوح التي من ركبها لم تغرقه الأمواج، وهي ظل الله الذي يحتمي به من أحرقته شموس الرعب.

وقد أخبر تعالى في آية أخرى أن الشرك هو مصدر الرعب، وأنه عقوبة إلهية تقتضيها طبيعة الكفر، فقال تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (آل عمران:151)، فقد أخبر تعالى أن مصدر خوفهم هو شركهم بالله.

وفي مقابل ذلك ذكر الله تعالى مواقف المؤمنين الصادقين الذين ملأوا قلوبهم بالله، فرزقهم الأمن التام، والسكينة المطلقة، فهذا إبراهيم u وحده في الأرض يوحد الله، ووحده في الأرض يعبد الله، وتدعوه غيرته على أن يعبد غير الله، ورأفته على الجاهلين بالله، فيتحدى قومه، ويتحدى الأرض معهم، فيحطم الأصنام من غير خوف ولا وجل، وهو يدرك المصير الذي يتعرض له من يحطم تلك الأوثان المقدسة.

ولكن إبراهيم u انشغل بالله، وبجوار الله عن كل المخاوف التي يتذرع بها الخلق، وعندما خوفه قومه من آلهتهم التي دعا إلى نبذها، قال متعجبا: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنعام:81)

فإبراهيم u في ذلك الموقف كان يقارن بين القوة الوهمية التي يستند إليها قومه، والقوة الوهمية التي كانوا يتصورون أنهم يملكونها، وبين قوة الله تعالى فأخبر أن قومه أولى بالخوف منه.

وقد عقب الله تعالى على قول إبراهيم u مقررا هذه الحقيقة المطلقة، ومقننا هذه السنة الإلهية التي لا تتخلف، فقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)

وعلى خطى إبراهيم u سار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

ولذلك فإن مصدر المخاوف التي تعتري النفوس فتملأها هما وحزنا، هو حصاد نبات الغفلة والشرك، وهما مرتع من مراتع الشيطان، قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)

وبخلاف هذا نجد الغافلين والجاحدين أكثر الناس مخاوف، فهم يخافون كل شيء، وقد يدركون ما يخافون، وقد لا يدركون، كما عبر بعضهم عن نفسه بقوله عن مخاوفه التي لا تنتهي، والتي لا يعلم لها سببا:(إنني أعيش في خوف دائم، في رعب من الناس والأشياء، ورعب من نفسي، لا الثروة أعطتني الطمأنينة، ولا المركز الممتاز أعطانيها ولا الصحة، ولا الرجولة، ولا المرأة، ولا الحب، ولا السهرات الحمراء… ضقت بكل شيء، بعد أن جربت كل شيء)

فالمعرفة الصحيحة بالله والتي تتولد عنها جميع المعارف، وتصحح بها جميع الفهوم، وتنشق عنها جميع المشاعر هي التي تقي المؤمن من الخوف الذي يستعبد الناس.

وسنحاول هنا ـ باختصار ـ تبيان دور الإيمان في الوقاية من ثلاث مخاوف كبرى، هي في أصلها أم المخاوف ومنبعها:

الموت:

فالموت هو الشبح الأكبر الذي يملأ القلب بالمخاوف، فيتوزع منه الخوف لنفس الإنسان وسلوكه ومواقفه، شعر بذلك أو لم يشعر.

ولا يقي من أذى هذا الشبح، بل لا يقتله إلا الإيمان بالله المحيي المميت، وبحقائق الآخرة، التي تجعل الموت رحلة سعيدة ينتقل بها الإنسان إلى عوالم أكمل وأجمل.

أما العلم الأول، فيخلص الإنسان من عبودية المخاوف لكل القوى التي مثلها النمروذ عندما قال: { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة:258)، وحينها ينطق المؤمن بما نطق به سعيد بن جبير عندما هدده الحجاج بالقتل فقال له:(لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلها غيرك)

فقد كان سعيد يدرك أن ما يتشبث به الحجاج من قوة وهم عظيم سكن عقله، فالله تعالى هو مالك الآجال، لا الحجاج ولا أي طاغية غيره، قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (لأعراف:34)، وقال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس:49)، وقال تعالى: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل:61} (الأعراف: 34)

فلذلك لا يفر من الموت إلا واهم سيطر عليه الخوف، فمنعه من التفكير السليم، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8)، وقال تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } (النساء:78)، وقال تعالى: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم} (آل عمران:154)

أما العلم الثاني، فيلطف من العلم الأول، لأنه يحيل الموت بابا من أبواب السعادة، أو هو ـ بتعبير النورسي ـ بمثابة التقاعد الذي يناله الإنسان بعد أن تستنفذ جميع قواه العملية، يقول بديع الزمان: (إن الموت ليس عدماً، ولا اِعداماً، ولا فناءً، ولا لعبة العبث، ولا إنقراضاً بالذات من غير فاعل، بل هو: تسريح من العمل، من لدن فاعل حكيم، وهو استبدال مكان بمكان، وتبديل جسم بجسم، وانتهاءٌ من وظيفة، وانطلاق من سجن الجسم، وخلق منتظم جديد وِفقَ الحكمة الإلهية)([8])

أما ما بعد الموت، فهو المحل الذي يلقى المؤمن فيه كل ما هفت إليه نفسه في الدنيا وقصرت عنه يداه، فهو الباب الذي تنفتح من كوته الأماني، وتتحقق الرغبات، فهو قدوم على الله، ومن لا يحب القدوم على الله، وقد قيل لأعرابي اشتد مرضه: إنك ستموت، فقال: وإلى أين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: إلى الله، فقال: ويحكم، وكيف أخاف الذهاب إلى من لا أرى الخير إلا من عنده؟

ولهذا قال يحيى بن معاذ:(لا يكره لقاء الموت إلا مريب، فهو الذي يقرب الحبيب من الحبيب)

ولهذا أخبر الله تعالى أن الملائكة تبشر المؤمنين، وتنهاهم عن الاستسلام لشبح الخوف والحزن، وتذكرهم بالمصير الذي يقدمون عليه، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)

وانطلاقا من هذه المعارف الإيمانية صاح سحرة فرعون في وجهه بقوة الإيمان: { لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } (طـه:72)

وعلى خطاهم سار الصالحون متحدين كل المشانق التي نصبت لهم، وعاصفين بكل رياح الخوف التي أرادت أن تجتثهم، كعمير بن الحمام الأنصاري الذي سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غزوة بدر لأصحابه:(والذي نفسي بيده ما من رجل يقاتلهم اليوم -المشركين- فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة) فيقول عمير متعجبا:(بخ بخ)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(مم تبخبخ يا ابن الحمام؟ فقال:(أليس بيني وبين الجنة إلا أن أتقدم فأقاتل هؤلاء فأقتل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(بلى)، وكان في يد عمير تمرات يأكل منها فقال: أأعيش حتى أكل هذه التمرات؟ إنها لحياة طويلة! وألقى التمرات من يده وأقبل يقاتل ويقول([9]):

ركضاً إلى الله بغير زاد

  إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

   وكل زاد عرضة للنفاد

غير التقى والصبر والرشاد

ومثله أنس بن النضر الذي قاتل في أحد قتال من يطلب الموت، وعندما لقيه سعد بن معاذ قال له: يا سعد، الجنة ورب النضر: أجد ريحها من وراء أحد.

الرزق:

وهو الشبح الثاني من أشباح الخوف، وهو الذي يحول من يعبده أو يشرك بالله فيه إلى عبد لكل من يملك دينارا أو درهما، فلا يهنأ له عيش، ولا يستقر له سكن، بل يصير محلا لتنزلات الشياطين، يقول الغزالي:(وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفا من الفقر ويضحك عليه في احتماله التعب نقدا مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافه فقر فالذي فعل الفقر)([10])

أما المؤمن، فقد وقي من هذا الخوف، ووقي من نتائجه، لأنه يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فكل رزق هو رزقه، قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ } (يونس:59)، وقال تعالى: { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}، وقال تعالى: { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (الجاثـية:5)

بل إن الله تعالى يدعونا أن نأكل من المائدة التي ملأها من رزقه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)، وقال تعالى: { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة:88)

وهو يذم الذين خافوا على أن ينقص رزقهم، فقتلوا أولادهم حتى لا يأكلوا معهم، قال تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (الأنعام:140)، وقال تعالى: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم} (الأنعام:151)، وقال تعالى: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (الاسراء:31)

وهذا الأمن النفسي الذي يستشعره من علم أن الرزق بيد الله هو الذي يجعل يديه لا تمتدان بالرغبة إلا إلى الله، ولذلك لم تطمح عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أعطته قريش، بل قال:(يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمرحتى يظهره الله او أهلك فيه ما تركته)

وعلى هديه كان الصالحون أرفع الناس نفوسهم، وعندما قال هارون للفضيل بعد مواعظه الرقيقة:(عليك دين) قال:(نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي) قال:(إنما أعني دين العباد)، قال:(إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذريات:56 ـ 57)

تقلبات المقادير:

الشبح الثالث من أشباح الخوف، هو التقلبات التي تصيب الحياة، فتملؤها زهوا وسرورا، أو كدرا وأحزانا، وهي تقلبات ينسبها أكثر الناس للزمن كما ينسبون تقلبات الشتاء والصيف للشمس والأرض والكواكب، وكما ينسبون جميع الأشياء لأربابها الوهميين، الأسماء التي لا مسميات لها.

لكن المؤمن يرى في هذه التقلبات رسائل ربانية يتعرف من خلالها على ربه، فيجعل من الكون وما يجري فيه من أنواع التدابير محرابا من محاريب الخشوع لله.

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسب الدهر، وأخبر بأن الله هو الدهر، ونرى القرآن الكريم ينسب الأيام لله، قال تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الجاثـية:14)

بل أمر الله تعالى موسى u بأن يخبر قومه بتقلبات مقادير الله، قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (ابراهيم:5) فجميع التقلبات التي مرت ببني إسرائيل مما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (ابراهيم:6) تصريفات إلهية سخر لها من سخر.

ولهذه المعرفة قيمة كبيرة في التخفيف من وقع البلاء، فمن عرف أن البلايا من مولاه وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووالده، كيف يستثقل البلاء أم كيف يخافه، وقد قال ابن عطاء الله عن الفرق بين العارف المسغرق في حضرة سيده، وبين الغافل في النظر إلى تصاريف الأقدار فقال:(الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، والعاقل ينظر ماذا يفعل الله به)

وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول:(أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القدر)

2 ـ الرقابة الإيمانية

ويشير إليها من موعظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس قوله:(احفظ اللَّه تجده تجاهك)، فمن شعر بمواجهة الله له كيف يعصيه، ولهذا كان من وسائل تربية الصالحين تعميق معاني المراقبة لله وما يؤدي إليها من التعريف بالله.

والإيمان بذلك هو الحصن الوحيد الذي يقي من تحصن به من ذلك الوحش الكاسر الذي يختبئ في كيانه، والذي قد يبرز في أي لحظة إن لم يجد من وازعا من دين أو رادعا من خلق.

