الإخوان المسلمون.. والاختيارات الفاشلة

الإخوان المسلمون.. والاختيارات الفاشلة

أرجو ألا يلومني الإخوان المسلمون، أو المتعاطفون معهم على هذا العنوان، فهو ليس سبا ولا طعنا، ولا شماتة.. بل هو وصف دقيق للواقع كما هو، بل كما يقرون هم بأنفسهم.

ذلك أنهم يقرون أن سبب ما يقع لهم حاليا ليس سوى اختيار من اختياراتهم الفاشلة؛ فهم يذكرون أنهم لو اختاروا شخصا آخر بدل الرئيس المصري الحالي لوزارة الدفاع، لكان الأمر مختلفا الآن تماما.

مع أنهم هم في الوقت الذي أقالوا فيه المشير محمد حسين طنطاوى وزير الدفاع الأسبق، والفريق سامى عنان رئيس الأركان السابق، واحتج المعارضون لهم على ذلك ردوا عليهم، وحسب موقع حزبهم الالكتروني بأن تعيين السيسى انتصار لثورة يناير، وأنه ـ كما يذكرون ـ (وزير دفاع بنكهة الثورة).. وذكروا من تدينه وصلاحه وتقواه ما توهم به المعارضون أنه ليس سوى فرد من جماعة الإخوان المسلمين، كلفته الجماعة قبل ذلك باختراق الجيش، لتستفيد منه في الوقت المناسب.

لكنه ما إن خيب ظنهم، وتراجع عن الوقوف معهم بعد تلك الأخطاء الكثيرة التي ارتكبوها، والهبة الشعبية التي وقفت ضدهم.. حتى راحوا يخونونه ويجرمونه ويعتبرونه مؤامرة عليهم، وينسون أنهم هم أنفسهم أصحاب الاختيار، وينسون أن المعارضة حينها رفضت اختيارهم، لكنهم فرضوه بكل قوة.

وهكذا حصل لهم في الفرصة السابقة التي أتيحت لهم، حين تبنوا الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، ووقفوا معه، واعتبروه زعيما ملهما.. لكنهم اكتشفوا في الأخير، وبعد فوات الأوان، أن اختيارهم لم يكن فاشلا فقط، وإنما كان هاوية سحيقة سقطوا فيها سقوطا حرا، ولفترة طويلة جدا.

وهكذا أتاح الله لهم الفرص العديدة للاختيار، وكان في إمكانهم لو تخلوا عن تسرعهم وعجلتهم، وتحلوا بالحكمة والرفق والأناة، وحكموا شرع الله الذي ينادون به، لا أهواءهم التي يتسترون عليها، لكان واقعهم الآن مختلفا تماما.

لكنهم يفشلون كل مرة في الاختيار، ولست أدري هل هو قدر إلهي قدر عليهم بسبب ذلك الغرور الذي يعتريهم عندما يقتربون جدا من تحقيق غاياتهم، لكنهم ما إن يمدوا يدهم إليها لتناولها حتى تقطع، أو تقيد.. أو أن الأمر موكول لإرادتهم المجردة، والتي توقعهم كل حين فيما نرى هذه الأيام نماذج عنه.

ونحن لا نستبعد كلا الأمرين.. فالله تعالى أخبر في القرآن الكريم عن الاستدراج، وأنه قد يملي للناس أن يفعلوا ما يشاءون، لكنهم ما إن يتوهموا أنهم وصلوا إلى تحقيق غايتهم، ويفرحوا بذلك، ويمتلئوا زهوا، حتى تغير عليهم جنود العزة الإلهية، فتحصد كل شيء، كما قال تعالى عن فعله بصاحب الجنتين المغرور: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } [الكهف: 42]

أما إرادتهم المجردة، ودورها فيما وقع لهم، فلا أحد يجادل فيه.. فلم يفرض عليهم أي أحد قناعته، بل إن الغرور الذي كان كالهالة المحيطة بهم كان كالحصن الحصين الذي يمنعهم من أن يسمعوا لغيرهم، أو يستفيدوا من سواهم.. وسنة الله فيمن يفعل هذا هي أن يكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه وإرادته لن يرى منهما إلا الهوان والذلة والخذلان.

وقد بدأت اختياراتهم الفاشلة منذ قرروا الدخول إلى الحكم، من غير أن تكون الفرصة مناسبة لتحقيق المبادئ التي كانوا ينادون بها.. وهنا وقعوا بين خيارين: إما تقديم المصالح الوقتية المحدودة في دخولهم للسلطة، واستفادتهم من امتيازاتهم، أو إرجاؤهم ذلك إلى توفر الجو المناسب لتحقيق المبادئ التي امتلأت بها شعاراتهم ومطوياتهم وكتبهم.

لكنهم، وبعجلة عجيبة آثروا المصالح على المبادئ.. وراحوا يضعون أسوأ نموذج للحكم في تاريخ مصر.. يحاول أن يرضي الإسلاميين المتطرفين، ويجيب كل نزواتهم الممتلئة بالعنف والحقد والكراهية، وفي نفس الوقت يحاول أن يرضي الليبراليين المتحررين ويرضي نزواتهم الممتلئة بالفجور والانحراف والفسوق..

وهذا ما جعلهم يظهرون بصورة المنافقين الذين لا يهتمون إلا ببقائهم في السلطة، ولا يعنيهم هل تحققت القيم التي ينادون بها أم لم تتحقق.

