ولاية الفقيه.. والقيم التربوية

ولاية الفقيه.. والقيم التربوية
من أهم ما يميز نظام ولاية الفقيه عن جميع أنظمة العالم، القديم منها والجديد، اهتمامه بالقيم التربوية بجميع أصنافها، وفي جميع مجالاتها، ذلك أن هدف هذا النظام ليس توفير حاجيات الشعب الحسية فقط، وإنما يهدف فوق ذلك إلى بناء الإنسان، وتحقيق ما يطلق عليه [التقوى الاجتماعية]
وهذا الدور الكبير للولي الفقيه، وللمؤسسات التابعة له، مرتبط بما ذكرناه في الفصل الأول من أن هذا الولي ورث ولايته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلفائه من الأئمة، والذين نص الله تعالى على وظائفهم؛ فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]
والجهل بهذه القيمة من لدن المغرضين هو الذي جعلهم يتهمون النظام الإيراني بكونه أسوأ الأنظمة في مجال حقوق الإنسان، لأنهم يتصورون أن تدخله في تحريم المسكرات، ومنعه لدور اللهو، ومنعه لكل وسائل الإعلام التي تبث الانحراف، ومنعه لكل ما ينحرف بالأخلاق، تدخل في الشؤون الشخصية، ولم يعلموا أن النظام الحقيقي هو الذي يكون فيه الحاكم والدا لرعيته ومربيا لهم، يوجههم، ويحميهم من كل ما يمكن أن يتسبب في فسادهم وانحرافهم.
ولهذا وضع النظام الإيراني المؤسسات التي تحمي الشعب من أن يمثله المتهتكون أو الفاسدون في أخلاقهم؛ ففي الوقت الذي نجد فيه كل ديمقراطيات العالم تأذن لمن هب ودب في الترشح لأي نوع من الانتخابات نجد على عكسها النظام الإيراني يضع الشروط الأخلاقية والدينية في الذين يمكن قبولهم، حتى لا يتسرب الفاسدون والمفسدون إلى الجهات الحساسة؛ فيفسدوا الشعب، ويعبثوا به، كما قال الخميني في وصيته السياسية: (من الأمور الضرورية أيضاً، تديّن نواب مجلس الشورى الاسلامي، فقد رأينا جميعاً أيٌة إضرار محزنة لحقت بالإسلام وبإيران نتيجة عدم صلاحية مجلس الشورى وانحرافه منذ الفترة التي تلت النهضة الدستورية وحتى عهد النظام البهلوي المجرم، والتي كان سواها وأخطرها عهد ذلك النظام الفاسد المفروض. يالها من مصائب وخسائر مدمرة حلت بالبلاد والشعب على أيدي هؤلاء العبيد التافهين المجرمين، لقد أدى وجود أكثرية مصطنعة مقابل أقلية مظلومة خلال الخمسين عاماً الأخيرة ـ من العهد البائد ـ إلى تمكن إنجلترا والاتحاد السوفيتي وأمريكا بعد ذلك من تمرير كل ما أرادوه على أيدي هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله مما جر البلاد الى حافة الدمار والانهيار. فمنذ ما تلا الحركة الدستورية لم يطبق شيء تقريباً من مواد الدستور الأساسية، وقد تم ذلك قبل عهد رضا خان عبر المأمورين للغرب وحفنة من الباشوات والإقطاعيين، وعبر النظام السفاك وحواشي البلاط وأزلامه في عهد النظام البهلوي)([1])
وبناء على هذه التجربة القاسية التي ذكرها الخميني، والتي مرت بها إيران دعا إلى التشدد في اختيار النواب، والاهتمام بالتزامهم الديني والأخلاقي حتى لا يخترقهم العدو، ويمرر مشاريعه التدميرية من خلالهم، يقول في ذلك: (أما الآن، وحيث أصبح مصير البلاد ـ وبلطف الله وعنايته وهمة الشعب العظيم ـ بأيد المواطنين أنفسهم، حيث أصبح النواب منبثقين من سواد الجماهير يتم انتخابهم لمجلس الشورى الإسلامي دون تدخل الحكومة أو الباشوات، فإن المؤمل أن يحول التزامهم بالإسلام وحرصهم على مصالح البلاد دون وقوع أي انحراف، لذا فإني أوصي أبناء الشعب أن يصوتوا في كل دورة انتخابية ـ حاضراً ومستقبلاً ـ لصالح المرشحين الملتزمين بالإسلام والجمهورية الإسلامية انطلاقاً من إرادتهم الصلبة والتزامهم بأحكام الإسلام وحرصهم على مصالح البلاد)([2])
ولهذا نرى للأخلاق والتقوى والروحانية قيمة كبيرة في المجتمع الإيراني، ذلك أن كل من يريد أن يتولى أي منصب يحتاج إلى أن يكون له من تلك القيم ما يمكّنه من ذلك، وإلا يحال بينه وبينه.
وقد أشار الخميني إلى هذا المعنى عندما ذكره الفرق بين نظام ولاية الفقيه، وسائر الأنظمة، وذلك بعد ست سنوات من انتصار الثورة الإسلامية، وبعد تلك الضجة الكبيرة التي واجه بها العالم هذا النظام، فقد قال في ذكرى انتصار الثورة (عشرة الفجر)، بحضور جميع غفير من المسؤولين الإيرانيين:(إن هذه الثورة تختلف عن سائر الثورات، لأن الثورات التي حدثت في العالم لحد الآن قد نقلت السلطة من يد جبار إلى يد جبار آخر إما مثله أو أسوأ منه، طالعوا وضع الثورات التي حصلت أو الانقلابات التي تقع في الدنيا كل يوم تجدوها وقعت في غفلة من الناس حيث زالت سلطة وحلّت محلها سلطة أخرى مثلها أو أسوأ منها ولم تختلف أوضاع الناس وقد تكون أسوأ من ذي قبل. فهذه الثورة الفرنسية، وهذه الثورةالروسية كيف كانت الأوضاع قبل وقوعها وكيف الحال الآن؟ وهل استفاد الناس منها؟ وهل فكّروا بتحسين أوضاع الشعوب أم مارسوا الاضطهاد والقمع؟)([3])
ثم بين الميزة التي ميزت الثورة الإسلامية عن غيرها من ثورات العالم؛ وهي ارتباطها بالدين والأخلاق؛ فقال: (إنَّ الثورة التي حصلت في إيران قد وقعت قبلها ثورة في باطن أبناء شعبنا، وهذه الثورة الباطنية هي اتجاه مختلف طبقات شعبنا وفئاته نحو الإسلام الذي لم يبق منه في هذا العصر سوى طقوس جافة لا تضرّ أيّ أحد ولم يفكّر أحد بحال الشعوب، وقد أوكل أمر هذا الدين إلى النسيان، ولكنَّ هذا الشعب وبإرادة الله تبارك وتعالى وعنايته الخاصة قد تغيّر أوّلًا من الناحية المعنوية، وقد رجع الشبّان من الحال السابقة إلى حال إسلامية، وفهموا ماذا يجب على الإسلام أن يفعل، وماذا عليهم أن يفعلوا، وعلى إثر هذا حصلت الثورة، فلو لم يحصل هذا التحوّل والتغيير لكانت حال ثورتنا كحال الثورات الأخرى التي ترون حالها ورأيتموه)([4])
وهو بذلك يفسر التغيير الخارجي الذي حصل لإيران بما فسره به القرآن الكريم، والذي اعتبر التغيير معلقا بتغيير ما في الأنفس، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]
وهكذا نرى الخميني يقول مفسرا سبب نجاح الثورة الإسلامي في إيران في الوقت الذي فشلت فيه باقي الثورات: (إن الذي حصل هنا، والذي يجب أن نعدّه إحدى المعجزات هو الثورة الباطنية لهذا الشعب. فالثورة الباطنية لهؤلاء، ومعرفتهم للإسلام، وتوجههم نحو الله تبارك وتعالى استوجب أن يكون الظرف الذي نعيشه منذ بداية النهضة وتحوّلها فيما بعد إلى ثورة ثم انتصارها حتى هذه اللحظة حيث ترون حضور الشعب والتزامه يزداد يوماً بعد يوم، وهذا ما لم يحصل بسبب هذه الثورة بل بسبب الثورة الباطنية، فالثورات كانت في كثير من الأماكن، لكنَّ الثورة الباطنية التي حصلت في هذا البلد لم تكن إلّا بعناية الله تبارك وتعالى) ([5])
وهو كعادته في الحديث عن إنجازات الثورة وانتصاراتها، ينسب كل شيء لله تعالى، ليعلم شعبه التواضع والعبودية والروحانية المتسامية؛ فيقول: (إننا لا نملك شيئاً من عندنا، وكل الذي كان هو عناياته التي استوجبت ظهور هذه الثورةالباطنية التي حوّلت الشعب كله من الحال السابقة التي نعرفها كلنا إلى الحال المتغيرة التي ترونها الآن مما أدى إلى انتصار الثورة)
وهو يعطي القاعدة العامة لهذا لكل الشعوب التي تريد أن تتحرر تحررا حقيقيا، فيقول: (يجب علينا أن نبحث عن النصر في الثورة الباطنية للناس، وما لم يتحقق هذا الأمر فإنَّ الثورات لا تتعدى نقل السلطة من نظام إلى نظام آخر ويبقى وضع الشعب على حاله السابق) ([6])
وللمشككين في نجاح الثورة، أو الذين يربطون نجاحها برخاء أو رفاه مزيف يذكر لهم أن النجاح الحقيقي هو في تلك القيم الأخلاقية التي أصبحت سائدة في المجتمع الإيراني، والتي لا يعوضها أي كسب مادي مهما كانت ضخامته، يقول: (على هؤلاء السادةالذين جاءوا من الخارج ـ وأشكرهم على ذلك ـ أن يلاحظوا أنهم في أيّ مكان من العالم يجدون هذا الاجتماع حيث يجلس فلّاحه إلى جنب رئيس جمهوريته، ورئيس وزرائه إلى جنب عامله ومسؤولون بعضهم جنب بعض بشكل يجعل الداخل إليه لا يدري من هو رئيس الجمهورية؟ ولا من رئيس الوزراء؟ ولا من الفلّاح؟ أين تجدون مثل هذا؟ إن هذا التحوّل هو الذي أوجب ظهور هذا الإعجاز، أين تجدون رئيس الجمهورية يجلس جنباً إلى جنب مع الفلّاح؟ فأنتم أينما تنظرون تجدون رؤساء الجمهوريات في وضع لا ارتباط لهم بالناس، ولا يحسبون الناس جزءاً من الكائنات، إنهم لا يرون إلّا أنفسهم)([7])
هذا بعض ما ذكره الخميني في بيان أهمية التغيير الداخلي في الحكومة الإسلامية، والتي لا تهتم فقط بإصلاح الاقتصاد وتنمية البلاد وتطويرها، وإنما تهتم مع ذلك وقبله وبعده بإيمان الشعب وتقواه وروحانيته وأخلاقه.
ولم يكن ذلك مجرد حديث، وإنما استعملت إيران كل المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية لتحقيقه في الواقع، بل تولى قادتها ومسؤولوها الكبار شرحه، ذلك أن الكثير منهم جمعوا بين الدراسة الدينية والعلمية، وهو ما أتاح لهم أن يرفعوا مستوى خطابهم، ليؤدي دوره التوجيهي والإصلاحي.
ولهذا يستغرب الكثير من الذين تعودوا على الأنظمة المدنية التي لا تبالي بمثل هذه المسائل من الخطاب السياسي الإيراني، وذلك لتصورهم أن السياسة بعيدة عن هذه الأمور، بينما الحقيقة هي أن السياسة ـ بحسب الفلسفة التي يفكر بها النظام الإيراني ـ هي سياسة الأنفس قبل سياسة الشعوب.
وقد أشار الشيخ جوادي آملي إلى الفرق بين نظام ولاية الفقيه وغيره من الأنظمة في هذا الجانب عندما قسم الحكومات إلى ثلاثة أنواع([8]):
1 ـ الحكومة الاستبدادية: وهي المبنية على أساس السيطرة والقوة، والتي ترى أن الأقوى هو الذي يمسك زمام الأمور بكل قدرة ممكنة، كما قال الله تعالى حاكيا عن فرعون: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64]، ولا مكان في هذه الحكومة لرأي الناس، ولا اهتمام لها بمصالحهم، ولا بأخلاقهم، ولا بدينهم، لأن الهدف عندها هو تأمين مصالح السلطة الحاكمة.
بل إن هذه الحكومة قد تستعمل ـ مثلما استعمل الشاه ـ كل وسائل الانحراف، لتشغل الشعب بالشهوات عن مواجهة السلطة، كما قال تعالى عن وسائل فرعون لتطويع شعبه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54]
2 ـ حكومة الشعب: أو حكومة الناس على الناس، مثل الحكومات التي يصطلح عليها بالديمقراطية، وتقوم على أساس رأي الأكثرية، وهدفها تأمين حاجات الناس المادية، ويكون المعيار للمصلحة والفساد والجمال والقبح والحق والباطل والخير والشر فيها مبنياً على رأي الأكثرية، حتى لو كان ذلك الرأي مخالفا للصواب، ومنافيا للعقل والفطرة، وهو السائد، كما قال تعالى: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
3 ـ الحكومة الإلهية: وهي الحكومة التي ليست حقاً للحاكم الذي يظفر بالقوة والسلطة، ولا حقاً للناس بحيث تكون خاضعة لقوانينهم، بل هي حق لله الذي هو رب العالمين، وحدود فعالية هذا النوع من الحكومات هي أنها تشمل، بالإضافة إلى الأمور الاجتماعية، الأخلاق والعقائد؛ فهي تقدم للشعب البرنامج الواضح على مستوى العقيدة وتقرر لهم القوانين والقواعد على مستوى الأخلاق والسلوك.
وهذا البرنامج ليس خاصا بالشعب، وإنما هو عام بالشعب ومسؤوليه، والذين يخضعون جميعا لما تتطلبه القيم الإيمانية والأخلاقية التي هي الحكم الأكبر في الدولة، كما قال الإمام علي: (أيها الناس، إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها)([9])
وهذا المعنى الذي ذكره الشيخ جوادي آملي، ذكره الخميني في لقاء له مع جمع من أعضاء الطائفة اليهودية في إيران عقب انتصار الثورة الإسلامية، والذي حاول من خلاله أن يشرح لهم الفلسفة التي يقوم عليها نظام ولاية الفقيه، فقد قال: (إن كل الأديان التي أنزلت من عند الله تبارك وتعالى وجميع الأنبياء العظام هي من أجل راحة الانسان وتربيته، إن الله تبارك وتعالى قد أراد بإنزاله الوحي على الأنبياء العظام هداية الناس وتربية الإنسان، الإنسان بجميع أبعاده)([10])
ثم ذكر أن هذا البعد الذي تراعيه الحكومة الإلهية، وتعتبره في قمة أولوياتها وأهدافها، لا تبالي بها الأنظمة الأخرى، لكونها أنظمة دنيوية محضة، يقول: (إن المذاهب والمسالك الأخرى لا شغل لها بماذا يكون عليه الإنسان في ذاته وجوهره ومع نفسه، إنهم يتطلعون إلى حفظ دنياهم، وحفظ النظام بينهم فحسب؛ فإذا كان النظم مستقراً فليفعل الإنسان ما يشاء، وليرتكب كل ما يشاء من المخالفات بعيداً عن الأنظار، إذ لا ربط لذلك بالحكومة، فليس من قانون هنا ـ في النظم غير التوحيدية ـ يمنع الإنسان من بعض الأمور داخل بيته.. وإنما المهم عندهم فقط هو أن لا يسير الانسان في الشارع معربداً ويخل بالنظم، إن جميع المسالك غير التوحيدية هي بهذا الشكل وهذا بخلاف المسالك التوحدية والأديان التي نزلت على الأنبياء العظام) ([11])
ثم أشار إلى المسؤوليات المناطة بالحكومة الإلهية مقارنة بالمسؤوليات الملقاة على الحكومات المدنية؛ فقال: (إن جميع هذه الأمور من أجل ان يكون هذا الإنسان الذي يُراد إيجاده إنساناً مهذباً، صالحا للعمل، متحلياً بمحاسن الاخلاق والاعتقادات الصحيحة، يقوم بأعمال حسنة ويعرف كيف ينبغي أن يكون سلوكه مع الناس، كيف ينبغي أن يكون سلوكه في المجتمع، كيف ينبغي أن يكون مع الجيران، كيف ينبغي ان يكون مع أبناء مدينته، كيف ينبغي أن يكون مع أبناء دينه، ومع أتباع الأديان الأخرى، إن الأديان التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى إنما تهتم بكل هذه الأمور لان الله هو الذي خلق الانسان ويريد تربيته في جميع أبعاده ولهذا لافرق بين دين وآخر في هذه المسألة، لأنها جميعها جاءت لتربية الانسان) ([12])
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل التعرض إلى المجامع الكبرى للقيم التربوية، وتصورات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية حولها، ومناهجهم لتحقيقها في الواقع، وهما قيمتان:
الأولى: القيم الروحية، ونقصد بها كل المعاني والوسائل التي تربط المؤمن بالله، وتخرج دينه من دائر الظاهر والسطح إلى دائرة الباطن والعمق.
الثانية: القيم الأخلاقية، ونقصد بها كل ما يساهم في تهذيب سلوك الإنسان، حتى يتوافق مع فطرته السليمة، ومع النظام الذي بنى الله عليه كونه.
أولا ـ القيم الروحية ووسائل تحقيقها في الواقع:
وهي الأساس الذي تنطلق منه كل القيم التربوية، ذلك أن من زكى نفسه وطهرها، وسما بها إلى الملأ الأعلى لن يصعب عليه أن يهذب نفسه في المجالات الأخرى، بل إن تزكية النفس في هذا الجانب قد تغني عن أي رياضة في الجوانب الأخرى، ذلك أن الله تعالى يزكي ويربي من يتقرب منه، كما قال تعالى عن الصلاة وغيرها من الشعائر التعبدية: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45]
وقد أشار إلى هذا المعنى الخميني عند بحثه عن أسباب الصراع والفتن القائمة بين البشر، وفي كل الأزمنة، فقال: (جميع الاختلافات القائمة بين البشر هي بسبب عدم التزكية، وغاية البعثة أن تُزكّي الناس حتّى يتعلّموا بواسطة التزكية الحكمة، ويتعلّموا القرآن والكتاب، ولا يحدث الطغيان فيما لو تمّت التزكيّة) ([13])
ويضرب مثالا على ذلك بالغرور، الذي هو من أخطر الأمراض؛ فيقول: (إنّ من يُصاب بالغرور لا يرى نفسه فانياً أبداً {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6، 7]؛ فعندما يرى الإنسان نفسه، ويرى لنفسه مقاماً ويرى لنفسه عظمة، فإنّ هذه الأنانيّة ورؤية النفس تكون سبباً للطغيان، وإنّ أساس كلّ هذا الاختلاف الموجود بين البشر، والاختلاف الحاصل بينهم حول الدنيا يعود إلى الطغيان الموجود في النفوس، وهذه مصيبة مبتلى بها الإنسان، مبتلى بنفسه وبأهوائه النفسانيّة)([14])
وقد ذكرنا في الجزء السابق من هذه السلسلة مدى اهتمام الإيرانيين منذ القديم بالقيم الروحية، وكيف استطاع النظام الإيراني أن يستفيد من ذلك في إقامة الثورة أولا، وفي تعميم ذلك الاهتمام على كل المؤسسات ثانيا.
وقد ذكرنا أن مظاهر ذلك الاهتمام تجلت في ثلاث نواح كبرى:
أولها: الاهتمام بالشعائر التعبدية، والتركيز على الجوانب الروحية العميقة فيها، بدل الجوانب الشكلية.
ثانيها: الاهتمام بالمجاهدات السلوكية التي وردت في النصوص المقدسة، وذكرها أئمة أهل البيت، واستفادها منهم الصوفية والعرفاء.
ثالثها: الاهتمام بالأذواق والمعارف الروحية، وفق ما ورد في النصوص المقدسة وفي الروايات الشارحة لها.
وذكرنا أن هذه التجليات الثلاث كافية للدلالة على أن مفهوم التدين في إيران ـ وخاصة في ظل نظامها الإسلامي الجديد ـ ليس محصورا في تلك الظواهر والشعارات، وإنما يمتد إلى أعمق أعماق النفس الإنسانية، وهو ما يميز التجربة الإيرانية عن تجارب الحركات الإسلامية التي احتقرت التصوف والسلوك الباطني، واحتقرت معها الطرق الصوفية، واعتبرتها خرافة وضلالة، ولهذا لم تستطع أن تنجح في أي مشروع من مشاريعها.
وبناء على ذلك سنحلل هنا وثيقة مهمة للإمام الخميني، لها أهميتها الكبرى عند الشعب الإيراني عامته وخاصته؛ لأنها ـ مع كونها وجهها لابنه أحمد وغيره ـ إلا أن الشعب الإيراني يعتقد أنها موجهة إليه جميعا.
وهذه الوثيقة هي ما يسمى بـ [الوصية الإلهية العرفانية]، وهي مع [الوصية السياسية] تشكل مصدرا مهما من مصادر النظام الإسلامي في إيران، الحسي منه والمعنوي.
ومن خلال الاطلاع على محتويات هذه الوثيقة، والقيم الروحية المرتبطة بها، نجد نوعين من الحديث:
أولا ـ الحديث عن المعارف والأذواق الروحية التي يجدها المؤمن عند تواصله مع الله، أو رسل الله وأوليائه، وقد أطلقنا عليها اصطلاح [القيم العرفانية والذوقية]
ثانيا ـ الحديث عن الطريق المؤدية لتلك القيم، وهي ما أطلقنا عليه [القيم السلوكية والتحققية]
وسنحاول هنا ذكر الخصائص المميزة لكلا الناحيتين من خلال وصية الخميني، ومن خلال الواقع الروحي الذي تبنته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي يختلف عن ذلك الذي تبنته الطرق الصوفية في المدرسة السنية، وإن كان يشترك معها في الكثير من الأهداف.
1 ـ الاهتمام بالقيم العرفانية والذوقية:
الهدف الأكبر من القيم الروحية هو تحويل الحقائق الإيمانية من مجرد معارف ومعلومات يختزنها الذهن إلى حقائق يمتلئ بها الكيان جميعا، ويحصل حينها التواصل الذوقي مع الله، بالمحبة والشوق والأنس، وغيرها من الأحوال الروحية.
وهذا الهدف النبيل يخرج العقيدة الإسلامية من أن تصبح مجرد قوانين للإيمان من خالفها يُحكم عليه بالكفر والبدعة والضلالة، كما تفعل المدارس الإسلامية المتشددة، وخصوصا السلفية منها، سواء سلفية السنة أو سلفية الشيعة، والتي تحصر العقيدة في متون تحفظها، وتجعل كل من يخالف حرفا منها كافرا وضالا ومبتدعا.
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية في إيران لا يشجعون على هذا النوع من المعرفة، بل يدعون إلى المعرفة التحققية الذوقية، لأنها حقيقة الإيمان أولا، ولأنها كذلك منبع لكل الفضائل، بخلاف ذلك الاختصار للحقائق العقدية، والذي مارسته المدارس المتشددة، والذي حول من العقيدة وسيلة للصراع والجدال، لا الطمأنية والسلام.
وعند البحث عن التوجه الروحي لقادة الثورة الإسلامية، نجدهم جميعا من ذوي هذه المشارب، وخصوصا الخميني الذي ألف في ذلك المؤلفات وكتب الأشعار، ولو لم يقم بهذه الثورة، لأدرج ضمن الصوفية، ولم يدرج ضمن السياسيين.
ومن أقوله في وصيته العرفانية، مخاطبا ابنه يبين له أهمية المعرفة التحققية الذوقية: (اعلم أن في الإنسان ـ إن لم أقل في كل موجود ـ حباً فطريا للكمال المطلق، وحباً للوصول إلى الكمال المطلق، وهذا الحب يستحيل أن ينفصل عنه، كما أن الكمال المطلق محال أن يتكرر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحق جل وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون؛ فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور، ولهذا فهم يتوهمون أنهم يطلبون شيئا آخر وهم لا يقنعون بتحقيق أية مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أي جمال أو قدرة أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالتهم المنشودة. فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى، هم في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة. وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك. ولو أعطي الساعون الى القدرة والسلطة، التصرف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرات، وكل ما فوقها، ثم قيل لهم: إن هناك قدرةً فوق هذه القدرة التي تملكونها، وهناك عالم أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنهم من المحال أن لا يتمنوا ذلك، بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضا!.. وهكذا طالب العلم، فهو إن ظن أن هناك مرتبة أخرى -غير ما بلغه- فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: ياليت لي القدرة للوصول إليه أو ياليت لي سعةً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضا!)([15])
وبعد أن قدم هذه المقدمة البديهية التي يتفق عليها جميع العقلاء، والتي يشير إليها الأثر المعروف: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)([16])، ربط ذلك بمعرفة الله، وأن من عرف الله وصل إلى النبع الذي يرتوي منه ظمؤه وأشواقه، فقال: (إن ما يُطمئن الجميع ويخمد نيران النفس المتمردة ويحدُّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلَّ وعلا؛ إذا كان مظهراً له، فإن الاستغراق فيه يبعث الطمأنينة والهدوء، وكأنّ قوله تعالى: { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] هو نوع من الإعلان أن: انتبه انتبه! عليك أن تلجأ إلى ذكره حتى تحصل على الطمأنينة لقلبك الحيران الذي يواصل القفز من مكان إلى مكان والطيران من غصن إلى غصن)([17])
ثم يخاطب ابنه ـ ومعه الشعب الإيراني ـ بكل رقة قائلا: (فاستمع ياولدي العزيز -الذي أسأل الله أن يجعل قلبك مطمئنا بذكره- لنصيحة أبٍ قلق محتار، ولا تتعب نفسك بالانتقال بطرق باب هذا الباب أو ذاك الباب، للوصول إلى المنصب أو الشهرة التي تشتهيها النفس، فأنت مهما بلغت من مقام. فإنك سوف تتألم وتشتد حسرتك وعذاب روحك لعدم بلوغك ما فوق ذلك، وإن سألتني: لِمَ لَمْ تعمل أنت بهذه النصيحة؟ أجبتك بالقول: أنظر إلى ما قال، لا إلى من قال؛ فما قلته لك صحيح، حتى وإن صدر عن مجنونٍ أو مفتون)([18])
وهو يقارن بين هذا النوع من المعرفة بتلك التي اهتم بها الفلاسفة والمتكلمون، ويبين مدى اتساع الهوى بين كلا المعرفتين؛ فيقول: (قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الادعاء (بأن بعض الأمور البرهانية يمكن أن لا تكون موضعا للتصديق والإيمان) عقدةٌ يصعبُ الاقتناع بها، بل لعل البعض قد يقطع بأنه أمر لا أساس له. ولكن ينبغي أن تعلم بأن هذا الأمر أمر وجداني، وقد وردت إشارات إليه في القرآن الكريم، كالآيات الكريم من سورة التكاثر، وأما الوجدان، فأنت تعلم بأن الموتى لا تصدر عنهم أية حركة، وأنهم لا يستطيعون إلحاق الأذي بك.. إلا أنك قد لا تمتلك القدرة على النوم وحيداً براحة في المقابر، وهذا ليس إلاّ لأن قلبك لم يصدق بما عندك من علم، وأن الإيمان بهذا الأمر لم يتحصل لديك، في حين أن أولئك الذين يقومون بتغسيل وتكفين الموتى تحصّل لهم الإيمان واليقين بهذا الأمر نتيجة تكرار العمل، فهم يستطيعون الخلوة مع الموتى براحة بال واطمئنان. كذلك فإن الفلاسفة الذين أثبتوا بالبراهين العقلية أن الله حاضرٌ في كل مكان، دون أن يصل قلوبهم ما أثبتته عقولهم بالبرهان، ولم تؤمن به قلوبهم، فإن أدب الحضور لن يتحقق لديهم، في حين أن أولئك الذين أيقنوا بحضور الله بقلوبهم، وآمنت قلوبهم بذلك، فإنهم -رغم أن لا مراودة لهم مع البراهين- فإنهم يتحلّون بأدب الحضور، ويجتنبون كل ما ينافي حضور المولى. فالعلوم المتعارفة إذن -وإن كانت الفلسفة وعلم التوحيد- لكنها تعد في حد ذاتها حجبا، وكلما ازدادت تزيد الحجاب غلظة وسمكاً)([19])
وهو يذكر أن هذا المنهج العرفاني في تحصيل المعارف الإلهية وتذوقها هو منهج الأنبياء والأولياء الذين جعلهم الله قدوة وأسوة لخلقه، يقول: (إننا نعلم جميعا ونرى بأن دعوة الأنبياء عليهم السلام والأولياء الخلص ليست من سنخ الفلسفة والبرهان المتعارف، بل إنهم يهتمون بأرواح وقلوب الناس، ويوصلون نتائج البراهين إلى قلوب العباد، ويبذلون الجهد لهدايتهم من داخل الروح والقلب، وإن شئت فقل: إن الفلاسفة وأهل البراهين يزيدون الحجب، في حين أن الأنبياء عليهم السلام وأصحاب القلوب يسعون في رفعها. لذا ترى أن من تربّوا على أيدى الأنبياء مؤمنون وعاشقون، في حين أن طلاب علماء الفلسفة أصحاب برهان وقيلٍ وقال، لا شأن لهم بالقلب والروح) ([20])
وهو ينبهه إلى أن مقصده من هذا ليس احتقار الفلسفة ولا علم الكلام ولا العلوم العقلية المرتبطة بها؛ فيقول: (ليس معنى ما أوردته أن تتجنب الفلسفة والعلوم البرهانية والعقلية، أو أن تشيح بوجهك عن العلوم الاستدلالية، فهذا خيانة للعقل والاستدلال والفلسفة، بل المعنى هو أن الفلسفة والاستدلال وسيلة للوصول إلى الهدف الأساسي، فلا ينبغي -والحال كذلك- أن تحجبك عن المقصد والمقصود والمحبوب.. أو فقل: إن هذه العلوم معبرٌ نحو الهدف وليست الهدف بحد ذاتها، فكما أن الدنيا مرزعة الآخرة، فإن العلوم المتعارفة مزرعةٌ للوصول إلى المقصود، تماماً كما أن العبادات معبرٌ نحو الله جل وعلا، فالصلاة -هي أسمى العبادات- معراج المؤمن والكل منه وإليه تعالى) ([21])
وهو يذكر له أن هذه المعارف الإلهية بحر لا ساحل له، وأنه لا يمكن الإحاطة بها، يقول: (بني: لم أقصد من هذه الإشارات إيجاد السبيل لأمثالي وأمثالك لمعرفة الله وعبادته حق العبادة مع أنه قد نقل عن أعرف الموجودات بالحق تعالى، وأعرفها بحق العبادة له جل وعلا، قوله: (ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك)، وإنما لأجل أن نفهم عجزنا، وندرك ضالتنا، ونهيل التراب على أنانيتنا وإنيتنا، لعلّنا بذلك نكبح جماح هذا الغول، ولعلنا نلجمه بعد ذلك ونروّضه، فنتحرر بعدها من خطر عظيم يكوي -مجرد تذكره- الروح ويحرقها) ([22])
وكعادة الخميني في خطاباته التي يمزج فيها بين خطابه لغيره وخطابه لنفسه يقول: (يا ليتنا نصحو من نومتنا ونلج أول منزل وهو اليقظة، وياليته جل وعلا يأخذ بأيدينا- بألطافه وعناياته الخفية- فيرشدنا إلى جماله الجميل، وياليت فرس النفس الجموح تهدأ قليلا، فتنزل عن مقام الإنكار، وياليتنا نُلقي هذا العبء الثقيل من على كواهلنا إلى الأرض، فننطلق مخفّين نحوه تعالى! ياليتنا نحترق كالفراش حول شمع جماله دون أن نتكلم، وياليتنا نخطو خطوة واحدة بقدم الفطرة ولا نبتعد عن طريقها بهذا القدر، وآلاف التمنيات والأماني الأخرى التي تزدحم في ذاكرتي، وأنا على شفير الموت في شيخوختي هذه، ولكن دون أن تصل يدي إلى أي مكان)([23])
وبناء على هذا نجد لغة خاصة في التعبير عن المعارف الإلهية وحقائق الوجود تمتلئ بها كتب الخميني ورسائله، حيث نراها تمزج بين اللغة العلمية والفلسفية، مع اللغة الذوقية والشاعرية، وربما يكون هذا من الأسباب الكبرى التي جعلت له تلك القابلية عند الشعب الإيراني؛ فالشعب الإيراني ـ كما ذكرنا في الجزء السابق ـ يميل إلى التصوف والروحانيات أكثر من ميله للفلسفة والكلام، وإن كان لا يخلو اهتمامه من كليهما، وأبو حامد الغزالي أحسن نموذج على ذلك.
2 ـ القيم الروحية والتشجيع على الحركة والثورة:
وهي من الخواص الكبرى التي تميز العرفان بحسب رؤية الخميني وقادة الثورة الإسلامية عن أكثر المدارس الصوفية التي اهتمت بالحقائق أكثر من اهتمامها بتغيير المجتمع وإصلاحه.
ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الخميني في رسالته لابنه، فقد قال له: (بني: لا الإعتزال الصوفي دليل الإرتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الإنفصال عن الحق، الميزان في الأعمال هو دوافعها، فكثيراً ما يكون العابد والزاهد مبتلىً بشَرَك إبليس وهو يوسع ذلك الشَّرَك بما يناسبه من الأنانية والغرور والعجب والتكبر وتحقير خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق ويؤدي به إلى الشِّرك.. وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافعٍ إلهي فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي وسليمان النبي عليهما السلام. وأعلى منهما وأسمى كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته بالحق على بن أبي طالب، وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالمية.. إذاً، ميزان العرفان والحرمان هو الدافع، كلما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة. وأكثر تحرراً من الحجب حتى حجب النور، تكون أكثر ارتباطا بمبدأ النور إلى حيث يصبح الكلام عن الإرتباط كفراً)([24])
وقال مخاطبا له يدعوه إلى أن يفر من أي مسؤولية تلقى عليه بحجة التفرغ للحق سبحانه وتعالى: (بني: لا تلق عن كاهلك حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق.. فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقل من جولاته وصولاته بين المسؤولين والمتصدين للأمور (العامة). ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان -سواء المقام المعنوي أم المادي- متذرعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية أكثر.. أو أني أريد أن أخدم عباد الله، فإن التوجه إلى ذلك من الشيطان، فضلا عن بذل الجهد للحصول عليه)([25])
ويقول له: (الميزان في أول السير هو القيام لله، إنْ في الأعمال الشخصية والفردية أو في النشاطات الاجتماعية، فاسعَ أن تكون موفقا في هذه الخطوة الأولى.. فإذا تيسر لإنسان ما ـ بدافع إلهي ـ مُلك الجن والإنس، بل إذا حصل عليه، فهو عارف بالله وزاهد في الدنيا.. وإذا كان الدافع نفسانيا وشيطانيا، فكل ما حصل عليه حتى إذا كان سبحة فقد ابتعد بهذا المقدار عن الله تعالى) ([26])
وهذه الكلمات الممتلئة بالحكمة، التي ذكرها الخميني وصية لابنه وللشعب الإيراني تتطابق تماما مع الحكمة العطائية المعروفة، والتي يقول فيها ابن عطاء الله السكندري: (إرادتك التّجريد مع إقامة اللّه إيّاك في الأسباب من الشهوة الخفيّة، وإرادتك الأسباب مع إقامة اللّه إياك في التجريد انحطاط عن الهمّة العليّة)
وقد قال صاحب الحكمة ابن عطاء الله يحكي عن نفسه، وما قال له شيخه، وهو يشبه إلى حد كبير ما ذكره الخميني في خطابه لابنه، فقد قال: (دخلت على الشيخ أبي العباس المرسي، وفي نفسي العزم على التجريد قائلا في نفسي: إن الوصال إلى اللّه تعالى على هذه الحالة التي أنا عليها بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر، ووجود المخالطة للناس، فقال لي؛ من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة، ومتصدر فيها فذاق من هذا الطريق شيئا، فجاء إليّ، فقال لي يا سيدي: أخرج عما أنا فيه وأتفرغ لصحبتك فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه، وما قسم اللّه لك على أيدينا، فهو لك واصل، ثم قال الشيخ ونظر إليّ: وهكذا شأن الصديقين، لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق سبحانه هو الذي يتولى إخراجهم، فخرجت من عنده وقد غسل اللّه تلك الخواطر من قلبي، ووجدت الراحة بالتسليم إلى اللّه تعالى)([27])
وهو يذكر أيضا بما قاله سيد قطب بعد ذكره لبعض المعاني الروحية التي ذكرها الصوفية، وكيف أنهم انشغلوا بها عن واجباتهم الدعوية؛ فقال: (وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها، ويزاولون الحياة البشرية، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله. وأن لا وجود إلا وجوده. وأن لا فاعلية إلا فاعليته.. ولا يريد طريقا غير هذا الطريق! من هنا ينبثق منهج كامل للحياة، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات: منهج لعبادة الله وحده. الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته.. ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا؟! ومنهج للتلقي عن الله وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.. ومنهج للتحرك والعمل لله وحده.. ابتغاء القرب من الحقيقة، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود! ومنهج يربط- مع هذا- بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب.. فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها.. فكلها خارجة من يد الله وكلها تستمد وجودها من وجوده، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة. فكلها إذن حبيب، إذ كلها هدية من الحبيب!)([28])
ولا يكتفي الخميني بدعوة العلماء إلى ممارسة الحياة السياسية، وإنما يحذرهم من أن تقاعسهم عن النهي عن المنكر، أو المشاركة في الحياة بكل مجالاتها سيؤدي إلى انتشار الفساد، وقد قال معقبا على قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]: (وإن كانت خطاباً للربانيين والأحبار، لكن الخطاب موجَّه للجميع. ولقد ذمَّ الله تعالى الربانيين والأحبار، واستنكر عليهم لسكوتهم امام ظلم الظلمة خوفاً أو طمعاً، مع كونهم قادرين على القيام بما يمنع الظلم من خلال المعارضة ورفع الصوت والكلام، فعلماء الإسلام أيضاً إذا سكتوا، ولم يقوموا بوجه الظالمين؛ فإنهم سوف يقعون محلاً لاستنكار الله عز وجل)([29])
وهكذا نرى أن العرفان الذي يدعو إليه الخميني، والذي تبنته الجمهورية الإسلامية الإيرانية عرفان إيجابي لا ينعزل عن المجتمع، ولا يتعالى على مشاكله، بل يخوض فيها، ويحاول إصلاحه، ويقوم بواجباته نحوها، لتحقيق ما يطلق عليه [التقوى الاجتماعي] أو [العرفان الاجتماعي]
3 ـ القيم الروحية والتوحيد الخالص:
مع كثرة ما كتبه الخميني حول التوحيد الخالص لله، نجد أعداءه، وأعداء إيران يلهجون كل حين برميه بالشرك، ورمي إيران جميعا بذلك، مع أن ما طرحه من رؤى حول التوحيد، لم يخطر على بالهم، فالتوحيد عنده هو الأساس الذي تقوم عليه كل الحياة، وما نظام ولاية الفقيه، بحسب طروحاته سوى تجل من تجليات التوحيد.
ومما ذكره في وصيته العرفانية قوله لابنه وللشعب الإيراني، وهو يحثهم على التأمل في الكائنات للعبور منها إلى الله تعالى: (اعلم، أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها جميعا محتاجةٌ، لأن الوجود ليس ذاتياً لها، ولو تفكرت وأحطت عقليا بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثل الكمالات عين ذاته، ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقليا وسألتها: أيتها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟ فإنها ستردُّ جميعا بلسان الفطرة: (إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود) ([30])
ويذكر حاجة كل الكون إلى الله، وافتقاره إليه فقرا مطلقا، بمن فيهم أنبياء الله وأولياءه وكل خلق الله؛ فيقول: (والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدل إلى غنية بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرة بذاتها ومحتاجه، فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها. كما أن هذا الفقر الذي هو لازم ذاتي لها، هو صفة دائمة أيضا، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها) ([31])
بل إنه يتجاوز ذلك الافتقار، ليعمق ذلك التوحيد ببيان أن كل ما نراه من كمال إنما هو كمال إلهي، ولذلك كان الثناء عليه ثناء على الله، يقول: (إن أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أي موجود ليس منه ذاتا، إنما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] حقيقةٌ تصدق على كل شيء وكل فعل وكل قول)([32])
ويقول: (اعلم أن ليس لأيّ موجود من الموجودات ـ بدءاً من غيب عوالم الجبروت وإلى ما فوقها أو تحتها ـ شيئٌ من القدرة أو العلم أو الفضيلة، وكل ما فيها من ذلك إنما هو منه جلَّ وعلا، فهو الممسك بزمام الأمور من الأزل إلى الأبد، وهو الأحد الصمد، فلا تخش من هذه المخلوقات الجوفاء الخاوية الخالية، ولا تُلق آمالك عليها أبداً، لأن التعويل على غيره تعالى شركٌ، والخوف من غيره جلت عظمته كفر) ([33])
والنتيجة التي يصل إليها من تعمقت فيه هذه المعارف هي ـ كما يذكر الخميني ـ السعي للتواصل مع الله وحده باعتباره الهدف الأعلى من كل شيء، والغاية العظمة في الرحلة الأزلية، كما قال تعالى: { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [النجم: 42]، يقول: (إن كلُّ من يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجوَ غيره تعالى) ([34])
ثم يخاطب ابنه، ومعه الشعب الإيراني مبينا له المنهج الذي يصل به إلى هذه الحقيقة ذوقا: (هذه بارقةٌ إلهية، حاول أن تفكر فيها في خلواتك، ولقن قلبك الرقيق وكررها عليه إلى أن ينصاع اللسان لها، وتسطع هذه الحقيقة في ملك وملكوت وجودك. وارتبط بالغنيّ المطلق حتى تستغني عمن سواه، واطلب التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك ومن جميع من سواه، ويأذن لك بالدخول والتشرف بالحضور) ([35])
والنتيجة العظيمة التي يصل إليها المتأمل لهذه الحقائق العظيمة ـ كما يذكر الخميني ـ هي الوصول إلى محبة الله، بل إلى عشه، فالبشر جميعا ـ كما يذكر ـ (مفطورون على عشق الكمال المطلق، ومن هذا العشق -شئنا أم أبينا- ينشأ العشق لمطلق الكمال الذي هو من آثار الكمال المطلق، والأمر الملازم لفطرتنا هذه هو السعي للخلاص من النقص المطلق، وتلازمه الرغبة في الخلاص من مطلق النقص أيضا) ([36])
وبناء على هذا، فكلنا ـ وإن لم ندرك ذلك ـ (عاشقون لله تعالى، الذي هو الكمال المطلق. ونعشق آثاره التي هي تجليات الكمال المطلق. وأي شخص أو أي شيء نكرهه ونبغضه، أو نحاول التخلص منه، فهو نقص مطلق أو مطلق النقص الذي يقف في الجهة المقابلة، وعلى النقيض من الأول تماماً. ولا شك أن نقيض الكمال هو عدم الكمال، ولأننا محجوبون، فإننا نضلّ في التشخيص. ولو زال الحجاب لاتّضح لنا أن كل ما هو منه جل وعلا محبوب، وكل ما هو مبغوض فليس منه، وهو بالتالي ليس موجودا) ([37])
وهو يؤكد هذه الحقائق عند تعليقه على ما ورد في المناجاة: (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا)([38])
ومثلها ما ورد في المناجاة الشعبانية التي يثني عليها كثيرا، وخاصة على هذا المقطع منها: (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدسك، إلهي واجعلنى ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك)
فقد علق عليهما قائلا: (بني: نحن ما زلنا في قيد الحجب الظلمانية، وبعدها الحجب النورية، ونحن المحجوبون ما زلنا عند منعطف زقاق ضيّق) ([39])
وهو يبين أن هذه المعارف التوحيدية ليست معارف كمالية، بل هي ضرورية، وأن على كل مؤمن السعي لتحصيلها حتى يتجنب سوء الأدب مع الله، وخاصة عند الخاتمة، يقول: (عليك أن تنتبه! فهناك خطر قد يعترض الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره، وهو يهمّ بمغادرة هذا العالم، والإنتقال إلى مستقره الأبدي. فإن ذلك قد يجعل المبتلي بحب النفس وما يولّده من حب الدنيا. بأبعادهما المختلفة -يرى وهو في حال الإحتضار، وحيث تنكشف للإنسان بعض الأمور فيراها عياناً، أن مأمور الله جلّ وعلا يريد فصله عن محبوبه ومعشوقه! فيرحل عن هذه الدنيا وهو غاضب على الله جل وعلا متنفرٌ منه! وهذه عاقبة وثمرة حب النفس والدنيا، وقد أشارت إلى ذلك الروايات المختلفة) ([40])
ويروي في ذلك حكاية عن أحد المتعبدين الثقاه أنه قال: (ذهبت لزيارة أحدهم، وكان يحتضر؛ فقال وهو على فراش الموت: إن الظلم الذي لحقني من الله تعالى لم يلحق أحدا من الناس، فهو يريد أن يأخذني من أبنائي الذين صرفت دم القلب في تربيتهم ورعايتهم! فقمت من عنده ثم توفى) ([41])
ثم يعلق عليها بقوله: (لعل هناك بعض التفاوت بين ما نقلته وما سمعته من ذلك العالم المتعبد، على أية حال، فإن ذلك ولو كان مجرد احتمال الحدوث فهو أمر على درجة خطيرة من الأهمية تدفع الإنسان إلى التفكير بجدية للنجاة منه) ([42])
بل إنه يذكر أن رؤية الأنا والغفلة عن التوحيد قد تنزل أولياء الله من المراتب الرفيعة التي حولها، لأنهم لم ينزلوا تلك المراتب إلا بفنائهم عن أنفسهم، واعترافهم بقصورهم وعجزهم وافتقادرهم الدائم إلى الله، وقد روى في ذلك (أن الله تعالى خاطب أحد أنبيائه، فطلب إليه أن يأتيه بمخلوق أسوأ منه، فقام النبي عليه السلام بعدها بسحب رفاة حمار قليلا إلا أنه ندم فتركها، فخوطب بالقول: لو أنك أتيتني بتلك الجيفة، لكنت سقطت من مقامك)([43])
ثم علق على الرواية بقوله: (وأني لا أعرف مدى صحة الحديث، ولكن لعل الأمر بالنسبة لمقام الأولياء، يعد سقوطاً حينما يرون الأفضلية لأنفسهم على غيرهم، فتلك أنانية وغرور. وإلاّ فلِم كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يأسف ذلك الأسف المرير على عدم إيمان المشركين، إلى الحد الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6]؛ فليس هذا سوى أنه عشق جميع عباد الله، وعِشق الله هو عشق لتجلياته، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يتألم مما تؤدي إليه الحجب الظلمانية للأنانية والغرور في المنحرفين، من دفعهم إلى الشقاء ثم العذاب الأليم في جهنم نتيجةً لأعمالهم في حين أنه يريد السعادة للجميع. فهو مبعوث لتحقيق السعادة للجميع. والمشركون المنحرفون -عُمي القلوب- وقفوا بوجهه، ونصبوا له العداء رغم أنه جاء لإنقاذهم) ([44])
هذه بعض الاقتباسات من كلام الخميني في التوحيد، وكونه الهدف الأكبر من السير التحققي، وهو أكبر رد على من يرمونه بالغلو في الأئمة، وأنه ينزلهم فوق منازلهم، ومثل هذا نجد نصوصا كثيرة جدا في أعماق التوحيد التي لا تلوح على بال أولئك المنكرين.
4 ـ القيم الروحية والسلوك التحققي والتخلقي:
من أهم المزايا التي تميز بها الطرح العرفاني للخميني والمدرسة التي ينتمي قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هي ذلك الاهتمام بالسلوك التحققي والتخلقي، أو ما يطلقون عليه لقب [العرفان العملي]، وهو ما أبعدهم عن تلك الشطحات التي وقع فيها بعض المدارس الصوفية، الذين أهملوا العمل، أو قصروا فيه، بل إن بعضهم اعتبر الاهتمام بالعمل والسلوك نوعا من الانشغال عن الحق.
ولهذا نرى الخميني ينهى عن الاهتمام بمطالعة كتب العرفان، مع الخلو من العمل، لأن ذلك قد ينشئ الغرور، ويبعد عن التقوى، يقول في وصاياه مخاطبا زوجه ابنه فاطمة: (ابنتي: الإنشغال بالعلوم حتى العرفان والتوحيد إذا كان لاكتناز الاصطلاحات -هو حاصل- أو لأجل نفس تلك العلوم، فإنه لا يقرب السالك من الهدف بل يبعده عنه (العلم هو الحجاب الأكبر)، وإذا كان البحث عن الحق وعشقه هو الهدف -وهو نادرٌ جداً- فذلك مصباح الطريق ونور الهداية، (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده)، وللوصول إلى يسير منه يلزم التهذيب والتطهير والتزكية؛ تهذيب النفس وتطهير القلب من غيره فضلاً عن التهذيب من الأخلاق الذميمة التي يحتاج الخلاص منها إلى كثيرٍ من المجاهدة وفضلا عن تهذيب العمل مما هو خلاف رضاه جل وعلا، والمواظبة على الأعمال الصالحة، من قبيل الواجبات التي هي في الطليعة، والمستحبات بقدر الميسور وبالقدر الذي لا يوقع الإنسان في العجب والأنانية) ([45])
ولهذا نجد الخميني ينتهج منهج صوفية المجاهدات، من أمثال المحاسبي والغزالي؛ فيحذركل حين من الخطرات ووساوس النفس الأمارة بالسوء، ويدعو إلى مجاهدتها، واستعمال كل الوسائل الشرعية في ذلك.
ومن ذلك ما ذكره في وصيته العرفانية، والتي يقول فيها مخاطبا ابنه وشعبه: (إن ما هو مذموم، وأساس ومنشأ جميع ألوان الشقاء والعذاب والمهالك، ورأس جميع الخطايا والذنوب إنما هو [حب الدنيا]، وهو حب ناشئ من [حب النفس]؛ فمع أن عالم المُلك ليس مذموما في حدِّ ذاته، فهو مظهر الحق، ومقام ربوبيته، ومهبط ملائكته، ومسجد عباده، وتربية أنبيائه وأوليائه، وموطن تجلي الحق على قلوب عشاق المحبوب الحقيقي، فإن كان حب [عالم الملك] ناشئاً عن حب الله باعتباره مظهرا له جلَّ وعلا؛ فهو أمر مطلوب ويستوجب الكمال. أما إذا كان منشؤه حب النفس، فهو رأس الخطايا جميعا. فالدنيا المذمومة هي في داخلك أنت، والتعلق بغير صاحب القلب، هو الموجب للسقوط. وجميع المخالفات لأوامر الله وجميع المعاصي والجرائم والجنايات التي يُبتلى بها الإنسان، كلها من حب النفس الذي يولِّد حب الدنيا وزخارفها، وحب المقام والجاه والمال ومختلف الأماني. وفي الوقت نفسه فإن أي قلب لا يمكنه فطريا أن يتعلق بغير صاحب القلب الحقيقي لكن هذه الحجب الظلمانية والنورانية هي التي تجعلنا نميل خطأً واشتباهاً نحو غير صاحب القلب، وهي ظلمات فوقها ظلمات) ([46])
وهو يعتبر حب الدنيا أكبر العقبات الحائلة بين السالكين والوصول إلى الحق، ويعتبر تحطيم صنم حب الدنيا البداية الصحيحة للسلوك التحققي والتخلقي؛ فيقول: (مادمنا في حجاب النفس والأنانية، فنحن شيطانيّون مطرودون من محضر الرحمن، وما أصعب تحطيم هذا الصنم الذي يعدُّ أم الأصنام؛ فنحن ما دمنا خاضعين لله (جل وعلا) ولا مطيعين لأوامره، وما لم يُحطَّم هذا الصنم؛ فإن الحجب الظلمانية لن تتمزق ولن تُزال. علينا أن نعرف ما هو الحجاب أولاً، فنحن إذا لم نعرفه، لن نستطيع المبادرة إلى إزالته، أو تضعيف أثره، أو على الأقل، الحد من تزايد رسوخه وقوته بمرور الوقت) ([47])
وهكذا نراه يتدرج في خطابه ومواعظه العرفانية، ويأمر ابنه وشعبه كل حين بالمسارعة إلى التوبة؛ فيقول: (بني: أتحدث إليك الآن وأنت ما زلت شاباً، عليك أن تنتبه إلى أن التوبة أسهل على الشبان، كما إن إصلاح النفس وتربيتها يتم بسرعة أكبر عندهم. في حين أن الأهواء النفسانية والسعي للجاه وحب المال والغرور أكثر وأشدّ بكثير لدى الشيوخ منه لدى الشبان. أرواح الشبان رقيقة شفافة سهلة القياد، وليس لدى الشبان من حب النفس وحب الدنيا بقدر ما لدى الشيوخ. فالشاب يستطيع بسهولة نسبيا أن يتخلص من شر النفس الأمارة بالسوء، ويتوجه نحو المعنويات. وفي جلسات الوعظ والتربية الأخلاقية يتأثر الشبان بدرجة كبيرة لا تحصل لدى الشيوخ، فلينتبه الشبان، وليحذروا من الوقوع تحت تأثير الوساوس النفسانية والشيطانية، فالموت قريب من الشبان والشيوخ على حدٍّ سواء وأيّ من الشبان يستطيع الاطمئنان إلى أنه سيبلغ مرحلة الشيخوخة؟ وأيُّ إنسان مصون من حوادث الدهر؟ بل قد يكون الشبان أكثر تعرضا لحوادث الدهر من غيرهم) ([48])
وهو يرد على أولئك الذين يضيعون الفرص، ويتصورون أن الشفاعة وحدها ستكفيهم، وتصد عنهم عذاب الله الذي كتبه على المنحرفين من عباده؛ فيقول: (بني: لا تضيّع الفرصة من يديك، واسعَ لإصلاح نفسك في مرحلة الشباب، وعلى الشيوخ أيضاً أن يعلموا أنهم ما داموا في هذا العالم، فإنهم يستطيعون جبران ما خسروا وما ضيّعوا، وأن يكفّروا عن معاصيهم، فإن الأمر سيخرج من أيديهم بمجرد انتقالهم من هذا العالم، والتعويل على شفاعة أولياء الله عليهم السلام، والتجرؤ في ارتكاب المعاصي من الخدع الشيطانية الكبرى، تأمّل أنت حالات الذين عوّلوا على شفاعتهم غافلين عن الله وتجرأوا على المعاصي، تأمل في سيرتهم، وانظر في أنينهم وبكائهم ودعائهم وتحرقهم واعتبر من ذلك) ([49])
ويروي عن الإمام الصادق أنه جمع أهل بيته وأقاربه في أواخر عمره، وقال لهم: (إنكم ستردون على الله بأعمالكم، فلا تظنوا أن قرابتكم لي ستنفعكم يوم القيامة)، وعلق عليه بقوله: (إن كان هناك احتمال بأن تنالهم الشفاعة، لأن الارتباط المعنوي حاصل بينهم وبين الشافع لهم، فالرابطة الإلهية بينهم تجعلهم مؤهلين أكثر من غيرهم لنيل الشفاعة، وإن لم يحصل هذا الأمر لهم في هذا العالم، فلعله يحصل لهم بعد تنقيات وتزكيات أنواع من العذاب البرزخي أو الجهنمي، حتى يصبحوا بعده لائقين للشفاعة، والله العالم بمدى ما سيصيبهم، فضلاً عن هذا، فإن الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول الشفاعة لا تبعث ـ بعد التأمل فيها ـ الاطمئنان في الإنسان، قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وأمثال ذلك من الآيات التي تثبت موضوع الشفاعة، ولكنها في الوقت نفسه لا تبعث الاطمئنان لدى الإنسان ولا تسمح له بالاغترار بها، لأنها لم توضح من هم أولئك الذين ستكون الشفاعة من نصيبهم، أو ماهي شروطها، ومتى تكون شاملة لهم.. نحن نأمل بالشفاعة، ولكن ينبغي أن يدفعنا هذا الأمل نحو طاعة الحق تعالى، لا نحو معصيته) ([50])
وبناء على هذا كله يدعوه إلى الورع في التعامل مع أبسط الحقوق، سواء تلك الحقوق المتعلقة بالله، أم المتعلقة بخلقه، يقول له، ولشعبه: (بني: احرص على أن لا تغادر هذا العالم بحقوق الناس؛ فما أصعب ذلك وما أقساه. واعلم أن التعامل مع أرحم الراحمين أسهل بكثير من التعامل مع الناس. نعوذ بالله تعالى أنا وأنت وجميع المؤمنين من التورط في الاعتداء على حقوق الآخرين، أو التعامل مع الناس المتورطين.. ولا أقصد من هذا دفعك للتساهل بحقوق الله والتجرؤ على معاصيه، فلو أننا أخذنا بنظر الاعتبار ما يستفاد من ظاهر بعض الآيات الكريمة، فإن البلية ستزداد باطراد، ونجاة أهل المعصية بالشفاعة يتم بعد المرور بمراحل طويلة. فتجسم الأخلاق والأعمال، وما يستتبع ذلك من ملازمتها للإنسان إلى ما بعد الموت وإلى القيامة الكبرى، ثم الى ما بعدها حتى الوصول إلى التنزيه وقطع الروابط بنزول الشدائد والعذاب بمختلف اشكاله في البرزخ وفي جهنم، وعدم التمكن من الارتباط بالشفيع، والاشتمال بالشفاعة، كلها أمور يؤدي التفكير فيها إلى إثقال كاهل الإنسان، ويدفع المؤمنين نحو الجدية في الإصلاح. ولا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه يقطع بخلاف هذه الاحتمالات، إلا إذا كان شيطان نفسه قد تسلط عليه بدرجة عالية، حتى راح يتلاعب به، ويصده عن طريق الحق، فيجعله مُنكراً لا يفرق بين الضوء والظلام، وأمثال هؤلاء من عمي القلوب كثير. حفظنا الله من شرور أنفسنا) ([51])
5 ـ القيم الروحية ومركزية القرآن الكريم:
من الخصائص المهمة التي نكتشفها في التراث العرفاني الذي تركه الخميني، ومن معه من قادة الثورة الإسلامية ذلك البعد عن الشطحات، أو الاهتمام بنقل قصص الكرامات والغرائب، أو الاهتمام بذكر الكشوف والمشاهدات وغيرها مما نجد أمثاله في التراث الصوفي.. بل نجده مهتما إما بالسلوك التحققي، أو بذكر المعارف مرتبطة بالقرآن الكريم خصوصا، مع تدعيمها بما ورد في الروايات والأدعية ونحوها.
ولهذا نجدهم يعطون مركزية للقرآن الكريم في التعامل مع الحقائق العرفانية، باعتباره مصدرا قطعيا معصوما، على خلاف الكشوف والمشاهدات الروحية التي قد لا تخلو من الشوائب والخلل.
وهذا لا يعني عدم اعترافهم بالشهود والكشف، ولا يعني كذلك عدم احترامهم لمن كتبوا في ذلك؛ فهم يستندون إليهم أحيانا، ولكنهم في نفس الوقت يعطون المركزية الكبرى للقرآن الكريم، ويجعلونها معيارا لنقد كل كشف أو شهود أو عرفان يخالفه.
ولهذا نرى الخميني في كل مناسبة يدعو إلى قراءة القرآن الكريم وتدبره باعتباره المصدر الأكبر للعرفان، يقول في خطابه لابنه وشعبه: (بني: تعرف إلى القرآن، كتاب المعرفة العظيم، ولو بمجرد قراءته، وشق منه طريقا إلى المحبوب، ولا تتوهمن أن القراءة من غير معرفة لا أثر لها، فهذه وساوس الشيطان، فهذا الكتاب كتابٌ من المحبوب إليك وإلى الجميع، وكتاب المحبوب محبوبٌ، وإن كان العاشق المحب لا يدرك معنى ما كُتب فيه وقد جاء إليك هادفاً خلق هذا الأمر لديك: [حب المحبوب] الذي يمثل غاية المرام، فلعله يأخذ بيدك، واعلم أننا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدةِ شكر واحدة على أن القرآن كتابنا؛ لما وفينا هذه النعمة حقها من الشكر) ([52])
وهو يضع بين يدي مريديه الكثير من الطرق والمناهج التي يستفيدون من خلالها من المدد المعرفي القرآني الذي لا حدود له، ومن ذلك قوله بعد تبيانه لمقاصد القرآن الكريم، وإحاطتها بكل الشؤون: (إذا علمت الآن مقاصد هذه الصحيفة الإلهية ومطالبها فلا بد لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهم يكشف لك بالتوجه إليه طريق الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم، وهو أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهي نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة وترى نفسك موظفة على التعلم والاستفادة)([53])
وهو ينفي مقصوده التعليم والتعلم والإفادة والاستفادة ما نراه في الواقع من التركيز على الأدب والنحو والصرف، (أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانية والبديعية، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطلاع على الأمم السالفة، فإنه ليس شيء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن، وهو بعيد المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل والذي أوجب أن تكون استفادتنا من هذا الكتاب العظيم بأقل من القليل هو هذا المعنى، فإما ألا ننظر إليه نظر التعليم والتعلم كما هو الغالب علينا، ونقرأ القرآن للثواب والأجر فقط ولهذا لا نعتني بغير جهة تجويده، ونريد أن نقرأه صحيحاً حتى يعطي لنا الثواب ونحن واقفون في الحد وقانعون بهذا الأمر، ولذا نقرأ القرآن أربعين سنة ولا تحصل الاستفادة منه بوجه إلاّ لأجر والثواب والقراءة، وأما أن نشتغل إن كان نظرنا التعليم والتعلّم بالنكات البديعيّة ووجوه إعجازه، وأعلى من هذا بقليل فإلى الجهات التاريخية وسبب نزول الآيات وأوقات النزول، وكون الآيات والسور مكية أو مدنية، واختلاف القراءات واختلاف المفسرين من العامة والخاصة وسائر الأمور العرضية الخارجة عن المقصد بحيث تكون هذه الأمور نفسها موجبة للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذكر الإلهي) ([54])
وهو مع احترامه ـ كما يذكر ـ للمفسرين والعلماء الذين بحثوا في علوم القرآن إلا أنه ينكر عليهم إهمال هذا الجانب من التعليم القرآني؛ فيقول: (إن مفسّرينا العظام أيضاً صرفوا عمدة همّهم في إحدى هذه الجهات أو أكثر ولم يفتحوا باب التعليمات على الناس، وبعقيدتي الكاتب لم يكتب إلى الآن التفسير لكتاب الله لأن معنى التفسير على نحو كلّي هو أن يكون شارحاً لمقاصد الكتاب المفسّر ويكون مهمّ النظر إلى بيان منظور صاحب الكتاب، فهذا الكتاب الشريف الذي هو بشهادة من الله تعالى كتاب الهداية والتعلم ونور طريق سلوك الإنسانية يلزم للمفسّر أن يعلّم للمتعلم في كلّ قصّة من قصصه بل في كل آية من آياته جهة الاهتداء إلى عالم الغيب وحيثية الهداية إلى طريق السعادة وسلوك طريق المعرفة والإنسانية) ([55])
ويضرب مثالا على ذلك؛ فيقول: (ففي قصة آدم وحواء أو قضاياهما مع إبليس من ابتداء خلقهما إلى ورودهما في الأرض، وقد ذكرها الحق تعالى مكررة في كتابه، كم من المعارف والمواعظ مذكورة فيها ومرموز إليها، وكم فيها من معايب النفس وكمالاتها ومعارفها وأخلاق إبليس موجودة فيها نتعرف عليها ونحن عنه غافلون) ([56])
وبناء على هذا يدعو المفسرين إلى التركيز في تفاسيرهم على هذه الجوانب، باعتبارها مقاصد القرآن الكبرى من نزوله، يقول: (كتاب الله هو كتاب المعرفة والأخلاق والدعوة إلى السعادة والكمال، فكتاب التفسير أيضاً لا بد أن يكون كتاباً عرفانياً وأخلاقياً ومبيّناً للجهات العرفانية والأخلاقية وسائر جهات الدعوة إلى السعادة التي في القرآن، فالمفسّر الذي يغفل عن هذه الجهة أو يصرف عنها النظر أو لا يهتم بها فقد غفل عن مقصود القرآن والمنظور الأصلي لإنزال الكتب وإرسال الرسل، وهذا هو الخطأ الذي حرم الملة الإسلامية منذ قرون من الاستفادة من القرآن الشريف، وسد طريق الهداية على الناس، فلا بد لنا أن نأخذ المقصود من تنزيل هذا الكتاب من نفس هذا الكتاب مع قطع النظر عن الجهات العقلية البرهانية التي تفهمنا المقصد) ([57])
وهو يعطي الحجج الكثيرة على هذه الدعوة، وأولها مراعاة المقاصد الموضوعة في القرآن الكريمة، والتي صرحت بها الآيات الكثيرة، يقول: (منصف الكتاب أعرف بمقصده، فالآن إذا نظرنا إلى ما قال هذا المصنف فيما يرجع إلى شؤون القرآن، نرى أنه يقول {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، فعرّف هذا الكتاب بأنه كتاب الهداية، ونرى أنه في سورة قصيرة كرّر مرّات عديدة قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 17]، نرى أنه يقول: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]، ونرى أنه يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة التي يطول ذكرها) ([58])
وهو لأجل تحقيق هذه المقاصد القرآنية يدعو إلى رفع الحجب الحائلة بين المؤمن الذي يريد أن يتحقق بالعرفان والقرآن الكريمة، ذلك أن الهداية القرآنية تحتاج إلى توفر شروط لتنزلها، يقول: (إذا علمت الآن عظمة كتاب الله من جميع الجهات المقتضية للعظمة، وانفتح طريق استفادة المطالب منه؛ فاللازم على المتعلم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمة حتى تحصل الاستفادة وهو رفع موانع الاستفادة، ونحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن) ([59])
ثم ذكر الأمثلة الكثيرة عن تلك الحجب، وكيفية رفعها، ومنها [حجاب رؤية النفس]، حيث (يرى المتعلم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنية أو غير محتاجة للاستفادة، وهذا من المكائد الأصلية المهمة للشيطان من حيث إنه يزيّن للإنسان دائماً الكمالات الموهومة، ويرضى الإنسان ويقنعه بما فيه، ويسقط من عينه كل شيء سوى ما عنده، مثلاً يقنّع أهل التجويد بذلك العلم الجزئي ويزيّنه في أعينهم إلى حدّ يسقط سائر العلوم عن أعينهم، ويطبّق في نظرهم حملة القرآن عليهم ويحرمهم من فهم الكتاب النوراني الإلهي والإستفادة منه، ويرضى أصحاب الأدب بتلك الصورة بلا لبّ ويمثّل جميع شؤون القرآن فيما هو عندهم، ويشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجود القراءات والآراء المختلفة لأرباب اللغة ووقت النزول وشأن النزول وكون الآيات مكية أو مدنية وتعدادها وتعداد الحروف وأمثال تلك الأمور، ويقنع أهل العلوم أيضاً بعلم فنون الدلالات فقط ووجوه الاحتجاجات وأمثالها حتى إنه يحبس الفيلسوف والحكيم والعارف الاصطلاحي في الغليظ من حجاب الاصطلاحات والمفاهيم وأمثال ذلك، فعلى المستفيد أن يخرق جميع الحجب هذه وينظر إلى القرآن من ورائها، ولا يتوقف في شيء من هذه الحجب ولا يتأخر عن قافلة السالكين ولا يحرم من الدعوات الحلوة الإلهية، ويستفاد عدم الوقوف وعدم القناعة إلى حدّ معين من نفس القرآن) ([60])
وهو يستشهد لهذا بما وقع للأنبياء عليهم السلام، والذين لم ينشغلوا بما عندهم من العلوم عن سؤال المزيد، يقول: (فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة ما اقتنع بذلك المقام وما توقف في مقام علمه الشامخ، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً قال له بكل تواضع وخضوع: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، وصار ملازماً لخدمته حتى أخذ منه العلوم التي لا بد من أخذها، وإبراهيم لم يقتنع بمقام شامخ الإيمان والعلم الخاص للأنبياء، بل قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فأراد أن يرتقي من الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي، وأعظم من ذلك أن الله تبارك وتعالى يأمر نبيّه الخاتم وهو أعرف خلق الله بالكريمة الشريفة {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فهذه الأوامر في الكتاب الإلهي ونقل هذه القصص لأن نتنبّه ونستيقظ من نوم الغفلة) ([61])
ومن الحجب التي دعا الخميني إلى رفعها حتى يتحقق السالك بالحقائق القرآنية، ويمد يده إليها [حجاب الآراء الفاسدة والمسالك والمذاهب الباطلة]، وهو يذكر أن مصدره هو التبعية والتقليد، ويضرب مثالا على ذلك؛ فيقول: (مثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأم أو من بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبية بيننا وبين الآيات الشريفة الإلهية، فإن وردت آلاف من الآيات والروايات تخالف تلك العقيدة، فإما أن نصرفها عن ظاهرها أو لا ننظر فيها نظر الفهم) ([62])
ويضرب مثلا على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من ذكر [لقاء الله]، والذي راح المتكلمون يحجبون عنه ـ كما يذكر ـ بسبب ما ارتبط به من التشبيه الذي وقعت فيه بعض المدارس، أوتعلق به العوام؛ فيقول: (قد وردت الآيات الكثيرة الراجعة إلى لقاء الله ومعرفة الله، ووردت روايات كثيرة في هذا الموضوع مع كثير من الإشارات والكنايات والصراحات في الأدعية والمناجاة للأئمة؛ فبمجرد ما نشأت عقيدة في هذا الميدان من العوام وانتشرت بأن طريق معرفة الله مسدود بالكلية، فيقيسون باب معرفة الله ومشاهدة جماله على باب التفكر في الذات على الوجه الممنوع بل الممتنع، فإما أن يؤوّلوا ويوجّهوا تلك الآيات والروايات، وكذلك الإشارات والكنايات والصراحات في أدعية الأئمة ومناجاتهم، وإما ألاّ يدخلوا في هذا الميدان أصلاً ولا يعرّفوا أنفسهم بالمعارف التي هي قرّة العين للأنبياء والأولياء، فممّا يوجب الأسف الشديد لأهل الله أن باباً من المعرفة الذي يمكن أن يقال إنه غاية بعثة الأنبياء، ومنتهى مطلوب الأولياء قد سدّوه على الناس بحيث يعدّ التفوّه به محض الكفر وصرف الزندقة) ([63])
وهو يذكر أن سبب هذا الموقف يعود إلى أن (هؤلاء يرون معارف الأنبياء والأولياء في ما يختص بذات الحق تعالى وأسمائه وصفاته مساوية لمعارف العوام والنساء فيه، بل يظهر من هؤلاء أحياناً ما هو أعظم من ذلك فيقول أحدهم: إن لفلان عقائد عامية حسنة فيا ليت لنا مثلما له من العقيدة العامية.. وهذا الكلام منه صحيح لأن هذا المسكين يتفوّه بهذا الكلام قد أخرج من يده العقائد العامية ويرى معارف الخواص وأهل الله باطلة، فهذا التمني منه عيناً كتمني الكفار) ([64])
وهو يرى أن هذا السلوك الذي امتد لنواح كثيرة في القرآن الكريم، نوع من الهجران للقرآن، ونوع من تقديم غيره عليه، يقول: (إن مهجورية القرآن لها مراتب كثيرة ومنازل لا تحصى، ولعلنا متصفون بالعمدة منها، أترى أننا إذا جلّدنا هذه الصحيفة الإلهية جلداً نظيفاً وقيّماً وعند قراءتها أو الاستخارة بها قبّلناها ووضعناها على أعيننا ما اتخذناه مهجوراً؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده وجهاته اللغوية والبيانية والبديعية قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف عن المهجورية؟ هل أننا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة وأمثالها قد تخّلصنا من عار هجران القرآن؟ هل أننا إذا تعلّمنا وجوه إعجاز القرآن وفنون محسوساته قد تخلّصنا من شكوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هيهات.. فإنه ليس شيء من هذه الأمور مورداً لنظر القرآن ومنزلها العظيم الشأن، إن القرآن كتاب إلهي وفيه الشؤون الإلهية، والقرآن هو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق، ولا بد أن يوجد الربط المعنوي والارتباط الغيبي بتعليماته بين عباد الله ومربّيهم، ولا بد أن يحصل من القرآن العلوم الإلهية والمعارف اللدنيّة) ([65])
ومن الحجب التي دعا الخميني إلى رفعها حتى يتحقق السالك بالحقائق القرآنية [الاعتقاد بأنه ليس لأحد حق الاستفادة من القرآن الشريف إلاّ بما كتبه المفسّرون أو فهموه]، وقد عزا هذا الحجاب إلى الاشتباه الواقع بين الدعوة القرآنية للتفكر والتدبّر في الآيات الشريفة، مع ما ورد في النصوص من تحريم التفسير بالرأي الممنوع، وبناء على هذا الاشتباه حصل نوع آخر من الهجران للقرآن الكريم، يقول: (بواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة واتخذوه مهجوراً بالكلية في حال أن الاستفادات الأخلاقية والإيمانية والعرفانية لا ربط لها بالتفسير، فكيف بالتفسير بالرأي، فمثلاً إذا استفاد احد من كيفية مذاكرات موسى مع الخضر، وكيفية معاشرتهما وشدّ موسى رحاله إليه مع ما له من عظمة مقام النبوّة لأخذ العلم الذي ليس موجوداً عنده وكيفية عرض حاجته إلى الخضر، وكيفية جواب الخضر والاعتذارات التي وقعت من موسى [عظمة مقام العلم وآداب سلوك المتعلم مع المعلّم]، ولعلها تبلغ من الآيات المذكورة إلى عشرين أدباً؛ فأي ربط لهذه الاستفادات بالتفسير، فضلاً من أن تكون تفسيراً بالرأي) ([66])
ويضرب مثلا آخر على ذلك، فيقول: (والاستفادة من هذا القبيل في القرآن كثير، ففي المعارف مثلاً إذا استفاد أحد من قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2] الذي حصر جميع المحامد لله، وخصّ جميع الأثنية للحق تعالى التوحيد الأفعالي، وقال بأنه يستفاد من الآية الشريفة أن كل كمال وجمال وكلّ عزّة وجلال الموجودة في العالم وتنسبها العين الحولاء والقلب المحدوب إلى الموجودات من الحق تعالى، وليس لموجود من قبل نفسه شيء، ولذا المحمدة والثناء خاص بالحق، ولا يشاركه فيها احد، فأيّ ربط لهذا إلى التفسير حتى يسمّى بالتفسير بالرأي أو لا يسمّى؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تستفاد من لوازم الكلام ولا ربط لها بوجه إلى التفسير) ([67])
هذه مجرد نماذج عن دعوة الخميني إلى مركزية القرآن الكريم للتحقق بالحقائق العرفانية النظرية والعملية، ونجد مثلها في سائر المجالات، وهذا ما يصدق ما يذكره قادة الثورة الإسلامية عن ثورتهم بكونها ثورة قرآنية، تريد أن تحيي الحقائق القرآنية في الواقع، وتعيد لها الاعتبار.
ثانيا ـ القيم الأخلاقية ووسائل تحقيقها في الواقع:
بناء على النتيجة التي خلصنا إليها في الجزء السابق، وفي الفصل الخاص بالقيم الأخلاقية، والتي عبرنا عنها بقولنا: (والنتيجة التي خلصنا إليها، هي أن إيران في الوقت الحالي، تمثل ـ اجتماعيا وسياسيا وتراثيا ـ جميع القيم الأخلاقية النبيلة التي جاء الإسلام بالدعوة إليها، وبذلك هي تمثل نموذج التدين الأصيل، الذي يعتبر الأخلاق ركنا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه.. بل إننا لو تخلينا عن أحقادنا وقرأنا الواقع الإيراني جيدا قراءة منصفة، لعلمنا أن كل ما حصل لإيران من حروب وحصار وظلم في العقود الأخير كان نتيجة لتمسكها بالقيم الأخلاقية التي لم تسمح لها أن تتخلى عن مبادئها لأجل تحقيق مصالحها، فهي دولة مبدئية ـ شعبا ونظاما ـ ولهذا ابتليت بكل أولئك الأعداء)([68])
وذكرنا أن (الذين يقارنونها بغيرها من الدول الإسلامية، وخصوصا تركيا ودول الخليج يخطئون كثيرا، لأنهم ينظرون إلى التقدم المادي، ولا ينظرون إلى التقدم في القيم والأخلاق، وقد كان في إمكان إيران أن تحصل على الكثير على ما يحصل عليه غيرها من التقدم المادي والرخاء الاقتصادي لو أنها تنازلت كما تنازلت تركيا ودول الخليج، لكنها لم تفعل، وهذا ما يبرهن على مدى تغلغل القيم الأخلاقية في المجتمع والسياسة الإيرانية، ذلك أن السياسة لم تكن لتقف تلك المواقف الصلبة لولا وجود حضانة شعبية لمواقفها)([69])
بناء على هذا، وحتى لا نكرر ما ذكرناه سابقا من الأدلة المفصلة التي تثبت اهتمام المؤسسات الإيرانية الدينية والتربوية والإعلامية بالأخلاق، ووضعها منظومة تشريعية كاملة لذلك، نكتفي هنا ببيان اتساع مفهوم الأخلاق لدى قادة ثورتها.
فالأخلاق عندهم ليست تلك السلوكات والآداب الظاهرة، فحسب، وإنما تمتد لتشمل السلوكات الباطنة، والتي لا يمكن الاطلاع عليها مع أهميتها وضرورتها، وكونها الأساس الذي تقوم عليها الأخلاق الظاهرة.
وبما أننا ذكرنا في المبحث السابق رؤية الخميني للقيم الروحية؛ فسنذكر هنا رؤية الخامنئي للقيم الأخلاقية، وإن كان كلاهما من مدرسة واحدة، وكلاهما اهتم بجميع أنواع القيم التي يقوم عليها النظام الإيراني ابتداء من القيم الروحية، وانتهاء بالقيم الأخلاقية والحضارية.
فالخامنئي في كل كتبه وخطبه يركز على الأبعاد الأخلاقية، ويعتبرها الأساس الذي يقوم عليه الكمال الإنساني، ولذلك فإن المظهر الأول الدال على رقي أي دولة ليس مستواها الاقتصادي ولا العسكري، وإنما رقيها ورقي شعبها الأخلاقي، يقول في ذلك: (إنّ تبليغ الدِّين وتبيين الحقائق، الّذي يُعدّ واجب علماء الإسلام والمبلّغين العظام، يشمل اليوم كلّ تلك الأمور. فلو أنّنا بلغنا أعلى المستويات الاقتصاديّة، وضاعفنا من قدرتنا وعزّتنا السياسيّة الحاليّة عدّة أضعاف، لكنْ أخلاق مجتمعنا لم تكن أخلاقاً إسلاميّة، وكنّا نفتقر إلى العفو والصبر والحلم وحُسن الظن، لساء وضعنا)([70])
ولذلك؛ فهو يرى أن الأخلاق هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة، ويرى أن من الأدوار المهمة للحكومة الإسلامية قبل التطور المادي أن تراعي هذه الجوانب، يقول: (الحكومة الإسلاميّة تهدف إلى تربية البشر في هذا الجوّ، لتسمو أخلاقهم، وليكونوا أقرب إلى الله، وأنْ يقصدوا القرب منه، فحتّى السياسة لا بُدّ فيها من قصد القربة، والقضايا السياسيّة لا بُدّ فيها من قصد القربة، فمن يتحدّث في القضايا السياسيّة، والّذي يكتب عنها، والّذي يُحلِّلها، والّذي يتّخذ القرارات فيها، لا بُدّ لهم من قصْد القربة)([71])
ويبين مراده من [قصد القربة]، فيقول: (عندما يبحث الإنسان ويُطالع الأمور وينظر إلى مدى رضا الله فيها، فإنْ وجد رضا الله في هذا الأمر عندها يُمكنه قصد القربة)([72])
وبناء على هذا، يذكر أنه يمكن أن توضع البرامج التي تساهم في إصلاح الأخلاق، وذلك لكونها ليست صفة لازمة لا يمكن تغييرها، بل هي مثل أي شيء آخر، يمكن تغييره إن توفرت الإرادة لذلك.
وقد أشار إلى هذا المعنى الذي قرره علماء الأخلاق المسلمون، بل أكده القرآن الكريم، فقال: (التحوُّل الأخلاقيّ يعني أنّ يتخلّى الإنسان ويجتنب كلّ رذيلة أخلاقيّة، وكلّ أخلاق ذميمة، وكلّ روحيّة سيِّئة ومرفوضة، ممّا يوجب أذيّة الآخرين، أو تخلّف الإنسان نفسه، وأنْ يتحلّى بالفضائل والسجايا الأخلاقيّة. فالمجتمع الخالي من الحسد والضغينة والحقد، والمفكِّرون الّذين لا يستخدمون فكرهم في التآمر على الآخرين والتزوير والخداع، والمثقّفون وأصحاب العلوم إذا لم يستخدموا علومهم في إلحاق الضرر بالناس ومساعدة أعداء الناس، وكان جميع أبناء المجتمع يُريدون الخير لبعضهم)([73])
والطريق الذي يتحقق به ذلك ـ كما يذكر ـ هو مجاهدة النفس وضبط شهواتها وأهوائها لتنسجم مع الشريعة الإسلامية انسجاما كليا، وهو الانسجام الذي يضمن لها التحلي بمحاسن الأخلاق، والابتعاد عن رذائها، يقول: (إنّ الإنسان في أسمى شكلٍ وأكمل حياة هو ذلك الإنسان الّذي يُمكنه التحرُّك في سبيل الله ويرضي الله عنه، والّذي لا تأسره شهواته، ذلك هو الإنسان السالم والكامل. أمّا الإنسان المادّيّ الّذي يقع أسير شهوته وغضبه وأهوائه النفسيّة وأحاسيسه فإنّه إنسان حقير، مهما كان كبيراً على الظاهر وله منصب، فرئيس جمهوريّة أكبر دول العالَم الّتي تمتلك أكبر ثروات العالَم، إذا كان عاجزاً عن لجم شهواته وقمعها، وكان أسير طلباته النفسيّة، فإنّه إنسان وضيع، أمّا الإنسان الفقير الّذي يُمكنه أنْ يتفوّق على شهواته، ويطوي الطريق الصحيح، أي طريق كمال الإنسان وطريق الله، فإنّه إنسانٌ عظيم)([74])
وهو يذكر أن الإنسان بمفرده قد لا يستطيع أن يواجه هذه العقبات التي تحول بينه وبين التخلق، خاصة إن كانت البيئة التي يعيش فيها تزيد وضعه الأخلاقي سوءا، ولهذا كان لإصلاح المجتمع، وللدولة، دورها الكبير في نشر الأخلاق الصالحة، ومواجهة الأخلاق الفاسدة، وكل أنواع الانحراف، يقول: (الأمر الّذي يستوقفني اليوم في بحثِ حياةِ الرَسُولِ الأكرَم صلى الله عليه وآله وسلم هو أنَّ نبيَّ الإسلام سعى لتثبيت القيم والأخلاقِ الإسلاميّةِ بشكلٍ كامل في المجتمع، ولتمتزج بروح الناس وعقائدهم وحياتهم وتختلط فيها، لذلك كان يُعطِّر جوّ الحياة بالقيم الإسلاميّة، فقد يُصدر الإنسانُ أوامر أو يُوجِّه توصيات، كأنْ ينصح الناس ويُعلّمهم ويأمرهم ويوصيهم بحسن الخُلق والعفو والصبر والاستقامة في سبيل الله وعدم الظلم والسعي لإقامة العدل والقسط، وعلى رغم أنّ ذلك أمر لازم، لكنّ نبيّ الإسلام كان يُعلّمهم دروس المعرفة والحياة، كان يُمارس التعليم من جهة، ويُنفِّذ ذلك في سيرته. فمن أجل تثبيت هذه الأخلاق والواجبات الإسلاميّة في المجتمع كان يواجه العقائد الخاطئة للناس، ويُحارب الأحاسيس الجاهليّة ورواسب الأخلاق غير الإسلاميّة ويواجهها، ويُعطي المجتمع شحنات، ويمارس في المناسبات وبأسلوب مناسب الصفة والأخلاق والأسلوب الحسن بشكلٍ كامل، وإذا أراد أيُّ مجتمع أنْ يتطوّر وأنْ يوجد الأخلاق الإسلاميّة الصحيحة في محيطه، فإنّه يحتاج إلى هذا الأسلوب)([75])
وعلى هذا الأساس يفسر ما ورد في القرآن الكريم من اعتبار [التزكية] دورا من أدوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول:(ولعلّ المقصود من التزكية الّتي ذُكرت في عدّة آيات قرآنية، بتعبير [يُزَكِّيهِم] بعد عبارة [يُعَلِّمُهُمُ] أو قبلها، لعلّ المقصود في هذه الآيات هو هذا، أي تنقية وتطهير وتزيين الناس، كالطبيب الّذي لا يكتفي بتوصية مريضه أنْ يفعل كذا وكذا، بل يضعه في مكانٍ خاصٍّ، ويُعطيه ما يلزمه من دواء وعلاج، ويُخرج منه ما يضرّه. هكذا كان وضع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أسلوبه طوال ثلاثة وعشرين عاماً من نبوّته، وخصوصاً خلال السنوات العشر الّتي عاشها في المدينة ومرحلة حكم الإسلام وتشكيل الحكومة الإسلاميّة) ([76])
وانطلاقا من ذلك كله، القيم الأخلاقية عنده تنتظم في أمرين:
أولهما مراعاة أحكام الشريعة، لأنها من يضع المعايير الأخلاقية وحدودها وموازينها، وليس الأهواء البشرية التي قد تخلط بين الخلق الحسن والخلق السيء.
والثاني: مراعاة الإخلاص والصدق والتجرد لله، والبعد عن الرياء والعجب والغرور، والأخلاق البراغماتية التي تنطلق من المصالح.
وسنشرح كلا المعنيين في المطلبين التاليين:
1 ـ مراعاة أحكام الشريعة ودورها في إصلاح الأخلاق:
بناء على كون المقصد الأعلى من الشريعة الإسلامية تحقيق الأخلاق في الواقع الإسلامي الفردي والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي، بل في كل مجالات الحياة؛ فإن رعاية الشريعة، وعدم تجاوز حدودها هو الكفيل وحده بتحقيق المسلم المتخلق، والمجتمع المتخلق، والسياسي المتخلق، وهكذا لا تمس الشريعة شيئا إلا وأضفت عليه محاسن الأخلاق، وجميل الآداب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([77])
ولهذا لم تكن عقوبة الذنوب قاصرة على تلك السيئات التي تنال الواقعين فيها، وإنما عقوبتها الأكبر في تلك الأخلاق السيئة التي تغرسها في المرتكب لها، وقد تصبح ملكة فيه يصعب عليه الانفكاك منها.
وبما أن التقوى هي الحجاب الأكبر الذي يحول بين المؤمن والوقوع في الذنب، كانت هي الوسيلة الأكبر لتحصيل الأخلاق الطيبة، الظاهرة منها والباطنة.
ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية يركزون في كل المحال على الدعوة للتقوى، لا الفردية وحدها، وإنما الاجتماعية والسياسية وفي كل مجالات الحياة، ومن كلمات القائد الحالي للثورة الإسلامي السيد علي الخامنئي قوله في تحديد مفهوم التقوى، ودورها في حياة المؤمن: (معنى التّقوى هو أنْ يؤدّي الإنسان جميع التكاليف الّتي أمره الله تعالى بأدائها، أنْ يؤدّي الواجبات ويترك المحرَّمات. تلك هي أولى مراتب التّقوى. لذا لا بُدّ من معرفة المحرّمات الإلهيّة والابتعاد عنها وعدم الحوم حولها. وعندما يتمُّ ترسيخ روحيّة التّقوى وتسليم القلب لله والتعامل مع الله وذكر الله والتوجّه والدعاء والتوكُّل في قلب هذا الشابّ التعبويّ المؤمن الجامعيّ أو طالب العلم أو من أيِّ فئةٍ ومدينة وقرية كان، عندها سيُمثّلون الصفّ المرصوص والقويّ الّذي تعجز عن هزّه أيُّ قوّة في العالَم. وهو الضامن لتقدُّم أهداف الإسلام والثورة)([78])
وهو يذكر كل حين بأن التقوى هي الوصفة الربانية التي لا ينال المؤمن ثوابها في الآخرة فقط، بل ينال ثوابها في الدنيا قبل ذلك، يقول الخامنئي: (إنّ التّقوى، هذا العامل العظيم، تؤثِّر في جميع ميادين الحياة. لاحظوا القرآن كم أكثر من الحديث عن التّقوى، ليس فقط عندما تموتون وتنتقلون إلى العالَم الآخر ستنالون الأجر من الله، كلّا فالتّقوى تُدير الحياة في هذه النشأة، صحيح أنّ الحياة في هذه النشأة هي الّتي تصنع تلك النشأة. لكنْ ترك التّقوى يجعل الإنسان غافلاً، والغفلة تلطم رأس الإنسان بالأرض)([79])
وانطلاقا من هذا يتحدث عن آثار التقوى الاجتماعية، ودورها في تقدم المجتمع وتحضره، فيقول: (إذا اتّصف الشعب أو الفرد بالتّقوى، فستأتيه كلّ خيرات الدنيا والآخرة. فائدة التقوى لا تنحصر في كسب رضا الله ونيل الجنّة الإلهيّة يوم القيامة، فالإنسان المتّقي يجد فائدة التّقوى في الدنيا أيضاً، فالمجتمع المتّقي، والمجتمع الّذي يختار طريق الله بدقّة، ويتحرّك في هذا الطريق بدقّة، فسينال نِعَم الله في الدنيا أيضاً، وسينال العزّة الدنيويّة أيضاً، وسيلهمه الله العلم والمعرفة بشؤون الدنيا أيضاً. والمجتمع الّذي يتحرّك في طريق التّقوى يكون جوّه سالماً ومفعماً بالمحبّة والتعاون والتنسيق بين أفراده)([80])
ويضرب لهم المثل بتأثير الذنوب حتى لو كانت صغيرة في حصول الهزيمة؛ ومن ذلك ما حصل في معركة أُحُد، فيقول: (كيف يُقعِد الذنب الإنسان؟ مثلاً في معركة أُحُد تحوّل الانتصار إلى هزيمة بسبب التقصير الجماعيّ للمسلمين. أي أنّ المسلمين انتصروا في البداية، لكنّ الرماة الّذين يُفترض أنْ يبقوا عند شقّ الجبل ليحفظوا ظهر الجبهة من النفوذ والتسلُّل، طمعوا بالغنائم وتركوا متاريسهم وتوجّهوا نحو الساحة، فالتفّ العدوّ من الخلف ونفّذ هجومه، فمزّق المسلمين وكانت هزيمة أُحُد بسبب ذلك. وقد تحدّثت عشرة أو اثنتا عشرة آية من سورة آل عمران عن قضيّة الهزيمة تلك، لأنّ المسلمين كانوا يعيشون اضطراباً شديداً بسبب تلك الهزيمة، وكانت ثقيلة عليهم كثيراً، فجاءت آيات القرآن تلك لتهبهم الاطمئنان وتهديهم، ولتُفهمهم سبب هزيمتهم وسبب ذلك الضعف، إلى أن يصل إلى الآية الشريفة: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران: 155]، أي ما رأيتموه في معركة أُحُد من استدبار بعضكم للعدوّ وتسبّب بالهزيمة كانت له أسبابه ومقدّماته، فكان هؤلاء يُعانون من ضعفٍ داخليٍّ، فقد أزلّهم الشيطان بمساعدة الأعمال الّتي كانوا قد ارتكبوها من قبل، أي إنّ ذنوبهم السابقة قد تظهر آثارها في الجبهة، في الجبهة العسكريّة أو السياسيّة أو عند مواجهة العدوّ أو عند ممارسة البناء أو في ممارسة التعليم والتربية، وحيث تجب الاستقامة، وحيث يجب الفهم والإدراك الدقيق، وحيث يجب أنْ يكون الإنسان كالفولاذ يقطع ويتقدّم ولا تقف الموانع بوجهه. طبعاً تلك هي الذنوب الّتي لم تمحها التوبة النصوح والاستغفار الحقيقيّ) ([81])
ولهذا يخاطب المسؤولين كل حين من موقع مسؤوليته كولي عليهم بالدرجة الأولى؛ يحذرهم من أن تحيق بهم أمثال تلك الهزائم بسبب تقصيرهم في تحقيق التقوى؛ فيقول: (أينما كنتم، ومهما كان عملكم، وأيّة مسؤولية تحمّلتم، وأيّ شأن من الشؤون الاجتماعيّة كان لكم، يجب أنْ تنصبَّ همّتكم في الدرجة الأولى على نيل رضا الله وأداء التكليف الإلهيّ، وذلك هو التّقوى، فالتّقوى هي أنْ تُقدموا على أداء التكليف وتحترزوا من الانحراف والضياع. إذا وجد فيكم هذا الحسّ، وبذلتم الهمّة والسعي، وخطوتم أوّل خطوة، فسيُعينكم الله تعالى في الخطوة التالية)([82])
ويخبرهم عن التقوى وأنها الكفيلة بكل انتصار ونجاح يحققونه، فيقول: (كلّما علت مناصبنا احتجنا إلى التّقوى أكثر. والتّقوى هي الّتي تنصر الإنسان في ساحة الجهاد أيضاً. والتّقوى هي الّتي نصرتكم في ساحة المواجهة مع الاستكبار وخلال سنوات الثورة حتّى انتصرتم في مثل هذه الأيّام من عام 1979 م. لقد انتصرتم بتقوى ذلك القائد الّذي لا يهتمّ أبداً إلّا بالأوامر الإلهيّة والتكليف الشرعيّ، وبتقوى كلّ واحد منكم يا أبناء الشعب الّذين تخلّيتم عن أهوائكم ومصالحكم الشخصيّة من أجل الله)([83])
ويذكرهم بما حصل لهم أيام الثورة حين تحققت فيهم التقوى؛ فمن الله عليهم بالانتصار، يقول: (تذكرون في تلك الأيّام كيف توجّهت القلوب كلّها باتجاه الهدف المقدّس، لم يذكر أحدٌ نفسه، لم يُفكِّر أحدٌ باكتناز المال، لم يُفكِّر أحدٌ بزيادة ثروته، لم يُفكِّر أحدٌ بعملٍ أو منصب، لم يُفكِّر أحدٌ باستباق الآخرين، بل كلُّ واحدٍ كان يُفكِّر في تكليفه الشرعيّ والإسلاميّ والثوريّ فيؤدّيه، علينا أنْ نقوم اليوم بذلك أيضاً)([84])
وعندما يحلل ما حصل للغرب من مآس وانحراف عن الإنسانية والقيم المرتبطة بها، يجعل سبب ذلك في هجر التقوى، وعدم التزامهم بها، يقول: (التّقوى هي مفتاح السعادة الدنيويّة والأخرويّة، إنّ البشريّة الضائعة الّتي تئنُّ من أنواع الصعاب والآلام الشخصيّة والاجتماعيّة، تُعاني من سياط عدم التّقوى والغفلة وعدم الالتفات والغرق في وحول الشهوات الّتي أُعدت لها. فالمجتمعات المتخلّفة أمرها معلوم، لكنْ المجتمعات المتقدِّمة الّتي تحسُّ بالسعادة في بعض نواحي حياتها بسبب تنبّهها ويقظتها في بعض شؤون حياتها، تُعاني أيضاً من الفراغ ومن النقص المميت الّذي يُعبّر عنه الكتّاب والخطباء والفنّانون بمائة طريقة وتعبير)([85])
وهكذا نرى الخميني في وصيته، وعند حديثه في البند السابع من بنود الوصية عن السياسة الداخلية والأحزاب والانتخابات والمبادئ التي تحكمها، يقول: (من الأمور الضرورية أيضاً، تديّن نواب مجلس الشورى الاسلامي، فقد رأينا جميعاً أيٌة إضرار محزنة لحقت بالإسلام وبإيران نتيجة عدم صلاحية مجلس الشورى وانحرافه منذ الفترة التي تلت النهضة الدستورية وحتى عهد النظام البهلوي المجرم، والتي كان سواها وأخطرها عهد ذلك النظام الفاسد المفروض. يالها من مصائب وخسائر مدمرة حلت بالبلاد والشعب على أيدي هؤلاء العبيد التافهين المجرمين، لقد أدى وجود أكثرية مصطنعة مقابل أقلية مظلومة خلال الخمسين عاماً الأخيرة ـ من العهد البائد ـ إلى تمكن إنجلترا والاتحاد السوفيتي وأمريكا بعد ذلك من تمرير كل ما أرادوه على أيدي هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله مما جر البلاد الى حافة الدمار والانهيار. فمنذ ما تلا الحركة الدستورية لم يطبق شيء تقريباً من مواد الدستور الأساسية، وقد تم ذلك قبل عهد رضا خان عبر المأمورين للغرب وحفنة من الباشوات والإقطاعيين، وعبر النظام السفاك وحواشي البلاط وأزلامه في عهد النظام البهلوي)([86])
وبناء على هذه التجربة القاسية التي ذكرها الخميني، والتي مرت بها إيران دعا إلى التشدد في اختيار النواب، والاهتمام بالتزامهم الديني والأخلاقي حتى لا يخترقهم العدو، ويمرر مشاريعه التدميرية من خلالهم، يقول في ذلك: (أما الآن، وحيث أصبح مصير البلاد ـ وبلطف الله وعنايته وهمة الشعب العظيم ـ بأيد المواطنين أنفسهم، حيث أصبح النواب منبثقين من سواد الجماهير يتم انتخابهم لمجلس الشورى الإسلامي دون تدخل الحكومة أو الباشوات، فإن المؤمل أن يحول التزامهم بالإسلام وحرصهم على مصالح البلاد دون وقوع أي انحراف، لذا فإني أوصي أبناء الشعب أن يصوتوا في كل دورة انتخابية ـ حاضراً ومستقبلاً ـ لصالح المرشحين الملتزمين بالإسلام والجمهورية الإسلامية انطلاقاً من إرادتهم الصلبة والتزامهم بأحكام الإسلام وحرصهم على مصالح البلاد) ([87])
ثم ذكر أن العادة جارية بأن أمثال هؤلاء لا يكونون من الطبقة المترفة المستغرقة في الدنيا، بل يكونون من عامة الناس، وهم لذلك أكثر احتكاكا بهم، وأكثر إحساسا بحاجاتهم، يقول: (ولا شك أن مثل هؤلاء المرشحين يكونوا غالباً من الطبقات الاجتماعية الوسطى ومن بين المحرومين غير المنحرفين عن الصراط المستقيم نحو الغرب أو الشرق، ومن غير الميالين نحو المدارس العقائدية المنحرفة، ومن المتعلمين المطلعين على مجريات الامور المعاصرة والسياسات الإسلامية) ([88])
2 ـ مراعاة الإخلاص ودوره في إصلاح الأخلاق:
يعتبر الإخلاص وما يلزم عنه من التجرد والصدق ركنا أساسيا لا يمكن أن تقوم الأخلاق من دونه، ذلك أن المرائي والمعجب والمغرور مهما فعل من خصال يظل أسير رؤية الناس له، أو أسير رؤيته لنفسه، بينما المخلص ينطلق منه الخلق بسهولة ويسر، وفي الخلوة والجلوة، وفي كل الأحوال، بل لا يشعر أصلا به، لأنه فطري وبديهي عنده، وليس فيه أدنى تكلف.
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يركزون في خطبهم لعامة الشعب على الإخلاص؛ لأنه لا يمكن أن تقوم دولة من دون إخلاص أهلها، ولا يمكن أن تستقيم علاقات المجتمع من دون أن يكون الإخلاص هو المحرك الدافع لها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الخميني في خطاب عام له ألقاه على القوات المسلحة وغيرها بعد انتصاراتها على الحرب الموجهة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية: (لا تتوقعوا انتم أيها المقاتلون أن أكون أنا أو أي شخص آخر قادرا على تكريمكم، فالله هو الذي اشتراكم، حيث قدمتم كل ما تملكون حتى الروح وهي أغلى ما تملكون في سبيل الله، سواء منكم من استشهد ولقي الله أن شاء الله أو أنتم الموجودون هنا، لقد حققتم أمرين ولا يستطيع أحد من البشر أن يكرمكم على ذلك، الأول هو أنكم وضعتم أعظم ما تملكون وهو الحياة على طبق الإخلاص، والآخر هو أنكم قدمتم هذه الهدية مخلصين؛ فالأساس هو الإخلاص الذي تجلى فيكم، وبهذا الإخلاص والإيثار ضمنتم الجمهورية الإسلامية، فالانتصارات التي تحققت على أيديكم خصوصا في الفتح المبين، لا يمكن قياسها بأي معيار كان، ولا يستطيع أي لسان أن يعبر عنها ويصفها، لكن الأهم من كل هذا هو صدقكم وإخلاصكم عند الله تعالى، فالإيثار إخلاصا أهم من كل شيء عند الله)([89])
ويضرب لهم المثل على قيمة الإخلاص ودوره الجوهري في أي عمل من الأعمال الصالحة بما ورد في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [الإنسان: 8 – 10]
ويعلق عليها بقوله: (فالإطعام في حد ذاته ليس شيئا مهما، خاصة عندما يكون بقرص من خبز الشعير، بل المهم أن يكون ذلك (على حبه)؛ فالإخلاص والحب اللذان تملكانهما لهما القيمة عند الله تعالى، ولا يستطيع أحد وصفهما، لأنكم تضحون بأرواحكم، وهناك الكثيرون يفعلون ذلك في أمور منحرفة، فالعمل واحد في الشكل لكن المعنى والفحوى يختلفان، والمعيار هو فحوى العمل وليس شكله) ([90])
. وهكذا يضرب لهم المثل ببطولات الإمام علي، ومواقفه في الإسلام؛ فيقول: (السيف الذي جرده الإمام علي، وضرب به ذلك الشخص وقتله. هو ما يقع في كل مكان وقد فعل ذلك كثير من الناس ويفعلون. والقيمة ليست هنا، بل القيمة هي ما كانت في قلب علي أبي طالب وما كان يدور في ذهنه ودرجة الإخلاص الذي كان في عمله.. إن درجة الإخلاص هي التي جعلت تلك الضربة أفضل من عبادة الثقلين، أي عبادة الإنس والجن) ([91])
ثم يدعوهم إلى المحافظة على نعمة الإخلاص التي لا تعدلها أي نعمة، لأن جزاءها عند الله أعظم الجزاء؛ فيقول: (يا أعزائي حافظوا على هذه النعمة التي منحكم الله إياها وغيركم بفضله الذاتي وبيد غيبية وجعلكم مخلصين لذاته يضحون بكل ما عندهم وبأرواحهم في سبيل الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، فالجنة التي منحكم المشتري ليست كالجنة التي يعطيها للآخرين، وأرجو أن تكون هذه الجنة جنة اللقاء، وأرجو أن يستضيفكم المشتري عنده، حيث أن أولياء الله في الدار الآخرة لا يرجون غير الله، حيث يصرفون النظر عن نعم الجنة، ويرغبون في لقاء الحق تعالى، وأنتم حيث تضحون بأرواحكم وتتوجهون إلى ساحات الحرب بهدف الشهادة وتدافعون عن الإسلام وتزرعون اليأس في الدول الطامعة في هذا البلد، إنما تقومون بعمل قيم ونفيس جدا، لكن الأفضل من ذلك هو إخلاصكم وإيثاركم في سبيل الله، فهو أسمى من كل قيمة لكم. ولا يمكن قياس هذا الإيثار والإخلاص في ميزان عالم الغيب بل يقاس ويعرف عند الله تعالى) ([92])
وهكذا نراه في حديثه مع العمال والطلبة والمسؤولين وكل الجهات يدعوهم إلى الإخلاص، والتوجه بصدق لله، وعدم انتظار أي جزاء من أحد، لأن المكاسب الحقيقية لا تتحقق إلا لمن صدق مع الله، وقصد وجهه الكريم.
وهكذا نرى خليفته الولي الفقيه المعاصر السيد علي الخامنئي لا يدع مناسبة إلا ويذكر فيها بالإخلاص، ومن ذلك قوله في التعريف بالإخلاص وبيان الآثار التي يحدثها في الواقع: (الإخلاص هو أنْ يؤدّي الإنسان عمله لله ومحبّةً في أداء الواجب، وأنْ لا يعمل الإنسان من أجل هوى النفس، ولتحصيل المال والثروة، ونيل المنصب والسمعة وحكم التاريخ والدوافع النفسيّة، وإشباع صفة الحسد والطمع والحرص والزيادة، بل أنْ يؤدّي واجبه لله ولأداء الواجب محضاً، هذا هو معنى الإخلاص، وهكذا يتقدّم العمل. إنّ مثل هذا العمل كالسيف البتّار يُزيل كلّ الموانع عن طريقه، والإمام الخميني كان مجهّزاً بهذا السلاح، حيث قالها عدّة مرّات: إنّي لن أغضّ الطرف عن أقرب المقرّبين إليّ إذا خطوا خطوة خلافاً للحقّ، وهكذا كان حقّاً، وقد أظهر في المواقع الحسّاسة أنّ المهمّ بالنسبة إليه هو أداء الواجب، لقد أظهر ذلك في العلن وفي الوحدة، وفي الأعمال الكبيرة والصغيرة، وأضحى فعله ذاك درساً لمريديه وأبنائه وتلامذته، ممّا جعلهم يسطّرون المعاجز في جبهات الحرب بهذا السلاح نفسه)([93])
ويبين لهم أن أهم مظهر للإخلاص الحقيقي أن يتجرد الشخص من نفسه وكل أهوائها، وأن لا يقصد من العمل إلا الله، حتى لو نسبت أعماله وكل جهوده لغيره، فهو لا يبالي لأنه لم يرد بها إلا الله تعالى، ويحكي في ذلك أنه قرأ عن بعض كبار أهل السلوك والمعرفة في رسالة له قوله: (لو افترضنا محالاً أنّ جميع الأعمال الّتي قام بها نبيُّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم والتي كان ينوي القيام بها، كان عليه أن يؤدّيها باسم أحدٍ آخر، فهل كان نبيُّ الإسلام سيسخط من ذلك؟ وهل كان سيرفض القيام بها لأنّها ستتمّ باسم غيره؟ هل كان الأمر كذلك؟ أم أنّ هدفه كان أنْ تتمّ تلك الأعمال، وليس مهمّاً بأيِّ اسم ستتمّ؟ إذاً فالهدف هو المهمّ، أمّا الشخص و(أنا) و(نفسي) فليست مهمّة عند الإنسان المخلص، فلديه الإخلاص ولديه الاعتماد على الله، ويعلم أنّ الله تعالى سيغلّب هذا الهدف، لأنّه قال: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، وكثير من هؤلاء الجنود الغالبين يسقطون شهداء في ساحة الجهاد ويرحلون، ورغم ذلك قال: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، فالغلبة لهم رغم ذلك) ([94])
وهو يذكر في مواطن كثيرة أن كل ما تحقق لإيران من انتصارات على أعدائها الذين اجتمعوا عليها يريدون سحقها لم يتحقق لولا إكسير الإخلاص والصدق الذي تحلى به أبناء الشعب الإيراني؛ فصبروا على الحصار، وقدموا كل شيء من أجل الدفاع عن وطنهم؛ فيقول: (بلطف الله وبسبب جهاد الجماهير وإيمانهم وإخلاصهم فقد فشلت جميع الحسابات الدوليّة. هذا هو فعل الله، وإلاّ فمن الّذي قام بذلك؟ أنتم؟ وهل هناك من يُمكنه أنْ يدّعي أنّه قام بذلك؟ كلّا، لا أحد يُمكنه ذلك. إنّ الحركة المخلصة والجهاديّة للجميع هي الّتي فعلت ذلك. كما أنّ انتصار الثورة الإسلاميّة ليس لأحدٍ ما أنْ ينسبه لنفسه. والإمام الخميني بعظمته وبشخصيّته وقيادته الّتي لا تُجاريها أيّة قيادة معاصرة في العالَم، وله كلُّ الحقّ في أعناقنا، لكنّه لم ينسب النصر لنفسه أبداً. وإذا دقّقنا في الأمر لوجدنا أنّ الأمر كذلك، لأنّه كان يُشكِّل في الحقيقة وسيلة إلهيّة للناس. فحركة الناس العظيمة والإخلاص والتضحيات أدّت إلى الانتصار هنا.. فالقدرة الإلهيّة طريقها الإخلاص. عليكم أنْ تخطوا هذه الخطوة بالإخلاص والتسامح والوحدة والأخوّة، ولا يتحرّك أحدٌ لنيل السلطة، وليتحرّك الجميع في سبيل الله، وأنْ تكون النيّة لله في كلِّ عمل، فإنْ أضحت الأمور هكذا، فإنّ الله تعالى سيُبارك هذه الخطوة ويجعلها على أفضل وجه)([95])
وبناء على هذا يذكر أن الإخلاص هو الترياق الذي تحل به المشاكل، وتفتح به كل الأبواب، وتصد به كل الهجمات، يقول: (علاج كلِّ مشاكلنا هو الإخلاص. فإنْ كان هناك إخلاص فستزول كلُّ الأمور الّتي تؤذي حالياً نظامنا ومجتمعنا، فالإخلاص في العمل سيؤدّي إلى تعميق الوحدة)([96])
وهو يبين أن أعظم المكاسب التي تحققت في إيران بعد الثورة ليس ذلك الوقوف في وجه أعدائها، ولا تحكمها في وضعها، وسيرها التصاعدي نحو التطور في جميع المجالات، وإنما في بناء الإنسان، وتوفير عنصر الإخلاص فيه، يقول: (لله الحمد، فإنّ نسبة كبيرة من هذه المعايير موجودة في بلدنا، ومن الأفضل أنْ نتطوّر في هذا المجال، فالبلد الّذي يمتلك هذه الخصائص، من طالبه الجامعيّ إلى تاجره ومتنوّره وعالمه ودولته، وبهكذا إيمان ودافع ووحدة، فلن تتمكّن لا أمريكا ولا عشر قوى كأمريكا أنْ تنال من شعرة من رأس أحد أبنائه في مواجهتها وعدوانها على مثل هذا الشعب في ساحة السياسة الدوليّة)([97])
هذه بعض النماذج عن خطابات وبيانات قادة الثورة الإسلامية في دور الإخلاص في تحقيق جميع المكاسب الدنيوية والأخروية، وعلى جميع الأصعدة الشخصية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، وكل المجالات.
وهي تبين لنا قيمة وجود الولي الفقيه في الدولة، فهو لا يقوم فقط بدور المراقبة، ولا سن القوانين، ولا التحكم في المؤسسات المختلقة، وإنما يقوم قبل ذلك وبعده بدور الأب الناصح، والشيخ المربي، والداعية الهادي، وهي أدوار لا يمكن أن يقوم بها أي سياسي في الدنيا.
ولذلك فإن قيمة الولي الفقيه تتجاوز بكثير الدور
السياسي، فهو ليس إلا جزءا بسيطا من وظائفه؛ فوظيفته الحقيقية هي الإشراف الكلي
على كل ما في الدولة ابتداء من أفرادها بتربيتهم وتوجيههم وإصلاحهم، وانتهاء
بالإشراف على كل المؤسسات بنصحها وتوجيهها وتقويم معوجها، وإصلاح فاسدها.
([1]) صحيفة الثورة الإسلامية، الخميني، ص40.
([2]) المرجع السابق، ص41.
([3]) صحيفة الإمام، ج19، ص: 413.
([4]) المرجع السابق، ج19، ص: 413.
([5]) المرجع السابق، ج19، ص: 413.
([6]) المرجع السابق، ج19، ص: 413.
([7]) صحيفة الإمام، ج19، ص: 414.
([8]) الكلمة الطيبة (دروس في ولاية الفقيه) جوادي آملي (ص: 12).
([9]) نهج البلاغة.
([10]) صحيفة الإمام، ج7، ص: 218.
([11]) المرجع السابق، ج7، ص: 218.
([12]) المرجع السابق، ج7، ص: 218.
([13]) منهجيّة الثورة الإسلاميّة، ص 225..
([14]) المرجع السابق، ص 225..
([15]) الوصية الإلهية العرفانية ، ص20.
([16]) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 95)
([17]) الوصية الإلهية العرفانية ، ص21.
([18]) المرجع السابق، ص21.
([19]) المرجع السابق، ص32.
([20]) المرجع السابق، ص32.
([21]) المرجع السابق، ص33.
([22]) المرجع السابق، ص34.
([23]) المرجع السابق، ص34.
([24]) الوصايا العرفانية للإمام الخميني، ص55.
([25]) المرجع السابق، ص56.
([26]) المرجع السابق، ص56.
([27]) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 33.
([28]) في ظلال القرآن (6/ 4003)
([29]) الحكومة الاسلامية (ص: 133).
([30]) الوصايا العرفانية للإمام الخميني، ص11.
([31]) المرجع السابق، ص11.
([32]) المرجع السابق، ص12.
([33]) المرجع السابق، ص15.
([34]) المرجع السابق، ص13.
([35]) المرجع السابق، ص14.
([36]) المرجع السابق، ص31.
([37]) المرجع السابق، ص31.
([38]) مقطع من دعاء الإمام الحسين يوم عرفة، ويروى كذلك في مناجاة ابن عطاء الله السكندري.
([39]) المرجع السابق، ص14.
([40]) المرجع السابق، ص26.
([41]) المرجع السابق، ص26.
([42]) المرجع السابق، ص26.
([43]) المرجع السابق، ص27.
([44]) المرجع السابق، ص27.
([45]) المرجع السابق، ص110.
([46]) المرجع السابق، ص23.
([47]) المرجع السابق، ص24.
([48]) المرجع السابق، ص36.
([49]) المرجع السابق، ص37.
([50]) المرجع السابق، ص38.
([51]) المرجع السابق، ص39.
([52]) المرجع السابق، ص19.
([53]) القرآن الثقل الأكبر (ص: 38)
([54]) المرجع السابق، ص38.
([55]) المرجع السابق، ص39.
([56]) المرجع السابق، ص40.
([57]) المرجع السابق، ص40.
([58]) المرجع السابق، ص41.
([59]) المرجع السابق، ص44.
([60]) المرجع السابق، ص44.
([61]) المرجع السابق، ص45.
([62]) المرجع السابق، ص45.
([63]) المرجع السابق، ص46.
([64]) المرجع السابق، ص45.
([65]) المرجع السابق، ص47.
([66]) المرجع السابق، ص48.
([67]) المرجع السابق، ص48.
([68]) إيران: دين وحضارة، ص350.
([69]) المرجع السابق، ص351.
([70]) توجيهات أخلاقية (ص: 15).
([71]) توجيهات أخلاقية (ص: 15).
([72]) المرجع السابق، (ص: 15).
([73]) توجيهات أخلاقية (ص: 17)، وهو جزء من كلمة ألقاها في عيد الربيع (20/ 3/1991 م)
([74]) المرجع السابق، ص18، من خطبة الجمعة (1/ 2/1997 م)
([75]) حديث الولاية، ج 2،ص 241.
([76]) المرجع السابق، ج 2،ص 241.
([77]) رواه أحمد 2/381 (8939)
([78]) حديث الولاية، ج 8، ص 232..
([79]) المرجع السابق، ج 6، ص 213..
([80]) أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص 116.
([81]) المرجع السابق، ص 116.
([82]) المرجع السابق، ص116.
([83]) المرجع السابق، ص116.
([84]) المرجع السابق، ص117.
([85]) خطاب ألقاه خلال لقائه بقادة قوات حرس الثورة الإسلاميّة (19/ 9/1995 م)
([86]) صحيفة الإمام، ج 21، ص: 375.
([87]) المرجع السابق، ج 21، ص: 375.
([88]) المرجع السابق، ج 21، ص: 375.
([89]) المرجع السابق، ج16، ص: 149.
([90]) المرجع السابق، ج16، ص: 149.
([91]) المرجع السابق، ج16، ص: 150.
([92]) المرجع السابق، ج16، ص: 150.
([93]) توجيهات أخلاقية (ص: 27)، والخطاب ألقاه خلال الاجتماع الكبير لقوات التعبئة الشعبية بذكرى تشكيلها (25/ 11/1997.
([94]) توجيهات أخلاقية (ص: 28)، والخطاب ألقاه خلال لقائه بأعضاء الحرس والتعبئة (22/ 11/1998 م)
([95]) حديث الولاية، ج 6، ص 5.
([96]) المرجع السابق، ج 5، ص 1990..
([97]) من بيانه بمناسبة اليوم العالميّ لمقاومة الاستكبار العالميّ (03/ 01/1996 م.