وقد تنبه الإنسان ـ باعتبار طبيعته المعقدة ـ إلى حاجته إلى هذه الحصون الأخلاقية التي تضبط سلوكه، فقال الفيلسوف البريطاني المعاصر برتراند رسل معبرا عن هذا الاكتشاف: (الإنسان أكثر تعقيداً في نزعاته ورغباته من أي حيوان آخر، وتنشأ الصعوبات التي يواجهها من هذا التعقيد، فهو ليس اجتماعياً تماماً مثل النمل والنحل، ولا هو انفرادي تماماً مثل الأسود والنمور، إنه حيوان شبه اجتماعي، وبعض نزعاته ورغباته اجتماعي، وبعضها انفرادي ويبدو الجانب الاجتماعي في طبيعته من أن الحبس الانفرادي يعتبر عقوبة بالغة الشدة، ويبدو الجانب الآخر في حبه للاستقلال بأموره الخاصة، وعدم استعداده للتحدث فيها إلى الغرباء. ولأننا لسنا اجتماعيين تماماً فنحن في حاجة إلى أخلاق، لتوحي لنا بالأهداف، وإلى قواعد أخلاقية لتفرض علينا قواعد التصرفات، والنحل -كما يبدو- ليس في حاجة إلى شيء من هذا، فهو يتصرف بما تمليه عليه مصلحة الجماعة)([11])

وقال جمال الدين الأفغاني مشيرا إلى قصور القانون عن توفير الحصانة الأخلاقية: (ليس بخاف أن قوة الحكومة إنما تأتي على كف العدوان الظاهر، ورفع الظلم البين، أما الاختلاس والزور المموه والباطل المزين والفساد الملون بصبغ من الصلاح، ونحو ذلك مما يرتكبه أرباب الشهوات، فمن أين للحكومة أن تستطيع دفعه؟ وأنى يكون لها الاطلاع على خفيات الحيل، وكامنات الدسائس ومطويات الخيانة ومستورات الغدر حتى تقوم بدفع ضرره؟ على أن الحاكم وأعوانه قد يكونون، بل كثيراً ما كانوا ويكونون ممن تملكهم الشهوات، فأي وازع يأخذ على أيدي أصحاب السلطة، ويمنعهم من مطاوعة شهواتهم المتسلطة على عقولهم؟ وأي غوث ينقذ ضعفاء الرعايا وذوي المسكنة منهم من شره أولئك المتسلطين وحرصهم؟)([12])

وقال الفيلسوف الألماني (فيختة):(الأخلاق من غير دين عبث)

ونحن لا ننكر هنا أثر القانون ولا دوره، ولا ندعو إلى رفع القوانين لعدم غناها، وإنما نقول بأن القوانين تحتاج إلى وازع ذاتي يدعو إلى تطبيقها، ولا يكون هذا الوازع في غير الإيمان، لأن الذي يطبق القانون تحت عصا الشرطي، سيخرقه إذا ما غاب الشرطي، يقول الدكتور محمد عبد الله دراز:(لا قيام للحياة في الجماعة إلا بالتعاون بين أعضائها، وهذا التعاون إنما يتم بقانون ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته. وهذا القانون لا غنى له عن سلطان نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس، ويمنع انتهاك حرماته. ونقرر أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين، أو تدانيها في كفالة احترام القانون وضمان تماسك المجتمع، واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.. والسر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الحيوانات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا في عنقه. ولا يجري في دمه ولا في عضلاته ولا في أعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني اسمه الفكرة والعقيدة، ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع، وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية بل يتأثران بها.. أجل إن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية. لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون.. ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضماناً للسلام والرخاء وعوضاً عن التربية والتهذيب الديني والخلقي، ذلك لأن العلم سلاح ذو حدين يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولابد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض لا إلى الشر والفساد ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان)([13])

وسنكتفي هنا لتقرير هذه الحقائق بذكر مثال درج المعاصرون على ذكره لأهميته وقيمته، وهو ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن انتشرت فيها عادة السكر وشرب الخمور انتشاراً أقنع الحكومة بضرر ذلك على الإنسان الأمريكي، فلجأت للقانون كرادع عن هذا السلوك.

وقصة ذلك من البداية أنه حوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي، وفي عام 1919أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر)، وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد).

وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية كافة وسائل الدولة وإمكاناتها الضخمة: فجند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب، وجند الطيران لمراقبة الجو، وشغلت أجهزة الحكومة واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام لمحاربة الخمر، وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.

ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم -في مدة أربعة عشر عاماً_ لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم في هذه المدة ثلاثمائة نفس، وسجن 532،335 نفس، وبلغت الغرامات ستة عشر مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا تمسكا بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة([14]).

وهكذا فشل القانون بكل ما وفر له من وسائل تنفيذ في حمياة الإنسان من مرض سلوكي واحد.

وفي مقابل ذلك، وفي مجتمع لم يكن يقل عن المجتمع الأمريكي حبا للخمر ولا غراما بها، استطاعت آية واحدة، أو أمر إلهي واحد أن يقضي على الخمر لا في مجتمع المدينة وحدها، بل في المجتمعات الإسلامية جميعا منذ أربعة عشر قرنا، وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90)

ويحكي الصحابة عن البداية، قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به) ـ وذلك قبل التحريم النهائي ـ قال أبو سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال:(إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية -يعني آية المائدة السابقة- وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع)، قال أبو سعيد: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها -أي صبوها وأسالوها([15]).

ولم يكن للشرطة ولا من يدعمهم حينها وجود، بل كان الإيمان وحده، عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت… فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها… فأهرقها([16]).

وعن أبي موسى قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة ـ أي حلالاً ـ إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90)، فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم… قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء… فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا… انتهينا ربنا)([17])

وقد ذكر القرآن الكريم تأثير الإيمان في الردع عن القتل في الوقت الذي لم يكن هناك شرطة ولا سجون ولا إعدام، فقال تعالى ذاكرا قصة ابني آدم بالحق: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة:27 ـ 28)

3 ـ القوة والإنتاج

وهي الركن الثالث من أركان الشخصية السوية، لأن الضعيف لا يستطيع أن يفعل لنفسه شيئا، فكيف يفعل لغيره.

ولهذا ذم الله تعالى المستضعفين الذين قعد بهم عجزهم وكسلهم عن الخروج عن ضعفهم، فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)، فسماهم تعالى ظالمين مع أنهم أقروا بأنهم كانوا مستضعفين.

ولم يستثن تعالى من هؤلاء إلا من عجز عجزا يقعده عن أي حيلة، قال تعالى: { إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء:99)

بل إن القرآن الكريم ينهى هؤلاء المستضعفين عن أن يقعد بهم ضعفهم الحسي عن الاستعداد والهم، ولهذا يثني على الصالحين المستضعفين بقوله تعالى: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)، ولهذا أثنى عليهم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:(إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال:(نعم حبسهم العذر)([18])

بل إن الله تعالى اشترط في هؤلاء المستضعفين النصح لله ورسوله في حال قعودهم وعجزهم، فقال تعالى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:91)

ولهذا، فإن دين الله تعالى لا يقوم به ولا يمثله إلا الأقوياء أصحاب الهمم العالية، أما الذين يتصورون الدين ضعفا وتماوتا وذلة، فهم لا يميتون شخصياتهم فقط، بل يميتون الدين أيضا.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو القدوة الأول للمؤمنين إذا مشى أسرع في مشيته، كأنما ينحدر من صبب، يقول أبو هريرة:(ما رأيت أحداً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأن الشمس تجرى في وجهه، ولا رأيت أحداً أسرع في مشيته منه، كأنما الأرض تطوى له، وإنما لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث)([19])

ويشير إلى هذا الركن من موعظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)

لأن أساس القوة هو شعور القوي بأن له من المدد ما يتغلب به على كل صعب، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي يبين مصادر قوة المؤمن:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فان لو تفتح عمل الشيطان)([20]) فجعل الاستعانة بالله منافية وصادة لأوهام العجز.

ولهذا قال تعالى يذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في الغار يتحدى المشركين: { إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)

فشعور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعية الله جعله يتحدى كل ما أعد المشركين من وسائل الرصد التي تريد أن تغتاله وتغتال دينه.

وبمثل هذا القول علم الله تعالى موسى u مصححا تصوره لفرعون وزبانيته: { كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (الشعراء:15)، وكأنه يقول له:(كلا يا موسى فلا يساوي فرعون شيئا ما دمت معك)

 ولهذا سار موسى u رابط الجأش، شجاعا، في عزة تقصر معها عزة كل ما أحيط بفرعون من هالة وزينة، فقد كان مع موسى u ربه تعالى، ولهذا أجاب بني إسرائيل بعد أن أدركهم فرعون وجنده بقوله الذي يستعيد فيه موسى u ماقيل له في ذلك اليوم: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء:62)

ولهذا الشعور تأثيره العظيم في بث العزيمة في نفس المؤمن، لأنه حينها لا ينظر إلى قوته المحدودة، وإنما ينظر إلى قوة الله التي تمده بالمدد كل حين، بل إنه ينفي قوته بجنب قوة الله، ولهذا قال تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160)، فاعتبر النصر من الله والخذلان من الله.

ولهذا تحدى الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أقوامهم، فلم يبهرهم ما أعد لهم من صنوف الفتن، قال تعالى ذاكرا قول هودا u لقومه بعد تكذيبهم له: { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود:54 ـ 56)

والقوة التي نريدها هنا ليست قوة اليد والسلاح فقط، وإنما قوة الشخصية التي تجعل صاحبها جبلا من جبال الصمود والهمة والعزيمة في جميع المجالات.

ولهذا فإن القوي لا يبهره السلطان ولا الخدم ولا الحشم، لأن شعوره بمعية الله يجعل كل شيء أمامه هباء أو كالهباء إذا تأملته لم تجده شيئا، وقد طلب الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك طاووس اليماني يوماً إلى مجلسه، فلما دخل عليه، لم يسلم عليه بامرة المؤمنين، ولكن قال:(السلام عليك يا هشام) وجلس بازائه، وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله، وقال له: يا طاووس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضباً وغيظاً، وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبِّل يدي، ولم تسلم على بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بازائي بغير إذني، وقلت كيف أنت يا هشام، قال: أما ما فعلت من وضع نعلي بحاشية بساطك فإني أضعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، وأما قولك لم تقبِّل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول:(لا يحل لرجل أن يقبِّل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده من رحمة) وأما قولك لم تسلم على بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب، وأما قولك جلست بازائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً يقول:(إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام)، فقال هشام: عظني … فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي أن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته – ثم قام.

والقوي لا تغريه الأموال مهما كانت، فلذلك لا يمد يده لغير ربه، ولا يبيع دينه بأي رشوة مهما عظمت، وقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة إلى خيبر، ليقوم بتقدير ثمر النخل فيها، إذ كان لهم نصفها، وللمسلمين نصفها، وقام عبد الله بالمهمة فقال: في هذه كذا، وفي هذه كذا، فجمع اليهود له حلياً من حلى نسائهم وقالوا له: هذا لك، وخفف عنا في القسمة وتجاوز فقال:(يا معشر اليهود.. والله والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي أن أحيف عليكم. أما الذي عرضتم له من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها) فلم يملك اليهود إلا أن قالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

والقوي هو الذي لا يمكله جيبه ولا أمواله، بل يملكها ليصرفها في مواضع الحق والخير، لأن من أخطر الضعف البخل، ولهذا جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين البخل والجبن، فقال:(اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر وفتنة الدجال)([21])

ثانيا ـ مصادر التربية الإيمانية وضوابط استثمارها

تتحدد آثار التربية الإيمانية انطلاقا من المصادر التي تستقى منها، فالمصدر هو الذي يحدد صحة العقيدة، كما أنه المحدد لتأثيرها في النفس.

ولهذا فإن أساس كل الانحرافات العقدية هو التحريفات التي لحقت بكتب الديانات المختلفة، بحيث أصبحت تحمل صورا مشوهة عن الله تعالى، لا تزيد المتعلقين بها إلا جهلا بالله.

وانطلاقا من القرآن الكريم، فإن للعقيدة مصدرين أساسيين كبيرين، بقدر الاستفادة منهما تترسخ العقيدة في النفس، وينفعل لها السلوك والوجدان.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذين المصدرين بمصطلح (الآيات)، وهو مصطلح قرآني يعني: العلامات الواضحات الباهرات.

وقد أشار القرآن الكريم إلى المصدر الأول بقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (البقرة:99)، وقال تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة:252)، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:58)، وقال تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران:113)

وأشار إلى المصدر الثاني بقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)، وقال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)

وسنحاول في هذا المبحث أن نتعرف على كيفية الاستفادة من هذين المصدرين في التربية الإيمانية، والضوابط التي تحمي هذا الاستثمار من أي انحراف.

1 ـ الوحي

ونريد به القرآن الكريم، وما يفسره ويبينه ويعمق معانيه من السنة الصحيحة، فالقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المعرف بالله، فلا يعرف الله إلا الله، والله هو المتكلم بالقرآن الكريم، فلذلك كان الله تعالى هو معرف نفسه بنفسه.

زيادة على ذلك، فإن في القرآن الكريم كل حقائق الوجود التي تعمق معاني الإيمان في نفس المؤمن، والتي ترفع عنه كل حيرة قد تلجئه إليها الفلسفات والترهات التي لا تعتمد على المصادر المعصومة، قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } (النحل:89)

ولهذا كان من أوصاف القرآن الكريم أنه {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }، وما في الصدور مصطلح قرآني يعني المعارف والوجدانات المختلفة التي تتحكم في حياة الإنسان، والصدور هي محل القلب، الذي هو محل التعقل، كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46)

وذلك لأن الانحرافات المختلفة التي تحملها العقائد الضالة هي عبارة عن أمراض خطيرة لا يكفي في علاجها المنطق البرهاني وحده الذي مارسه الفلاسفة والمتكلمون، ولا المنطق الوجداني الذي مارسه الصوفية والإشراقيون، لأن كل أولئك يتوجهون بخطابهم للطيفة من لطائف الإنسان لا يعدونها، بينما القرآن الكريم يخاطب اللطائف جميعا، وبالحقائق التي لا يزورها البرهان، ولا يضللها الوجدان.