وكان في إمكانهم في ذلك الحين أن يقفوا مواقف شريفة مع القضية الفلسطينية، وأن يعيدوا تلك الصيحات المجلجلة التي كان يصيح بها جمال عبد الناصر، ليعيدوا المصريين إلى تلك الأيام التي توحدوا فيها مع زعيمهم، حتى بعد النكبة التي حصلت.. لكنهم لم يفعلوا، لا بالأقوال، ولا بالأفعال، بل استمرت اتفاقية كامب ديفيد، واستمر تواصل السفراء، ولم نسمع منهم في كل تلك فترة كلمة واحدة ضد إسرائيل.. بل لم نر منهم إلا لينا كبيرا، وعطفا شديدا على الصهاينة، جعلهم ممقوتين عند كل من يتألم للقدس وفلسطين.

لكنهم في نفس الوقت الذي كانوا فيه كالغزلان أمام إسرائيل راحوا يزأرون كالأسود على سورية الجريحة، بل راحوا يحرضون الجيش المصري والشعب المصري على أن يتحول إلى عصابات إرهابية للإجهاز على سورية، بدل أن يتحول إلى طبيب لإنقاذها.

وهكذا، فبدل أن يختاروا الوقوف مع النظام السوري وشعبه، آثروا أن يختاروا الوقوف مع الإرهابيين، بل كان وجود الإخوان في سدة الحكم أكبر فرصة لإرسال أكبر عدد من الإرهابيين، وإقامة أكبر المؤتمرات الإرهابية ضد سورية، وقد عاقبهم الله على ذلك بأن وضعوا في قوائم الإرهاب بعد أسابيع قليلة من مواقفهم تلك.. وكان الذي وضعهم هو نفس تلك الدول التي تزلفوا لها، وحاربوا كل شيء من أجل سواد عيونها.

وهكذا كان فشلهم في اختيار الحلفاء، فبدل أن يولوا وجوههم قبل المشرق الذي كان يضم الدول المستضعفة، بما فيها روسيا وإيران.. راحوا يولون وجوهم قبل المغرب، لتصورهم أن أمريكا يمكنها أن تحميهم، فخدعوا بمعسول وعودها، متناسين أن أمريكا لا وعود لها، ولا مواثيق، وينسون ما فعلته بكل حلفائها، وبكل من قدموا كل شيء لأجلها.

وهكذا كان فشلهم في استقطاب الأصدقاء، فبدل أن يتوجهوا للعقلاء من الباحثين والأكاديميين والعلماء والصوفية، راحوا يتوجهون لأولئك المشايخ السلفيين الذين أتاحوا لهم أن يقولوا في قنواتهم كل شيء، ويحيوا كل فتنة، ويثيروا كل شغب.. وكان ذلك كله على حساب الإخوان أنفسهم، لأن ما يفعله الحليف يحصده حليفه.. ولذلك اتهم الجميع الإخوان بقتل الشيخ الشهيد حسن شحاتة الذي كان ضحية الخطاب الطائفي الذي أتيح له أن يعلو في مصر في عهد الإخوان كما لم يعلو قبله ولا بعده.

وهكذا كان فشل الإخوان المسلمين السوريين في كل اختياراتهم.. فبدل أن ينتهجوا منهج السلم لتحقيق ما يصبون إليه، راحوا يكررون ما فعلوه من جرائم في حماه، ليس في حماه فقط، وإنما في كل البلاد السورية، ولذلك أكدوا كل ما يقال عنهم بأنهم ليسوا إخوانا مسلمين، وإنما إخوان مجرمون.

ولذلك بدل أن يراجعوا أنفسهم ومواقفهم وحساباتهم، ويعيدوا صلتهم بوطنهم الذي باعوه بأبخس الأثمان، راحوا يحرضون كل دول العالم وكل عصاباتها لأن تدمر بلادهم.. فهم لا يرتاحون لشيء كما يرتاحون لكل بيت يهدم، أو مؤسسة تقصف، أو حزام ينسف.

وسبب ذلك كله هو أنهم اختصروا جميع مشاريعهم في إزالة رئيس منتخب من طرف شعبه.. وحتى لو لم يكن منتخبا.. وحتى لو حصلت تزويرات في الانتخابات.. بل حتى لو كان ملكا.. فهل كان ذلك مبررا لأن يعلنوا الحرب على بلادهم، ويمدوا أيديهم إلى أعدائها.

لا نملك إلا أن نستنتج من كل هذا أن الإخوان بفروعهم المختلفة ليسوا سوى نموذج للفشل الذريع في كل مشروع يدخلون إليه..

والمشكلة الأكبر ليس في الفشل، وإنما في تبريره وتقديسه والبناء عليه.. وهو ما يجعل من فشلهم كرة ثلج تتدحرج، وتكبر بتدحرجها إلى أن تقضي عليهم.. وقد فعلت.

طبعا لن يرضى الإخوان عن هذا الكلام، وسيجرمون صاحبه.. وهو شيء طبيعي، لأنهم لا يحبون إلا من يكذب عليهم، ويمدحهم بالكلام الكاذب الذي لا يزيدهم إلى غرورا وكبرياء، ليكرروا كل مرة فشلهم، وبإصدار أكثر تطورا.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *