ولاية الفقيه.. وقيم الجمهورية

القيمة الثانية التي يتأسس عليها نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي [الجمهورية]، والقيم النابعة منها، وهي تشكل مع [الإسلام] اللقب الذي اختارته إيران لنفسها بعد انتصار ثورتها؛ فهي [جمهورية إسلامية]، وليست إمارة إسلامية، ولا مملكة إسلامية، ولا خلافة إسلامية، ولا إمبراطورية إسلامية.
وفَهم الجمع بين هاتين القيمتين الساميتين [الجمهورية]، و[الإسلامية] ييسر التعرف على سر الكثير من المواقف الإيرانية، والمؤسسات التي تحكمها؛ فكلها تنبع من هاتين القيمتين، من الشعب احتراما له ولقراراته، ومن الإسلام باعتباره الخيار الذي ناضل من أجله الشعب الإيراني، وأثبت تمسكه به رغم كل المحن التي أصابته بسببه.
بل إننا إذا رجعنا إلى الوراء، وبحثنا في السر الأكبر لنجاح الثورة الإيرانية نجده ينبع من اعتمادها على كلا القيمتين؛ فهي قد نهضت من أجل أن يسترد الشعب حريته وحقوقه التي صادرتها الأنظمة المستبدة بمعونة الاستكبار العالمي، واستعمل في ثورته الإسلام بدل الشيوعية أو الاشتراكية، أو غيرها من النظريات التي اعتمدها للأسف الكثير من الثوار العرب، ولهذا كان شعار الثورة الإسلامية في ذلك الحين الذي كانت الشعوب فيها ترزح بين الشرق أو الغرب هو (لا شرقية، ولا غربية.. إسلامية إسلامية)
وللأسف نجد الكثير من المغرضين ينتقدون الجمهورية الإسلامية الإيرانية في جمعها بين هاتين القيمتين، ذلك أنهم يتصورون استحالة تجمعهما، بل يتصورون أنهما قيمتان متناقضتان، وذلك نتيجة تأثرهم بالمدارس الغربية، واعتبارهم أن مراعاة أحكام الإسلام يتناقض مع مراعاة مطالب الجماهير.
ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية وفقهاءها ومفكريها يقدمون الشروحات الوافية، لكون الحكم الإسلامي لا يتناقض أبدا مع الحكم الجمهوري، بل يذكرون أن الحكم الجمهوري في البلاد الإسلامية لا يتم إلا بمراعاة الحكم الإسلامي، لأنه دين الشعب، والشعب لا يمتنع من أن يُحكم بدينه.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض النماذج من تلك الردود، باعتبارها أحسن جواب عن تلك الانتقادات المغرضة، والتي يصدر معظمها للأسف من بلاد لا تعرف الجمهورية ولا الديمقراطية، بل هي تعيش في ظلال الحكم الملكي الذي يفتقد لأدنى معاني الحرية والكرامة.
وأولها ما ذكره الولي الفقيه المعاصر السيد علي لخامنئي في بيان العلاقة بين قيم الجمهورية وقيم الإسلام، وذلك في لقاء له مع أعضاء مجلس خبراء القيادة بتاريخ (14/ 3/2002)؛ فقد قال في ذلك: (إنّ حقّ الله في الإسلام ليس منافسًا لحقّ الناس، ولا في مقابله، جميع حقوق الناس، ومن جملتها حقّ الشعب في الانتخاب، والذي هو حتمًا في أمر الحكومة، ناشئة من الحكم الإلهيّ، فقيمة جميع حقوق الشعب ناشئة عن حاكميّة الله وما أمر به الله تعالى، لذا، عُبّر في القرآن الكريم، في الموضع الذي يتمّ فيه الاعتداء على حقوق الناس والتعرّض لهم، كمسألة الربا، بقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] مع أنّ هذا العمل هو اعتداءٌ على حقوق النّاس، لكنّ الحرب مع الله.. ذلك لأنّ ما يرتبط بالناس على اتّساعه، هو تكليفٌ إلهيّ، الحقّ الذي جعله الله للناس، التكليف الذي وضعه الله على عاتق من يتولّون أمور الناس يمكن القول إنّ الجمهورية الإسلاميّة ليست حبرًا على ورق، هي حقيقة، تعتمد على رأي الشعب حيث أمرنا الله سبحانه أن نولي الأهميّة لرأيه واختياره وإرادته في هذا المجال)([1])
وبناء على هذا، يستنتج أن مفهوم [الجمهورية الإسلامية] يتحقق بمراعاة [الإسلام] وتكالفيه الشرعية، ذلك أن التكاليف الشرعية الإسلامية تراعي مطالب الشعب، وتطالب بتنفيذها، ولو لم يطلبها الشعب نفسه.. والحاكم المسلم هو الذي لا يتنتظر من الرعية أن تطالب بحقوقها، ولا أن يمن عليها بتقديمها، لأنه يفعل ذلك انطلاقا من واجباته الشرعية، يقول في ذلك: (وليست مشكلتنا في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة فقط، أن يسيء النّاس فهمنا، أو تتراجع ثقتهم بنا، مشكلتنا هي التكليف الشرعي أيضًا، ولو لم يفهم الناس؛ فإذا قمنا في مكان ما بعمل، أدّى إلى تضييع حقوق الناس، مع أنّ أحدًا لم يدرك أنّه تمّ التعرّض لحقوق الناس وكانت الدعايات صاخبة أيضًا، فإنّ مشكلة التكليف الشرعي تبقى تواجهنا في أقاصي الجسم العظيم للحكومة وفي طولها وعرضها ـ حيث الحكومة ليست محصورة ومتجلّية في شخص القائد – الجميع شركاء في هذه السيادة الشعبيّة الدينيّة، والوظائف الملقاة على عاتقهم من هذه الناحية، سواءٌ رئيس الجمهوريّة، أم رئيس سلطة من السلطات الثلاث، أم نوّاب المجلس، أم أيّ مسؤول في ناحية من النواحي ـ تكليف الجميع هو مراعاة حقوق الناس لله، هذان الاثنان، متساويان بعضهما مع بعضٍ ومتّحدان)([2])
وهكذا نرى الخميني يدعو كل حين إلى تصحيح التصورات نحو معنى [ولاية الفقيه]، وكونها لا تتناقض مع الجمهورية، بل هي تلبي مطالب الجمهور أحسن تلبية، لأنها تنبع من القيم التي يؤمن بها، لا من القيم الغريبة عنه، يقول في ذلك: (إن من يدعي أن مبدأ ولاية الفقيه يستلزم ديكتاتورية فلا ريب أنه جاهل بهذا المبدأ وأهميته وقدسيته، بل العكس هو الصحيح؛ فإن الحامي للحريات وفق المبادئ الإسلامية، والحامي لإرادة الشعب وحقوقه والمدافع عنه هو مبدأ ولاية الفقيه الذي يقوم بمهمة الإشراف على أمور البلد، حتى لا ينحرف أحد ممن يمكن أن يستلم مقدرات البلد، فهو الذي يمنع رئيس الجمهورية من أن ينحرف وأن يحكم بهواه، وهو الذي يمنع رئيس الوزراء من أن ينحرف ويحكم بهواه، وهكذا الكلام بالنسبة لأي مسؤول، كما أن مبدأ ولاية الفقيه يمنع الفقيه نفسه أن ينحرف وأن يحكم بهواه، ولا يحق له ذلك أصلاً، بل عليه أن يحكم وفق رأي الإسلام حسب اجتهاده، والمفروض أنه بذل جهده كله للوصول إلى هذا الرأي واستكشافه من خلال وسائل الإستنباط الممكنة له، كما أن عليه بذل الجهد في تمحيص الوقائع وتشخيصها حتى يطبق عليها حكمها الإلهي ويحكم على وفقه. والمفروض في الفقيه الولي العدالة والورع والكفاءة بل الأكفئية في تحقيق كل ذلك، كما أن المفروض أن في الأمة علماء وتقاة وثقاة ورعون يراقبون حركة الفقيه، بإمكانهم عزله إن انحرف وصار يحكم بهواه، وقد صان الدستور هذا الحق للخبراء وللأمة)([3])
وهو يذكر أنه لا وجه لاعتبار ولاية الفقيه حكما ديكتاتورياً، ذلك أن هذالنوع من الحكم يطلق على من يستند في حكمه إلى الرأي الشخصي بعيداً عن أي اعتبارات صحيحة، ثم يجبر الشعب على اتباعه، (وإنما يكون الحكم ديكتاتورياً إن كان الحكم وفق الهوى متاحاً للحاكم، وكان الحاكم قادراً على أن ينفذ جميع رغباته بدون أن يتجرأ أحد على معارضته)
وهو يذكر أن من أكبر الأدلة على عدم وجود أي صلة بين ولاية الفقيه، والحكم الديكتاتوري هو تصويت أغلبية الشعب في إيران على ولاية الفقيه، يقول في ذلك: (ليس من الديكتاتورية في شيء أن يكون النظام المعتمد في إيران قد أيده أكثرية الشعب بحيث تجاوزت نسبة التأييد التسعين في المائة دون ضغط أو إكراه؛ فالشعب بغالبيته العظمى أيد ولا يزال نظام الجمهورية الإسلامية المبني على مبدأ ولاية الفقيه كما نص عليه الدستور)([4])
ويذكر أن المعترضين هم الذين يريدون مصادرة رأي الجمهور، والحديث باسم الشعب؛ يقول في ذلك: (الديكتاتورية متجسدة في كلمات المعترضين، إذ يحاولون وهم القلة أن ينصبوا أنفسهم في موقع يحسبون أنفسهم أوصياء على الشعب والأمة، والحال أن الشعب لم يرض بذلك منهم بدليل أنه خالفهم. وهؤلاء عندما ينصبون أنفسهم في هذا الموقع يسعون لفرض رأيهم وإثارة جو نفسي وزعزعة ثقة الشعب والمسلمين بهذه الجمهورية والثورة، وهذا نحو من أنحاء الديكتاتورية)([5])
ويذكر أن هؤلاء الذين يعترضون على ولاية الفقيه، بحجة تناقضها مع قيم الجمهورية، يعترضون في الحقيقة على الإسلام وقيم الإسلام، وليس على الولي الفقيه، ذلك أن (هؤلاء المعترضين لن يعترضوا بهذا الإعتراض لو كانت الصلاحيات كلها التي ثبت في الإسلام أنها للفقيه قد أعطيت لإنسان آخر غير فقيه، بل وغير مسلم، بل ربما سيمدحون الشخص والنظام حينئذ، ولكنهم يعيشون عقدة الإسلام ولا يتجرؤون على قول ذلك) ([6])
هذه مقولات القائدين الكبيرين اللذين أتيح لهما تولي منصب الولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد اقتصرنا على هذه النماذج، وهي كافية لرد المعترضين الذين يصورون كليهما بصورة الحاكم المستبد، وهو تصوير ناتج عن الجهل والكبر، ولو أنهم كلفوا أنفسهم بمطالعة ما كتبه كل منهما، أوالتعرف على مواقفه بنية صادقة لما تجرأوا على مثل ذلك التصوير الظالم.
ونحب أن نذكر ـ بهذه المناسبة ـ تنظيرا مهما جدا لمفهوم الجمهورية، وعلاقته بالحكم الإسلامي والولي الفقيه، وذلك عند فيلسوف وفقيه ومفكر كبير من قادة الثورة الإسلامية، ومن المقربين جدا من الخميني، وهو الشهيد مرتضى مطهري، فقد نظّر لهذه المسألة في مقابلة تلفزيونية هامة أجريت معه قبل إجراء الاستفتاء العام على [نظام الجمهورية الإسلامية] في إيران، ثم طبعت ككتاب مستقل بعنوان [قضايا الجمهورية الإسلامية]، وقد تطرق فيها إلى مسائل مهمة جدا تتعلق بالنظام الإسلامي، وطبيعة الثورة ومستقبلها.
وقد كان أول سؤال طرح عليه فيها حول مفهوم الجمهورية الإسلامية، والتناقض الذي قد يحمله الجمع بين هذين المعنيين، وحتى نفهم جواب مطهري جيدا، نذكر نص السؤال باعتباره لا يزال يطرح إلى الآن، وبنوع من الاستفزاز، وكأن الإيرانيين لم يجيبوا عليه، مع أنهم أجابوا عليه، وبتفصيل كبير، قبل الثورة وبعدها وفي كل حين، ولكن المغرضين للأسف لا يقرؤون، وإنما ينتقدون فقط.
ونص السؤال هو: (مفهوم (الجمهورية الإسلامية) يبدو غامضاً إلى حد كبير؛ فالجمهورية تعني إعطاء الشعب حق الحاكمية، بينما الصفة الإسلامية تقيد هذه الحاكمية وتحددها، ويبدوا أيضاً أن مفهوم الجمهورية الإسلامية يتعارض مع المفاهيم الديمقراطية ومفاهيم الجمهورية بمعناها المطلق العام، فهل لكم أن تعطونا صورة واضحة لنظام الجمهورية الإسلامية؟)([7])
وقد أجاب الشيخ مرتضى مطهري على السؤال إجابات مفصلة نلخصها ببعض تصرف في النقاط التالية([8]):
1. مفهوم (الجمهورية الإسلامية) واضح لا يحتاج إلى كثير من الشرح، فالمفهوم مركب من كلمتين: كلمة (جمهورية) وكلمة (إسلامية)، وكلمة الجمهورية: تعني شكل الحكومة المقترحة، وكلمة إسلامية: تحدد محتوى هذه الحكومة.
2 ـ أن السر في اختيار لقب [الجمهورية] لإيران هو تمييز النظام الحاكم في إيران عن غيره من النظم التي حكمت العالم؛ فمنها النظام الفردي الوراثي، كنظام السلطنة والنظام الملكي، ومنها النظام الارستقراطي، كالنظم التي يحكم فيها الفلاسفة أو الحكماء أو المتخصصون أو الأشراف، ومنها حكومة المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال ودافعي الضرائب، وغيرها من النظم والحكومات.
3 ـ أن [الجمهورية] تعني حكومة عامة الناس، أو الحكومة التي يتمتع فيها جميع الناس بحق الانتخاب دون تمايز بينهم في الجنس أو اللون أو العقيدة، والشرط الوحيد في المنتخب هو البلوغ والنضوج العقلي لا غير.. إضافة إلى ذلك، فالهيئة الحاكمة المنتخبة تحكم لفترة معينة، وللشعب حق إبقائها أو تغييرها بعد انقضاء تلك الفترة.. وهذا الشكل من أنظمة الحكم هو (الجمهوري)، وهو الشكل المقترح لنظام الحكم في إيران.
4 ـ أن كلمة [إسلامية] تعني تحديد محتوى هذه الحكومة، ومحتوى هذا الشكل ـ أي أن المنتخب حينما يقول نعم للجمهورية الإسلامية، يقترح أن يكون نهج الحكومة على أصول وتعاليم إسلامية، والإسلام ـ كما هو واضح ـ مدرسة فكرية وأيديولوجية وأطروحة لتنظيم الحياة البشرية بجميع أبعادها وشؤونها.
5 ـ بناء على ما سبق؛ فإن (الجمهورية الإسلامية) تقوم على أساس نظام يتمتع فيه أفراد الشعب بحق الانتخاب وبحق تغيير الهيئة الحاكمة، وهذا هو شكل النظام.. أما المحتوى فإسلامي.
6 ـ أن الذين يجدون غموضاً وتناقضاً في كلمة (الجمهورية الإسلامية) قد اختلط عليهم الأمر، وخالوا أن ثمة تناقضاً بين حق السيادة وحق الالتزام بمدرسة فكرية عملية في الحياة، وهؤلاء ظنوا أن الإنسان الملتزم بخط فكري معين والمناضل من أجل تطبيق مبادئ هذا الخط في الحياة الاجتماعية، ليس بحرّ ولا ديمقراطي، ومن خلال هذه المعادلة الوهمية الخاطئة يستنتجون أن الديمقراطية سيتهددها الخطر، إن أضحى النظام إسلامياً وأضحت الجماهير تؤمن بالمبادئ الإسلامية وتطالب بتطبيقها.
7 ـ أن مفهوم الجمهورية لا يعفي الجماهير من التمسك بخط فكري معين والالتزام بمبادئ مدرسة معينة، ويطرح مطهري هنا أسئلة وجيهة على أولئك المعترضين، ويقول لهم فيها: (تُرى، هل تعني الديمقراطية أن يلتزم كل فرد بخط فكري خاص، أو أن يتخلى جميع الأفراد عن أي التزام بمدرسة فكرية؟!.. ترى، هل الإيمان بمبادئ قائمة على أساس العلم والمنطق والفلسفة، والتسليم لهذه المبادئ، يعارض الديمقراطية؟!)([9])
8 ـ أن الأكثرية الساحقة من الشعب الإيراني تؤمن إيمانا راسخاً بمبادئ الإسلام، وليس في هذا الإيمان المطلق ذنب ولا عيب، لكن العيب أن تسلب هذه الأكثرية الساحقة، ومن الأقلية غير المؤمنة، حق النقد والمناقشة والاعتراض.
وفي جواب عن سؤال آخر لا يزال يطرح أيضا، وهو مهم جدا في فهم عدم التعارض بين النظام الجمهوري والنظام الإسلامي، وينص على كيفية الجمع بين حكم الشعب لنفسه، وتولي الفقيه لذلك الأمر، وقد أجاب عليه مطهري بقوله: (من أجل أن أجيب على ما تقول، لابد أن أذكر أن الشعب الإيراني نال في ثورته الدستورية حق سيادته، لكن هذا الشعب لم يكن يرى أي تعارض بين نيله هذا الحق، والتزامه بالإسلام فكراً وعقيدة وقانوناً ينظم جميع شؤون الحياة، ولهذا نص الدستور الإيراني، المدون عقب انتصار تلك الثورة، على ضرورة السير في إطار القوانين الإسلامية، وصرح بأن أي قانون يفقد اعتباره القانوني إذا كان معارضاً لقوانين الإسلام، كما نص الدستور الذي تمخضت عنه الثورة الدستورية الإيرانية على ضرورة وجود خمسة فقهاء في مجلس النواب للإشراف على القوانين، ولم يكن يخطر على بال رواد الثورة الدستورية أن التمسك بالإسلام والالتزام بالحدود والقوانين الإسلامية يعارض الروح الدستورية والروح الديمقراطية، كما أنهم لم يروا معارضة بين الإسلام وبين قدرة مجلس النواب على التقنين لأن القوانين كانت تُسن في إطار المبادئ الإسلامية، المهم أن يكون الشعب هو المنفذ للقانون الذي آمن به وقَبِله سواء كان الشعب هو الذي سن القانون، أو أن يكون قد سنه صاحب مدرسة فكرية أو منظر قانوني، أو أن يكون القانون الذي آمنت به الجماهير قد تلقته عن طريق الوحي الإلهي، ويتضح من هذا أن الصفة الإسلامية للجمهورية لا تتعارض مع سيادة الشعب أو مع الديمقراطية بشكل عام، والمبادئ الديمقراطية لا تتطلب بالضرورة ابتعاد المجتمع عن كل خط فكري ملتزم)([10])
ثم ذكر أن المشكلة التي يعاني منها المعترضون على نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو في كونه ينبع من الإسلام، أو يريد أن يطبق الإسلام في جميع شؤون الحياة، ولهذا لا نراهم يعترضون على الأيديولوجيات الأخرى، يقول في ذلك: (إننا نرى الأحزاب تنتمي إلى أيديولوجيات معينة، ولا تعتبر هذا الانتماء معارضاً لمبادئ الديمقراطية، لكن المسألة حينما تطرح على الصعيد الإسلامي، يثير بعضهم شكوكاً وتساؤلات حول إمكان انسجام المفهوم الإسلامي مع المفهوم الجمهوري)
ثم يذكر منبع هذا الاعتراض، وخلوه من الصدق والموضوعية؛ فيقول: (أعتقد أن هذه الشكوك والشبهات تطرح من لدن أفراد لا يزالون يؤمنون بديمقراطية القرن الثامن عشر التي تحدد حقوق الإنسان بإطار مسائل المعيشة والمأكل والمسكن والملبس وحرية انتخاب طريقة المعيشة المادية. هذه الديمقراطية التي تحذف من دائرة الحقوق الإنسانية مسائل الانتماء الفكري والالتزام المدرسي والتكامل الإنساني والتحرر من سلطة البيئة والغرائز)
ثم يبين الخصائص التي ميزت الثورة الإسلامية الإيرانية، والنظام الذي نبع منها، وكونها خصائص فريدة تصحح الكثير من المفاهيم السائدة؛ فقال: (لابد أن أشير إلى حقيقة واضحة كل الوضوح هي: أن الأكثرية الساحقة للشعب الإيراني حددت في شعاراتها ومطالبها نوع النظام الذي تريده. لم يتجه كفاح الشعب الإيراني ضد التسلط السياسي والاستعمار الاقتصادي فحسب، بل اتجه أيضاً إلى مقارعة الثقافات والأيديولوجيات الغربية، إلى مقارعة التبعية للغرب تحت العناوين المغرية نظير الحرية والديمقراطية والاشتراكية والمدنية والتطور والتقدم وغيرها من العناوين الزائفة التي يلوح بها الاستعمار وعملاؤه في عالمنا.. إن الملايين من أبناء الشعب الإيراني حين طالبوا في مظاهراتهم الضخمة الصاخبة بإقامة الجمهورية الإسلامية، قد حددوا في الواقع الإطار الفكري لنظام الحكم الذي يريدونه.. الهوية الوطنية لأي شعب من الشعوب تتمثل في التراث الحضاري المتأصل في أعماق هذا الشعب، وهذه الهوية الوطنية تتمثل لدى جماهير الشعب الإيراني بالإسلام)
***
بعد هذه التصريحات الواضحة من قادة الثورة الإسلامية وفلاسفتها، والتي تبين مدى ارتباط ولاية الفقيه بكل قيم الجمهورية، بل تجاوزها لكل سلبياتها، نرى في الواقع الديني والإعلامي من يقف يقف موقفا سلبيا من [ولاية الفقيه]، وينشر في ذلك الدعايات المغرضة، التي لا تستند إلى أي أدلة واقعية موضوعية، بل تكتفي فقط بتصويرها بصورة ما حصل في الماضي، وخصوصا عند المسيحيين من تلك الحكومات الثيوقراطية([11]) الاستبدادية، والتي ثارت عليها الشعوب بعد ذلك، وانتقلت بسببها إلى النظام العلماني، بل إلى الإلحاد نفسه.
ومن الأمثلة على تلك الدعايات المغرضة ما قاله بعض الخليجيين في مقال بعنوان [الثيوقراطية تعود من جديد]([12]) بعد أن قدم مقدمة في التعريف بالثيوقراطية: (بعدما تخلصت أوروبا وأنهت الحكم الثيوقراطي بكل أشكاله وأنواعه، تطل علينا إيران بنظام ثيوقراطي جديد ومقنن، [حيث] تعتبر إيران نموذجاً جديداً للحكم الثيوقراطي، من خلال مجلس الخبراء، الذي يقوم بتعيين رجل دين بمنصب القائد الأعلى للجمهورية، الذي يمتلك جميع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بيده ولا تنازعه أي سلطة أخرى في إيران! مثل خامنئي الآن الذي يعتبر أعلى سلطة دينية وسياسية بإيران. ويُطلق على هذا النوع من الحكم سلطة [ولاية الفقيه])
هذا نموذج يختصر الكثير من المقالات التي يواجه بها النظام الإيراني، ويعتبر من خلالها نظاما ثيوقراطيا واستبداديا، وأنه بذلك أسوأ الأنظمة الموجودة في الواقع حتى الأنظمة الملكية والعسكرية كما يذكر صاحب المقال.
والدليل الأكبر الذي يستند إليه هؤلاء جميعا هو تلك الصلاحيات الكبيرة المعطاة للولي الفقيه، والتي بموجبها يستطيع أن يغير كل أجهزة الحكم وأركانه؛ فقد تصوروا أن إعطاء مثل هذه الصلاحيات يجعل من الولي الفقيه شخصا مستبدا لا يختلف عن سائر المستبدين([13]).
وحتى نعالج هذه المسألة بهدوء، وبعيدا عن ذلك الشغب الذي يثيره الإعلام، ويثيره معهم بعض الإسلاميين التقدميين أو السلفيين، نحاول هنا أن نطلع على الكيفية التي تنفذ بها ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سواء من خلال واقعها السياسي، أو من خلال المصادر الفكرية التي تنظر لولاية الفقيه، وتبين منهج تطبيقها.
وقبل أن نذكر تفاصيل ذلك، نحب أن نبين أن المشكلة لا تكمن في الصلاحيات المعطاة لأي جهة، وإنما المشكلة تكمن في تعامل تلك الجهة مع الصلاحيات التي أعطيت لها، وهل تعاملت معها بحكمة وأمانة وعلم أم لم تتعامل بذلك كله.
ذلك أنه لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة أن تنفذ مشروعها ما لم تعط الصلاحيات التي تسمح لها بتنفيذه، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) } [يوسف: 55 – 57]
فيوسف عليه السلام كما تنص الآيات الكريمة قد أعطاه الله من العلم ما استطاع به أن يضع مشروعا لمواجهة المجاعة التي ستحل بالمصريين، وقد أخبر عزيز مصر عن ذلك المشروع، ولكن بما أنه لا يمكن تنفيذه إلا لصاحب الخبرة الكافية، مع الأمانة والحفظ، فقد رأى يوسف عليه السلام أنه لا يمكن لأحد أن يؤدي هذا الدور غيره؛ فطلب إعطاءه الصلاحيات الكافية لأداء ذلك الدور، والذي عبر عنه القرآن الكريم بالتمكين.
فالتمكين هو توفير الصلاحيات للحاكم المسلم الذي يجمع بين العلم والأمانة والأخلاق العالية، والتي تجعله يمارس دوره بكل حرية، لأنه لا يمكن لشخص أن يؤدي دوره الإصلاحي في الوقت الذي تقيد فيه يده عما ترشده إليه حكمته.
ولهذا أخبر القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام أنه أعطي الصلاحيات الكثيرة التي يمكنه من خلالها أن يؤدي دوره كحاكم مسلم، وقد قال تعالى مخاطبه له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ص: 39]
وبناء على هذا؛ فلا حرج أن يعطى الفقيه الوارث للرسل عليهم السلام ما كان لهم من صلاحيات في إدارة البلاد، إذا ما كان لديه العلم الكافي بالدين والواقع، بالإضافة إلى الأخلاق العالية التي تجعله لا يقصد من أي حكم يصدره إلا المصلحة العامة، وخاصة إذا أضيف إلى ذلك كونه منتخبا من جهة الشعب، ويعمل تحت رقابته، وبمعونة الكثير من المستشارين في المجالات المختلفة، وهو فوق ذلك كله محاط بسياج الشريعة لا يحل له أن يخرج عنها، أو يتملص من أحكامها.
ففي هذه الحالة، لا يمكن اعتبار النظام نظاما استبداديا، لأن المستبد هو الجاهل صاحب المصالح الذي يفرض آراءه على الأمة التي لم تختره، ولم يتح لها أن تراقبه.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يؤدي واجبه ما لم يعط الصلاحيات الكافية التي تخول له أداء ذلك الواجب، كما أشار إلى ذلك الشيخ مصباح يزدي عند تبريره للصلاحيات المعطاة للولي الفقيه؛ فقال: (حينما يعيّنون لأحد واجباً فيلزم ـ والحال هذه أن يوفروا له ظروف أداء ذلك الواجب، ويمنحوه القدرة القانونية لأدائه، وهذا يعني منحه الصلاحيات المناسبة لواجباته.. فحين يجعلون الحكومة مسؤولة عن الحفاظ على أمن البلاد الداخلي مثلاً، فلابد أن يمنحوها مستلزمات الحفاظ على الأمن، وكذلك حين يوكلون إليها مهمة الدفاع عن حدود البلاد، فلابد أن تمتلك صلاحية العمل بما يلزم لحراسة الحدود، وإلا فإن تعيين المسؤولية دون منح الصلاحيات اللازمة عبث لا جدوى منه)([14])
وأشار إليه الشيخ جوادي آملي بقوله؛ عند الحديث عن صلاحيات الحاكم الإسلامي: (يمكننا من خلال ما ذكر حول وظائف الحاكم الإسلامي أن نتعرف على صلاحيات الحاكم في الإسلام. فعندما يتم تحديد الوظيفة للعامل لابد بشكل طبيعي وبالحد الأدنى، أن تؤمن ظروف القيام بها ويعطى السلطة القانونية لأدائها بالإضافة إلى الصلاحيات المتناسبة معها. كمثال، عندما يكون الحاكم الإسلامي مسؤولاً عن تأمين الأمن الداخلي للبلاد، ينبغي أن يحوز على كل ما من شأنه أن يحفظ الأمن، وهكذا في مورد الدفاع، وإلا لزم من ذلك اللغو والعبث)([15])
بالإضافة إلى ذلك نرى في الواقع تلك التقلبات الكثيرة التي تصيب الدول التي لا تمنح مسؤوليها الصلاحيات الكافية؛ وهو ما يجعلهم لا يفكرون تفكيرا استراتيجيا يؤمن للدولة تقدمها وتطورها، بقدر ما يفكرون في إرضاء أولئك الذين انتخبوهم، حتى لو كان في ذلك مفسدة لمصالح الدولة في مستقبلها أو مبادئها.
وقد عبر عن ذلك الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي بقوله: (إن نظرية ولاية الأمة على نفسها هي نظرية الانقلابات المتكثرة واللاإستقرار الاجتماعي، والتخلي عن الدين كشرع يحكمنا في كل صغيرة وكبيرة؛ فإننا إذا بنينا على ولاية الأمة على نفسها بدون ضوابط، وكان هذا حقها الحصري، تأتي مجموعة أسئلة لتثير مخاوف تجعل مصالح الأمة في معرض التسيب والزوال؛ فإنه لو لم يكن للفقيه ولاية يتمكن من خلالها من إلزام الأمة بسلوك الطريق الصحيح، ونقصد الإلزام الشرعي، فهذا يعرض الأمة للفساد ولتسلط المنحرفين عليها ويفسح المجال لظهور حكومات لا علاقة لها بالإسلام، وفي هذا تضييع للهدف المنشود من وراء تشكيل حكومة ترعى شؤون المسلمين.. ثم ما أسهل أن تسيطر قلة قليلة على الأكثرية من خلال الإعلام ونمط تثقيفي تربوي معين وقدرة مالية، فبدل أن تكون الولاية للأمة على نفسها، وهو الشعار البراق، نكون قد أعطينا الولاية لتلك الفئة القليلة على الأمة)([16])
وبناء على هذا أشار الخميني في مواضع كثيرة من كتبه وخطاباته إلى ضرورة إعطاء الولي الفقيه جميع الصلاحيات التي تتيح له أن يؤدي دوره في تحكيم الشريعة، لما لديه من مؤهلات وكفاءات تسمح له بذلك، ومن ذلك قوله في بعض رسائله: (لو كانت صلاحيات الحكومة محكومة بسقف الأحكام الفرعية الإلهية الكلية يصبح جعل الحكومة الإلهية والولاية المفوضة لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لغواً، وسيسبب ذلك ارتباكات على المستوى العملي لا يمكن لأحد أن يلتزم بها، كشق الشارع المستلزم أحياناً للتصرف في منزل أو في حريم منزل، فإن مقتضى الأحكام الفرعية الكلية هو عدم جواز هذا التصرف، ومثل نظام التجنيد الإجباري والبعث الإجباري إلى الجبهات، مع أن الأحكام الفرعية الكلية تقتضي عدم جواز ذلك إلا حين الوجوب العيني على كل مكلف. ومثل المنع من إدخال وإخراج العملات الصعبة، ومقتضى الأحكام الشرعية الكلية جواز ذلك. ومثل المنع من إدخال وإخارج أي سلعة ومنع الإحتكار عموماً، مع أن مقتضى الأحكام الشرعية حصر منع الإحتكار بالموارد الأربعة المعروفة. ومثل فرض الجمارك والضرائب بالخمس والزكاة ونحوهما مما أوجبه الشرع. ومثل المنع من الغلاء وتحديد الأسعار، والمنع من نشر المواد المخدرة ومنع الإدمان بأي نوع غير المسكرات، ومنع حمل الأسلحة مهما كان نوعها، ومئات من أمثلة ذلك التي تصبح بمقتضى ذلك التقييد خارجة عن صلاحية الحكومة)([17])
وبناء على هذا، وبناء على كون الولي الفقيه يمارس نفس الدور الذي مارسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دولته التي أقامها بالمدينة المنورة، كان من الواجب إعطاؤه كل الصلاحيات التي تتيح له ذلك، كما يذكر الخميني ذلك بقوله: (فالذي يجب قوله هنا أن الحكومة شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من الأحكام الأولية المقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج. فبمقدور الحاكم أن يهدم مسجداً أو منزلاً من أجل شق شارع، ويستطيع أن يعطل المساجد حين اللزوم، وأن يهدم مسجداً يكون ضراراً إذا لم يمكن رفع الضرر بدونه. والحكومة تستطيع من طرف واحد أن تلغي العقود الشرعية التي عقدتها مع الناس حين يكون العقد مخالفاً لمصالح البلد والإسلام. ويمكنها المنع من أي أمر عبادي كان أو غير عبادي، إن كان تنفيذه على خلاف مصالح الإسلام. ويمكنها أن تمنع مؤقتاً من الحج الذي هو من الفرائض الإلهية المهمة حين يكون حسب تشخيصها على خلاف صلاح البلد الإسلامي)([18])
وكل هذه الصلاحيات التي ذكرها الخميني مقررة في كتب الفقه للحاكم المسلم حتى لو لم يكن فقيها، فكيف به إذا كان فقيها، وكان في نفس الوقت مفوضا من طرف الشعب نفسه كما عبر عن ذلك الخميني بقوله ـ في بيان يتعلق ببعض شؤون الدولة ـ: (بناء على الحق الشرعي، وعلى أساس الرأي المعطى لي من الأكثرية الساحقة من شعب إيران، فإني أعين من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية مجلس شورى باسم شورى الثورة الإسلامية..)([19])
ومثل ذلك قوله عند تعيين حكومة بازركان: (إننا واستناداً إلى آراء عموم الناس التي ترون، ورأيتم أنها معنا وقبلوا بتوكيلنا إن شئتم التعبير أو بولايتنا لذا فإني كحاكم عليهم عينت تلك الحكومة بما لي من الولاية من الشرع المقدس)([20])
بناء على هذا، نحاول أن نذكر هنا الإجراءات العملية التي يتم من خلالها تنفيذ ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي أحسن رد على كل تلك الشبه التي يطلقها المغرضون من غير أن يكلفوا أنفسهم بمطالعة الدستور الإيراني، ولا طريقة الحكم في مؤسساتها المختلفة.
وقد رأينا أن تطبيق هذا النظام يستدعي توفر أربعة شروط، كل شرط منها كفيل برد تلك الشبه، وبيان مدى مشروعية هذا النوع من الأنظمة وبعده عن كل الأشكال الاستبداد.
وهذه الشروط هي:
1 ـ توفر الكفاءة العلمية والأخلاقية في الولي الفقيه.
2 ـ توفر القابلية الشعبية للولي الفقيه.
3 ـ توفر المرجعية الشرعية والقانونية.
4 ـ توفر المؤسسات التشريعية والتنفيذيه.
وسنتناولها بالشرح في المباحث التالية:
أولا ـ الكفاءة العلمية والأخلاقية للولي الفقيه:
وهو ما يجعل قراراته أقرب إلى الصواب؛ فهو لم يرث الحكم كما هو الحال في الأنظمة الملكية، ولم يصل إليه عن طريق انقلابات، كما هو الحال في الأنظمة العسكرية، وإنما تولاه بناء على ما لديه من كفاءات علمية وأخلاقيته زكته لدى العلماء، وعامة الشعب، وبذلك تكون تلك الكفاءة أكبر حاجز له عن الاستبداد والظلم.
وقد اهتم الفقهاء المؤيدون لولاية الفقيه ـ سواء كانوا من قادة الثورة الإسلامية أو من غيرهم، وسواء كانوا إيرانيين أو غير إيرانين([21]) ـ بالمواصفات المؤهلة للولي الفقيه، والتي تتيح له القدرة على أداء دوره في التعامل مع الصلاحيات المتاحة له.