وكمثال على ذلك يبين يسر أساليب القرآن الكريم وشمولها وجمالها وعمق معانيها قراءة واعية لسورة الطور، فهي وحدها كفيلة بتعميق معاني من الإيمان لا تستطيع مجلدات ضخمة من الجدل أن تغرس ما تغرسه، يقول سيد قطب معرفا بهذه السورة العظيمة: (هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري، ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان.. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام! وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة، والمعنى والمدلول، والصور والظلال، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام)([22])

والقرآن الكريم يقدم لهذه المطاردة لأفول الهواجس والشكوك بمشهدين يضعان الإنسان أمام الأمر الواقع، وكأنهما يقولان له:(إن النتيجة التي سوف ينتهي إليها موقفك هما هاتان النتيجتان لا غير)

وهاتان النتيجتان تخاطبان النفس والأهواء التي قد تتحكم في العقول، فتمنعها من التدبر السليم، والوعي الحقيقي لما تخاطب به، فتحاول أن تلوي الحقائق لتنسجم مع الأهواء، فلذلك تبدأ هذه السورة بخنق هذه الأهواء أولا لتتيح للعقل التدبر الواعي لما يخاطب به من أدلة عقلية.

أما المشهد الأول، فيخاطب ما في الإنسان من خوف على مصيره ومصير أحلامه، فينبهها بهذا التنبيه الشديد، قال تعالى: { فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (الطور:11 ـ 16)

أما المشهد الثاني، فيخاطب ما في الإنسان من حرص على اقتناص أكبر قدر من اللذات والشهوات مع البعد عن كل ما ينغصها من المنغصات، يقول تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ }(الطور:17 ـ 24)

وبعد هذا الوصف الجميل الذي تترنح النفس طربا وهي تتطلع إليه ينقل القرآن الكريم مشهدا لأولئك المتنعمين، وهم جالسون في رياض الجنة يتحدثون عن سر ذلك التنعم العظيم، قال تعالى: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }(الطور: 25 ـ 28)

وانطلاقا من هذا المشهد الذي تتمنى كل نفس أن تعيشه، وانطلاقا من سد كل الثغرات التي تحاول ظلمات الشياطين والنفس ملأها بأسراب الشبهات يأتي الخطاب القرآني للعقل البشري المتحرر من أسر الهوى ليرد كل الهواجس التي تمليها الشياطين:

ويبدأ القرآن الكريم خطابه بتصحيح الرسالة، فالرسالة هي الطريق المعرف بالله، ومن لم يصدق برسل الله لن يعرف الله، ولا مراد الله، قال تعالى: { فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } (الطور:29 ـ 34)

ثم يبين ضرورة وجود الله ووجود كمالات الله ليستقيم الكون على ما هو عليه، قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ }(الطور:35 ـ 44)

وكل لفظة من هذه الألفاظ ـ بما تزرعه في العقل من تصديق ـ عالم من عوالم الأدلة مصاغ بأحسن أسلوب وأرقه وأجمله.

ولو قارنا هذا الأسلوب القرآني الشامل في خطابه، والدقيق في توجيهه مع ما حاول به المتكلمون وغيرهم من استبدال أساليب القرآن الكريم بأساليب الفلاسفة لوجدنا الفرق شاسعا.

فأساليب الفلاسفة جافة لا تزيد القلب إلا شبهات، لأنها من حبك العقل، والعقل الذي أنشأ الدليل يمكن أن ينشئ ما ينقضه أو ما يوهم أنه ينقضه، فيتيه الإنسان في الدور، أو يموت على دين العجائز.

ومن مظاهر المنهج التربوي في القرآن الكريم تكريره للمعاني الإيمانية وتقريره لها بالأساليب المختلفة المنسجمة مع كل العقول، ففي كل سورة، بل في كل آية تعرض حقائق الإيمان لتحل كل الإشكالات، وتجيب على كل الشبهات.

ولهذا كان البناء القرآني متميزا، فالحقائق الإيمانية القرآنية موزعة في كل سورة، بل في كل آية، قال بديع الزمان:(واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سوره؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى u)([23])

وهذا التكرار، بحسب الحاجة للدواء، وهو كتكرار الدواء المادي الذي يصفه الأطباء، و(كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ (هو الله) للروح – كحاجة الجسم الى الهواء – والى قسم في كل ساعة كـ (بسم الله))

فبناء القرآن الكريم على هذا بناء علاجي يستدعي اللمسات المختلفة المتكررة (فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية)([24])

انطلاقا من هذا فإن القرآن الكريم ـ ومثله السنة الصحيحة ـ لا يؤتي ثماره التربوية إلا بشروط، منها:

الحضور الواعي:

فالله تعالى شرط لمن يريد جني ثمار القرآن الكريم ثلاثة شروط، فقال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (قّ:37)، فالله تعالى جعل كلامه ذكرى لا ينتفع بها إلا من جمع هذه الأمور الثلاثة:

1 ـ أن يكون له قلب حي واع، فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى.

2 ـ أن يصغي بسمعه فيميله كله نحو المخاطب، فإن لم يفعل لم ينتفع بكلامه.

3 ـ أن يحضر قلبه وذهنه عند المكلم له، وهو الشهيد أي الحاضر غيرالغائب، فإن غاب قلبه لم ينتفع بالخطاب.

وهذه الشروط التي نص عليها القرآن الكريم هي نفس الشروط التي يشترط تحققها في أي شيء نريد إدراكه والتعرف عليه، فـ (المبصر لا يدرك حقيقة المرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة، وحدق بها نحو المرئي، ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك، فإن فقد القوة المبصرة أو لم يحدق نحو المرئي أو حدق نحوه ولكن قلبه كله في موضع آخر لم يدركه، فكثيرا ما يمر بك إنسان أو غيره وقلبك مشغول بغيره فلا تشعر بمروره فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره وكمال الإصغاء)([25])

ولهذا جعل الغزالي من الفرق المغرورة فرقة (اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليل مرة، ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه إلى غير ذلك من مقاصد التلاوة، فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه)([26])

وقد ضرب مثلا لهذا بعبد كتب إليه مولاه ومالكه كتاباً وأشار عليه فيه بالأوامر والنواهي، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما أمره به مولاه، إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة، مهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور.

الحذر من التحريف:

فإن القرآن الكريم مع عمق معانيه وشمولها يسير واضح مفصل لا يحتاج إلى تلك المبالغات الكثيرة التي أرادت أن تفسره فزادته غموضا أو تحريفا، ولا يحتاج إلى ما أغرق المتكلمون فيه من الأدلة، فهو يحمل الحقائق ودلائلها، بيسر وجمال وضبط.

فمن حيث الأدلة، يحوي القرآن الكريم أصول الدلة وفروعها، بعبارات مؤثرة جميلة تحيط بجميع الإنسان، فلا يجد لنفسه معها إلا القبول والتصديق.

يقول ابن القيم:(ليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها، وإنما هى آراء وتقليد. وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها)([27])

وقد ذكرنا مثالا لذلك بمجرد قراءة واعية لسورة الطور، وهي مجرد مثال على أسلوب القرآن الكريم في الاستدلال.

أما من حيث مواضيع العقيدة، فإن القرآن الكريم يقررها كذلك منسجمة مع العقل والفطرة، فيصف الله تعالى بكل صفات الكمال، وينفي عنه كل ما لا يليق به، وما لا يليق بالألوهية مما حرفته الأديان والأهواء.

فهو أدق كتاب وأشمله في وصف الله تعالى وبيان عظمته والدعوة إلى محبته وعبادته، فلا يخرج قارئ القرآن الكريم من قراءته الواعية له إلا محبا لربه معظما له عارفا به عابدا له مستشعرا حضوره في كل حركة وسكنة.

يقول الغزالي عند ذكر ما يستحضره القارئ من معان أثناء قراءته:(أما صفات الله عز وجل؛ فكقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصيرُ} وكقوله تعالى: { المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العزيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ} فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين، وإليه أشار علي بقوله:(ما أسر إليَّ رسول الله شيئاً كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه فليكن حريصاً على طلب ذلك الفهم، وقال ابن مسعود:(من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن) وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أموراً لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها)([28])

ومثل الأوصاف المباشرة لله، التي امتلأ بها القرآن الكريم، والتي تدل عليها أسماء الله الحسنى معرفة الله من خلال ما ذكره من افعاله، يقول الغزالي:(وأما أفعاله تعالى؛ فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها، فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته. فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، فمن عرف الحق رآه في كل شيء إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله فهو الكل على التحقيق. ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه. ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل وأن كل شيء هالك إلا وجهه)([29])

ويبين منهج التدبر الصحيح المنتج لثمر الإيمان عند قراءة أمثال قوله قال تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (الواقعة:63)، وغيرها، فيقول:(فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني، بل يتأمل في المني وهو نطفة متشابهة الأجزاء ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والجهل والتكذيب والمجادلة كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (يّـس:77) فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب وهو الصفة التي منها صدرت هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع)([30])

هذا هو منهج التدبر الصحيح، وهو الذي يثمر المعرفة بالله، المعرفة التي تثمر التعظيم والمحبة، والتي تنتج من خلالها العبودية في أرق صورها.

أما ما يحاول البعض التركيز عليه في البحث عما في القرآن الكريم من إضافات لله، فيعتبرونها أصل العقيدة، ومنتهاها، فهو من تحريف القرآن الكريم بالهرب من الحقائق المقررة في النصوص إلى ما يكتنفها من التعبير.

فالله تعالى عندما يقول: { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:88) يدعو إلى إفراده بالعبودية، لأن كل من عداه هالك في الحال أو في المآل، لكن الانصراف عن مقصد النص ـ وهو نوع من التحريف ـ يجعل الآية وكأنها تقررا صفة ذاتية لله اسمها (الوجه) تجعل كل من لم يسلم بها مبتدعا منحرفا ضالا، ثم تأمر المؤمن بها أن يؤمن بحقيقتها وبوجودها من غير أن يعرف لها أي معنى أو أي دلالة.

ومثل ذلك قوله تعالى: { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طـه:39)، فالله تعالى يخبر موسى u بأنه قد صنع على عين الله أي أن الله رباه وحفظه وكفل له عناية خاصة.

ومثل ذلك قوله تعالى: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } (هود:37)، فالله تعالى يبشرهم بعنايته وحضوره من غير أن يقصد القرآن الكريم تقرير وصف خاص لله اسمه (العيون) لا يدرى معناه ولا يفقه تفسيره.

ومثل ذلك ما ورد في السنة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن شق آذان الأنعام محذرا إياه من غضب الله:(موسى الله أَحَدُّ من موساك، وساعد الله أشد من ساعدك)([31])، فراح هؤلاء يثبتون به صفة الساعد، لأن الساعد مضاف إلى الله.

يقول سيد قطب معلقا على أمثال هذه النصوص:(كل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها. ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بشكل، ولا تتحيز في حيز، ولا تتحدد بحدود)([32])

ولهذا ضحك صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه حَبْر من الأحبار، فقال:(يا محمد إنا نجد أن اللّه عزَّ وجلَّ يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)) ([33])

ولو أراد القرآن الكريم اعتبار تلك الإضافات أو المشاهد أوصافا لله لذكرها مفردا له مهتما بها داعيا للدعوة إليه وتعريف الله بها، كما قال تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر:49)، فلم يقل الله في آية من القرآن:(نبئ عبادي ان لي عينا أو يدا أو ساقا..)

ومثل ذلك قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:26)، فقد ذكر أوصافا وأفعالا لكل منها تأثيره العميق في المعرفة بالله.

ولهذا كان سيد آيات القرآن الكريم قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)، وكلها أوصاف لتنزيه الله وكماله، وليس فيها شيء مما يبالغ فيه هؤلاء، بل يعتبرونه أصل العقيدة الذي لا تكمل العقيدة إلا به.

وهذا التحريف يشبه إلى حد كبير ما وقع فيه اليهود عندما قال لهم موسى u ببساطة وتلقائية وهو يبلغهم عن أمر الله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67)، فتصوروا أنهم لن يعرفوا البقرة إلا بعد أن يعرفوا لونها وطولها وعرضها وعملها وكسلها.

قال تعالى مبينا هذه النزعة الجدلية التي لا تهتم بالحقيقة بقدر ما تهتم بتفاصيلها: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة:68 ـ 70) ([34])

بل هو يشبه ما وقع فيه بعض المفسرين الذي راحوا يبحثون في دجل أهل الكتاب وفي أحاديث القصاص عن تفاصيل أعرض القرآن الكريم عن ذكرها، وكأن المعاني القرآنية لا تفهم إلا بشرحها وتفصيلها مع أن القرآن الكريم نهى عن ترك الأصل والاعتبار والانشغال بالتفاصيل التي قد لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى وهو يقص قصة أهل الكهف: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف:22)

فنهى عن أمرين كلاهما مما انحرف به هؤلاء عن المعاني القرآنية:

الأول: هو المراء والجدل والغوص عن التفاصيل بمجرد التحليل العقلي الذي لا يملك أدوات التحليل، فيغوص في بحر الاحتمالات التي لا تزيد المرء إلا حيرة.

والثاني: هو البحث في تراث الأمم المحرف عما يزيد الحقائق القرآنية تفاصيل، وكأن القرآن الكريم ـ المهيمن على كل الكتب ـ مفتقر إلى غيره في تقرير حقائقه.

2 ـ عالم النفس والكون

وهو الميدان الثاني المعرف بالله، وبالحقائق الإيمانية، ولذلك تكثر الإشارات القرآنية لآيات الله في الآفاق والأنفس.

فأولو الألباب، وهم (العارفون) كما اصطلح عليهم المتأخرون يجعلون من آيات الله الكونية رسائل يتعرفون من خلالها على الله، قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)

بل إن الله قدم هذا النظر الواعي للكون من أولي الألباب على عباداتهم، وكأن عباداتهم أثر لهذا النظر الواعي، قال تعالى: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191)

ولذلك اعتبر تعالى ما في الكون من آيات مذكرات لأولي الألباب، فقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (الزمر:21)

ولهذا نجد القرآن الكريم ممتلئا بالآيات الكونية المعرفة بالله، والداعية إليه لتنزع النظرة الاعتيادية للكون، والتي تحيله شيئا بسيطا مألوفا لا قيمة له إلا القيمة التي يستسخر من أجلها.

فلهذا نجد الخلق قد يسبحون بحمد من اكتشف سرا حقيرا من أسرار هذا الكون، واستخدمه لمصلحة من المصالح، ثم لا يسبحون بحمد صاحب السر، بل صاحب الكون جميعا.

ولهذا نسب تعالى السفن إليه، فقال تعالى: { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} (الرحمن:24)، وقال في الآية الأخرى: { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} (الشورى:32)

ثم عقب مخاطبا الحائرين في سبب اعتبارها من آيات الله ونعمه مع أنها من صنع البشر، فقال: { إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (الشورى:33)

وفي مقابل ذلك لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة مقصد؛ قال تعالى عقب الآية السابقة: { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:34)

وهكذا يقال في جميع آيات الله التي يتصور البشر أنهم أصحابها، المالكون الله، ثم يعزلون الله عنها.

ولهذا يضرب القرآن الكريم الأمثال بالنحل والذباب والعنكبوت حتى صار ذلك موضع استهزاء من اليهود والمشركين، فرد عليهم تعالى بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (البقرة:26)

ثالثا ـ شروط المعارف الإيمانية

المعرفة المطلوبة في الإيمان بالله هي المعرفة اليقينية الجازمة الموافقة لما عرف الله به نفسه، وهي بذلك تتميز بخاصيتين اثنتين: اليقين والصدق.

1 ـ اليقين

والمراد به العلم الجازم بحقائق الإيمان، بحيث لا يتطرق إلى العارف أدنى شك في المعرف، بل تكون معرفته به أشد من معرفته بنفسه التي بين جنبيه.

وقد كان البحث في هذا الجانب هو ما دفع المتكلمين إلى البحث التفصيلي في الشبهات وأنواع الاعتراضات للرد عليها، ونصرة الحق، ولا ضرر فيها من هذا الجانب لمن احتاج إلى ذلك.

ولكن الضرر على من تصور أنه لا يعرف الله إلا بعد الخوض فيما خاض فيه المتكلمون من أدلة، لأنه سيتيه بالدليل عن المدلول، بل قد يلتزم بالدليل ما لا يصح التزامه، كما وقع في ذلك الكثير من متكلمي المسلمين.

والأخطر من ذلك كله أن يتحول الإيمان بالله جدلا لسانيا فارغا لا روحا يبعث الحياة في وجدان صاحبها وسلوكه.

ولهذا اشتد تحذير السلف من صناعة المتكلمين، واشتد فيه فقهاء الإسلام الكبار في النهي عنه لما رأوا من آثاره الاجتماعية:

فهذا الشافعي مع علمه الجليل، وعلمه بأحوال الفرق ومجادلاتها وشغبها اشتد نهيه عن صناعة المتكلمين لعقم سبلها مع العامة: قال ابن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يوم ناظر حفصاً الفرد ـ وكان من متكلمي المعتزلة ـ يقول:(لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام، ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه)، وقال:(قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام)

وحكى الكرابـيسي: أنّ الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال: سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه، أخزاهم الله، ولما مرض الشافعي دخل عليه حفص الفرد فقال له: من أنا؟ فقال: حفص الفرد، لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه. وقال:(لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد)، وقال:(إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى، فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له)، وقال:(حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام)([35])

أما أحمد بن حنبل، فقد اشتد نهيه عنه، بل تعرض بسببه لمحنته المعروفة، قال:(لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل)، وقد بالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبـي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة وقال له:(ويحك ألست تحكي بدعتهم أوّلاً ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث)

ومثل ذلك الإمام مالك، فقد نبه إلى خطره العظيم بقوله:(أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد؟)

بل إن المتكلمين أنفسهم نبهوا إلى خطورة هذا العلم على العامة، فألف الغزالي كتابه المعروف (إلجام العوام عن علم الكلام)

والسر في ذلك أن أكثره جدل لا يعمق في الإيمان في النفس، ولهذا قال الغزالي عن علم الكلام بعدما طلب البحث فيه عن الحقيقة:(فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي)([36])

فهو واف بمقصودهم من حيث حراسة الدين من الشبه، ولكنه غير واف بمقصود من طلب حقيقة الإيمان.

وهو لهذا التحديد الوظيفي لعلم الكلام يرى أن المرتبة الإيمانية للمتكلمين لا تختلف عن مراتب العوام، ولهذا ينصح المتكلم بقوله:(فليعلم المتكلم حده ممن الدين، وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج، فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إذا تجرد للمناظرة والمدافعة، ولم يسلك طريق الآخرة لم يكن من جملة علماء الدين أصلا)، ثم يعقب على ذلك بقوله:(وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام، وإنما يتميز عن العامي بسرعة المجادلة والحراسة)([37])

ولذلك ينتقد الغزالي الطريقة التعميمية في عرض مسائل العقيدة بالمناهج الكلامية لما تثيره من شبهات وتشكيكات، ويرى أن يقتصر في البلاد التي تقل فيها البدعة ولا تختلف فيها المذاهب على العقائد المعروفة دون التعرض للأدلة إلى أن تقع الشبهة، وحينذاك تذكر الأدلة بقدر الحاجة، فإن كانت البدعة شائعة، وخيف على العوام أن يخدعوا بها، فلا بأس من عرض الأدلة وتعميم العلم بها بحسب الحاجة إلى ذلك([38])، أما في غير تلك المواضع فإن الغزالي يرى حرمة خوض العوام في علم الكلام وإلجامهم عنه إلا لأحد شخصين:

1 ـ رجل وقعت له شبهة لا يمكن إزالتها عنه بكلام وعظي، وعلم أن القول الكلامي المرتب يرفع شبهته ويداويها.

2 ـ شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت الإيمان يريد تحصيله ليداوي به مريضا إذا وقعت له شبهة، أو يفحم به مبتدعا، أو يحرس معتقده إذا أراد المبتدع إغواءه([39]).

ولهذا، فإن البديل الذي يرسمه الغزالي للعامة وللنشء هو ما عبر عنه بقوله ـ بعد ذكره لعقيدة مختصرة ـ:(اعلم أنّ ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبـي في أوّل نشوه ليحفظه حفظاً ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً؛ فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به، وذلك مما يحصل في الصبـي بغير برهان)([40])

فالطريق ـ كما يرسمه الغزالي ـ هو التلقين، فالحفظ وحده كاف في تقرير كثير من الأمور من غير حاجة إلى تفاصيل الأدلة العقلية، والتي قد لا تزيد المتعلق بها غير المزيد من الشبهات.

وقد علل الغزالي هذا، فقال:(فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن شرحه في أوّل نشوه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان)

ثم بين البرهان الواقعي لذلك بقوله ـ وهو ينتقد المغالين من المتكلمين الذين تصوروا أن الإيمان لا يتحقق إلا عبر صناعتهم ـ:(وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام مبادئها التلقين المجرّد والتقليد المحض؟)

وبعد التلقين ـ والذي هو بمثابة البذر ـ ينصح الغزالي بتعهده بالسقي والتقوية، قال:(نعم يكون الاعتقاد الحاصل بمجرّد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقي إليه فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبـي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل)([41])

والطريق إلى ذلك ليس بالجدل، قال:(وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام)

وإنما بأنوار العبادة، قال:(بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه. ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعهم وهيئاتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له فيكون أوّل التلقين كإلقاء بذر في الصدر، وتكون هذه الأسباب كالسقي والتربـية له حتى ينمو ذلك البذر ويقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء)

وكما أن النبتة تحرس من كل ما قد يؤذيها، ويمنع نموها، فكذلك يحرس يقين الصبي والعامي من كل ما قد يتسرب إليه مما يدخل الشبهات والشكوك إلى نفسه، والطريق إلى ذلك هو تحصينه من الجدل، قال الغزالي:(وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة، فإنّ ما يشوّشه الجدل أكثر مما يمهده وما يفسره أكثر مما يصلحه، بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو الأغلب)

ويضرب الأمثلة على ذلك بالواقع، واقع المؤمنين الطيبين الذي تلقوا الإيمان تلقينا، ثم قووه بأنوار الطاعة، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وبين المتكلمين الذي تصوروا أنهم بإقناع العقل، أو بسلاحه يصلون إلى الحقائق، فقال:(والمشاهدة تكفيك في هذا بـياناً فناهيك بالعيان برهاناً. فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحرّكه الدواهي والصواعق وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليداً كما تلقف نفس الاعتقاد تقليداً؛ إذ لا فرق في التقليد بـين تعلُّم الدليل أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه)([42])

ولهذا نشأ ما يسمى بـ (المعرفة)، وهي مصطلح يعني العلم بالله لا عن طريق الاستدلال العقلي، وإنما عن طريق اليقين الإيماني، الذي يستشهد بالله على الله، ويبرهن بالله على الله، وهنا يتجلى الفرق العظيم بين إيمان من عاش يبحث عن البراهين على الله، وبين الذين بدأ حياته مع الله.

ولهذا (أجمع العارفون على أن الدليل على الله هو الله وحده، وسبيل العقل عندهم سليل العاقل في حاجته إلى الدليل لأنه محدث والمحدث لايدل إلا على مثله)

وقد سئل النوري:(ما الدليل على الله؟ قال:(الله)، قال فما العقل قال:(العقل عاجز والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله)

وقد وضع ابن عطاء العقل الذي يعتمد عليه العالم في محله عندما قال:(العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية)

وعبر آخر عن ذلك بقوله:(العقل يجول حول الكون فإذا نظر إلى المكون ذاب)

وعبر أبو بكر القحطبي على استحالة التعرف على الله بالعقل بقوله:(من لحقته العقول فهو مقهور إلا من جهة الإثبات، ولولا أنه تعرف إليها الألطاف لما أدركته من جهه الإثبات)

وقد قال بعض الصالحين معبرا عن عجز العقل:

من رامه بالعقل مسترشدا

  سرحه في حيرة يلهو

شاب بالتلبيس أسراره

  يقول من حيرته هل هو

ولكن هذه المعرفة التي تغني عن كثرة الحجج البرهانية، ولا تراود صاحبها الشبهات والشكوك تحتاج إلى مرآة صافية لا تشوه الحقائق، فعلى قدر جلاء المرآة تتجلى أنوار الحق، كما قيل:

إذا سكن الغدير على صفاء

   وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء

   كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي

  يرى في صفوها الله العظيم

وهذا هو الفرق الأساسي بين علم الكلام والمعرفة أو علم الإيمان، فالعلم بحث واستدلال، والمعرفة شهود وعيان، والعلم مكابدة وشك، والمعرفة راحة ويقين.

العارف يرى ما يؤمن به ويعيشه، أما العالم أو طالب العلم فيكتفي بأن يبحث عن أدلة ما يسمع عنه، وقد يحجب بالأدلة عن المدلول، وبالطريق عن الغاية.

وفي الوقت الذي يقلب فيه العالم صفحات الكون ليستدل به عن ربه، ينطلق العارف من ربه ليستدل به على الكون، قال ابن عطاء الله:(الكونُ كلُّه ظُلْمةٌ، وإنَّما أنارَهُ ظهورُ الحقِّ فيه، فمن رأى الكونَ ولم يشهدُهُ فيه أو عنده أو قَبْلَه أو بَعْدَه فقد أَعْوَزَهُ وجودُ الأنوارِ، وحُجبَتْ عنه شموسُ المعارفِ بسُحُبِ الآثار)

2 ـ الصدق

ونريد به مطابقة العقيدة لما جاءت به النصوص، لأن مصدر العقيدة الأول ـ كما ذكرنا سابقا ـ هو الوحي، أما العقل فهو مدعم للوحي وأداة من أدواته.

ولهذا، فإن كل من يحاول أن ينافس الوحي في تقرير العقائد يرد قوله، فالغيب لا يعمله إلا من كشف الله له حجبه، وليس ذلك لغير المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم.

ولهذا، فإن الكثير من العقائد ـ وفي الأبواب المختلفة منها ـ تحتاج إلى زيادة تمحيص لتحقيق الحق منها وتمييزه عن الباطل.

وهذا يستدعي زيادة على ما ذكرنا من حفظ النصوص من التحريف الذي يخرجها عما سيقت له إلى التثبت في النقول المختلفة سواء ما ورد منها منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ما ورد منسوبا للصحابة أو التابعين ومن بعدهم.

لأن التساهل في النقول هو الذي أدى إلى إلزام الناس بعقائد لا دليل يؤيدها، بل إنها في أحسن أحوالها أسطورة من الأساطير أو خرافة من الخرافات يزداد معتقدها باعتقادها جهلا لا علما.

وقد طال التلفيق النصوص الظنية، فوضعت الأحاديث لتساهم في تأكيد ما قرره العقل أو الذوق من تحريف لمعاني العقيدة في الله وفي عوالم الله.

ففي كتاب [إبطال التأويلات]، والذي يعتبر نموذجا لتحريف حقيقة (الله) وحقيقة (الإيمان بالله) نجد الروايات الكثيرة الباطلة التي تؤيد ما اختاره صاحبه من التشبيه المتستر بالتنزيه.

فهو ينقل مثلا ـ ليقرر إثبات الصورة لله ـ هذه الرواية الباطلة:(غضب موسى على قومه في بعض ما كانوا يسألونه، فلما نزل الحَجَر قال: اشربوا يا حمير، فأوحى الله إليه: تعمد إلى عبيد من عبيدي خلقتهم على مثل صورتي فتقول اشربوا يا حمير، قال: فما برح حتى أصابته عقوبة)([43])

وهو ينقل ـ لإثبات صفة للذات اسمها (الذراع) ـ روايات لا تثبت، وليست صريحة فيما أراده([44])، منها هذا الأثر:(خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر)

ويعلق عل هذا بقوله:(الكلام في هذا الخبر في فصلين: أحدهما في إثبات الذراعين والصدر، والثاني في خلق الملائكة من نوره) فجعل الذراعين والصدر والنور صفات.

وهو ينقل ـ لإثبات صفة للذات اسمها (الفخذ والأمام والخلف) ـ بالرواية الباطلة التالية:(إذا كان يوم القيامة يذكر داود ذنبه فيقول الله عز وجل له: كن أمامي، فيقول: رب ذنبي، فيقول الله: كن خلفي فيقول: رب ذنبي ذنبي، فيقول الله له خذ بقدمي)([45])، ثم يذكر الرواية الباطلة التالية:(إن الله عز وجل ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه يقول: ادن منا أزلفت لدينا)

ثم يعلق على هذا الهراء بقوله:(اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدما وفخذا جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدين … ولا نثبت أيضا أماما وخلفا على وجه الحد والجهة، بل نثبت ذلك صفة غير محدودة)

وهو ينقل عن مقاتل بن سليمان ـ المعروف بقوله بالتجسيم ـ فينقل عن طريقه عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)قوله:(يعني ساقه اليمين، فيضيء من نور ساقه الأرض، فذلك قوله تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } (الزمر:69) يعني نور ساقه اليمين)

لكن المؤلف لا يبالي بهذا كله، فحسبه أن يحمل الحديث أي إشارة للتجسيم، فيصح الضعيف، ويقوم الموضوع.

ولم يتورع مؤلف الكتاب أن يورد هذه الرواية في كتاب يعرف بالله: عن عبدالله بن الحسين المِصِّيصي قال: دخلت طَرَسُوسَ، فقيل لي ههنا امرأة قد رأت الجن الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيتها، فإذا هي امرأة مستلقية على قفاها فقلت: رأيت أحدا من الجن الذين وفدوا إلى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: نعم، حدثني عبدالله سمحج قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال:(على حوت من نور يتلجلج في النور)

بل ينقل من الأباطيل ما يدلل به على قعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العرش مع الله([46])، ويفسر به المقام المحمود الذي وعده به ربه، ثم يقول معتمدا على الروايات الموضوعة:(فلزمنا الإنكار على من رد هذه الفضيلة التي قالتها العلماء وتلقوها بالقبول، فمن ردها فهو من الفرق الهالكة)، بل وينقل عن بعضهم تكفير منكر ذلك.

ومن الجانب الآخر ـ جانب الانحراف الوجداني ـ نجد الأحاديث المدعمة للشرك بكل صوره، ومن ذلك هذا الحديث الباطل:(لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه)([47])

فهذا الهراء الباطل ـ المشتهر ببين العامة ـ يفتح باب الشرك على مصراعيه فيجعل ميزان الاعتقاد هو النفع، فكل من أعتقد في شيء وظنه نافعا حتى لو كان حجرا جعله الله كذلك، وكل من أتاه نفع من عقيدة ما كان هذا اعتقادا صحيحا.

وهذا ما انحرف بكثير من الطيبين البسطاء عن المعارف القرآنية الممتلئة بالعلمية والعقلانية إلى ما يسمونه دين العجائز، وينسبون في ذلك حديثا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(عليكم بدين العجائز)([48])

ويأتي أصحاب الكشف الذين أرادوا رسم صورة معينة للكون تتناسب مع مشاهداتهم، فيضعون هذا الحديث الباطل المنسوب إلى جابر بن عبد الله الأنصاري (قال قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأنبياء، قال: يا جابر أن الله تعالى خلق قبل الأنبياء نور نبيك من نوره، فجعل هذا النور يدور بالقدرة حيث يشاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر، فخلق من الجزء الأول القلم ومن الجزء الثاني اللوح ومن الثالث العرش ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الجزء الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول السموات ومن الجزء الثاني الأراضين، ومن الجزء الثالث الجنة والنار، وقسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم نظر إليه فترشح النور عرقا فتقطرت منه مائتا ألف قطرة وعشرين ألفا وأربعة الآلف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست روح أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم أرواح الأولياء والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش من نوري والعقل والعلم والتوفيق من نوري، والكروبيون من نوري والعقل والعلم والتوفيق من نوري، وأرواح الأنبياء والرسل من نوري، والسعداء والصالحون من نائح نوري ثم خلق الله آدم من الأرض وركب فيه النور وهو الجزء الرابع ثم أنتقل منه شيث وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل إلى صلب عبد الله بن عبد المطلب ومنه إلى وجه أمي آمنة ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين، وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين)

وهذا الحديث ـ للأسف ـ يردد في بعض المجامع، وكأنه حقيقة الحقائق، وهو عمدة من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو قبة الكون، وأول الوجود، وأنه جزء من نور الله ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ، وأن كل المخلوقات خلقت بأجزاء منه.

وفي مقابل هؤلاء: الوضاعون الذين أرادوا شْين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعوا الأحاديث التي تحيله صلى الله عليه وآله وسلم طباخا أو طبيب أعشاب يصف من الدواء ما يصح وما لا يصح، ومن ذلك:(ربيع أمتي العنب والبطيخ)، ومنه (ومن أكل فوله بقشرها أخرج الله منه من الداء مثلها)، و(الباذنجان شفاء من كل داء)، و(الباذنجان لما أكل له)، و(أكل السمك يذهب الجسد)([49])

وهذه الأحاديث هي التي يستغلها الطاعنون في رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكتب التبشيرية مملوءة بمثل هذه السخافات.

أما عوالم الغيب، العوالم التي يصورها القرآن الكريم، وتصورها السنة الصحيحة تصويرا جميلا يجعل القلب يهفوا متطلعا إليها، فتنحرف بها هذه النصوص الباطلة انحرافا عظيما، ففي بعضها مثلا (أن الله خلق ملائكة السماء الأولى على صورة بقرة، الثانية على صورة العقبان، والثالثة على صورة الناس والرابعة على صورة الحور العين، والخامسة على صورة الطيور، والسادسة على صورة الخيل المسومة، والسابعة حملة العرش الكروبيون)([50])

وزعموا أن هاروت وماروت كانا ملكين ألقى الله عليهما الشبق، وأن امرأة من أهل الأرض فتنتهم فوقعوا بها فمسخ الله كوكبا في السماء فهي الزهرة المعروفة وأن هذين الملكين اختارا عذاب الدنيا)([51])

أما الحقائق الفلكية والجغرافية التي لا يختلف تصوير النصوص المقدسة لها مع أحدث الحقائق العلمية، فتنص هذه النقول على خرافات عجيبة:

فتجعل المجرة لعاب حية تحت العرش، وتروي في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(يا معاذ أني مرسلك إلى قوم أهل كتاب فإذا سئلت عن المجرة التي في السماء فقل لهم هي لعاب حية تحت العرش)

وأن الشمس ترمى بالثلج حتى لا تحرق الخلائق، فنسبوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم:(وكل بالشمس تسعة ملائكة يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك ما أتت على شيء إلا أحرقته)

وأن الأرض على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على ظهر حوت يلتقي طرفاه بالعرش، والحوت على كاهل ملك قدماه في الهواء.

وأن العنكبوت مسخ، وأن سهيل ـ النجم المعروف ـ كان عشارا يسمو الناس في الأرض بالظلم فمسخه الله.

 وأن النخلة من فضل طينة آدم، وأن الله خلق جبلا يقال له (قاف) محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي القرية فيزلزلها ويحركها ثم تتحرك القرية دون القرية وأن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور فإذا حرك الثور رأسه تحركت الأرض.

ونحن لم نذكر هذه الأمثلة إلا لانتشارها وانتشار أمثالها في أوساط العامة، وكأنها حقائق لا يقل وجوب التسليم بها عن التسليم بحقائق القرآن الكريم، بل إن حقائق القرآن الكريم في تصورهم أقل قداسة لأنها مما يحتمل التأويل، أما هذه فلا تأويل فيها.

رابعا ـ أركان التربية الإيمانية

بعد معرفة المصادر الأساسية التي يتلقى منها المربي المادة التي يريد أن يثبتها في نفس من يربيه، ومعرفة الشروط التي ينبغي تحصيلها لمن يريد التحقق بحقيقة التربية الإيمانية، نتساءل الآن عن موضوع التربية الإيمانية أو المسائل التي ينبغي للمربي أن يهتم بها، أو الأركان التي تعتمد عليها التربية الإيمانية.

ونقول ـ مسبقا ـ إن كل ما ورد في النصوص من أركان الإيمان ومواضيعه هو ما ينبغي للمربي أن يعلمه ويربي النشء عليه.

وهو ما وردت الدلالة عليه في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة:177)، وقوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (النساء:136)

أو بتخصيص بعض الأركان كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (التوبة:18)، وقال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:98)

وذكر صلى الله عليه وآله وسلم الأركان الأساسية للإيمان، فقال:(الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)([52])

 وانطلاقا من هذا، قسم علماء التوحيد قضايا الإيمان إلى ثلاثة أركان: هي الألوهيات، والنبوات، والسمعيات، أو هي الإيمان بالله، وبالرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وبعالم الغيب.

ولهذا التقسيم أهمية كبرى بسبب اختلاف مناهج التعامل مع كل ركن من هذه الأركان.

وسنحاول في هذا المبحث تبيان أهم ما ينبغي تعليمه للنشء من هذه الأركان.

1 ـ الإيمان بالله

أول عنصر من العناصر التي تتشكل منها الشخصية السوية للطفل هو إيمانه بالله تعالى إيمانا حقيقيا يقينيا مؤثرا فاعلا، لأن هذا الإيمان هو الذي يوجه سلوكه، ويحصن اعتقاداته، ويضبط نوازع نفسه.