وهم ينصون على أنها ـ مع كثرتها وصعوبة اجتماعها في شخص واحد ـ ضرورية جدا، ولا يمكن أن توزع على أشخاص كثيرين، لأن ذلك سيضعف الدولة وقرارتها، كما نص على ذلك المرجع الديني الكبير كاظم الحائري([22]) في كتابه [أساس الحكومة الإسلامية]، والذي ألفه قبل انتصار الثورة الإسلامية بقوله: (إن نفوذ الكلمة في الحكومات الوضعية ـ وحتى الانتخابية ـ لا يخلو من أن يكون بيد فرد واحد أو بيد أكثر من فرد كاثنين أو ثلاثة، وهكذا بقدر ما تنتخبه الأمة مثلاً؛ فإن كان بيد فرد واحد تمتع الحكم بالمركزية والقوة والسيطرة الكاملة، وهي مفيدة في تنظيم الدولة، لكنه قد يبتلى بالاستبداد والعمل على إغفال الأمة. وكلما اتسعت دائرة من بيدهم الأمر ابتعد الحكم بذاك المقدار عن معرضيته للوقوع في الاستبداد، في حين ضعف تمتعه بتلك الدرجة من القوة والسيطرة والتنظيم)([23])
وبناء على هذا، وحتى تستفيد الأمة من القوة والمركزية، وتتفادى الاستبداد والظلم، وضع الفقهاء السياسيون المؤمنون بولاية الفقيه معايير نظرية وعملية كثيرة أشار إليها الحائري بقوله: (أما الشكل الذي جاء به الاسلام.. وفق ما تنقح في بحثنا عن ولاية الفقيه، فهو شكل ثالث؛ إذ هو لم يجعل الولاية بيد شخص واحد مما يقرب النظام إلى الاستبداد، ولا بيد مجموع الفقهاء بأن يشغل كل واحد منهم جزءاً من منصب الولاية مما يؤدي إلى ضعف المركزية، بل جعلها بيد كل واحد من الفقهاء الجامعين للشرائط، فكل واحد منهم حاكم مستقل، إلا أنه إذا تقدم بعضهم للحكم والتنظيم لم يجز للآخرين شق صفوف المسلمين ويجب عليهم التسليم ما لم ينحرف الأول، ولم يتورط في أخطاء أشد من مفاسد شق الصفوف، وبهذا الشكل احتفظ الاسلام بمزايا كلا الشكلين من القوة والسيطرة الكاملة من ناحية، لأن الفقهاء الآخرين لا يبرزون الخلاف مادام القائمون بالأمر غير منحرفين ولا متورطين في أخطاء أكبر من مفاسد المخالفة، ومن الابتعاد عن الاستبداد من ناحية أخرى، لأن الفقهاء الآخرين أيضاً يتمتعون بنفوذ الكلمة ويراقبون الحاكم الأول ويقولون كلمتهم لو اقتضت المصلحة ذلك، وكان لابد من هذا الأسلوب مادام رئيس الدولة غير معصوم)([24])
ثم بين مدى أهمية هذا النوع من الأنظمة وضرورته وكونه يجمع بين قوة الدولة والحصانة من الاستبداد؛ فقال: (حينما يكون هذا النظام مقترناً بحواجز الورع والتقوى والموضوعية من ناحية، وبمراقبة الأمة للفقهاء ـ تلك الأمة العارفة باشتراط العدالة والكفاءة فيهم والمتربية على تعاليم السماء ـ من ناحية أخرى، وبالمشورة مع ذوي الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون من ناحية ثالثة، فإنه سيشكل خير نظام متصور للحكم.. بعيداً عن كل ألوان الاستبداد والظلم، يوجّه الناس نحو الاقتراب من رضا الله تبارك وتعالى، وهو الهدف الأقصى للاسلام الذي يسعد المجتمع البشري في الدنيا والآخرة) ([25])
ومثله ذكر الشيخ جوادي آملي ـ وهو من الفلاسفة والمفكرين الإيرانيين الكبار ـ صورا لولاية الفقيه، وبين ضرورة كونها في شخص واحد، حفاظا على قوة الدولة، واستنانا بسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وخلفائهم؛ فقال: (قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ الحياة الإنسانية الاجتماعية لا تتحقق بدون النظام والتشكيل، وهو قد يكون بالشورى، وقد يكون بالإمامة، بمعنى أنّ الحاكم الذي يرجع إليه في حلّ المشاكل، وبِيَده أزمة أمور الملكة وتنفيذها.. هل هو شخص واحد جامع لجميع الشرائط، أم أشخاص عديدون يتشاورون ويتبادلون وجهات النظر فيؤخذ بالمُجمع عليه أو المشهور بينهم ـ لأنهم إما أن يتفقوا على أمر فهو المُجمع عليه، أو يختلفون فيه بالأكثر والأقل فهو المشهور لديهم ـ ولكل من المسلكين فوائد ومزايا، ولكن الأولى هو الأول مهما أمكن؛ لِمَا جرت عليه سيرة الأنبياء حيث لم تعهد نبوة استشارية، ولا رسالة بالشورى، بل إنّ تعدد الأنبياء في عصرٍ ما إن كان يختص كل واحد منهم بقوم وقطر من الأرض، أو كان بعض منهم تابعاً لآخر نحو تبعية لوط لإبراهيم عليه السلام.. أو نحو تبعية هارون لموسى عليه السلام وإن كان شريكاً في أمره، ولكن لم يكن مساوياً له، بل كان وزيراً وعضداً لموسى عليه السلام، وهكذا جرت سمة الإمامة للأئمة حيث إنه لم تعهد إمامة استشارية، ولا خلافة وإمامة بالشورى)([26])
بناء على ما سبق ذكره؛ فقد حدد الدستور الإيراني الشروط المؤهلة لأي شخص لتولي هذا المنصب الرفيع، وذلك في المادة (109) منه، والتي تنص على أن (الشروط اللازم توفرها في القائد وصفاته هي: 1- الكفاءة العلمية اللازمة للافتاءفي مختلف أبواب الفقه.. 2- العدالة والتقوى اللازمتان لقيادةالامة الاسلامية.. 3- الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والادارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة.. وعند تعدد من تتوفرفيهم الشرائط المذكورة يفضّل من كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى منغيره)
وهي نفس الشروط التي ذكرها الخميني في كتبه وبياناته حول ولاية الفقيه، والتي اختصرها في قوله ـ عند حديثه عن خصائص الوليّ الفقيه ـ: (الفقيه صاحب العلم والعمل، ذو السيرة الإسلاميّة، والسياسة الإسلاميّة، وأن يكون قد أفنى عمره في الإسلام والمسائل الإسلاميّة)([27])
ونص عليها في مواضع أخرى، فذكر أنه (شخص قد ثبت لدى الشعب أنّه ذو أخلاق ودين، وأنّه شخص وطنيّ وصاحب علم وعمل.. وهو الّذي ينتخبه الشعب، وهو الفقيه الّذي أمضى عمره في الإسلام وخدمته.. وهو الفقيه المطّلع على المعايير والذي يعيش الحياة الّتي يعيشها الناس العاديّون.. وهو المجتهد المؤيَّد من قبل مجلس الخبراء، والمدافع عن حيثيّة الإسلام في العالم.. وهو شخص وقف نفسه لخدمة الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة وكان في خدمة المحرومين والمستضعفين.. ويجب أن يُنتخب للقيادة أكثر الفقهاء لياقة ومعرفة والتزاماً)([28])
وهي شروط مبنية على أدلة عقلية ونقلية كثيرة، نص عليها قادة الثورة الإسلامية وفقهاؤها، ومنهم الخامنئ في كتابه [الحكومة في الإسلام]، بقوله: (إن المجتمع الذي يحمل أفراده إيماناً بالله، ينبغي أن تكون الحكومة القائمة فيه حكومة دينية إسلامية، تطبق التعاليم الإسلامية، وتنفذ الشريعة والأحكام الإسلامية في حياة الناس. وينبغي أن يكون على رأس تلك الحكومة شخص يتمتع بصفتين بارزتين وأساسيتين هما: أولاً: أن يكون الأعلم بالأحكام والشريعة والفقه الإسلامي، ثانياً: أن يتمتع بملكة ضبط النفس والسيطرة عليها من الوقوع في المعاصي وهو ما اصطُلح عليه عرفاً بـ [العدالة]([29]).. هاتان السجيتان: من الضروري توفرهما في الشخص الذي يريد تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وقد صرح دستور دولتنا بذلك بشكل واضح في باب [ولاية الفقيه])([30])
ثم بين مدى البداهة التي تدل على هذا؛ فقال: (أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى دليل نقلي للبرهنة على [ولاية الفقيه]، على الرغم من أن الأدلة النقلية الروائية متوفرة في القرآن والحديث، وكلها تدلل على حكومة الفقهاء والعلماء الربانيين. بيد أننا لو لم يكن لدينا أي دليل نقلي على حكومة الخبراء بالدين في المجتمع الإسلامي، فإن العقل والأدلة المنطقية تشير إلى حقيقة أنه من أجل تطبيق الأحكام الإلهية، وتنفيذ القوانين الدينية في المجتمع ينبغي أن يتصدى لذلك أشخاص يمتلكون الأهلية، والكفاءة والصلاحية اللازمة، في هذا المضمار ممن لديهم إطلاع ومعرفة بالشؤون الدينية، وإذا كان المتصدي لذلك ـ مثلاً ـ شخص لا يؤمن أساساً بحكومة الدين فإنه لا يكون جاداً في تنفيذ الأحكام الإلهية فيما بين الناس، ولربما لا يرضى بها أساساً.. إن هذا يكفي للتدليل على هذه الحقيقة دون الحاجة إلى نقل ما ورد في الآيات والروايات، وخصوصاً إذا كان الطرف المخاطَب يحمل مثل هذا الاعتقاد بضرورة تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع، ويرى أن هذا من مستلزمات الإيمان بالله وبالإسلام، إذ من البديهي للمجتمع الذي تُدار إدارته للأحكام والقوانين الإسلامية، أن يحكمه ويديره امرؤ مطّلع وعارف بهذه الأحكام)([31])
والتساؤل الوجيه الذي يثار بعد هذا هو عن كيفية التعرف على تلك الشروط ومدى توفرها في المتصدي لهذا المنصب الرفيع، خاصة مع وجود الكثير من المراجع والعلماء والفقهاء، وقد طرحت لتحقيق هذا الكثير من الصور.
منها اعتماد الطرق التي تثبت بها المرجعية، وعيب هذه الطرق ـ كما يذكر مالك مصطفى وهبي العاملي ـ هي كونها تحدد الفقيه الذي يجيب عن التساؤلات البسيطة للفرد والمجتمع، ولا يرقى لأن يجيب عن التساؤلات التي تحتاجها الأمة جميعا، يقول في ذلك: (نحن نعرف طرق التشخيص المتبعة في المرجعية وقد ذكرت في الكتب الفقهية وهي الطرق الثلاثة المعروفة: شهادة أهل الخبرة، والشياع المفيد للعلم، والمعرفة الشخصية بالشخص المتصدي للمرجعية، وهذه الطرق الثلاثة وإن أمكن اعتمادها في باب المرجعية، لكن لا يمكن تبينها كلها في باب الولاية)([32])
أما سبب رفض الطريق الأول، وهو البينة المؤلفة من قول شاهدين من أهل الخبرة؛ فترجع ـ كما يذكر ـ إلى ثلاثة نواح، هي([33]):
1 ـ أن البينة ذات بعد فردي لا اجتماعي، ولذلك لا تشكل أساساً لمعرفة اجتماعية، إذ الذي يطلع عليها هو الفرد، وهذا لا يفيد بالنسبة للأمة.
2 ـ أنه سيفسح المجال لأن يكون جميع الفقهاء ولاة فعليين، إذ ما من فقيه متصد أو يريد التصدي إلا وسيجد من يشهد له بأهليته لذلك، بل ربما يأتي أناس يدعون أنهم أهل خبرة كما يحصل أحياناً في مجال التقليد، فتضيع الأمور على الناس وتتشابك، وربما نتنازع فيما بيننا وفي هذا تضييع لهدف تشكيل الحكومة الإسلامية.
3 ـ أنه ستظهر حالات التعارض في شهادات أهل الخبرة لتعيين الأفضل، لأن البينة التي تشهد على أفضلية فلان تنفي أفضلية غيره فيقع التعارض والتنافي بين البينات وتسقط تلك الشهادات عن الإعتبار.
أما الطريق الثاني، وهو المعرفة الشخصية، فهذا ـ كما يذكر العاملي ـ (ينفع صاحب المعرفة فقط دون غيره، ويستحيل عادة أن يملك جميع أفراد الأمة الخبرة الشخصية الكافية لمعرفة أهلية الشخص للولاية) ([34])
أما الطريق الثالث، وهو [الشياع المفيد للعلم أو الإطمئنان]؛ فهو مع أهميته وعقلانيتة إلا أن المشكلة فيه هو صعوبة التحقق من مدى صدق ذلك الشياع.
وقد تبنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الطريق، بعد توفير الشروط المناسبة التي تؤمن صدق الشياع، وكونه مفيدا حقيقة لليقين العلمي، وذلك عبر (تشكيل مجلس حاشد من أهل الخبرة العدول، وبالتالي يمكن من خلال إيكال الأمر إلى هؤلاء تحصيل العلم أو الإطمئنان بكفاءة الشخص المعين للولاية، أو بأفضليته إن كنا نبحث عن الأفضل.. ومع تحصيل العلم أو الإطمئنان من قول أهل الخبرة بالأفضلية لا يضر حينئذ أي قول معارض، لأن قول هذا المعارض هو في أحسن الحالات لن يفيد أكثر من الإحتمال الضعيف الذي لا يعتني به عقلائياً)([35])
وميزة هذا المجلس ـ وهو ما يسمى في إيران [مجلس الخبراء] ـ هو كونه مجلسا منتخبا من طرف الشعب، وبذلك يكون للشعب، ولو بطريق غير مباشر، دورا في تحديد الولي الفقيه، وهذا له دور كبير في تشخيص من توفرت فيهم الكفاءة العلمية والخلقية لهذا المنصب الرفيع، ذلك أن هذا الانتخاب يستدعي أن يكون الفقيه صاحب سمعة طيبة، وأخلاق عالية، وقدرات على فهم المجتمع، وبذلك يُعزل عن هذا المنصب الرفيع كل من لم تتوفر فيه هذه الشروط الأساسية.
وقد بين العاملي مزايا هذه الطريقة، وإن كانت لم تستعمل في التاريخ الإسلامي إلا بعد الثورة الإسلامية الإيرانية؛ فقال: (وهذا الذي قلناه يقتضي أنه لا يكفي أن يكون الشخص المطروح للولاية غائباً عن علم الناس وخبرائهم، كما لا يكفي أن يكون معروفاً عند القلة القليلة منهم، بل لابد من أن تعترف معظم الأمة به وقبولها لقيادته، وذلك إما من خلال معرفتها التامة به، أو من خلال شهادة كثيرين من أهل الخبرة المرضي عنهم من قبل الأمة بكفاءته وأهليته، أو من خلال تعينه من بين الفقهاء بذلك) ([36])
وبهذا استطاع هذا النظام أن يحتمي من أكبر أسباب الاستبداد والتسلط، وهو تصدي الظلمة والمستكبرين لتولي المناصب الرفيعة، والتمتع بالصلاحيات العالية التي تجعلهم يمارسون طغيانهم على المجتمع.
ذلك أن المجتمع ـ بحسب هذه الطريقة ـ هو الذي يحدد خبراءه وفقهاءه الذين لا تتوفر فيهم القدرات العلمية فقط، وإنما يتوفر معها الكثير من التقوى والعدالة والأخلاق العالية، ذلك أن المرء مهما حاول أن يخفي أخلاقه، فستظهر لا محالة في سلوكه، ومع المختلطين به.
ثانيا ـ القابلية الشعبية للولي الفقيه:
وهذا ما يطلق عليه في الاصطلاح الشرعي [البيعة]؛ فهي تعبر عن قابلية المجتمع لنظام الحكم، وللفقيه الذي يتولاهم، وهو بذلك يمارس دوره وفق تلك القابلية، ولا يفرض نفسه عليهم.
ومع أن نظام ولاية الفقيه ـ كما عرفنا في المبحث الأول ـ يستند إلى الشرعية الدينية، باعتبار الفقيه نائبا عن الرسل والأئمة في إدارة شؤون الأمة، إلا أننا نجد للبعد الشعبي فيها محلا كبيرا، ذلك أن الولي الفقيه نفسه ـ كما ذكرنا سابقا ـ لا يمكن أن يُرشح لهذا المنصب إلا بعد أن تتوفر له القابلية الشعبية، وبعدها تتوفر له قابلية النخبة في مجلس الخبراء.
وقد صرح الخميني قبل انتصار الثورة وبعدها بأن الغرض من الثورة هو أن يملك الشعب زمام أمره بيده، ويستقل في قراراته، ولا يفرض عليه أي شيء خارج إرادته، ومن ذلك قوله في حوار أجرته معه صحيفة [فاينانشل تايمز] البريطانية، قبل انتصار الثورة الإسلامية: (من الحقوق البديهيّة لأيّ شعب أن يمتلك زمام ومصير تعيين شكل ونوع حكومته)([37])
وعندما سئل عن المقصود من [الجمهوريّة الإسلاميّة] قال: (ماهيّة حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة أنّها الّتي تتشكّل طبق الشروط الّتي وضعها الإسلام للحكومة معتمدة على آراء عموم الشعب، وتتعهّد إجراء الأحكام الإسلاميّة)([38])
وقال في محل آخر: (نحن نتّبع رأي الشعب. ونحن نتّبع كلّ ما يريده الشعب. ونحن لا يحقّ لنا، ولم يجز الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنا، أنْ نجبر مسلماً على شيء ما)([39])
وهكذا نجد للشعب وقابليته محلا كبيرا في خطاباته، حيث يصرح فيها بأمثال هذه العبارات: (المعيار رأي الشعب)، أو (أعيِّن الحكومة بما منحني الشعب من قبول)([40])
بل إنه يصرح بأن الولي الفقيه نفسه هو نتيجة عملية لقرار الشعب وخياره، حيث يقول: (الفقيه الّذي ينصبه الشعب للقيادة)([41])، ويقول: (يجب العمل على انتخاب أكثر الفقهاء لياقة وعلماً والتزاماً للقيادة)، ويقول في وصيته: (ووصيّتي إلى الشعب الشريف أن يكونوا حاضرين في جميع الانتخابات… أو انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة، وأن يكون منتخبوهم وفق الضوابط الّتي تجب مراعاتها، مثلاً لينتبهوا إلى أنّه إذا حصل تسامح في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد…. فمن المحتمل جدّاً أن تلحق بالإسلام والبلد خسائر لا تعوّض)([42])
وقال فيها مخاطباً رئيس مجلس الخبراء: (إذا انتخب الشعب مجلس الخبراء الّذي يقوم باختيار مجتهد عادل للقيادة، فعندما يقومون بتعيين شخص لهذه المهمّة فهو بالضرورة محلّ قبول الشعب، وسيصبح الوليّ منتخباً من الشعب وحكمه نافذاً)([43])
ويبين أن كل المكتسبات التي حصلت عليها الجمهورية الإسلامية هي نتيجة لتضحيات الشعب، ولذلك يجب أن يحافظ عليه عبر مراقبته لكل ما يحصل في الواقع، يقول في وصيته: (أما وصيتي إلى الشعب الإيراني العزيز فهي أن (تقدروا) النعمة التي كسبتموها بجهادكم العظيم وبدماء شبابكم الرشيدين، قدّروها حق قدرها كأعز الأمور إليكم، وحافظوا عليها واحرسوها، وابذلوا الجهد في سبيلها فهي نعمة عظيمة إلهية وأمانة كبيرة ربانية. ولا تهابوا المشاكل التي تواجهكم في هذا الصراط المستقيم.. وشاركوا حكومة الجمهورية الإسلامية بكل مشاعركم في مشاكلها واسعوا لحلها، واعتبروا الحكومة والمجلس جزءاً منكم، وحافظوا عليها محافظتكم على محبوب عزيز)([44])
وهكذا راح يوصي مؤسسات الحكوم برعاية الشعب والاهتمام به وتلبية حاجاته؛ فيقول: (وأوصي المجلس والحكومة والمسؤولين أن يقدروا هذا الشعب حق قدره. وأن لا يألوا جهداً في خدمته وخاصة المستضعفين والمحرومين والمظلومين منهم، فهؤلاء ضياء أعيننا وأولياء نعمتنا جميعاً، والجمهورية الإسلامية عطيتهم وتحققها كان بفضل تضحياتهم، وبقاؤها رهين خدماتهم. اعتبروا أنفسكم من الجماهير والجماهير منكم، واسعوا دائماً إلى إدانة الحكومات الطاغوتية، (فحكامها) غزاة ناهبون متوحشون ومتعنتون وفارغون، (هذه الإدانة) طبعاً (يجب أن تتم) بأعمال إنسانية تليق بحكومة إسلامية)([45])
وهكذا نرى القائد الحالي للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي يذكر في كتبه وخطبه القابلية الشعبية، وكونها الحصن الأكبر الذي يعتمد عليه نظام ولاية الفقيه؛ فهو نظام ولد من أحضان المجتمع، ولم يفرض عليه من جهة خارجية، ومن ذلك قوله في كتابه [الحكومة في الإسلام] عند بيانه لصلاحيات الولي الفقيه، وانسجامها مع المطالب الشعبية: (إن إشراف الولي الفقيه على جميع المراكز الأساسية والمرافق الحساسة في المجتمع الإسلامي، أمر ضروري، وقد استجاب دستورنا لهذه الضرورة ولبّاها؛ فإن الولي الفقيه يمارس بالفعل إشرافه ـ كما ورد في دستور الجمهورية الإسلامية ـ على جميع المراكز الحيوية والحساسة في هذا المجتمع، وله حضور فاعل ومؤثر فيها، وهذا أمر ليس بحاجة إلى دليل وبرهان، بل العجيب هو ما قد يطرحه بعض الأشخاص مما يعدّونه دليلاً على رفض ولاية الفقيه ودحضها)([46])
ثم بين أسباب تلك القابلية الشعبية التي توفرت في الإيرانيين، فجعلتهم ينتخبون على ولاية الفقيه بنسبة عالية جدا؛ فقال: (وطبعاً إذا كان ثمة مجتمع ليس لديه أدنى اهتمام بالقيم الإلهية والمعايير الدينية، فإنه يرضى أن يكون على رأسه امرؤ يفتقد إلى أي من الأخلاق الإنسانية، وأن يكون الحاكم فيه شخص محترف للفن ـ مثلاً ـ أو ثري ذو أموال طائلة، ليقوم بتسيير عجلة الأمور فيه، أما المجتمع الملتزم بالقيم الإلهية، والقائم على اعتناق عقيدة التوحيد، والنبوة والشريعة الإلهية، فإنه لا يرى بداً من القبول بأن يكون على رأسه شخص عالم بالشريعة الإسلامية والتعاليم الإلهية، وتتجسد فيه الأخلاق الفاضلة، وتتجلى فيه الخصال الحميدة، ولا يقترف الذنوب ولا يرتكب المعاصي، ولا يقع عمداً في الخطأ والاشتباه، غير جائر ولا ظالم ولا طامع في شيء من الحطام لنفسه، بل يتحرق للآخرين ويفضل إقرار القيم الإلهية على القضايا الشخصية والأمور الذاتية والمصالح الفئوية)([47])
ومن خلال هذه النصوص والتصريحات، والتي سنرى الكثير من تطبيقاتها في الفصل الثاني من هذا الكتاب، يتبين لنا مدى بعد النظام الإيراني عن الاستبداد، ذلك أن المستبد لا يعترف بشعبه، ولا يراعي له حرمة، ولا يهتم بقابليته، ولا برفضه، لأنه يعتبر نفسه وصيا عليه، لا ابنا من أبنائه، على خلاف ما نراه في الواقع السياسي الإيراني، والذي يتلاحم فيه الشعب ومسؤوليه تلاحما شديدا، وهو ما أعجز قوى الاستكبار العالمي عن مواجهته، ذلك أنه يستحيل الانتصار على شعب يؤمن بنظامه، بل يقدسه.
ثالثا ـ توفر المرجعية الشرعية والقانونية للدولة:
من أهم ما يُرد به على دعوى الاستبداد المرتبط بولاية الفقيه كون الفقيه نفسه خاضعا في تصرفاته ومواقفه وحكمه، بل حتى في حياته الشخصية لما يمليه عليه وصفه الذي بموجبه أعطي تلك الصلاحيات، وهو وصف [الفقه]؛ فلو أنه تخلى عنه لحظة واحدة، ولو في حياته الشخصية، فارتكب كبيرة من الكبائر التي تخرجه من العدالة، لكان لمجلس الخبراء المنتخب شعبيا عزله كما ينص على ذلك الدستور الإيراني.
ولذلك كان من الصعب وصف من هذا حاله بالمستبد، وكيف يكون مستبدا، وهو يعمل بنفس القانون الذي يحكم به شعبه، بل هو يلزم نفسه بأن يكون أكثر التزاما منهم به، لأنه لم يحظ بفرصة التولي عليهم إلا بعد ذلك التمحيص الطويل الذي رشحه لأن يزكيه لا عامة الشعب فقط، وإنما يزكيه معهم الفقهاء والعلماء والمفكرون والنخبة المثقفة.
ولهذا عندما نطالع بيانات وخطب ومواقف قادة الثورة الإسلامية نجد هذه المعاني تتردد كل حين، ليذكروا الشعب بأن القانون هو الحَكَم الذي يخضع له الجميع، وكيف لا يخضعون له، وهو مستمد من شريعة الله تعالى؟
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الخميني عند حديثه عن مدى التزام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقانون، باعتباره أول ولي فقيه في الأمة، وباعتباره المرجع الأول لجميع الفقهاء؛ فقد قال في ذلك: (القانون هو الّذي يحكم في الإسلام. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخلّف أبداً عن القانون الإلهيّ، فهو تابع له، والله سبحانه وتعالى يقول: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 – 46])([48])
ويقول في موضع آخر: (في باب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذُكر أنّه لم يطلب شيئاً لنفسه أو يردّ مظلمة عنها، فإذا ما هُتكت محارم الله تعالى، فإنّه كان يغضب لله تبارك وتعالى)([49])
وبناء على ذلك يذكر أن جميع فقهاء الأمة، وأهل الحكم فيها ملزمون بتطبيق القوانين الإلهية، التزاما حرفيا استنانا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في ذلك: (إنّ حكم الله وقانون الإسلام يجري على جميع الأفراد في الحكومة الإسلاميّة، فهو يشمل جميع الأفراد من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى خلفائه عليهم السلام وسائر أفراد المسلمين بدون استثناء)([50])
وبناء على ذلك أيضا؛ فإن القانون ـ كما يذكر الخميني ـ هو السلطان الأكبر الذي يحكم الأمة، والذي على جميع الشعب طاعته والخضوع له، ابتداء من قائده، وانتهاء بجميع مؤسساته، يقول في ذلك: (إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، هي حاكميّة القوانين الإلهيّة من القرآن والسنّة، والدولة تابعة للقانون أيضاً، فنفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تابع للقانون، وكذلك نفس أمير المؤمنين كان تابعاً للقانون أيضاً، فما كانوا ليتخلّفوا عن القانون طرفة عين أبداً، وما كانوا يستطيعون ذلك لو أرادوا)([51])
ويقول في خطاب له بعد انتصار الثورة الإسلامية: (الإسلام دين القانون، حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن باستطاعته أن يخالف.. إنه حكم القانون ولا حكم لغير القانون الإلهي، لا الفقيه ولا غير الفقيه، الجميع تحت القانون، إنهم مجرون للقانون ومنفّذون، الفقيه وغير الفقيه كلهم مجرون للقانون، الفقيه ناظر على هؤلاء الذين يجرون القانون حتى لا يخالفوا القانون، لا أنه يريد هو أن يحكم.. يريد أن يمنع تحول الحكام الذين يفترض بهم أن يطبقوا القانون ـ إلى طواغيت)([52])
ولهذا كان يدعو كل حين للتعجيل بسن القوانين التي تحكم البلاد، لأن الدولة القوية العادلة هي دولة القانون، يقول في خطاب وجهه لأساتذة وموظفي جامعة شيراز في أوائل أيام انتصار الثورة الإسلامية: (كلنا نعرف مواطن الخلل، إلا أن لذلك وقته، حاجتنا الأساسية الآن تدوين الدستور والاستفتاء عليه.. كل هذا الخلل القائم (في المرافق المختلفة) يجب أن يعالج، إلا أن وقت العلاج يحين عندما نستقر عندنا حكومة (دائمة).. ويمكننا أن نقول للعالم: هذا بلدنا، هذا نظامنا، هذا قانوننا، وهذا رئيس جمهوريتنا، هذا مجلسنا، ليعترف الناس وتعترف الدنيا بأننا نظام بكل معنى الكلمة، عندها ننصرف إلى هذه الجزئيات)([53])
ويقول في خطاب آخر: (أنتم تعلمون أننا نمر بمرحلة حساسة تستدعي اجتياز الاستحقاقات التي نواجهها، وهي الخطوات الأولية التي هي عبارة عن الدستور ومجلس الخبراء، ومجلس النواب ورئيس الجمهورية، وكل ما هو أساس في بناء الدولة، هذه هي الاستحقاقات ويجب أن يتحد الجميع لإنجاز ذلك. في مثل هذا الموقع الحساس يحاول الأعداء أن يحولوا دون اجتياز هذه المراحل، ولهذا رأيتم أنهم لجأوا إلى التشويش في الاستفتاء على شكل الجمهورية، ويحاولون ذلك الآن ليمنعوا تحقيق الأهداف الإسلامية)([54])
بالإضافة إلى هذا؛ فقد ضرب الخميني من نفسه أحسن مثال عن الخضوع والامتثال التام للقوانين التي تسن في البلاد، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب له لابنه أحمد: (جاءني مبعوث من قبل السيد كلبايكاني، وقال: إن سماحته أكد على الحذر من معارضة مسألة الملكية التي تم طرحها في مجلس الخبراء، للإسلام وتعاليمه، كي لا تثير الاعتراض، وطلب الاتصال بالسيد بهشتي، فتول أنت الاتصال وأكد لهم ضرورة الحذر من حصول أية مخالفة للشرع حتى لا تلقى معارضة)([55])
ومن الأمثلة على ذلك أيضا، قوله في رسالة له متحدثا عن ابنه أحمد وممتلكاته: (إني أعلن أنه ليس لأحمد في أي بنك داخلي أو خارجي أو أي مؤسسة أي سهم أو مبلغ، وأنه لا يملك في أي مكان ما في الخارج أو الداخل أي أرض زراعية كانت أو غير ذلك، ولا يملك أي مبنى أو ما شابه ذلك. وإذا تبين من بعدي أنه يملك أيا من ذلك في الداخل أو الخارج، فأنه على الحكومة آنذاك أن تصادرها منه بإجازة فقيه ذلك الزمان، وأن تحاكمه. والمؤمل هو أن يراعي مسؤولو الجمهورية الإسلامية دوما الضوابط، وأن يحترزوا من العلاقات)([56])
وعلى دربه سار خليفته الولي الفقيه المعاصر السيد علي الخامنئي الذي نراه لا يدع مناسبة إلا ويتحدث فيها عن كون القوانين هي الحاكمة في البلاد لا أهواء المسؤولين، ومن ذلك قوله في مراسم تنفيذ حكم رئاسة جمهوريّة الرئيس خاتمي (2/ 8/2001): (في النظام الإسلاميّ – أي سيادة الشعب الدينيّة – الشعب ينتخب، يتّخذ القرارات، ويتولّى إدارة أمور البلاد من خلال منتخبيه، لكنّ هذه الإرادة وهذا الانتخاب والاختيار هي في ظلّ الهداية الإلهيّة، ولا تسير أبدًا خارج طريق الصلاح والفلاح، ولا تتنكّب أبدًا عن الصراط المستقيم، المسألة الأساسيّة، في سيادة الشعب الدينيّة، هي، أنّها هديّة الثورة الإسلاميّة للشعب الإيراني، هذه التجربة الجديدة والحديثة العهد، لكن يمكن التأمّل فيها ومتابعتها ومحاكاتها، لكلّ الذين تتوق قلوبهم للفضائل وللمجتمع الإنسانيّ الطاهر والنزيه، ويعانون من الرذائل الأخلاقية وانتشار قبائح الأخلاق البشريّة)([57])
ويقول في خطابه لأعضاء مجلس خبراء القيادة (14/ 3/2002): (إنّه لخطأ كبير أن نخلط ونمزج اليوم بين سيادة الشعب الدينيّة، بهذه الفلسفة العميقة ورعاية حقّ الشعب، وبين ما هو موجود في الغرب. هذه هي السيادة الشعبيّة الحقيقيّة، والشارع المقدّس، طبق الموازين الفقهيّة التي بين أيدينا.. ذلك لأنّ الأصل هو عدم سلطة أحد على أحد، عندما يريد إنسان أن يتدخّل في شؤون الناس الآخرين، ينبغي لهذه المؤهّلات أن تكون موجودة حتماً. تشخيص هذه المؤهّلات – أيضًا وطبق نهجٍ عقلائيّ ومحطّ ثقة يقع على عاتق الأشخاص الذين لهم القدرة على ذلك، والشعب في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة يعلن عن هذا الطريق اختياره وبيعته. إنّ مشاركة الشعب واختياره بواسطة الأشخاص، الذين يعرفون هذه المؤهّلات ولديهم القدرة على تشخيصها في الشخص، والذين هم مسؤولون عن الإشراف عليها، ومراقبة وجودها وبقائها، والذين يعرفون ما يجري- هي من أرقى الوظائف الموجودة)([58])
وهكذا نجد جميع القادة والمفكرين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتبرون القانون المستمد من الشريعة الإسلامية هو الحكم الأعلى في البلاد، ولا يجوز لأحد تجاوزه، ابتداء من الولي الفقيه نفسه، بل يذكرون أن دور الولي الفقيه هو مراقبة تطبيق القانون في الواقع، ولذلك تكون مسؤوليته في تطبيقه مضاعفة، بل هو أولى الناس بتطبيقه.
ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ جوادي آملي في كتابه [ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة] في معرض جوابه عن سؤال حول معنى [الجمهورية الإسلامية]:(لقد حدد الإسلام علاقته بالجمهور أو الجمهورية أولاً، وحدد ارتباط الجمهور بالدولة ومصادر الثروة وكيفية التوزيع وطريقة تنظيم العلاقات داخليا ودوليا… ثانياً، وتتمثل علاقة الإسلام بالجمهور بأنه وليهم لا وكيلهم، فالمستشار والمعاون والمضارب والمساقي والمزارع والضمين والمحامي سواء كان حقوقيا أو ماليا، وجميع الأشخاص الذين يحيون في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، مسؤولين كانوا أم غير مسؤولين، القائد منهم وأعضاء مجلس الخبراء ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى وغيرهم إنما يخضعون لولاية الإسلام لا غير، وبالطبع فإنّ الشخصية الاعتبارية للقائد الإسلامي ـ الفقاهة والعدالة ـ ليس سوى الإسلام، فالقائد شأنه كشأن سائر أبناء الأمة تابع محض للشخصية الاعتبارية أي القوانين الإسلامية، ويتضح من خلال بيان كيفية ارتباط الجمهور بالإسلام أن ارتباط الجماهير بالأحكام الإلهية ارتباط ولائي، وليس توكيلا وما شابه ذلك، والموارد التي حددها الإسلام كحقوق أو واجبات أو صلاحيات أو تكاليف للجمهور إنما يصادق عليها وتنفذ في ضوء دراسة من قبل خبراء الأمة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ والرؤية الفقهية للفقهاء تحت إشراف الفقيه الجامع لشرائط القيادة، وكذلك في ضوء وجهة النظر الحقوقية للحقوقيين المتخصصين والملتزمين وبالأشراف الآنف الذكر))([59])
ويقول في كتابه [الكلمة الطيبة: دروس في ولاية الفقيه] في بيان أنواع الحكومات وعلاقتها بالاستبداد: (يمكن تقسيم الحكومات إلى ثلاثة أنواع: أولها، الحكومة الاستبدادية المبنية على أساس السيطرة والقوة، حكومة الأقوى الذي يمسك زمام الأمور بكل قدرة ممكنة، كما كان مثل فرعون.. الثانية حكومة الناس على الناس (حكومة الشعب): وتقوم هذه الحكومة على أساس رأي الأكثرية، وهدفها تأمين حاجات الناس، مثل الحكومات التي يصطلح عليها بالديمقراطية التي تنتشر في عالم اليوم، ويكون المعيار للمصلحة والفساد والجمال والقبح والحق والباطل والخير والشر مبنياً على رأي الأكثرية.. وثالثها الحكومة الإلهية، وهذا النوع من الحكومات ليس حقاً للحاكم الذي يظفر بالقوة والسلطة، ولا حقاً للناس بحيث تكون خاضعة لقوانينهم، بل هي حق لله الذي هو رب العالمين، أما حدود فعالية هذا النوع من الحكومات فإنها تشمل، بالإضافة إلى الأمور الاجتماعية، الأخلاق والعقائد. فهي تقدم لهم البرنامج الواضح على مستوى العقيدة وتقرر لهم القوانين والقواعد على مستوى الأخلاق والسلوك. لهذا، فإن حق السلطة في الحكومة الإسلامية ينحصر بالله، وجميع المؤمنين في هذا الدين متساوون، وعليهم جميعاً رعاية القانون والأمر الإلهي. وبتفويض أمورهم ومصيرهم إلى الله في جميع الأحوال، فإنهم يقبلون بسلطة الحاكم والولي المعين من قبل الله. ومن هنا، ففي مثل هذه الحكومة لا يوجد فرق بين الحاكم الذي يكون نبياً أو إماماً أو مجتهداً عادلاً وبين أفراد المجتمع ـ سواء من ناحية شمولية الفتوى أو القانون أو من حيث القيادة والولاية ـ وهذا ما يختلف عن سائر الحكومات الأخرى. فإن الحاكم وجميع أبناء الشعب ملزمون برعاية الأحكام الإلهية والحكومية)([60])
ويضرب مثالا على ذلك بقول الإمام علي: (أيها الناس، إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها)([61])
ونحب أن نرد هنا باختصار على شبهة يوردها الكثير من المغرضين، وهي كون الدستور الإيراني ينص على أن المذهب الرسمي في إيران هو المذهب الجعفري الاثنا عشري، ويبنون على ذلك بأنهم لا يستمدون قوانينهم من الفقه الإسلامي المتداول لدى المذاهب السنية، وإنما يطبقون دينا آخر غير الإسلام، ويبنون عليه كذلك كون إيران دولة طائفية وأن دعواتها للوحدة الإسلامية لا تنسجم مع اعتبارها للمذهب الجعفري مذهبا رسميا.
والذين يطرحون هذه الشبهة، لا يعرفون المذهب الجعفري، ولا الأصول التي يعتمد عليها، ولا الفروع التي نشأت عنها، ولو أنهم طالعوها من كتب الفقه القديمة والحديثة لعرفوا أن هذا المذهب، وخاصة في شؤون الحياة المختلفة، لا يختلف كثيرا عن سائر المذاهب، بل هو يتفق معها في أكثر الفروع، بالإضافة إلى أنه يمنح مساحة كبيرة للاجتهاد المبني على القواعد الشرعية، والذي لا يخالف النصوص القطعية من الكتاب والسنة.
بالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى كل دولة من دول العالم الإسلامي تعتمد مذهبا رسميا، مع كونها قد يكون فيها مذاهب أخرى، ومن الأمثلة على ذلك، أن السعودية ـ عبر هيئاتها الدينية الرسمية ـ تتبنى المذهب الحنبلي بل السلفي المغالي، مع وجود شيعة كثيرين فيها.
وهكذا نرى الجزائر وليبيا تعتبران المذهب المالكي مذهبا رسميا على أساسه تحدد الكثير من الوظائف والفتاوى، مع وجود الإباضية فيها، ولكنها مع احترامها لها، تعتبرها أقلية، ذلك أن المذهب الرسمي يعتمد على الأغلبية، لا على الأقلية.
ولهذا؛ فإن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحتى يحدد الإطار المرجعي لحاكمية الشريعة، ذكر المذهب الجعفري باعتباره مذهب الغالبية العظمى من سكان إيران، وهو مذهب لا يختلف عن سائر المذاهب الإسلامية، لأنه يعتمد القرآن الكريم والسنة المطهرة، بل يرى ضعف كل اجتهاد أو رواية تخالف القرآن الكريم والسنة القطعية.
وهذا لا يعني تحقيره لسائر المذاهب الإسلامية، بل هو يحترمها، بل يطبق أحكامها الخاصة بها في المدن التي تكون فيها، وهي أحكام لا تعدو بعض الفروع البسيطة المرتبطة بالأحوال الشخصية.
ولهذا لا نرى في قادة الثورة الإسلامية، أو المنظرين لولاية الفقيه أي نبرة طائفية، بل هم يتحدثون عن الإسلام، ويعتبرون المسلمين جميعا إخوة، ولا يفرقون بينهم على أساس مذاهبهم.
ومن الأمثلة على ذلك قول الخميني في بعض خطاباته الموجهة لأهل السنة: (إنني دائماً في خطاباتي وكتاباتي كنت أؤكد على أمرين، الأول أنه في الإسلام ليس هناك وجود للعرق والتعصب واللغة، فالإسلام للجميع ولمصلحة الجميع، ونحن إخوة بحكم القرآن والإسلام، فالأكراد والأتراك والبلوش إخوة، ويجب أن نعيش مع بعضنا بوئام، فقد قطعنا يد الأعداء عن بلادنا.. وما أريد التأكيد عليه هو أن لا يظن الإخوة السنة أن في الإسلام فرق بيننا وبينهم، فكما أنه هناك أربعة مذاهب سنية وهم أخوة مع بعضهم البعض، فإن هناك مذهب خامس، وليس هناك أية عداوة بيننا، فالجميع إخوة ومسلمون، الجميع أتباع القرآن والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أما ما يثار هنا وهناك فإنه من نسج العناصر الفاسدة المتبقية من النظام البائد وعملاء الأجانب الذين يثيرون أمثال هذه الفتن لمصلحة أسيادهم، وعليكم أيها الأخوة أن تنتبهوا إلى هذا الموضوع. ولا يخفى إنهم بذلك يسعون للحؤول دون أداء الإسلام لدوره، فهم لا يهدفون الى بث الفرقة بين الأكراد والفرس، وإنما يعارضون الإسلام، ومن واجب المسملين جميعاً أن يقفوا في وجههم ويحبطوا مخططاتهم)([62])
ويقول مخاطبا لهم: (الإسلام هو وحده الذي يحرص على مصالح الشعب، ومن يؤمن بالإسلام هم وحدهم الذين يعملون لأجلكم، فالقرآن مربي الجميع وللجميع ويجب علينا أن نكون معا تحت ظلال القرآن، وتأكدوا أن دعايات هؤلاء المخربين مغرضة وقد رأيتم كيف بدأوا بإحداث الفوضى والخراب وجيشنا جاء لكي يتصدى لهم.. فكل هذه المناطق إسلامية وإيرانية وجميعنا ايرانيون ومسلمون وتابعون للقرآن)([63])
رابعا ـ توفر المؤسسات التشريعية والتنفيذيه:
من أهم المميزات التي لا يمكن لأحد من المغرضين أو غيرهم تجاهلها أو غض الطرف عنها في النظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما يسمى بالمؤسسات، فهي دولة ذات مؤسسات كثيرة، والقرار فيها يخضع للمعالجة في محال مختلفة، منها ما يرتبط بموقف الشعب، ومنها ما يرتبط بموقف الشريعة، ومنها ما يرتبط بالواقع المحلي والعالمي.
وهكذا لا تصدر القرارات إلا بعد تمحيصها ودراستها دراسة متأنية من جميع النواحي العلمية والشرعية والواقعية، وهو ما تطلبه الشريعة الإسلامية التي تأمر بالاستعانة بالخبراء في جميع المجالات، كما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [الفرقان: 59]، وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
ولهذا، فإن الولي الفقيه، الذي يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في توليه لهذه الوظيفة، يستن به أيضا في جميع مستلزماتها وصفاتها والأخلاق التي ترتبط بها.
وهذا المعنى لا نجده في أي نظام آخر، سواء كان من الأنظمة الاستبدادية كالأنظمة الملكية أو العسكرية أو حتى الأنظمة التي تسمي نفسها أنظمة ديمقراطية، ذلك أن تلك الأنظمة حتى لو راعت مطالب الشعب في قراراتها إلا أنها قد لا تراعي المطالب الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، على عكس الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ترى تلك المبادئ حاكمة على الشعب جميعا حكاما ومحكومين.
ولهذا نراها لا تتيح لأي كان لأن يرشح نفسه في الانتخابات المختلفة، إلا بعد أن يمر على المؤسسات التي تدرس شخصيته، وتبحث في مدى كفاءته وقدراته حتى لا يتسلل لتلك المناصب الرفيعة من لا يكون كفؤا لها، على عكس الأنظمة الديمقراطية التي تتيح للمهرجين والممثلين لأن يرشحوا أنفسهم، وينالوا المناصب الرفيعة، لا بسبب قدراتهم وكفاءاتهم، وإنما بسبب تلك الشهرة التي نالوها.
ولهذا أيضا نرى في الجمهورية الإسلامية بسطاء الناس، وأبناء الأحياء الفقيرة يصعدون إلى أعلى المناصب، وعبر انتخابات شعبية، لأنه لا توجد شركات أو مؤسسات مالية تتحكم في الانتخابات، مثلما هو حاصل في الغرب، وإنما تشرف عليها مؤسسات علمية ودينية وشعبية، ليس لها من هم سوى مراقبة مدى كفاءة ونزاهة المترشحين.
وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ جوادي آملي عند رده على تهمة الاستبداد في ظل ولاية الفقيه، مبينا جذورها التاريخية؛ فقال: (إن ما يطرح تحت عنوان الاستبداد الديني، له جذور من الناحية التاريخية في الفكر الليبرالي، حيث يتهم الفقهاء بالاستبداد الديني في إجراء الأحكام الإلهية والضغط دون أي تسامح في ذلك، ومنشأ هذا الاتهام يعود إلى الاستبداد الديني الذى مارسته الكنيسة الأوربية في القرون الوسطى.. فعندما يقوم المتغربون بمطالعة تاريخ تلك الحقبة يقومون بمقارنة غير عادلة بين ما حدث في الغرب وما يطرح تحت عنوان ولاية الفقيه، يريدون بذلك أن يشيروا إلى أن ولاية الفقيه تشبه الاستبداد الديني الذي حدث في الغرب على يد الكنيسة) ([64])
وانطلاقا من هذا يذكر أن هناك فرقا كبيرا بين كلا النظامين: نظام ولاية الفقيه الذي تمارسه إيران في الوقت الحالي، والمبني على المؤسسات المختلفة، ونظام الكنيسة الذي كان يمارس في العصور الوسطى، والذي لم تكن تمثله أي مؤسسات سوى مؤسسة الكنيسة؛ فيقول: (لكن الحقيقة هي أن ولاية الفقيه تعنى ولاية العارف بالإسلام والعادل والتقي، ومثل هذا الحاكم يجب عليه أن يستشير أهل الخبرة، ولا يتناسب الاستبداد مع العدالة، أما لو اتجه الفقيه الحاكم نحو الاستبداد فإنه سيعزل تلقائياً، وحيث إن خبراء الأمة يشرفون على أدائه، فإنهم يعلنون عزله عندما يجدون أنه يستبد ولم يعد يمتلك صفة العدالة. فحكومة الولي الفقيه ليس فيها جهة الاستبداد والتسلط، بل هي حكومة القرآن والسنة) ([65])
وهنا يورد الكثير من المغرضين شبهاتهم حول علاقة بعض المؤسسات بالولي الفقيه، وينكرون عليها كون الولي الفقيه هو الذي يحدد بعض أعضائها، ومن الأمثلة على ذلك [مجلس صيانة الدستور]، وهو من الهيئات التنظيمية الرئيسية في إيران، والتي تلقى انتقادات كبيرة من المغرضين لأن وظيفتها الإشراف على عمل مجلس الشورى الإسلامي، حيث أن جميع قوانين البارلمان يجب أن تحصل أولا على موافقة هذا المجلس قبل اعتمادها.
فهم ينكرون أصل هذا المجلس، وينكرون كذلك كونه يتكون من اثني عشر عضواً، ستة أعضاء منهم من الفقهاء والخبراء في القانون الإسلامي، ويتم تعيينهم مباشرة من قبل الولي الفقيه، والستة الباقون من المحامين ذوي الخبرة، ويتم ترشيحهم من قبل رئيس السلطة القضائية، ويتم التصويت عليهم من قبل أعضاء مجلس الشورى الإسلامي.
وللرد على هؤلاء المغرضين نذكر أنه يمكننا أن نعتبر أولئك الأعضاء الستة الذين رشحهم الولي الفقيه في هذه المؤسسة، أو غيرهم من الأعضاء في المؤسسات الأخرى، مرشحين من طرف الشعب نفسه، ذلك أن للشعب نوعين من الانتخابات:
أولها: انتخاب على الدستور ونوع القوانين التي تحكم البلاد، وقد حصل في إيران على نسبة عالية من الموافقة الشعبية، مع كونه يعرّف بكل هذه المؤسسات، ويبين طريقة عملها، وبذلك يكون الشعب الإيراني قد أتاح للولي الفقيه كل السلطات التي تسمح له بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو مراقبة تطبيقها في الواقع.
ثانيها: انتخاب مباشر على الأعضاء، والذي أتيحت له الكثير من المؤسسات في النظام الإيراني، فرئيس الجمهورية والبرلمان والمجالس البلدية وغيرها كلها مؤسسات ينتخب عليها الشعب مباشرة، بل حتى المؤسسة التي يخرج منها الولي الفقيه، مؤسسة منتخبة من طرف الشعب.
وبذلك يكون للشعب دوره ورأيه في كل ما يحصل في المؤسسات المختلفة إما عن طريق الانتخاب المباشر لأعضاء تلك المؤسسات، أو عبر الانتخاب غير المباشر، والمرتبط بالمبادئ والقيم والقوانين التي تحكم البلاد.
وهذا يوجد نظير له في الكثير من الدول الديمقراطية، والتي لا تعطي الحرية الكافية للأعضاء المنتخبين في تقرير ما يشاءون، بل تضع دونهم الحوائل التي تحمي قراراتهم من أن تسيء للسياسة الاستراتيجية التي تعتمدها البلاد.
وبذلك يمكن اعتبار مجلس صيانة الدستور في النظام الإيراني مشابها لحد كبير لبعض المؤسسات الضامنة للدستور في الكثير من الدول الديمقراطية، حيث نجد فيها ما يسمى بالمحكمة الدستورية، أو المجلس الدستوري، والذي لا يختلف في وظيفته كثيرا عن مجلس صيانة الدستور الإيراني.
وقد أشار الشيخ جوادي آملي إلى هذا المعنى في ردوده على ربط ولاية الفقيه بالاستبداد؛ فقال: (في الأنظمة الدينية، تكون حرية الناس في تعيين مصيرهم بيدهم واختيارهم ضمن إطار الدين، أي أن الناس يرسمون مصيرهم على أساس الدين أو المذهب الذي اختاروه. وكمثال على ذلك ما جاء في الأصل الثاني من دستور جمهورية الصين الشعبية أن [الحزب الشيوعي الصيني هو نواة القيادة لكل الشعب الصيني]، أي أن النظام الحاكم يجب أن يعمل وفق الموازين الاشتراكية، وهذا التحديد قد حصل من جانب الناس بانتخابهم المسبق للنظام الاشتراكي، وفي النظام الجمهوري الإسلامي أيضاً، قبل الشعب من خلال اختياره المسبق للجمهورية الإسلامية، تحت عنوان مظهر الحاكمية الإلهية ومصداق الحكومة الإسلامية)([66])
وردا على سؤال يقول: (يحصل الفقيه الجامع للشرائط على الولاية من دون أن يكون لرأي الناس دخل فى تعيينه، إذاً، فلا اعتناء برأي الشعب في انتخاب الولي الفقيه)، أجاب الشيخ جوادي آملي بقوله: (يتم إعمال رأي الشعب من طريقين: الأول بصورة مباشرة حيث ينتخب الشعب شخصاً بصورة مباشرة مثل رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى، والطريق الآخر بصورة غير مباشرة، حيث يوكل الشعب أشخاصاً يقومون باختيار شخص لهذه المسؤولية، ولاشك أن الوكلاء هنا يعبرون عن رأي الشعب الذي انتخبهم، مثل اختيار الوزراء باقتراح من رئيس الجمهورية الذي انتخبه الشعب، حيث يقوم مجلس النواب بالموافقة عليهم، كونه يمثل رأي الشعب)([67])
وبين دور الشعب في اختيار الولي الفقيه نفسه؛ فقال: (أما في مورد قيادة المجتمع الإسلامي وطبقاً للتدبير الذي طرح في الدستور يوجد طريقان: الأول: من خلال الإقبال الحاسم لأكثرية الشعب على فقيه عادل وجامع للشرائط، حيث يصبح الأخير قائداً للمجتمع الإسلامي، كما حدث مع قائد الثورة العظيم ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران؛ فقد شاركت الأمة في تعيين القائد بشكل مباشر، والثاني: عبر الخبراء الذين ينتخبهم الشعب، حيث يختار هؤلاء من بين الحائزين على الشرائط قائدا، ففي هذه الصورة أيضاً، قام الشعب بالانتخاب، ولكن بطريقة غير مباشرة، وفي كلا الحالين يمكن الجمع بين ولاية الفقيه وحاكمية الشعب))([68])
ومن الميزات المهمة التي نجدها في المؤسسات الإيرانية ذلك الفصل بين السلطات؛ فكل مؤسسة تمارس دورها بكل حرية، وفي نفس الوقت تشعر أن هناك رقابة عليها حتى لا تخرج عن الدستور وقوانين البلاد، وبذلك تشعر بأنها مع حريتها المتاحة لها مسؤولة عن المبادئ والقيم التي تحكم الدولة.
وقد أشار الخميني إلى هذا المعنى في خطاب مفصلي قال فيه: (عندما يؤدي كل فريق عمله ولا يتدخل في عمل غيره، ينتظم أمر الدولة فتصبح دولة يمكن أن تتقدم، أما إذا أصبح كل فريق يتدخل في عمل الآخر، فلا يستطيع أحد أن يؤدي مهمته.. هذا تكليف شرعي للجميع، للحرس، للشرطة، للجيش، للدرك، للمجلس، لرئيس الجمهورية.. الجميع مكلفون شرعاً، يجب أن يلتزم كل بوظيفته التي حددها القانون..لقد حدد القانون لكلٍ وظيفته، فإذا تجاوز أحد القانون وأراد التدخل في مجال عمل غيره فقد خالف الشرع.. ليلتزم رئيس الجمهورية بما حدده له القانون ولينفذه بطريقة جيدة.. كذلك المجلس، لا يتدخل المجلس في مجال عمل السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية.. إذا أراد أن يتدخل في مجال عمل الآخر فلن تُبنى دولة)([69])
ومن الميزات المهمة التي نجدها في المؤسسات الإيرانية أيضا عدم تدخل المؤسسات العسكرية في الشؤون السياسية، ولهذا لا نجد أي انقلابات عسكرية في إيران على عكس الكثير من الدول حتى المتطورة منها.
وقد دعا الخميني في خطاب تاريخي له إلى عدم دخول الجيش في الصراعات السياسية، فقال: (على قادة الجيش وجميع القوات المسلحة حفظ هذه القوات من التدخُّل في السياسة، إن تدخل الجيش في السياسة مساوٍ لزوال حيثية الجيش.. الأمور السياسية في الجيش أشد فتكاً من الهيرويين.. كيف يقضي الهيرويين على الإنسان، كذلك هي الأمور السياسية تقضي على روحية الجيش ورؤيته)([70])
ويبين سبب ذلك، فيقول: (الجندي الذي يتدخل في الأمور السياسية يفقد جنديته، الجندي الذي ينصبّ تفكيره على أمور من قبيل من تقدم ومن تأخر، ماذا سيجري هنا.. وماذا هناك.. الفريق الفلاني كيف سيتصرف، والفريق الفلاني كيف؟ لا يعود أهلاً لاسم الجندية.. إنه شخص سياسي اغتصب قبعة الجندية)([71])
وهكذا يخاطب قيادات الحرس الثوري بقوله: (المهم أن لا توجد في الحرس حالة تلحق الضرر بروحية أفراد الحرس.. يجب أن تحولوا دون دخول الجهات السياسية إلى الحرس، فإن دخول الجهات السياسية إلى الحرس يعني زوال الجهات العسكرية.. أوصوا الحرس دائماً أن يعتبر كل منهم نفسه دائماً محارباً في خدمة الناس)([72])
ويقول في خطاب آخر مخاطبا لهم: (لا يجوز لأفراد الحرس الدخول في التحزبات، فيصبح هذا مؤيداً لهذا، وذاك مؤيداً لذاك.. ما علاقتكم أنتم بما يجري في المجلس، وقد بلغني أن الحديث كان يدور في الحرس حول الانتخابات.. الانتخابات تبحث في محلها.. ما علاقة الحرس حتى يوجد الاختلاف بينهم.. هذا ليس جائزاً للحرس، ليس جائزاً للجيش. إن هذا يمنع الحرس عن القيام بواجبه الذي هو في عهدته) ([73])
ويقول مخاطبا مسؤولي وزارة الأمن: (الأمر الآخر الذي
يحظى بالأهمية هو أن جميع الأشخاص في هذه الوزارة يجب أن لا يكون لهم انتماء إلى
أي حزب ومجموعة.. الارتباط بالمجاميع يستتبع الارتباط الفكري والعلمي، وهذا يتنافى
مع عملكم يجب أن تكونوا جميعاً حياديين، حياديين، أن تزاولوا عملكم بمعزل عن
العداوة والصداقة والمعرفة وعدم المعرفة.. يحب أن يكون أفراد الأمن مستقلين نزيهين
ومتقين)
([74])
([1]) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 47).
([2]) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 46)
([3]) نقلا عن الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 171)
([4]) نقلا عن الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 171)
([5]) المرجع السابق، ص172.
([6]) المرجع السابق، ص172.
([7]) قضايا الجمهورية الإسلامية، مرتضى مطهري، ص: 2، فما بعدها.
([8]) المرجع السابق، ص3.
([9]) المرجع السابق، ص5.
([10]) المرجع السابق، ص6.
([11]) الثيوقراطية: تعني حكم الكهنة أو الحكومة الدينية أو الحكم الديني، وهي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله، حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين الذين يعتبروا موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعاليم سماوية، وتكون الحكومة هي الكهنوت الديني ذاته أوعلى الأقل يسود رأي الكهنوت عليه..
([12]) نشرته الخليج أون لاين بتاريخ: 28-10-2017، ولم تذكر اسم صاحب المقال.
([13]) نص الدستور الإيراني في المادة (110) على الصلاحيات والوظائف التي يتولاها الولي الفقيه، وهي:
1- تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية ايرانالاسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام.
2- الاشراف على حسن اجراء السياسات العامة للبلاد.
3- اصدار الامر بالاستفتاء العام.
4- القيادة العامة للقوات المسلحة.
5- اعلان الحرب والسلم والنفير العام.
6- نصب وعزل وقبول استقالة كل من: [أ. فقهاء مجلس صيانةالدستور.. ب. أعلى مسؤول في السلطةالقضائية.. ج. رئيس مؤسسة الاذاعة والتلفزيون فيجمهورية ايران الاسلامية.. د. رئيس اركان القيادةالمشتركة.. هـ. القائد العام لقوات حرس الثورةالاسلامية.. و. القيادات العليا للقوات المسلحة وقوىالامن الداخلي]
7- حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث.
8- حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.
9- امضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب. أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسة الجمهورية من حيث توفر الشروط المعيَّنة في هذا الدستور فيهم فيجب ان تنال قبل الانتخابات موافقة مجلس صيانةالدستور وفي الدورة الاولى تنال موافقة القيادة.
10- عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العيا بتخلفه عن وظائفه القانونية، او بعد رأي مجلس الشورى الاسلامي بعدم كفاءته السياسية ، على أساس من المادة التاسعةوالثمانين.
11- العفو او التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في اطار الموازين الاسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية. ويستطيع القائد ان يوكل شخصاً آخر اداء بعض وظائفه وصلاحياته.
وهكذا نرى أن الولي الفقيه ليس مطلق الصلاحيات فعلى سبيل المثال نجد أنه لا يتمكن من تعيين رئيس الجمهورية بدون انتخاب شعبي ، كما لا يمكنه عزله بدون صدور حكم المحكمة العليا اورأي مجلس الشورى الاسلامي..
([14]) الحكومة الإسلامية و ولاية الفقيه، الشيخ مصباح يزدي (ص: 38).
([15]) الكلمة الطيبة (دروس في ولاية الفقيه) جوادي آملي (ص: 9)
([16]) الفقيه والسلطة والأمة مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 98)
([17]) نقلا عن : بحوث في ولاية الفقيه،سلسلة المعارف الإسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط3، 2007م، ص55-59.
([18]) المرجع السابق.
([19]) صحيفة نور ج3، ص 105.
([20]) صحيفة النور ج3 ص 224.
([21]) يصر الكثيرون على اعتبار مسألة ولاية الفقيه مسألة مرتبطة بالحوزات العلمية المتواجدة في إيران فقط، وأن سائر الحوزات ـ وخاصة الحوزة العلمية في النجف ـ تخالفها، وذلك غير صحيح؛ فالشيخ النراقي وهو كما ذكرنا سابقا من أشهر من قال بولاية الفقيه العامة هو من حوزة النجف، ومثله الشيخ النائيني، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد عبد الاعلى السبزواري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد اسحاق الفياض، والشيخ بشير النجفي، والسيد كاظم الحائري، فكل هؤلاء تلاميذ حوزة النجف الاشرف، وهم جميعاً يرون ولاية الفقيه العامة، والخميني نفسه أصدر كتابه (الحكومة الاسلامية) حينما كان في النجف، ففيها كان يدرّس ولاية الفقيه العامة.
([22]) هو كاظم الحسيني الحائري (1938 – الآن) هو مرجع شيعي عراقي مُعاصر مقيمٌ بمدينة قم الإيرانية، وهو أحد أبرز تلاميذ محمد باقر الصدر، وكانت تربطه علاقة وطيدة بالمرجع محمد محمد صادق الصدر، ويُتناقل أن الصدر قد أوصى مقلديه بأن يتّبعوا ثلاثة مراجع من بعده كان الحائري أحدهم، والاثنان الآخران هما: محمد اليعقوبي، ومُحمّد إسحاق الفياض، وثلاثتهم يؤمنون بولاية الفقيه.
([23]) أساس الحكومة الإسلامية، كاظم الحائري (ص: 71).
([24]) المرجع السابق، ص72.
([25]) المرجع السابق، ص72.
([26]) العناصر الرئيسية للفكر السياسي الإسلامي، جوادي آملي (ص: 10)
([27]) صحيفة نور، ج 5، ص 534.
([28]) المرجع السابق في مواضع متفرقة منها: ج 6، ص 234، ج 18، ص 41 ، وغيرها.
([29]) عرف الخامنئي العدالة بأنها (ملكة نفسية وخصلة روحية تمكّن الإنسان من صيانة نفسه من ارتكاب الذنوب واقتراف الآثام، بيد أنها لا تعني العصمة، فالخطأ يمكن أن يصدر من الناس العاديين، ولكنها تعني عدم التعمد في ارتكاب المعصية أو الإصرار على مقاربة الذنب) [الحكومة في الإسلام (ص: 10)]
([30]) الحكومة في الإسلام (ص: 9).
([31]) الحكومة في الإسلام (ص: 11).
([32]) الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 68).
([33]) المرجع السابق، (ص: 69)
([34]) المرجع السابق، (ص: 69)
([35]) المرجع السابق، (ص: 70)
([36]) المرجع السابق، (ص: 67)
([37]) الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص 42..
([38]) شهرية كتاب ماه، 30 فروردين 1378 هـ ش، ص11.
([39]) شهريّة كتاب ماه، 30 فروردين 1378هـ ش، ص 11.
([40]) 12 /11/1357 هـ ش..
([41]) الإمام الخمينيّ، صحيفة نور، ج2، ص434.
([42]) الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص51،.
([43]) صحيفة نور، ج21، ص129.
([44]) وصية الامام (ص: 31).
([45]) المرجع السابق، ص32.
([46]) الحكومة في الإسلام، السيد علي الخامنئي (ص: 11).
([47]) المرجع السابق، ص11.
([48]) صحيفة الإمام، ج 10، ص 310 و 311.
([49]) شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 244.
([50]) الحكومة الإسلامية، ص 44 ـ 45..
([51]) صحيفة الإمام، ج 11، ص 22.
([52]) المرجع السابق، ج10، ص48 .
([53]) المرجع السابق، ج8 ، ص78 .
([54]) المرجع السابق، ج8 ص102.
([55]) المرجع السابق، ج 9، ص: 255.
([56]) نص الرسالة كاملة في موقع: دار الولاية للثقافة والإعلام.
([57]) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 43)
([58]) المرجع السابق، (ص: 44)
([59]) ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة جوادي آملي (ص: 56).
([60]) الكلمة الطيبة (دروس في ولاية الفقيه) جوادي آملي (ص: 12).
([61]) نهج البلاغة، 2/90.
([62]) صحيفة الإمام، ج 9، ص: 286.
([63]) المرجع السابق.
([64]) المرجع السابق، (ص: 14).
([65]) المرجع السابق، (ص: 14).
([66]) المرجع السابق، (ص: 14).
([67]) المرجع السابق.
([68]) المرجع السابق.
([69]) صحيفة الإمام، ج12 ص261 ..
([70]) المرجع السابق، ج15 ص1 ـ 9 ..
([71]) المرجع السابق.
([72]) المرجع السابق، ج18 ص62 .
([73]) المرجع السابق، ج19 ص26..
([74]) المرجع السابق، ج19 ص177..