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلماً لابن عباس، وقد كان حينها لا يزال طفلا صغيرا:(يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)

والقرآن الكريم نص على رعاية هذا الجانب في تربية الطفل، فقال تعالى حاكيا عن التربية النموذجية للقمان u: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

والإيمان بالله هو أصل العقائد وأساسها وغايتها، فالمعرفة بالله هي التي تحدد درجات الإيمان، وبقدر تحقق العبد بها يكون قربه من الله أو بعده عنه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)([53])

والمعرفة بالله هي التي تحدد من جهة أخرى جميع سلوكيات الإنسان خيرا أو شرا، فالسلوك ثمرة المعرفة.

والتربية الإيمانية في هذا الجانب تركز على أمرين أساسيين كلاهما مما وردت النصوص بالتركيز عليه، باعتبارهما أساس العقائد، هما:

التوحيد:

وهو أهم ما يهتم المربي بترسيخه في نفس المتربي من قضايا الإيمان، لأن أساس كل العقائد هو التوحيد، كما أن منبع كل الانحرافات هو الشرك.

ولهذا كانت الدعوة للتوحيد ـ بمعناه العميق الشامل ـ هي أساس دعوة الرسل ـ عليهم السلام ـ كما قال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45)، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)

وقد ذكر الله تعالى عن كل من الرسل ـ عليهم السلام ـ أنهم افتتحوا دعوتهم بتوحيد الله، قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف:59)، وقال تعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (لأعراف:65)، وقال تعالى: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف:73)، وقال تعالى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف:85)

ولهذا كان التوحيد هو أول ما يُدخل به إلى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)([54])

ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التأذين في أذن المولود، ليكون أول ما يسمعه توحيد الله تعالى.

وقد كانت أم سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي على ابني فتقول: إني لا أفسده([55]).

ولهذا ـ كذلك ـ ورد الشرع بحماية الطفل من كل ما قد يزرع الشرك في قلبه، ولأجل هذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تعليق التمائم تعويداً للصغير الاعتماد على الله وحده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من علق تميمة، فلا أتم الله له)([56])

وعلى المربي أن يرسخ معنى التوحيد العميق الشامل لا التوحيد الذي يصوره البعض، فيقصرونه على مظاهر معينة يحرفون بها معناه.

فالتوحيد في حقيقته يعني (تفرده تعالى بالخلق والإيجاد، وتفرده بالتقدير والتدبير، وتفرده بالتشريع والتكليف، وتفرده بالجزاء والثواب والعقاب)

وينبغي على المربي أن يبين أهمية هذا التفرد وتأثيره في هذا البناء المبدع للكون، كما أخبر تعالى عن النتيجة التي يؤول إليها الكون لو ترك التصرف فيه لآلهة متعددة، فقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الانبياء:22)

فلذلك كان من رحمة الله أن جعل كل شي له، ولم يجعل شيئا من أمر الخلق لغيره، ولهذا أخبر تعالى أنه لو جعلت خزائن الرحمة بيد الخلق لأمسكوا خشية الإنفاق، قال تعالى: { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} (الاسراء:100)

وبمثل ذلك أخبر تعالى عن إمساكه لتماسك السموات والأرض وانتظامهما، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)، ولو ترك الأمر لغيره لما أطاق ذلك.

وينطلق المربي من هذ التوحيد ليربطه بمقامات الإيمان جميعا كالتوكل والشكر والرجاء والخوف وغيرها، فهي كلها من مقتضيات التوحيد.

وينطلق من هذا ليربطه بتأثير هذا التوحيد في حياته جميعا، بأن لا يرى حاكما ولا مشرعا لسلوكه وتصرفاته، بل ومواجيده وأفكاره إلا الله.

يقول سيد قطب ـ وهو يبين مقتضيات التوحيد ـ:(كما أن المسلم يعتقد أن لا إله إلا الله، وأن لا معبود إلا الله، وأن لا خالق إلا الله، وأن لا رازق إلا الله، وأن لا نافع أو ضار إلا الله، وأن لا متصرف في شأنه –وفي شأن الكون كله- إلا الله… فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله وحده بالطلب والرجاء، ويتوجه لله وحده بالخشية والتقوى ‏، كذلك يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله، وأن لا منظم لحياة البشر وعلاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الإنسان من جنسه إلا الله ‏.‏‏.‏ فيتلقى من الله وحده التوجيه والتشريع، ومنهج الحياة، ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات، وميزان القيم والاعتبارات ‏.‏‏.‏ سواء‏.‏‏.‏)([57])

وأول مصدر يعمق هذه المعاني التوحيدية في النفس هو القرآن الكريم، فبالقراءة الواعية له نجده يربط بين مقتضيات التوحيد جميعا، فلا يقصر تأثير التوحيد على بعضها، فيظل العبد موحدا لله في جانب مشركا به في جانب آخر.

وقد نقل سيد قطب بعض النماذج عن ربط القرآن الكريم بين عقيدة التوحيد وبين مقتضياتها في الحياة جميعا، ومن الأمثلة التي ذكرها ما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى: { وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }‏(‏البقرة‏:‏ 163‏)‏، فقد بدأ تعالى بتقرير وحدانية الله تعالى، وهي القضية التي تأتي الآيات التالية لتبين حقيقتها ومقتضياتها.

وأول مقتضيات هذه الوحدانية: وحدانية التدبير الإلهي للكون، وهو ما ورد في قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}‏ (‏البقرة‏:‏ 164)‏

ومن مقتضيات هذه المعرفة التي تجعل الله هو المتصرف الوحيد في الكون هو وحدانية التوجه إلى الله، وأول ذلك إفراد القلب لله بالمحبة والولاء، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }‏(‏البقرة‏:‏ 165-167‏)‏

ومن مقتضيات هذا التوجه الإيماني القلبي لله إسلام الجوارح والحياة جميعا لله، فالله هو المشرع للحياة لا العقول ولا الأهواء ولا المجتمعات، ولا الشعوب، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }‏(‏البقرة‏:‏ 168-173‏)‏

وهكذا تجمع هذه الآيات الكريمة في سياق واحد بين مقتضيات التوحيد جميعا، مرتبة بعضها على بعض، لأن كل واحد منها أثر من آثار ما قبله.

أسماء الله الحسنى:

وهي المعرفة الثانية بعد التوحيد، وإن كان التوحيد في حقيته جزء منها، ولكنه لأهميته، ولما تعرض له من تحريف أفرد بتلك الأهمية الخاصة.

وأسماء الله تعالى هي المعارف التي أذن الله تعالى فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، وهي لذلك من الأهمية بحيث لا يمكن مقارنتها بأي معرفة من المعارف الأخرى، لأن كل ما في الكون أثر من آثار أسماء الله.

وهي لذلك أبواب علاقتنا بالله، لأن لكل اسم من أسماء الله دلالته الخاصة التي تتطلب عبوديتها الخاصة.

ولهذا علمنا تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، مستشفعين بها إليه، ومتوسطين بها لديه، كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف:180)

وذلك لأن الدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله وصفاته العليا هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، وقد أشار ابن عقيل إلى سر الصلة بين الدعاء وأسماء الله الحسنى، فقال:(قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى، الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى، الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى، الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى، الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى، السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى)

وهكذا لو ذهبنا نعد مع ابن عقيل لوجدنا أن أسماء الله تعالى تقتضي رفع أيدينا إليه بالسؤال، بل إفراده في هذا الرفع.

ولهذا نرى امتزاج أدعيته صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الله، وهي كثيرة تغني شهرتها عن التمثيل لها.

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد دعا الله باسمه العظيم)([58])

وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم من أصابه هم أو حزن أن يقول:(اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي)([59])، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال:(فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا)

وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عائشة أن تقول إذا وافقت ليلة القدر:(قولى: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى)([60])

ولهذه الأسماء ـ زيادة على ذلك ـ تأثيرها التربوي العظيم، لأنها الأساس الذي تنبني عليه جميع مقامات الإيمان.

وقد اتفق على هذا كل العلماء والربانيين، يقول العز بن عبد السلام:(فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)([61])

ويقول مفصلا أسباب ذلك:(ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر)

ويبين ابن القيم تأثير أسماء الله الحسنى في كل عبادة من العبادات الظاهرة والباطنة، بل يجعل كل العبادات أثر من آثار المعرفة بأسماء الله الحسنى، فيقول:(لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح)([62])

ثم يذكر الأمثلة الموضحة لذلك، فيقول:(فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوزام التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء… وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة، هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات)

ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى في الوقاية من الأمراض القلبية، كالحسد، والكبر، اللذين هما منبع كل أمراض القلوب، فيقول:(لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لم يتكبر ولم يحسد أحداً عى ما آتاه الله ؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله ؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)([63])

ويبين أثر التبعد بأسماء الله تعالى وصفاته في الوقوف الصلب أما المحن والبلايا، فيقول:(من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيما يحب)([64])، ويقول:(فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} (الاسراء:5)

وقد اهتم الغزالي في كتابه الجليل (المقصد الأسنى) بالبعد التربوي لأسماء الله الحسنى، فكان يذكر عند نهاية شرح كل اسم حظ العبد السلوكي منه، فهو يعتبر ولكل صفة من صفات الله تعالى أو اسم من أسمائه أثره الخاص به، والذي لا يمكن للإنسان الحصول عليه إذا لم يستولي على قلبه معنى ذلك الاسم او تلك الصفة، وهو معنى الإحصاء الذي ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة)([65])

وليس الإحصاء أن يسمع لفظها أو يفهم في اللغة تفسيرها، أو يعتقد وجودها، فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة السمع، وأما فهم وضعها اللغوي فلا يستدعي إلا المعرفة بالعربية، وأما اعتقاد ثبوت معناها لله تعالى فلا يستدعي إلا فهم معاني هذه الألفاظ والتصديق بها، بل إن الإحصاء ـ كما يشرحه الغزالي ـ هو أن ينال المؤمن ثلاثة حظوظ من معاني أسماء الله الحسنى:

1 ـ معرفة معاني تلك الأسماء معرفة كشفية شهودية، ولفظا (المكاشفة والمشاهدة) اللذان يكثر الغزالي من استعمالهما في كتبه لا يريد بهما الرؤية البصرية والحسية، وإنما هما استعارة لغلبة اليقين على البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الحسي([66]).

2 ـ استعظام ما ينكشف له من صفات الجلال على وجه يشوقه إلى الاتصاف بما يمكن من تلك الصفات، ليؤهله ذلك إلى التقرب من الله تعالى، فالمعرفة ـ كما يرى الغزالي ـ بذر الشوق([67]).

3 ـ السعي إلى اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها، والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصر العبد (ربانيا) متحققا بالقرب من ربه تعالى.

والغزالي يجعل الحظ الأكبر في الوصول إلى هذه الدرجة هو تعظيم أسماء الله، فبقدر التعظيم يكون الشوق، وبقدر الشوق يكون السلوك، يقول:(ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الكمال والجلال وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة)

 ويرجع سبب خلو القلب عن الشوق الدافع للعمل إلى سببين:

1 ـ ضعف المعرفة واليقين بكون الوصف المعلوم من أوصاف الجلال والكمال.

2 ـ امتلاء القلب بشوق آخر مستغرقا به.

ويشبه ذلك بالتلميذ، فإنه إذا شاهد كمال أستاذه في العلم انبعث شوقه إلى التشبه والاقتداء به إلا إذا كان مملوءا بالجوع مثلا، فإن استغراق باطنه بشوق القوت ربما يمنع انبعاث شوق العلم.

 ويخلص الغزالي من هذا إلى وجوب تجرد الناظر في أسماء الله إلى الله حتى ينال حظه منها، قال:(ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات الله تعالى خاليا بقلبه عن إرادة ما سوى الله عز وجل، فإن المعرفة بذر الشوق)

2 ـ الإيمان بالنبوات

وهو العنصر الثاني من الأركان الأساسية للإيمان، ولذلك امتلأت آيات القرآن الكريم بالثناء عليهم وذكر قصصهم وأحوالهم لتملأ القلوب محبة لهم وإجلالا، وتشحن الطاقات قدوة وسلوكا، فيعيش المؤمن في صحبة النماذج الطاهرة الرفيعة، فيترفع من خلالها إلى الآفاق العليا من الكمال الإنساني.

وخير مصدر ـ بل يكاد يكون المصدر الوحيد للتعرف على حقيقة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ هو القرآن الكريم، فهو الكتاب المؤرخ لحياتهم المرشد لكمالهم المصحح للأخطاء الكثيرة والتحريفات العظيمة التي لحقتهم.

وللقرآن الكريم طرق مختلفة في إيصالنا بالأنبياء، وملأ مشاعرنا بذكرهم ومحبتهم والاهتداء بهديهم:

منها أن يأتي إلى نبي من الأنبياء، فيستوفي قصته، ويسرد تفاصيل ما حصل له، فتمتلئ عين القلب بشخص ذلك النبي، وتصبح حياته نبراسا يضيئ حياة محبيه المؤمنين به.

ومنها أن يأتي إلى مشهد من مشاهد الأنبياء، فيستوفي أحداثه، ليعيش المؤمن ذلك الموقف، ويرسم منه لحياته من المواقف ما يضاهي ذلك الموقف أو ما يجدد حياته.

ومنها أن يعدد أسماء الأنبياء ويذكرها كل حين لترتسم مع كل اسم صورة نموذج من نماذج البر، وعملاق من عمالقة الصلاح، ويكون ذلك الإعجاب مقدمة الاقتداء، قال تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الأنعام:83 ـ 87)

وبعد أن ذكر تعالى هذا العدد من الأسماء عقب على ذلك بقوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)

والقرآن الكريم يملأ صدرا المؤمن شوقا لكثير من الأنبياء المنتشرين في بقاع الأرض على أمداد عمر التاريخ، فصفوة الله المختارة لم تكن مقتصرة على أرض دون أرض أو زمن دون زمن، قال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].

ويخبر في آية أخرى أن ما ذكر في القرآن الكريم من الأنبياء مجرد نماذج ذكرت من باب التمثيل لا الحصر، وأن قانون التدافع بين الخير والشر، والأنبياء وأقوامهم متمثل فيهم جميعا، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصف خلقة الأنبياء وصورهم لتقريب ما يصفه القرآن الكريم من أحوالهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا فابراهيم قال انظروا إلى صاحبكم)([68])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأي)

انطلاقا من هذا سنذكر هنا بعض الآثار التربوية للإيمان بالرسل، وما يستدعيه من طرق التعريف بهم، وما ينبغي احترازه من ذلك على حسب ما يقتضيه المقام:

القدوة:

ويشير إلى هذه الناحية المهمة الناتجة عن الإيمان الصحيح بالرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام:90)، فالغرض الأول من الإيمان بالرسل إيمانا يولد المحبة في قلوب أصحابه هو اتخاذهم نماذج يقتدى بها، وأنوارا يهتدى بهديها.

وذلك لأن المعارف تظل أرواحا مجردة قد لا تجد من يلتفت إليها حتى تجد الأجساد الطاهرة التي تمثلها، فتخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع.

وكمثال على ذلك تمثيل الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لدور التجرد والإخلاص في التعامل مع الله، وهذا ما تبرهن عليه خطبهم لأقوامهم في القرآن الكريم، والتي يحرص القرآن الكريم على ذكرها وتكرارها لتصبح في محل نظر المقتدي، فلا يتيه بالحوادث عن مواضع القدوة، قال تعالى على ألسنتهم: { يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود:51)، وقال تعالى: { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يّـس:21)، وقال تعالى: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:72)

ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردد أقوالهم، اقتداء بهم فقال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال تعالى: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:109)، وقال تعالى: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سـبأ:47)، وقال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (صّ:86)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستحضر مواقف الأنبياء ليعيد إحياءها من جديد، فكان يستحضر في المواقف المختلفة ما حصل لإخوانه من الأنبياء، عن عبد اللّه بن مسعود قال: قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه، قال، فقلت: يا عدو اللّه أما لأخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بما قلت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحمر وجهه ثم قال:(رحمة اللّه على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([69])

وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أقول كما قال أخي يوسف: { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92))([70])

وقد استدل ابن عباس بهذا على مشروعية سجدة سورة ص، فعن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس ما من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَان} (الأنعام:84)، { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فسجدها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم)([71])

وهكذا يصبح الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ مصابيح تضيئ للمهتدين، وتبصرهم بالطريق الصحيح، وقد قال ابن القيم، وهو يدعو إلى الاقتداء بالأنبياء في جدهم في طريق الله:(يا مخنث العزم أين أنت، والطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمى في النار الخليل، وأضجع للذبح اسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وآله وسلم تزها أنت باللهو واللعب)([72])

وهذه الصفة تقتضي عصمة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، وتقتضي اقتصار المربي على هذه العصمة، وذلك لأن تصوير الإثم في تصرفات الأنبياء ـ كما تفعل بعض كتب التفسير والمواعظ ـ ينزع منهم الثقة، ويجعلهم محلا للنقد، وهو ما قد يتذرع به لسلوك سبيل المعصية بحجة أن الأنبياء مع مكانتهم الرفيعة وقع منهم الخطأ.

الجذور التاريخية للإسلام والإنسان:

فالقرآن الكريم بتفصيله لقصص الأنبياء يشير إلى تاريخ يكاد يكون مهملا في دواوين تاريخ البشرية، وهو تاريخ المعرفة بالله وعبادته.

وهو تاريخ متصل من لدن آدم u إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يؤثر في اتصاله اختلاف الأزمنة ولا اختلاف الأمكنة، ولا اختلاف القوميات.

ولهذا آثاره الكبيرة في السلوك،لأنه يرفع الغربة عن المؤمن، ويفسر التاريخ تفسيرا إيمانيا لا تفسيرا ماديا كما يفسره الغافلون، يقول سيد قطب ـ وهو يعدد نعم الله عليه بالعيش في ظلال القرآن الكريم ـ:(والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه – كما يتجلى في ظلال القرآن – مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (ابراهيم:13 ـ 14) موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد)([73])

وقد يقال هنا: فلماذا لم يذكر القرآن إلا من كان يعرفه الناس، وأهل الكتاب من الأنبياء، أوليس في الغض عن ذكر غيرهم، غضا من التاريخ، ومحوا لأجيال من الصالحين؟

والجواب عن ذلك: إن القرآن الكريم جعل من قصص الأنبياء حروفا تنبني منها الحياة المثالية للمؤمن، ومن شأن الحروف أن تكون قليلة محصورة، وإلا كان تكلف حفظها مانعا من استعمالها.

وهكذا اختار القرآن الكريم نماذج معينة تحمل مواضع عبر مختلفة لتكون أنوارا يهتدى بها، فإذا ما حصل النور ببعضهم أغنى ذلك عن ذكر جميعهم.

أما غيرهم، فيكفي أن يشير بالثناء عليهم والاعتراف بهم، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}[غافر: 78].

زيادة على ذلك، فإن سائل هذا السؤال لا يفهم أسرار مقاصد القرآن الكريم من سرد قصص الأنبياء، فالأنبياء في القرآن الكريم ـ على خلاف ما في كتب أهل الكتاب ـ يراد منها العبرة والتمثيل والتصوير ليعايشها المؤمن أفكارا وقدوة وسلوكا لا مجرد أحداث تاريخية.

فلذلك كان من الحكمة أن يذكر المعروفين من الأنبياء، لأن غير المعروفين، قد تنكرهم الجماهير، وقد تعتبرهم من أساطير الأولين، وقد حصل بعض هذا عندما أنكر البعض قصة عاد وثمود لعدم ورودها في كتب أهل الكتاب.

ثم إن من يريد أن يوضح مسألة أويقرب قضية من القضايا يحتاج إلى إيراد الأمثلة المبسطة المعروفة عند من يخاطبهم، وإلا كان توضيحه إبهاما، وشرحه تعقيدا.

تمثيل حقيقة الإسلام:

فالله تعالى يسوق القصص ليقرر حقيقة الإسلام ومتطلباته، فالرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ هم خير من يمثل الإسلام في أرقى درجاته، ولهذا يشرح الله تعالى حقيقة إسلام إبراهيم u بضرب الأمثلة عن ولائه التام لله، وإسلام وجهه كله له.

فهو يدعو أقاربه إلى الله، بكل ما أوتي من صنوف اللين، طامعا في إسلامهم، لكنه بمجرد أن تبينت له عداوتهم لله تبرأ منهم، قال تعالى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114)

وهو يشتاق إلى الولد كسائر البشر ـ بعد أن يهجره قومه ويتركوه، بل يذيقوه ما تمكنوا منه من بلاء ـ، فيقول: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ }

وتأتيه البشارة بعد عمر طويل: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ }

وبمجرد أن يبشر به يؤمر بأن ينقل ابنه الرضيع مع أمه إلى بلد غير ذي زرع، كما قال تعالى: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } (ابراهيم:37)، فينقله، ويبعده عنه عمرا طويلا.

بل يتركه في موقف مأساوي أليم على قلب الأب الذي انتظر ابنه طويلا، وقد روي عن ابن عباس قوله في حديث ذلك:(ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آللّه أمرك بهذاً؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (ابراهيم:37))([74])

ثم بعد رجوعه لابنه الذي أمضى كثيرا من حياته بعيدا عنه، يؤمر بذبحه بيده في الوقت الذي صار يرجوا خيره وعونه، قال تعالى حاكيا قصة ذلك، ونتيجته: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات:101 ـ 113)

فهذه النماذج وغيرها توضح حقيقة إسلام الوجه لله في منتهى كمالها، ولهذا أمرنا، بل أمر قبل ذلك رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبع ملة إبراهيم في مواضع متعددة من القرآن الكريم، قال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:161)، وقال تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:123)

ويمن على المؤمنين أن هداهم إلى ملة إبراهيم فقال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)

ويعتبر كل انحراف عن ملة إبراهيم سفها من الرأي، وانحرافا عن الحق، وكأن إبراهيم u هو المقياس الذي يقاس به الإسلام، قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة:130)

ورد على من دعا إلى غير ملته، وذم قوله، فقال تعالى: { وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة:135)، وقال تعالى: { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:95)

وذلك لأن أكمل توجه لله وأحسنه هو توجه إبراهيم u، قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء:125)

3 ـ الإيمان بعالم الغيب

عوالم الغيب ـ في أصلها ـ هي العوالم التي خفيت على المؤمن، أو التي لا تستطيع وسائل الإدراك العادية التعرف عليها، أوالتي جاءت النصوص المعصومة بالدلالة عليها، وهي بذلك تشمل كل قضايا الإيمان، كما قال تعالى في وصف المؤمنين: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:3)

وأخبر أن المؤمنين الصادقين لا يحول بينهم وبين الخوف من الله أو التعامل الإيماني معه كونه غيبا عن حواسهم، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة:94)، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الانبياء:49)، وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (يّـس:11)، وقال تعالى: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (قّ:33)، وقال تعالى: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:12)

واشتد في عتاب بني إسرائيل الذين طلبوا أن يروا الله جهرة حتى يصدقوا به، قال تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة:55)، وأخبر أن هؤلاء أنفسهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا من الغيب يرونه حسا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)

وهذا لأن أصل التكليف يقتضي الغيب، فلو أن قضايا الإيمان كان دليلها الحس ووسائل الإدراك العادية لما كان هناك أي تكليف بالإيمان بها.

ومثل ذلك: الامتحان الذي يجريه الأستاذ لتلاميذه، فلو أنه وضع الإجابة المباشرة على السبورة، ثم طلب منهم أن يجيبوا على أسئلته لما اختلفوا في نقل الإجابة مباشرة دون عناء، ولما اختلف جهدهم في الإجابة عنها، ولما تميز المتفوق منهم والجاد من الغبي والهازل، ولهذا قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} (الأنعام:8)

ولكن عالم الغيب أو السمعيات ـ كمصطلح ـ قصر على ما لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل المجرد، وما كان في نفس الوقت في حيز الإمكان، فتخرج أبواب الألوهية والنبوات لانسجام العقل مع النصوص في الدلالة عليها.

فلذلك يكتفى في مثل هذه المسائل بالأدلة المعصومة، ويعزل العقل عن البت فيها بقول أو بدليل إلا دليل الإمكان، ولهذا قال تعالى بعد ذكر كثر من الأخبار والقصص: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)، وقال تعالى: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)، وقال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)، وقال تعالى: { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (الكهف:26)

ولهذا الإيمان تأثيره النفسي والتربوي الكبير على الإنسان، بل إنه ينقله من عالم البهيمية الذي تلقيه فيه غرائزه وأهواؤه إلى عالم الإنسانية الرفيع، يقول سيد قطب:(والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس – أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس – وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود)([75])

ويرد على المفكرين المعاصرين الذين يتصورون الإيمان بعوالم الغيب نوعا من الهروب عن الواقع، فيقول:(لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا “تقدمية ” وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: الذين يؤمنون بالغيب والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!)([76])

ولهذا الإيمان زيادة على هذا الترفع بالإنسان تأثيره الكبير في السلام النفسي الذي هو منطلق كل خير، وقد ضرب الإمام بديع الزمان لذلك مثلا فسربه قوله تعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة:3)، فقال:(ان كنت تريد ان تعرف مدى ما في الايمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع الى هذه الحكاية القصيرة)([77])

ثم ذكر أنه خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى احدهما وكان أنانياً شقياً الى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد الى جهة ثانية.

فالاناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءاً وفاقاً على تشاؤمه، حتى انه كان يرى – أينما اتجه – عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات ايدي رجال طغاة قساة ومن اعمالهم المدمّرة.

فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من اماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من اهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، واجنبياً يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـروراً، وفي كل زاويـة حبـوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له. ثم يرى ان المملكة كلها تعلن – في حفل التسريح العام – هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الاول المتشائم منشغلاً بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم. فضلاً عن انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته الى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:(يا هذا لقد جننتَ! فان ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح واجازة نهب وسلب. عُد الى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً:(نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء)

ثم يفسر المعاني الجليلة التي يحملها هذا المثال، فيقول:(فيا نفسي! اعلمي ان الرجل الاول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الاحيـاء ايتام يبكون تألماً من ضــربات الزوال وصفعات الفراق.. أما الانسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..وأما الموجودات الضخام ـ كالجبال والبحار ـ فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة.. وامثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الانسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الانس والجان.. أما الوفيات كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي اعفاء من الوظائف، وانهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث انهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم.. اما المواليد كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن انما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع…وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من ارجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل ايذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من ايمانه كثير جداً من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق)

بعد هذا.. فإن الآثار العظيمة للإيمان بالغيب لا تتحقق إلا إذا لقيت طرحا سليما من المربي، ونرى تقيد هذا الطرح بما يلي:

علمية الإيمان بالغيب:

نعم إن قضايا الإيمان بالغيب لا يمكن إدراكها بالحس المجرد، ولا بوسائل الإدراك العادية، ومع ذلك، فإن للعقل مجالا فيها، إما في التعرف على إمكانية وجودها، أو في تصور ما يحمله الإيمان بالغيب من حقائق.

أما مجال التعقل، فالقرآن الكريم يبرهن على الغيب بالأدلة العقلية الكثيرة، فيربهن على البعث والقيامة بما يرى في الإنسان والأرض من آثار تدل على قدرة الله المطلقة بإعادة الحياة، فالله هو المبدئ المعيد، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)

فالله تعالى يستدل بقدرته المطلقة على نقل الإنسان من طور إلى طور بقدرته على البعث الذي هو في حقيقته لا يعدوا أن يكون طورا من أطوار حياة الإنسان الممتدة.

ومثل ذلك عالم الملائكة وغيرها من العوالم الغيبية التي خلقها الله ـ كما خلق الإنسان ـ يقول سيد قطب:(ونسأل:ماذا عند أدعياء العقلية العلمية، من علمهم ذاته، يحتم عليهم نفي هذا الخلق المسمى بالملائكة، وإبعاده عن دائرة التصور والتصديق؟ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك؟

 إن علمهم لا يملك أن ينفي وجود حياة من نوع آخر غير الحياة المعروفة في الأرض في أجرام أخرى، يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن جو الأرض وظروفها.. فلماذا يجزمون بنفي هذه العوالم، وهم لا يملكون دليلا واحدا على نفي وجودها؟

 إننا لا نحاكمهم إلى عقيدتنا، ولا إلى قول الله سبحانه! إنما نحاكمهم إلى علمهم الذي يتخذونه إلها.. فلا نجد إلا أن المكابرة وحدها – من غير أي دليل من هذا العلم – هي التي تقودهم إلى هذا الإنكار غير العلمي! المجرد أن هذه العوالم غيب؟ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحيدة التي يجزم هذا العلم اليوم بوجودها ؛ حتى في عالم الشهادة الذي تلمسه الأيدي وتراه العيون)([78])

ويقول النورسي مبينا علمية الإيمان بالملائكة:(ان الكرة الارضية وهي واحدة من الأجرام السماوية، على كثافتها وضآلة حجمها، قد اصبحت موطناً لما لا يحد من الاحياء وذوي المشاعر، حتى لقد اصبحت أقذر وأخسّ الأماكن فيها منابع ومواطن لكثير من الأحياء، ومحشراً ومعرضاً للكائنات الدقيقة. فالضرورة والبداهة والحدس الصادق واليقين القاطع جميعاً تدل وتشهد بل تعلن أنّ: هذا الفضاء الواسع والسموات ذات البروج والأنجم والكواكب كلها مليئة بالأحياء وبذوي الادراك والشعور)([79])

وهكذا، فإن المربي الصادق لا يكتفي بتقرير الحقائق الغيبية مجردة، يكلف بها عقل المتلقي تكليفا، بل يحاول أن يلطفها ويقوي رسوخها بما يبثه من أدلة، فإن إبراهيم u مع علمه بقدرة الله المطلقة على الإحياء طلب من الله ما يزيد هذه الطمأنينة قوة ورسوخا، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:260)

أما مجال التصور، فإن الكثير من قضايا الإيمان الغيبي يمكن قياسه على ما خلق الله في الأرض من ظواهر، من باب تقريب عالم الغيب من عالم الحس، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25) أي يشبه الشكل الشكل، ولكن الطعم غير الطعم، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر سدرة المنتهى:(فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر)([80])

عالم الغيب لا عالم الخرافة:

عالم الغيب هو العالم الذي وردت النصوص المعصومة بالإخبار عنه، أما عالم الخرافة فهو العالم الذي دخل العقيدة الإسلامية ـ للأسف ـ تحت مظلة النقل من أهل الكتاب إحسانا للظن بهم، أو تحت مظلة الأحاديث المنكرة والمعلولة والموضوعة، أو تحت مظلة العقل الذي تعدى طوره وحقيقته ووظيفته، أو تحت مظلة الكشف الذي يختلط فيه الوهم بالحقيقة، أو تحت مظلات أخرى كثيرة ليس بينها مصدر معصوم.

فلذلك، يمكن اعتبار كل ما لحق هذا العالم الغيبي من غير أدلة معصومة ضربا من الخرافة لا يصح أن يمتلئ به عقل المؤمن ولا ضميره.

والأمثلة على دخول الخرافة هذه العوالم الغيبية كثيرة، منها ـ مثلا ـ الخرافات التي نسجت حول الملائكة الموكلين بالعرش ـ عليهم السلام ـ والتي تلبست بلباس الحديث الشريف، فذكرت أنهم (ثمانية أملاك على صورة الأوعال)، وأن (لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس)، و(أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش)، وأنه أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول أمية بن أبي الصلت:

رجل وثور تحت رجل يمينه

  والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تطلع كل آخر ليلة

   حمراء يصبح لونها يتورد

ليست بطالعة لهم في رسلها

   إلا معذبة وإلا تجلد

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(صدق)

وقد رويت هذه الأساطير ـ للأسف ـ في كتب التفسير المعتمدة، وهي مما يحرص العامة على مثله، وهي خرافات لا حظ لها من العلم، ولا حظ لراويها وملفقها من الذوق، وقد رد عليها ـ بحمد الله ـ الشيخ محمد زاهد الكوثري، برسالة سماها (فصل المقال في بحث الأوعال) أو (فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال)، فذكر المصادر التي أخرجت هذه النصوص وتتبع أقوالهم تمحيصا وتحليلا وانتهى إلى أنّها أقاصيص دخيلة لا أصل لها.


([1]) عرف بعضهم الشخصية بـ ( أنها وحدة متكاملة الصفات والمميزات، الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية التي تبدو في التعامل الاجتماعي للفرد، والتي تميزه عن غيره من الأفراد تمييزًا واضحًا، فهي تشمل دوافع الفرد وعواطفه وميوله واهتماماته وسماته الخلقية وآراءه ومعتقداته، كما تشمل عاداته الاجتماعية وذكاءه ومواهبه الخاصة ومعلوماته وما يتخذه من أهداف ومثل وقيم اجتماعية) انظر: الأمراض النفسيةوالعقلية لأحمد عزت:54.

وقد عرفت مجلة علم النفس (المجلد الأول، العدد الأول) الشخصية‏، بأنها ( نظام متكامل من مجموعة من الخصائص الجسمية والوجدانية النزوعية والإدراكية التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد تمييزًا بينًا، نقلا عن المرجع السابق.

([2]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([3]) العودة إلى الإيمان: 113.

([4]) العودة إلى الإيمان:110.

([5]) المرجع السابق: 119 وما بعدها.

([6]) العودة إلى الإيمان: 122.

([7]) العودة إلى الإيمان: 130.

([8]) المكتوبات: المكتوب العشرون، الكلمة السابعة.

([9]) تاريخ الطبري: 2/33.

([10]) إحياء علوم الدين: 3/243.

([11]) المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، لبرتراندرسل:10.

([12]) رسالة الرد على الدهريين:72.

([13]) من كتاب ( الدين ) للدكتور محمد عبد الله دراز.

([14]) ذكر هذه الإحصاءات الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه (تنقيحات) وعنه نقلها الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ص 177هامش.

([15]) رواه مسلم.

([16])  رواه البخاري ومسلم.

([17])  رواه الطبري.

([18])  رواه البخاري ومسلم.

([19])  رواه الترمذي، وقال: حديث غريب وأخرجه أحمد وابن حبان وابن سعد.

([20])  رواه أحمد.

([21])  رواه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي.

([22])في ظلال القرآن: 3391.

([23]) الكلمات، الكلمة التاسعة عشرة.

([24]) الكلمات، الكلمة التاسعة عشرة.

([25]) مدارج السالكين: 3/231.

([26]) إحياء علوم الدين: 3/401.

([27]) إغاثة اللهفان: 1/44.

([28]) إحياء علوم الدين: 1/283.

([29]) إحياء علوم الدين: 1/283.

([30]) إحياء علوم الدين: 1/283.

([31])  رواه الطبراني في الكبير، وفي السنن بعضه، مجمع الزوائد: 4/32.

([32]) في ظلال القرآن: 3062.

([33])  رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

([34]) وقريب من هذا ما سأل بعض اليهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو؟ أم من لؤلؤ، أو ياقوت؟ قال، فجاءت صاعقة فأخذته، وأنزل اللّه: ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد:13)

([35]) إحياء علوم الدين: 1/95.

([36]) الغزالي، المنقذ من الضلال، ص87.

([37]) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/23.

([38]) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/98.

([39]) الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص173، 174.

([40]) إحياء علوم الدين: 1/94.

([41]) إحياء علوم الدين: 1/94.

([42]) إحياء علوم الدين: 1/94.

([43]) إبطال التأويلات: 1/97.

([44]) إبطال التأويلات: 1/203.

([45]) إبطال التأويلات: 1/206.

([46]) إبطال التأويلات: 1/72 و2/476.

([47]) قال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار، وقال ابن حجر العسقلاني: لا أصل له ونحو “من بلغه عن الله شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك” انظر تعليق ناصر الدين السلسلة الضعيفة:1/67.

([48]) ذكره الشيخ علي القارئ في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة وقال بعده: قال السخاوي: لا أصل له بهذا اللفظ، وقال الزركشي: رواه الديلمي عن ابن عمر بلفظ “إذا كان آخر الزمان واختلف الأهواء فعليكم بدين البادية” “النساء” وسنده واه بل قال الصنعاني موضوع.

([49]) انظر تنزيه الشريعة 235-267.

([50]) ذكره صاحب تنزيه الشريعة 213 وعزاه لأبي الشيخ في العظمة.

([51]) تنزيه الشريعة 209.

([52])  رواه النسائي، والطبراني في الكبير.

([53])  رواه البخاري: 1/12.

([54])  رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

(1) سير أعلام النبلاء 2/305.

([56])  رواه أحمد والحاكم.

([57]) خصائص التصور الإسلامي.

([58])  رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.

([59])  رواه ابن السني وابن حبان.

([60])  رواه ابن النجار.

([61]) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.

([62]) مفتاح دار السعادة: 2/ 90 باختصار، وانظر: طريق الهجرتين، ص 43.

([63]) الفوائد، ص 150.

([64]) الفوائد، ص 85.

([65])  رواه الترمذي وابن ماجة .

([66]) إحياء علوم الدين: 4/312.

([67]) المقصد الأسنى، ص32.

([68])  رواه البخاري:4/22.

([69])  رواه البخاري ومسلم واللفظ لأحمد.

([70])  رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن السني في عمل يوم وليلة.

([71])  رواه البخاري.

([72]) الفوائد.

([73]) في ظلال القرآن: 1/12.

([74])  رواه البخاري.

([75]) في ظلال القرآن:1/39.

([76]) في ظلال القرآن:1/40.

([77]) الكلمات، الكلمة الثانية.

([78]) في ظلال القرآن: 1044.

([79]) الكلمات، الكلمة التاسعة والعشرون.

([80])  رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *