ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية

ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية
يتربع على عرش القيم والمبادئ التي تتحكم في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبدأ [الحكومة الإلهية]، أو مبدأ [الحاكمية]، وهو المبدأ الذي ينص على أن الله تعالى هو الحكم بين عباده، وأن شريعته هي المرجع في كل القوانين التي تحكمهم في شؤونهم جميعا، ابتداء من حياتهم الشخصية، وانتهاء بحياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، واعتبار الحياة بذلك كله معبدا لله، تؤدى فيه أوامره، مثلما تؤدى في الصلاة تماما، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]
وهذا، وإن كان من المتفق عليه بين المسلمين في الكثير من النواحي، لكنهم يختلفون اختلافا شديدا في تطبيقه في المجالات السياسية وما يرتبط بها، حيث نرى فريقا من المسلمين، أو أكثر فقهاء المسلمين عبر التاريخ، يرون أن ذلك يمكن أن يتحقق عن طريق الخلفاء والملوك والأمراء الذين قد يستشيرون الفقهاء، ويرجعون إليهم للتعرف على أحكام الشريعة في المسائل المختلفة، وبذلك تتحقق حاكمية الشريعة عبر تلك الاستشارات، التي يكون فيها الفقهاء وسائط للتعريف بمراد الله من عباده.
وهم يستدلون لذلك بالدول الكثيرة التي حكمت بلاد المسلمين ابتداء من الدولة الأموية، وانتهاء بالدولة العثمانية، والتي نرى نموذجا معاصرا لها في المملكة العربية السعودية، والتي شكلت هيئة كبار العلماء، واعتبرتها، واعتبرت مفتيها من المستشارين لدى الملوك والأمراء والسعوديين، وقد زكى الفقهاء ذلك، واعتبروا النظام السعودي بسببه نظاما إسلاميا.
بينما يرى فريق آخر أن تطبيق الشريعة، وتحقيق الحاكمية الإلهية، لا يكون إلا عن طريق الفقيه العدل المجتهد الذي لا توكل إليه مهام الاستشارة فقط، بل توكل إليه قبل ذلك وبعده، جميع الصلاحيات التي يستطيع من خلالها أن يطبق الشريعة، باعتباره أكثر الناس فهما لها، وأكثرهم ودراية لكيفية تنفيذها.
وقد تبنى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هذا النوع من الحاكمية، وأطلقوا عليه اصطلاح [ولاية الفقيه]، وهي تعني أن الشريعة لا تُطبق كقوانين فقط، وإنما تضيف إلى ذلك وجوب إشراف الفقهاء على ذلك التطبيق وفق استراتيجية تعمل على تحكيم شرع الله في جميع مناحي الحياة.
وبما أن هذا النوع من الأنظمة لم يتحقق وقوعه على مدار التاريخ، وفي جميع الدول الإسلامية؛ فقد تعرض ـ منذ بداية الدعوة إليه ـ إلى ردود فعل كثيرة من أطراف متعددة، يمكن حصرها في أربع جهات:
الأولى: العلمانيون والليبراليون الذين تصوروا أن الشريعة لا يمكنها أن تحقق التقدم والرفاه، وأن تطبيقها سيؤخر المسلمين عن ركب الأمم، وهؤلاء من يطلقون على أنفسهم لقب [التنويريين]، وهم ـ عادة ـ ليس لديهم أي مشروع سياسي أصيل، بل هم تبع للمشاريع الغربية، ويستندون إلى التراث السياسي الغربي الذي تشكل من أدبيات الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والانتفاضة البريطانية، أو من أدبيات الشرق الأوربي المؤسس على تراث الثورة البلشفية أو الفكر ماركسي بمدارسه المختلفة الصينية والكوبية واليوغسلافية والشيوعية الأوربية.
وقد عانت الثورة الإسلامية في إيران في بدايتها الكثير من شغبهم، حيث تحولوا إلى إرهابيين يستعملون كل الوسائل لضرب بلدهم ومؤسساته، بحجة مواجهة نظام الملالي، ولا يزال الغرب يمد هؤلاء بمدده، ويستعملهم وسائل لتشويه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونظامها.
بل إن انطلاقة الثورة الإسلامية كانت رد فعل على هذا التيار الذي كان يحكم إيران، واستعمل معها كل الوسائل التي استعملها أتاترك بغية تحويلها إلى دولة أوروبية علمانية لا علاقة لها بالدين، أو لا يشكل الدين فيها إلا الجانب الطقوسي.
ومن قرأ رسائل وبيانات وخطب الخميني في ذلك الحين، يجد الكثير من الطروحات التي يطرحها هذا الفريق ليرد بها على مشروع الحكومة الإلهية، ومن تلك البيانات قوله في خطاب وجهه لجمع من العلماء وطلبة العلوم الدينية والجامعيين وغيرهم بعد إطلاق سراحه من السجن، وبعد انتفاضة حصلت حينها: (لقد قالوا للعالم بأننا رجعيون، ونسبوا علماء الإسلام الى الرجعية السوداء! وتعتبرنا الصحف الصادرة في الخارج، وهي تُدار بميزانية ضخمة لضربنا، بأننا معارضون للإصلاحات، ويقولون: إن العلماء يريدون أن يتخذوا من الحمير وسيلة لرحلاتهم من ناحية إلى أخرى، ولا يريدون الكهرباء والطائرة، فهم رجعيون يبغون العودة إلى القرون الوسطى!) ([1])
وهي كلمة تختصر ذلك التشويه الذي يواجه به هذا الفريق الدعوة للحكم الإسلامي، وقد رد الخميني عليهم بقوله: (إن علماء الدين يرفضون هذه الأيام الحالكة التي أصابت البلد، ويرفض العلماء الأعلام ممارسات الضرب والقتل والعجرفة والاستبداد، فهل هذه رجعية؟! وقد وقف علماء الإسلام في بداية مرحلة الحركة الدستورية بوجه الاستبداد الأسود وحققوا الحرية للشعب بدمائهم، وسنّوا بأنواع العذاب والمصائب التي رأوها وتحملوها قوانين لمصلحة الشعب واستقلال البلد والإسلام، واليوم انتفض الشعب أيضاً تبعاً للعلماء، وما يطلبه العلماء هو العمل بقوانين الإسلام، فهل هذه رجعية؟! وهل كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رجعياً؟! وهل الدعوة إلى القوانين السماوية رجعية؟! وهل كان- تبارك وتعالى- رجعياً؟! وهل جبريل الأمين واسطة الوحي الإلهي رجعي؟! وهل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رجعي؟! وهل أئمة الهدى رجعيون؟!)([2])
ثم بين أن أحكام الشريعة لا تنطوي إلا على العدالة والرحمة والتحضر الحقيقي، ولذلك لا معنى لردها باعتبارها رجعية، بل الرجعية في الاستبداد والظلم ومصادرة الحريات، والذي مارسه الذين يدعون التنوير، ومثلوه أحسن تمثيل، يقول معبرا عن ذلك: (إن علماء الإسلام منذ صدر الإسلام إلى اليوم لم يطرحوا ولا يطرحون من أنفسهم شيئاً، بل يبلغون قوانين الإسلام والوحي إلى الناس، فهل تبليغ القوانين الإلهية رجعية؟! وإذا كنتم تعتقدون بأحكام الإسلام، فإن الإسلام يحترم حرية الإنسان وسيطرته على ماله وحياته وعرضه، وقال بأن كل إنسان حر في كل ما لا يخالف القوانين الإلهية، وإذا هاجم أحد دار أحد فإن الإسلام يجيز لمن عُرِّض للهجوم أن يقتُل ذلك المهاجم، إلى هذا الحد يؤيد الإسلام الحريات! إن علماء الإسلام لا يأتون بشيء من أنفسهم، فكل ما نقوله هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل ما يقول الرسول أيضاً هو قول الله، فلو كنا رجعيين فإن ذلك يعني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعي، إذن أنتم تعتبرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعياً! تباً لهذا التجدد! فإذا كنتم تقبلون القوانين، وتقبلون الإسلام الذي نحن أتباعه فإن الإسلام هو مصدر جميع الحريات والتحرر والسيادة والاستقلال)([3])
ويقول: (إننا لسنا رجعيين، ولا نرفض آثار الحضارة، والإسلام لا يرفض آثار الحضارة، بل يتوق الى أن تتحكموا في جميع مقدرات العالم، والإسلام هو ذلك الذي أخضع هذه البلدان التي أصبحتم أسرى لها! وليست هذه الأفكار النيرة التي يحملها الرجال العظماء وعلماء الإسلام ومراجعنا العظام إلا من نور الإسلام. وأما الرجعية، فهي الأفكار المتهرئة والبالية التي يحملها السادة والتبعية العشواء للجميع وتقديم ثروات بلد للآخرين. وليسود وجه هذه الرجعية!)([4])
هذه نماذج عن خطابات الخميني التي وجهها لهذا الفريق من الناس، والذي ظل يحارب الجمهورية الإسلامية إلى اليوم، وللأسف وجد من المسلمين والعرب خصوصا من يقف في صفه، ويمد يده إليه، مع أنه لم يكن سوى خادم ذليل لأمريكا وإسرائيل، وجميع المحور الإمبريالي.
وقد اعتبره الخميني عميلا للاستعمار؛ فهو يفعل نفس ما يفعله المستعمر، يقول في الخطاب السابق: (إن جميع صحفنا ومجلاتنا بيد الاستعمار، وهو الذي يجعل الصحف بهذا الشكل من الابتذال لكي يسمم أفكار شبابنا. والاستعمار هو الذي ينظم برامجنا الثقافية بنحو لا يكون به شباب أقوياء في هذا البلد يضحون في سبيل إنقاذ الشعب. والاستعمار هو الذي ينظم برامج الراديو والتلفزيون تنظيماً يرهق أعصاب الناس ويجعلهم يفقدون معه القوة والطاقة، ونحن نعارض هذه المظاهر الاستعمارية، فهل نحن رجعيون، وأنتم تقدميون؟ ليس في كلامنا خصام وجدال وسباب، فتعالوا لنرى أية حضارة نعارضها؟ نحن نعارض الفساد، وإسرائيل هي التي تنظم مشاريعكم الإصلاحية وأنتم تجلبون الخبراء العسكريين من إسرائيل، وتبعثون الطلاب من هنا إلى إسرائيل، ونحن نعارض هذه الأعمال، نحن نقول: إن جميع البلاد الإسلامية وقفت صفاً واحداً مقابل الكفر وإسرائيل، فيما تقفون أنتم وتركيا مع إسرائيل في الطرف المقابل. ونقول: ليس هذا عملًا جيداً، فلا تتجاهلوا عواطف الشعب إلى هذه الدرجة، فيقف المسلمون في طرف، وإيران في طرف! فوالله إن هذا مضر، وعندئذ يظن الإخوة من أهل السنة أن الشيعة هم عبدة اليهود!)([5])
الثانية: الإسلاميون من أبناء الحركات الإسلامية، وخاصة من ذوي التوجهات التقدمية، والذين راحوا ينتقدون تولي الفقهاء لشؤون السلطة، ورأوا أن ذلك ليس شأنهم، بل تصوروه نوعا من الاستبداد، وراحوا يصفونه بما يصفون به الدولة الدينية التي مثلتها الكنيسة، وأساءت تمثيلها.
وقد كان هؤلاء في بدايتهم يمثلون نفس الخط الذي كان يسير عليه قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، بل كان التواصل بينهم كبيرا إلى درجة أن بعضهم اعتبر الخميني مجدد هذا العصر، بل اعتبره الخليفة الشرعي الذي يجب على المسلمين جميعا اتباعه.
وقد ورد في كتاب [الإخوان المسلمون وإيران: الخميني – خامنئي]، أنه بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، بادرت الجماعة وعدة جماعات إسلامية سنية أخرى إلى تهنئة الخميني، ومد يد التعاون للعمل المشترك وفق مرجعية الثورة الإسلامية.
وذكر أن وفدا من الإخوان زار طهران، وعارضوا استضافة الشاه في مصر، وناصروا إيران في حربها ضد العراق، خاصة في بداية المواجهات، وبعد وفاة الخميني، سنة 1989، نعته الجماعة واحتسبته (فقيد الإسلام الذي فجر الثورة ضد الطغاة)
لكنهم ـ وبعد الحملة الشديدة التي قادتها السعودية ومصر ودول الخليج ضد إيران ـ تحولوا تحولا جذريا، وصاروا ينتقدون هذا النظام، مع كونه يعبر عن طموحاتهم وأهدافهم.
ولم يكن ذلك الانتقاد وليد بحث علمي، ولا تحقيق موضوعي، بل كان مجرد ردة فعل لا مسوغ لها، ذلك أنهم كانوا يريدون من الخميني أن يتخلى عن تشيعه ومذهبه الذي ربي عليه، ويصبح مالكيا أو شافعيا حتى يتحقق رضاهم عنه.
وقد عبر عن ذلك سعيد حوى ـ زعيم الإخوان المسلمين في سورية حينها ـ حين قال: (عندما أنتصر الخميني ظن المخلصون في هذه الأمة أن الخمينية إرجاع للأمر إلى نصابه في حب آل بيت رسول الله وتحرير التشيع من العقائد الزائفة والمواقف الخائنة، خاصة وأن الخميني أعلن في الايام الأولى من انتصاره أن ثورته إسلامية وليست مذهبية، وأن ثورته لصالح المستضعفين ولصالح تحرير شعوب الأمة الإسلامية عامة ولصالح تحرير فلسطين خاصة، ثم بدأت الأمور تتكشف للمخلصين، فإذا بالخميني هذا يتبنى كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ، وإذا بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني والخمينية، فكانت نكسة كبيرة وخيبة أمل خطيرة)([6])
مع أن المواقف التي ذكرها الخميني بعد الثورة هي نفسها التي ذكرها بعد الثورة، ولم يكن فيها أي غلو ولا شطط، وقد تطرقنا إلى ذلك بتفصيل في الجزء السابق من هذه السلسلة.
وهكذا كان الحال في الجزائر، حيث تأثر الحركيون الجزائريون بدعوة الخميني ومنهجه وانتصاراته، لكنهم ـ للأسف ـ وبتأثير من السعودية والخليج انقلبوا على ذلك.
ومن باب الشهادة لله، نذكر أن بعضهم، بل من كبارهم من بقي على نظرته للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولنظامها، ولم يتأثر بذلك الضخ الإعلامي الكبير، ويتربع على رأسهم شيخ الحركة الإسلامية في الجزائر الشيخ أحمد سحنون، الذي قال: (إنّ الإمام الخميني عاش في المجد والفخار، وكان صادق العزم وصانع الصحوة الإسلامية)([7])
بل رثاه بقصيدة قال فيها:
غاب
الخميني تباًّ لدنيا |
تصاب بالموت والدَّمار | |
لكن
مجد الإمام يبقى |
بلا زوال ولا اندثار | |
ما
مات من كان كالخميني |
قد عاش للمجد والفخار | |
يا
قاهر
الشاه يا مجيدا |
طرد العدوّ من الديار | |
يا
صادق العزم يا محيلا |
ضعف الشعوب إلى انتصار | |
يا
صانعاً صحوة أحالت |
عزّ الطغاة إلى اندحار! | |
عش
في قلوب الشعوب حياًّ |
يبقى مدى الليل والنهار! | |
ودُمْ
مناراً إلى المعالي |
أعظم بذكراك من منار! | |
طهران
بعدك سوف تمضي |
تقفو خطاك بلا عثار | |
يا
رب لا تحرم
الخميني |
من خير دار وخير جار | |
ولا
تعذّبه يا إلهي |
بزمهرير ولا بنار | |
فإنّه
عاش في جهاد |
بلا هدوء ولا قرار |
أما موقف قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من هذا الاتجاه خصوصا؛ فقد كان موقفا طيبا، لاشتراكهم معهم في الدعوة لحاكمية الشريعة، ولهذا نرى اهتماما كبيرا بكتب سيد قطب، وترجمتها للفارسية، بل تولى الترجمة القائد الحالي للجمهورية الإسلامية، السيد علي الخامنئي.
ومن تلك الكتب التي ترجمها الخامنئي كتاب [المستقبل لهذا الدين]، وجعل عنوانه: [بيان ضد الحضارة الغربية]، وقد أثنى في مقدمته كثيرا على سيد قطب ووصفه بـ [المفكر المجاهد]، وذكر أن كتبه تشكل خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية.
ونحب أن نرد هنا على من يصورون الخميني أو قادة الثورة الإسلامية بمثابة التلاميذ والأتباع للفكر الإخواني، وأنهم تأثروا في قولهم بالحاكمية بسيد قطب أو أبي الأعلى المودودي، أو جماعات الإسلام السياسي، بأن ذلك غير صحيح.
فكتابات الخميني وبياناته وفتاواه في هذا المجال سبقت سيد قطب وأبي الأعلى المودودي بكثر، ومن الأمثلة على ذلك تلك الرسالة التي كتبها الخميني سنة 1944م، وفسر فيها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46]؛ فقال: (لقد بين الله تعالى في هذا الكلام الشريف مسير البشرية، منذ المنزل الأول المظلم للطبيعة وحتى نهاية هذا المسير. وهو أفضل موعظة اختارها إله العالم من بين جميع المواعظ، واقترح على البشر هذه الكلمة الواحدة التي ينحصر فيها طريق إصلاح الدارين وهي: القيام لله الذي بلغ بإبراهيم خليل الرحمن منزل الخلّة، وأطلقه من المظاهر المختلفة لعالم الطبيعة. لقد خاض إبراهيم في علم اليقين حتى قال لا أحب الآفلين.. والقيام لله هو الذي سلّط موسى الكليم بعصاه على آل فرعون، ودمّر عروشهم وتيجانهم، وأوصله إلى لقاء المحبوب ومقام الصحو.. والقيام لله هو الذي جعل خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم يتغلب ـ لوحده ـ على جميع العادات والعقائد الجاهلية، وأزال الأصنام من بيت الله، ووضع مكانها التوحيد والتقوى، وأوصل ذاته المقدسة إلى قاب قوسين أو أدنى.. وحب الذات وترك القيام لله أوصلانا إلى هذه الأيام السود، وسلطا أهل العالم ـ جميعاً ـ علينا، وجعلا البلاد الإسلامية تحت نفوذ الآخرين.. فالقيام للمصالح الشخصية هو الذي خنق روح الوحدة والأخوّة بين الشعب المسلم، والقيام للنفس هو الذي فرق أكثر من عشرة ملايين شيعي وفصلهم عن بعضهم، فأصبحوا لقمة (في أفواه) حفنة من عباد الشهوة الجالسين وراء الموائد)([8])
ثم راح يخاطب الأمة بأن تنهض لتعيد الحاكمية لله، فقال: (فيا أيها العلماء المسلمون الربانيون، أيها العلماء المتدينون، أيها المتحدثون الذين تحبون الشريعة، أيها المتدينون المحبون لله، أيها المحبون لله الطالبون للحق، أيها الطالبون للحق الشرفاء، أيها الشرفاء الوطنيون، أيها الوطنيون أصحاب الكرامة، اقرأوا موعظة إله العالم، واسلكوا طريق الإصلاح الوحيد الذي اقترحه، واتركوا المصالح الشخصية كي تنالوا سعادة الدارين جميعها، وتتمتعوا بالحياة الشريفة فيهما.. اليوم يوم هب فيه النسيم الروحي الإلهي، وهو أفضل يوم للقيام الإصلاحي؛ فإذا فقدتم الفرصة، ولم تقوموا لله، ولم تعيدوا المراسم الدينية، فسلّط عليكم غداً حفنة من التائهين الراكضين وراء شهواتهم، ويجعلون شريعتكم وشرفكم عرضة لأغراضهم الباطلة، وما هو عذركم اليوم أمام إله العالم؟!.. إنكم إذا لم تقوموا من أجل حقكم المشروع، نهض الحمقى الفاقدون للدين، وبدأوا في كل ناحية يضربون على وتر عدم التدين، ولسوف يتسلطون عليكم ـ أيها المتفرقون ـ قريباً تسلطاً يجعل أيامكم أصعب من زمان رضا خان)([9])
الثالثة: الإسلاميون من ذوي التوجهات السلفية، والذين وقفوا منه موقفا سلبيا منذ البداية، مع كونهم لم يعارضوا الشاه، ولا إيران في فترة علمانيتها، ولعل من أسباب ذلك تلك المواقف الشديدة من قادة الثورة الإسلامية من النظام الملكي، واعتباره بدعة لا علاقة لها بالإسلام، على عكس ما يذهب إليه فقهاؤهم الذين تحالفوا مع كل الأنظمة الملكية.
ومن أمثلة ذلك قول الخميني في أوائل كتبه السياسية: (إنّ الله تعالى يشير في هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] إلى تشكيل الحكومة الإسلامية حتى يوم القيامة. وواضح جداً أنه لم يوجب حاكمية أحد غير هؤلاء الثلاثة، ولأنه أوجب على جميع أفراد الأمة طاعة أولي الأمر فإنه يجب البحث حول من هم أولو الأمر.. إن بعضهم يقول: إنهم الملكوك والأمراء! وإن الله أوجب على الناس طاع سلاطينهم وملوكهم! وها نحن نحتكم إلى العقل الذي وهبه الله لنا.. إن إله العالم أرسل نبي الإسلام بآلاف الأحكام السماوية، ووضع أسس حكومته على مبدئي التوحيد والعدل. هذا الإله نفسه الذي قوى أساس العدل في العالم بتضحيات المسلمين، ومنع المظالم وانتهاك العفة؛ فهل يأمر الناس بأن يطيعوا أتاتورك الذي يعرف جميع الناس ماذا فعل بأصحاب الدين وكيف ظلم الناس؟! أو يأمر بطاعة بهلوي الذي رأيتم جميعاً ماذا صنع؟! والذي لو أراد أحد أن يعد مخالفاته الصريحة لله والقرآن فإنه قد يحتاج إلى كتاب.. إن هذا الإله الذي وضع أسس الدين والعدل ويأمر بنفسه بهدم هذا البناء، لن يقبله العلماء إلهاً عادلاً وقاسطاً، وإن مقام الألوهية منزه عن هذه الأعمال التافهة)([10])
ونحب أن نذكر هنا أن هذا الكتاب [كشف الأسرار]، وربما بسبب مواقفه الشديدة من هذا النوع من الأنظمة ترجم ترجمات مشوهة من طرف الاتجاه السلفي، وصارت تلك الترجمة هي المصدر الذي يعتمدون عليه في تشويه إيران ونظامها([11]).
وهكذا أعلن في كتابه [الحكومة الإسلامية] عن موقفه من هذا النوع من الأنظمة بقوله: (فالملكية والحكم الوراثي هي مما أبطله الإسلام وألغاه في صدر الإسلام في ايران وبلاد الروم الشرقية ومصر واليمن. ولقد دعا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله المباركة امبراطورية الروم الشرقيين (هراكليوس) وملك ايران إلى التخلي عن نمط الحكومة الملكية والامبراطورية، وعن إلزام عباد الله بالطاعة والعبودية المطلقة لهم، وليتركوهم ليعبدوا الله الواحد الذي لا شريك له، الذي هو السلطان الحقيقي.. الملكية والحكم الوراثي هي ذلك الطراز من الحكم المشؤوم والباطل الذي ثار سيد الشهداء صلى الله عليه وآله وسلم واستشهد من أجل المنع من إقامته، فلقد ثار ودعا جميع المسلمين للثورة لكي لا يخضع لولاية عهد يزيد، ولكي لا يعترف رسمياً بسلطنته، فهذه الأمور ليست من الإسلام، الإسلام ليس فيه ملكية وحكم وراثي)([12])
الرابعة: بعض مدارس الشيعة ومراجعهم، والذين تصوروا أن بناء دولة يحكمها الفقيه الشيعي، يتنافى مع مبدأ انتظار الإمام المهدي، بل تصوروا أن ذلك سيلغي دوره، ويرفع الحاجة لظهوره.
وقد رد عليهم قادة الثورة الإسلامية ردودا كثيرة، منها قول الخميني مخاطبا لهم: (من البديهي أن ضرورة تنفيذ الأحكام التي استلزمت تشكيل حكومة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليست منحصرة ومحدودة بزمانه صلى الله عليه وآله وسلم، فهي مستمرة أيضاً بعد رحلته صلى الله عليه وآله وسلم. وفقاً للآيات القرآنية الكريمة، فإن أحكام الإسلام ليست محدودة بزمان ومكان خاصين، بل هي باقية وواجبة التنفيذ إلى الأبد؛ فلم تأت لأجل زمان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لتترك بعده ولا تنفّذ أحكام القصاص، أي القانون الجزائي للإسلام. أو لا تؤخذ الضرائب المقررة، أو يتعطل الدفاع عن الأراضي والأمة الإسلاميتين، والقول بأن قوانين الإسلام قابلة للتعطيل، أو أنها منحصرة بزمان أو مكان محددين خلاف الضروريات العقائدية في الإسلام، وعليه فبما أن تنفيذ الأحكام ضرورة بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الأبد، فإن تشكيل الحكومة وإقامة السلطة التنفيذية الإدارية يصبح ضرورياً، فبدون تشكيل الحكومة، وبدون السلطة التنفيذية والادارية ـ والذي يجعل جميع تصرفات وأنشطة أفراد المجتمع خاضعاً لنظام عادل، وذلك عن طريق تنفيذ الأحكام ـ بدون ذلك تلزم الفوضى، ويتفشى الفساد الاجتماعي والعقائدي والأخلاقي، إذن لا مفر من تشكيل الحكومة، وتنظيم جميع الأمور التي تحصل في البلاد منعاً للفوضى والتفسخ. وعليه فما كان ضرورياً في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين بحكم العقل والشرع، من إقامة الحكومة والسلطة التنفيذية والادارية، فهو ضروري بعدهم، وفي زماننا أيضاً)([13])
ثم راح يسألهم قائلا: (هل يجب أن تبقى الأحكام الإسلامية طيلة فترة ما بعد الغيبة الصغرى إلى اليوم حيث مضى أكثر من ألف عام، ومن الممكن أن تمر مائة ألف عام أخرى دون أن تقتضي المصلحة ظهور صاحب الأمر ـ فهل يجب أن تبقى مطروحة وبلا تطبيق، وليعمل كل امرئ ما يشاء؟ ولتعم الفوضى؟ فهل كانت القوانين التي جهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل بيانها وإبلاغها ونشرها وتطبيقها مدة ثلاث وعشرين سنة، هل كانت لمدة محدودة فقط؟ وهل حدَّد الله تعالى تنفيذ أحكامه بمدة مئتي سنة فقط؟ وهل ترك الإسلام كل ما فيه بعد الغيبة الصغرى؟)
ثم أجاب على ذلك بقوله: (الاعتقاد بأمور كهذه أو إظهارها أسوأ من الاعتقاد أو الإظهار للقول بنسخ الإسلام… لا أحد يستطيع القول أنه لم يعد من الواجب الدفاع عن حدود وثغور جميع أراضي الوطن الإسلامي.. أو أنه يجب تعطيل قانون الإسلامي العقوبات والديات والقصاص. فكل من يقول أنه لا ضرورة لتشكيل الحكومة الإسلامية، فهو منكر لضرورة تطبيق الأحكام الإسلامية، ولجامعيتها، ولخلود دين الإسلام المبين)
ونحب أن نذكر هنا أن ما قرره الخميني في هذا المجال لا يعني ثورة على التشيع، أو تصحيحا له، كما ذهب بعض الباحثين، وإنما هو فرع أصيل في التشيع، لم تتح له الظروف التي تبرزه للواجهة ليؤدي دوره في التغيير السياسي؛ فقد كانت الحكومات المستبدة تمنع الشيعة من الحديث في السياسة، وهذا ما جعلهم يمارسون التقية حرصا على بقاء مذهبهم.
ومثل ذلك حصل في المدرسة السنية، والتي اتفق فقهها السياسي القديم على عرض الفقه السياسي، أو السياسة الشرعية انطلاقا من الواقع السياسي، لا من حقيقة الإسلام ذاته.
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل التعرف على الأدلة التي اعتمدها الخميني وقادة الثورة الإسلامية في هذه النظرية السياسية، وكيف ردوا على مخالفيهم، أما الآليات التي نفذت بها هذه النظرية، والضوابط التي تحكمها، فسنتعرض لها في الفصل الثاني.
وبما أ هناك اتفاقا بين قادة الثورة الإسلامية في إيران مع الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي على مواجهة العلمانية والدعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية؛ فقد ظهرت الكتابات الكثيرة التي تخدم الشق الأول من حاكمية الشريعة، وهو حاكمية الفقه الإسلامية، وكونه الإطار المرجعي الذي يُعتمد عليه في جميع القوانين التي تسنها الدولة.
أما الشق الثاني، وهو المرتبط بحاكمية الفقيه، ولزوم كونه المشرف على تطبيق الشريعة، بل المنفذ لذلك؛ فإن الكتابة فيه ـ حسبما أعلم ـ بقيت محصورة في قادة الثورة الإسلامية في إيران، الذين ألفوا المؤلفات الكثيرة التي تؤصل لهذا الجانب، بل تجعل من حاكمية الشريعة دليلا على حاكمية الفقيه، ذلك أنه لا يمكن عزل الفقيه، أو التهوين من شأنه في الوقت الذي يراد فيه تطبيق الشريعة، مثلما لا يعزل الطبيب أو المهندس عن مجالهما.
ومن المؤلفات التي ألفت في ذلك، وكانت مصدرا من مصادر التأصيلات والتنظيرات المرتبطة بولاية الفقيه، وما يصحبها من حاكمية الشريعة كتاب [الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه] للإمام الخميني، والذي كان عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب العلوم الدينية في النجف، وتحدث فيه بتفصيل عن الأدلة الكثيرة على ولاية الفقيه، وعلى التحريقات التي حاولت أن تزيل الجانب السياسي من الدين، وذكر فيه الأدلة العقلية والشرعية الموجبة لتشكيل الحكومة، كما تحدث فيه عن نظام الحكم الإسلامي، وشروط الحاكم المسلم، والدور الذي يجب على العلماء القيام به لتحقيق ذلك في الواقع.
وقد لاقى الكتاب ـ منذ صدوره ـ ردود فعل مختلفة من الإيرانيين وغيرهم، حيث أنه في الوقت الذي استقبل فيه استقبالا طيبا من العلماء وطلبة العلم الذين شكلوا فيما بعد الأساس الذي قامت عليه الثورة الإسلامية الإيرانية، استقبل استقبالا قاسيا من المعارضين سواء كانوا من السياسيين أو رجال الدين التقليديين الذين يرون أنه ليس على الفقيه أن يتحدث في السياسة، ولا أن يمارسها.
وقد ذكر نجل الخميني السيد أحمد بعض تلك المواقف، فقال: (أما [الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه] فهو مجموعة تضم (16) درساً من دروس الإمام التي ألقاها في الحوزة العلمية في النجف، وعندما شرع الإمام في بحث ولاية الفقيه بدأ اعتراض الرجعيين في تلك الحوزة، فحركوا بعض الأشخاص لكي يترك الدرس عدد من الذين يحضرون هذه الدروس، وقد نجحوا في ذلك مع الأسف، إذ قال الإمام: إن بعضهم لم يحضر منذ بداية هذا الدرس وحتى نهايته لأنهم كانوا يعتقدون ـ حتماً ـ بأنه يجب أن يحكم الشاه وصدام، وليس الإمام والمجتهد الجامع للشرائط، فكانوا يقولون: إن الحكومة ليست من شأن الفقيه! وكم لاقى منهم أصحاب الإمام الخلَّص من عذاب ومتاعب، وبدأت النزاعات فضايقوا الإمام وآذوه، ولكنه لو كان يمكن للإمام أن يعطل أعماله بسبب هذه الأمور لما انتهى به الأمر إلى النجف، ولترك الجهاد ضد الشاه ونظامه وهو في قم)([14])
وقد ذكر موقف الخميني من تلك التشنجات التي أبداها المخالفون له؛ فقال: (لقد سمع الإمام مثل هذا الكلام كثيراً، ولذلك فعندما كان أصحابه القليلون الصابرون والصامدون المخلصون ينفد صبرهم وتتعبهم الشتائم، كانوا يأتون الإمام ليستلهموا منه روحاً جديدة، فيقول لهم: عليكم بالاستمرار في عملكم ولا تنصتوا لهذه الأقوال. إنكم مسؤولون، وواجبكم العمل وفقاً لمسؤوليتكم وتحمل الصعاب والشتائم بصدر رحب، من أجل خلاص المسلمين، وعليكم أن لا تتركوا عملكم الصالح مهما قالوا لكم ومهما ضايقوكم؛ فلن يكون ذلك بمقدار يوم واحد من الصعاب التي تحملها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أصحابنا القليلون يعالجون قلة عددهم برفع عزائمهم، ويغادرون الإمام بإرادة من حديد)([15])
وذكر السيد أحمد كيف استقبل الكتاب في إيران، وموقف السلطات الحاكمة منه؛ فقال: (وفي الوقت نفسه قام أصحاب الإمام الموجودون بالآلاف في حوزة قم العلمية بطبع هذه الكتب وتوزيعها بكل قدرتهم، وحتى إن السيد لاجوردي مدعي عام طهران (سابقاً) باع الكراسات التي تحتوي على هذه الدروس (دروس الإمام في الحكومة الإسلامية) في محلّه علناً، واعتُقل بعد ذلك.. لقد انتشرت هذه الكتب بسرعة البرق في جميع الحوزات العلمية والمحافل الدينية، وبذل المرحوم آية الله الرباني الشيرازي جهداً كبيراً في نشر هذا الكتاب، وما أحسن ما أدى أنصار الإمام في إيران رسالتهم مع وجود التعذيب والسجن والنفي)([16])
ويمكننا اعتبار هذا الكتاب هو المصدر الأكبر الذي ضم أكثر الأدلة وأقواها على مشروعية ولاية الفقيه، ولذلك كان له تأثيره كبيرا في الأوساط الإيرانية خصوصا، بل كان السبب الأكبر في جعلها مستعدة لتقبل هذا النظام الجديد، وهو ما يرد بقوة على تلك الأطروحات التي تصور قادة الثورة الإسلامية في إيران منقلبين على الشعب الذي وقف معهم، ذلك أن أطروحاتهم واضحة من خلال هذا الكتاب وغيره من الكتب والبيانات التي كانت تصدر على كل حين، وسنرى تفاصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
ومن الكتب التي أصلت لهذا النظام كتاب [الإمامة والولاية: قيادة المجتمع الإسلامي ومسؤولية المسلم] للقائد الحالي للثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، وقد ذكر فيه الكثير من المسائل المؤصلة لهذا النظام انطلاقا من القرآن الكريم، بالإضافة إلى ذكره لشروط الولي الفقيه وصفاته وغير ذلك.
ومنها كتاب [أساس الحكومة الإسلامية] للسيد كاظم الحائري، وهو عبارة عن دراسة استدلالية مقارنة بين الديمقراطية والشورى وولاية الفقيه، وقد ذكر فيه ولاية الفقيه، وأثبتها من خلال ذكر شروط الولاية، ثم إجراء مقارنة بين الشورى وولاية الفقيه.
ومنها كتاب [الأسس المهمة في النظام الإسلامي] للشيخ محمد علي التسخيري، وقد تطرق فيه إلى الكثير من التأصيلات لهذا النظام ابتداء من الرؤية الكونية، وانتهاء بتطبيقاته العملية.
ومنها كتاب [الإرشاد إلى ولاية الفقيه] للسيد يوسف المدني التبريزي، وهو بحث استدلالي حول ولاية الفقيه، تحدث فيه عن أهمية الفقيه في الروايات، ثم عن ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت؛ ثم تحدث عن ولاية الفقيه، والاستدلال عليها من الروايات، وفي الكتاب مباحث تفصيلية مهمة كمسألة القضاء، والفرق بين الحكم والفتوى، والتصرف بأموال الخمس، ومسألة الحدود والتعزيرات، إلى غير ذلك من المباحث المهمة.
ومنها كتاب [الدولة الإسلامية] للشيخ عبد المنعم مهنا، وهو بحث في ولاية الفقيه، تحدث فيه عن ولاية الفقيه في تاريخ الفقه الشيعي وتطوره، وفي كتب أهل السنة، ثم تحدث عن أدلة ولاية الفقيه في الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ثم عن شروط الولي، مع مسائل أخرى مهمة مثل الفرق بين الحكم والفتوى،و حالة تساوي الفقهاء هل تنتج الشورى، ورأي الأكثرية، هل يلزم مشاورة الفقيه للعلماء؟ وغيرها من المسائل.
ومنها كتاب [ولاية الفقيه والنظام الدستوري الإسلامي] للشيخ جعفر حسن عتريسي، وبحث فيه عن صفات الولي، وكون الإسلام مشروع حكم في ظل ولاية الفقيه، وعن صلاحيات الولي، وضرورة الدستور، وخصائص الدولة المعاصرة عبر أوجهها المختلفة، كالنظام البرلماني والرئاسي والماركسي والديمقراطي، وتحدث عن مبدأ الفصل بين السلطات، مشيراً إلى السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في النظام الإسلامي، ومبدأ فصل السلطات من وجهة النظر الإسلامية، ومتحدثاً عن الديمقراطية والشريعة الإسلامية.
وغيرها من الكتب الكثيرة([17])، والتي حاولنا الاستفادة منها جميعا في التعرف على حقيقة ولاية الفقيه، والأدلة الشرعية عليها، وإن كان تركيزنا خصوصا على كتاب [الحكومة الإسلامية] للخميني باعتباره المصدر الذي رجع إليه كل من تحدث عن ولاية الفقيه.
بناء على هذا سنلخص هنا مجمل الأدلة على كلا الفرعين في حاكمية الشريعة الإسلامية: حاكمية قوانين الشريعة، وحاكمية الفقيه من خلال طروحات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، وخصوصا الإمام الخميني.
أولا ـ التأصيل الشرعي للحكومة الإلهية:
عند استقراء ما كتب حول البراهين الدالة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال السياسي، وما يرتبط به من مجالات، نجد صنفين من الأدلة:
أولها ـ أدلة عقلية وواقعية تحاول أن تخاطب جماهير الناس بمختلف مشاربهم حتى العلمانيين منهم، لتثبت لهم أن الشريعة ـ في حال تطبيقها الصحيح ـ لا تتعارض مع أي مصلحة، ولا تتسبب في أي مفسدة، بل هي تضمن تحقيق جميع المصالح، وبأقل التكاليف، وبأجمل الصور.
ثانيها ـ الأدلة النصية، وهي الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يفسرها من الروايات والشروح وأقوال الفقهاء، وهي تتوجه للمسلمين الملتزمين خصوصا، لتبين لهم أن الشريعة التي آمنوا بها شريعة شاملة لجميع مناحي الحياة، ولذلك لا يصح أن يتوجه المؤمنون لله بالعبادة في صلاتهم وصومهم، في نفس الوقت الذي يضيعون فيه أوامر الله المرتبطة بالثقافة والاقتصاد والسياسة وسائر شؤون الحياة.
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية الإيرانية كلا الأسلوبين في البرهنة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، واعتبار أحكامها قوانين قطعية تخضع لها كل المؤسسات، ولا خيار لها في تطبيقها، باعتبارها أوامر الله ورسوله، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
وسنحاول هنا ـ باختصار أن نورد كلا الصنفين من الأدلة ـ من خلال المصادر التي سبق ذكرها.
1 ـ البراهين العقلية والواقعية على شرعية الحكومة الإلهية:
تنطلق كل القوانين الوضعية، والفلسفات التي تقوم عليها من محاولة الوصول بالمجتمعات إلى تحقيق النظام والسعادة والرفاه، وتحاول أن تبحث عن أقرب السبل التي يمكنها تحقيق ذلك، من غير أن تصطدم بأي عقبة، لكنها لم تفلح في تحقيق ذلك في الواقع، نتيجة تنوع البشر واختلاف مصالحهم وأذواقهم وطبائعهم وتصوراتهم للحياة، بحيث يستحيل أن يرضى الجميع بنظام واحد.
وقد نقل العلامة الكبير وحيد الدين خان في كتابه [الإسلام يتحدى] عن فلاسفة القانون الغربي الاعتراف بهذا الإشكال الكبير، وقدم لذلك بقوله: (السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه عند البحث في المشكلات الحضارية يكون دائما عن التشريع أو الدستور، فهذه المشكلات تنشأ عن علاقة الفرد بغيره، والتشريع هو الذي يحدد هذه العلاقة على أساس من العدل والانصاف، ولكن من المذهل أن أقول: إن الانسان لم يفلح إلى الآن في الكشف عن دستور حياته! صحيح أن جميع الدول في العالم قائمة على أسس الدستور؛ ولكن هذه الدساتير مخفقة تماما في الوصول الى أهدافها، بل لايوجد هناك مايسوغ وجود هذه الدساتير سوى أنها تنفذ بالقوة والاجبار، ومن الحقائق المعروفة لرجال القانون أن جميع الدساتير الرائجة في هذا العصر تفقد أية أسس علمية أو نظرية تجيز بقاءها)([18])
وهو ينقل من المصادر الغربية اعترافها بالعجز عن الوصول إلى القانون الحقيقي المبني على أصول نظرية وفلسفية مسلّم بها، حتى أن الأستاذ (فولر) مؤلف كتاب (القانون يبحث عن نفسه)، قال: (إن القانون لم يكشف عن نفسه بعد!) ([19])
ويذكر أنه (وضعت كتب لاحصر لها حول هذا الموضوع بالذات؛ وبذلت عقول جبارة من علمائنا أوقاتها في سبيل البحث عن مقومات القانون. وكما يرى محرر (موسوعة تشامبرز) (لقد أعطى القانون أهمية علم هام، حتى رفع من شأنه الى أقصى الحدود)، ولكن كل هذه الجهود لم توفق في الحصول على صورة متفق عليها من القانون، وقد تشعبت بهم السبل، حتى قال خبير في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا!!)([20])
وبناء على هذا انقسم خبراء التشريع الى مدارس فكرية كثيرة؛ والسبب في ذلك ـ كما يرى، وكما ينقل عن فلاسفة الغرب ـ هو (عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن إقامة صريح التشريع عليه، إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد. ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى، ومن ثم باءت كل الجهود التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي بالفشل الذريع) ([21])
أو كما عبر عن ذلك الأستاذ (و. فريدمان) بقوله: (إنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى)
وبناء على هذا ذهب الكثير من فلاسفة التشريع إلى أن القانون لا ينطلق من أسس فلسفية ولا علمية، وإنما ينطلق من السلطة والغلبة، فالمتغلب هو السيد الذي يمكنه أن يضع القوانين، ويمكنه أيضا أن يفرضها، حتى لو لم تكن متناسبة مع طبائع المجتمعات التي يفرضها عليها، وقد نقل وحيد الدين خان عن (جون آستين) قوله: (إن الدستور، أي دستور، لايصبح نافذ المفعول الا اذا كانت تسنده قوة من ورائه)، ولذلك عرف (القانون) في كتابه، الذي نشر لأول مرة عام 1861، بقوله: (القانون هو الحكم الذي أصدره رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية) ([22])
ويذكر وحيد الدين خان أن هذا النوع من القوانين عورض بموقف آخر معاكس تماما له، وهو أن الشعب هو الذي يمكنه أن يسن القوانين التي يمكنها أن تطبق عليه، لكن هذا أيضا اصطدم باختلاف أذواق الشعوب ومشاربها وتصوراتها للحياة، (وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها، وعلى سبيل المثال لم يتمكن الأمريكيون من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه.. كما اضطر البريطانيون إلى إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا الى إباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون!)([23])
وهكذا نرى عجر العقل البشري عن تحديد القوانين المناسبة التي تحكمه، والتي يمكنها أن توفر له السعادة والرفاه، وفي نفس الوقت تحمي القيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية من أن تنهار وينهار معها الإنسان، مثلما هو حاصل في المجتمعات الغربية التي أتاحت كل أنواع الشذوذ إرضاء للأذواق التي لا يعجبها إلا الشذوذ.
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية هذه المعاني لإقناع الشعب الإيراني بعقلانية تحكيم الشريعة، ذلك أنها وحدها من يراعي المصالح جميعا، مصالح الدنيا والآخرة، ولا يصطدم بأي مشكلة كتلك المشكلات التي اصطدمت بها المجتمعات الغربية.
وقد ذكر الخميني أن السبب وراء الغفلة عن هذا مع كونه من البديهيات التي يذعن لها كل مسلم يعترف لله بالعبودية، اليهود والاستعمار بأشكاله المختلفة، يقول في ذلك: (لقد ابتليت النهضة الإسلامية منذ انطلاقتها باليهود، فهم الذين شرعوا أولاً بالدعاية ضد الإسلام وبالدسائس الفكرية بنحو وصل مداه إلى أيامنا هذه، ووصل الدور بعدهم إلى طوائف هم ـ بمعنى من المعاني ـ أكثر شيطنة من اليهود، وهؤلاء استطاعوا الوصول إلى البلاد الإسلامية على شكل استعمار منذ ثلاثة قرون أو أكثر، وقد رأوا أنه من اللازم لكي يصلوا إلى مطامعهم الاستعمارية أن يهيئوا الأرضية للقضاء على الإسلام. ولم يكن هدفهم إبعاد الناس عن الإسلام لتقوية النصرانية، لأن هؤلاء لا يعتقدون بالنصرانية ولا بالإسلام، لكنهم ـ وطوال هذه المدة وأثناء الحروب الصليبية ـ شعروا أن الذي يقف سداً أمام مصالحهم المادية، ويعرّض مصالحهم المادية وقواهم السياسية للخطر هو الإسلام وأحكامه وإيمان الناس به، فقاموا بالدعاية والدس ضد الإسلام بمختلف الوسائل، وقد تعاضد في العمل على تحريف حقائق الإسلام رجال الدين الذين أوجدوهم في الحوزات العلمية، والعملاء الذين كانوا يعملون لهم في الجامعات والمؤسسات الإعلامية الحكومية أو مراكز النشر، والمستشرقين الذي هم في خدمة الدول الاستعمارية، فهؤلاء جميعاً تكاتفوا في ذلك بنحو صار فيه الكثير من الناس والمثقفين في حالة من الضياع والانحراف عن الصواب تجاه الإسلام)([24])
ويذكر الدور السلبي الذي قام به رجال الدين نتيجة تجاهلهم لما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة بجميع شؤون الحياة، فقال: (إن هذا التصور الخاطئ عن الإسلام الذي يلقي في أذهان عامة الناس، والشكل الناقص الذي يعرض فيه الإسلام في الحوزات العلمية هدفه سلب الخاصية الثورية والحياتية للإسلام، ومنع المسلمين من السعي للقيام والتحرك والثورة، ومن أن يكونوا متحررين وساعين لتطبيق الأحكام الإسلامية، ومن أن يؤسسوا حكومة تؤمن سعادتهم ويكوّنوا الحياة اللائقة بالإنسان، فكانوا يشيعون مثلاً أن الإسلام ليس ديناً جامعاً، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم، الإسلام أحكام حيض ونفاس فحسب، وفيه بعض التوجيهات الأخلاقية أيضاً، لكن ليس فيه شيء مما يرتبط بالحياة وإدارة المجتمع، ومن المؤسف أن دعاياتهم السيئة هذه قد أثَّرت، وحالياً ـ فضلاً عن عامة الناس ـ فإن الطبقة المثقفة سواء من الجامعيين أو الكثير من رجال الدين لم يفهموا الإسلام جيداً، وهم يمتلكون تصورات خاطئة تجاهه، والناس يجهلون الدين، كما يجهلون الأشخاص الغرباء عنهم، فالإسلام يعيش بين شعوب الدنيا بغربة كما أنه لو أراد الانسان أن يعرض الإسلام كما هو فلن يصدقه الناس بسرعة، بل تواجهه أصوات الاستعمار في الحوزات بالضجيح والغوغاء)([25])
ثم يذكر الخميني كثرة ما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة بشؤون الحياة المختلفة، مقارنة بين ما ورد في الشعائر والعبادات التي استغرق الفقهاء جل وقتهم في الاهتمام بها، مع تضييع الجوانب الأخرى؛ فيقول: (ولكي يتضح شيئاً ما عظم الفرق بين الإسلام وبين ما يعرض على أنه الإسلام ألفت نظركم إلى التفاوت الموجود بين القرآن الكريم وكتب الحديث، والتي هي مصادر الأحكام والقوانين من جهة، وبين الرسائل العملية التي تكتب من قبل مجتهدي العصر ومراجع التقليد من جهة أخرى من ناحية الجامعية والتأثير الذي يمكن أن تتركه في الحياة الاجتماعية، فنسبة الاجتماعيات في القرآن للآيات العبادية تتجاوز المئة مقابل واحد، كما نجد أنه في كتب الحديث التي تشتمل الدورة منها حوالي خمسين كتاباً وتحتوي على جميع الأحكام الإسلامية، نجد أن هناك ثلاثة أو أربعة كتب حول عبادات الانسان ووظائفه تجاه ربه وشيئاً من الأحكام الأخلاقية، والباقي كله مما يتعلق بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والحقوق السياسية وتدبير المجتمع) ([26])
وهكذا؛ فإن الخميني ـ من خلال هذا النص ـ يعرض دليلا عقليا وواقعيا ملموسا للمسلمين، بل لغيرهم أيضا، يمكن تقريره بأن الذين أذعنوا باختيارهم لقوانين الله المرتبطة بشعائرهم التعبدية على الرغم من المشاق الكثيرة التي تصيبهم من جرائها، لا يعجزون عن الإذعان لقوانين الله المنظمة لحياتهم، بل إن استجابتهم لها ستكون أكثر فاعلية من استجابتهم لأي قوانين أخرى، وبذلك فإن المجتمع المسلم لن يحتاج في تطبيقه للقوانين إلا إثبات كونها قوانين الله حتى يسلم لها عن طواعية ورضا.
وانطلاقا من هذا يوجه الخميني خطابه للدعاة بأن يركزوا على هذه المعاني أثناء دعوتهم للحكومة الإلهية، ذلك أن الحائل بين المجتمعات الإسلامية وتطبيق الشريعة، ليس المعاندة، وإنما الجهل، ولو أنهم علموا أن الشريعة تحوي أحكاما سياسية واقتصادية، لما فرطوا في الإذعان والتسليم لها مثلما يفعلون في الأمور الأخرى، يقول الخميني: (أنتم أيها السادة يا جيل الشباب، الذين ستكونون مفيدين لمستقبل الإسلام انشاء الله، عليكم أن تكونوا بعد هذه النقاط الموجزة التي أبينها لكم مجدّين طوال حياتكم في بيان انظمة الإسلام وقوانينه، وأطلعوا الناس ـ بأي شكل ترونه مفيداً كتابة أو مشافهة ـ على المشاكل التي ابتلى بها الإسلام منذ بداية نهضته، وعما لديه الآن من أعداء ومصائب، لا تتركوا حقيقة الإسلام وماهيته مستورة كيلا يتصور أحد أن الإسلام كالمسيحية يمثل ـ بالاسم لا بالحقيقة ـ عدة قوانين حول العلاقة بين الله والناس فحسب، وأن المسجد لا يختلف عن الكنيسة) ([27])
ويبين لهم ما عساهم أن يذكروه لربط الناس بأحكام الشريعة في جميع مجالات الحياة، وتحبييهم فيها، ليصبحوا الحاضنة التي توفر الرعاية للحكومة الإسلامية عند نشوئها؛ فيقول: (في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه الغرب شيئاً يذكر، وكان أهله يعيشون في حالة من التوحش، وكانت أمريكا موطناً للهنود الحمر شبه المتوحشين، وكانت امبراطوريتا الفرس والروم تحت سيطرة الاستبداد والطبقية وسلطة الأقوياء، ولم يكن فيها من أثر لحكومة الشعب والقانون، أرسل الله تعالى من خلال رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوانين تدهش الإنسان بين فترة ما قبل انعقاد نطفته إلى ما بعد دفنه، ووضع قوانين للوظائف العبادية، وجعل للأمور الاجتماعية والإدارية قوانين وطرق ورسوم، فحقوق الإسلام حقوق راقية ومتكاملة وجامعة والكتب الموسوعية التي ألِّفت من قديم الزمان في مختلف المجالات الحقوقية بدءاً من أحكام القضاء والمعاملات والحدود والقصاص إلى العلاقات بين الشعوب، ومقررات السلم والحرب والحقوق الدولية العامة والخاصة إنما هي غيض من فيض الأحكام والأنظمة الإسلامية، ليس ثمة موضوع لم يضع له الإسلام تكليفاً، ولم يصدر حوله حكماً) ([28])
وهو يرد بقوة على تلك القوانين المستوردة التي تحكمت في بلاد المسلمين، من غير أن تكون لهم أي علاقة تربطهم بها، ولا أي انسجام نفسي يجعلهم ينساقون لتنفيذها، ويضرب المثل على ذلك بما وقع في إيران عند تدوين الدستور؛ فيقول: (عندما أرادوا تدوين الدستور في أوائل المشروطة اقترضوا المجموعة الحقوقية البلجيكية من سفارة بليجكا، وقام عدة أشخاص (ولا أريد أن أذكر هنا أية أسماء) بكتابة الدستور في تلك المجموعة، ورمَّموا نقائصه من المجموعات الحقوقية لفرنسا وانجلترا، ومن أجل خداع الشعب ضموا إليه بعض الأحكام الإسلامية، فقد اقتبسوا أساس القوانين من هؤلاء وأعطوها لشعبنا، فمواد الدستور هذه ومتمماتها المتعلقة بالملكية، والحكم الوراثي، وأمثال ذلك أين هي من الإسلام، فهذا كله ضد الإسلام ويناقض نمط الحكومة الإسلامية وأحكامها) ([29])
ويرد على تلك الشبه التي تصور الشريعة بما ينفر عنها؛ فيقول: (يكتبون أحياناً في كتبهم وجرائدهم أن الأحكام الجزائية في الإسلام أحكام خشنة.. إني أعجب لهؤلاء كيف يفكرون! فمن جهة عندما يقتلون عدة اشخاص لأجل عشر غرامات من الهيروئين يقولون إنه القانون.. وعندما توضع هذه القوانين المخالفة للانسانية تحت شعار أنهم يريدون منع الفساد لا يكون فيها خشونة.. أنا لا أقول دعوهم يبيعوا الهيروئين، ولكن ليس هذا جزاءه، يجب منعه، لكن يجب أن تكون عقوبته متناسبة معه، إذا ضرب شارب الخمر ثمانين جلدة فهذا أمر فيه خشونة، أما اذا أعدموا إنساناً لأجل عشرة غرامات من الهيروئين فلا خشونة في الأمر! مع أن الكثير من المفاسد التي ظهرت في المجتمع هي من شرب الخمر، فالكثير من حوادث السير التي تقع في الطرقات، وعمليات الانتحار والقتل سببها شرب الخمر) ([30])
وهكذا يذكر الجرائم البشعة التي مارسها الغرب مع الشعوب المستضعفة، والتي تدل على انسلاخه من كل معاني الإنسانية، ويبين أن إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة جزء من تلك الجرائم، حتى تبقى الشعوب خاضعة للغرب يستولي على ثرواتها، ويتحكم فيها، يقول في ذلك: (المخطط هو أن يبقونا، وعلى الحال التي نحن فيها من الحياة المنكوبة لكي يتمكنوا من استغلال ثرواتنا ومنابعنا الطبيعية وأراضينا وطاقاتنا البشرية، يريدون لنا أن نبقى غرقى في المشاكل والعجز، وأن يبقى فقراؤنا بهذه التعاسة، ولا يخضعوا لأحكام الإسلام التي تحل مشكلة الفقر والفقراء، ولكي يبقوا هم وعملاؤهم في القصور الفخمة مستمرين في تلك الحياة المرفهة. تلك مخططات قد وصل مداها حتى إلى الحوزات الدينية والعلمية، بشكل لو أراد الانسان أن يتكلم حول الحكومة الإسلامية ووضع حكومة الإسلام فيجب عليه أن يستعمل التقية، وأن يواجه معارضة أذناب الاستعمار، كما أنه عندما طبعت الطبعة الأولى من هذا الكتاب انتفض عملاء السفارة (سفارة نظام الشاه في العراق) وقاموا بتحركات يائسة، وفضحوا أنفسهم أكثر فأكثر. والآن وصل بنا الحال إلى أن صاروا يعتبرون لباس الجندي منافياً للمروءة والعدالة مع أن أئمة ديننا كانوا جنوداً وقادة ومقاتلين. وكانوا يذهبون إلى الحروب التي تسردها كتب التاريخ وهم يرتدون بزة الحرب، وكانوا يقتلون ويقدمون القتلى. وأمير المؤمنين كان يضع الخوذة على رأسه المبارك، ويلبس الدرع وكان لسيفه حمائل. وهكذا كان الإمام الحسن وسيد الشهداء، ولم يفسح المجال فيما بعد، وإلا لكان الإمام الباقر بهذا النحو أيضاً، ووصل بنا الحال الآن إلى أن صار ارتداء لباس الجندي مضراً بالعدالة وصار ممنوعاً، وإذا أردنا اقامة حكومة إسلامية فيجب علينا أن نقيمها بهذه العباءة والعمامة، والا كان ذلك خلاف المروءة والعدالة. إنها تأثيرات تلك الدعايات، وهي التي وصلت بنا وأوصلتنا إلى هنا بنحو صرنا بحاجة إلى تجشم المشقات لنثبت أن الإسلام يمتلك قواعد للحكومة) ([31])
هذه بعض المناهج التي استعملها الخميني في الدعوة للحكومة الإسلامية من خلال مخاطبة العقول والمشاعر حتى تسجيب لهذا المعنى، وتوفر الحاضنة التي يمكنها أن تتقبل هذا النوع من الحكم، وقد آتت دعواته أكلها، حيث استجاب أكثر الشعب الإيراني أثناء الانتخاب على الدستور على هذا النظام ووافق عليه على الرغم من تعدد مشاربه ومذاهبه وأعراقه وأديانه، وذلك لثقتهم من أن الشريعة الإسلامية يمكن أن تستوعبهم جميعا، وتفيدهم جميعا.
ومن النواحي التي لها علاقة عظيمة بهذا الجانب، وخاصة لدى المسلمين المتدينين ما يرتبط بالجانب الأخروي في تطبيق الشريعة، وهو ما عبر عنه المرجع الديني الكبير كاظم الحسيني الحائري([32]) في كتابه [أساس الحكومة الإسلاميّة]؛ فقال: (تتابعت البحوث حول أفضل أشكال الحكم وأسسها التي تضمن إيصال البشرية إلى ساحل السعادة ورفع أنماط الظلم والتعدي التي ابتليت بها على مر التاريخ، وقد أغفل الباحثون غير المسلمين حول هذه المسألة عنصرين هامين لهما أكبر الأثر في تشخيص أساس الحكم وشكله، وهما: السعادة في الحياة الأخرى، وتحقيق رضا الله تعالى، ولقد أثبتت التجارب الطويلة الأمد وستثبت أكثر فأكثر أن السعادة البشرية في الحياة الدنيا لا يمكن أن تنال ما لم يرس شكل الحكم على أسس مستوحاة من الله جل وعلا العليم بأدواء البشرية الخبير بصلاحها الناجع. هذا، فضلاً عن سعادة الآخرة أو تحقيق رضا الله سبحانه)([33])
ويضرب المثل على ذلك بما يقع في الغرب نتيجة انحرافه عن الفطرة الإنسانية التي لا يمكن أن تجد سعادتها، وهي بعيده عن الله، يقول في ذلك: (وها نحن نرى العالم يغرق في بحر من الظلم والعذاب ويتهدده خطر الفناء والدمار ـ في أي لحظة ـ رغم كل ما طرحه مفكروه الكبار من مناهج وصيغ تحاول التخطيط لنظام الحكم على ضوء التجارب الاجتماعية الممتدة عبر المسيرة التاريخية، ورغم توفر كل الوسائل المادية للراحة وتقدم مستوى الصناعة والتكنيك الى مدى بعيد، كل ذلك لم يستطع أن ينتشل البشرية من الوهدة السحيقة التي تعاني تبعاتها، الأمر الذي يؤكد عليها الضرورة الماسة لمد يد الحاجة للسماء الرحيمة والاستهداء بتعاليمها الوضاءة)([34])
2 ـ البراهين النصية على شرعية الحكومة الإلهية:
وهي نصوص كثيرة جدا نجدها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويتفق على الاستدلال بها دعاة ولاية الفقيه مع دعاة الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي، فهم جميعا يستعملون هذا الصنف من الآيات الكريمة للرد على العلمانية، وإقناع جماهير المؤمنين بضرورة التحاكم المطلق لشريعة الله، وعدم أخذ بعض الكتاب، والتفريط في البعض الآخر مثلما حصل في الديانات الأخرى.
ومن تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]، وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة: 45]، وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة: 47]، وهي آيات تبين مدى الكفر والظلم والفسوق الذي يقع فيه الذين فصلوا حياتهم عن شريعة الله، وقد ذُكرت الأحكام فيها بذلك الترتيب بحسب نوع الإعراض عن حكم الله، فإن كان إعراضا كليا، ممتلئا بالجحود والتحقير، فهو الكفر بعينه، وإن كان الإعراض ناتجا عن التقصير والكسل، فصاحبه ـ كما تنص الآيات الكريمة ـ ظالم وفاسق.
وهكذا نرى القرآن الكريم يعتبر الشرائع والقوانين التي تتعارض مع شريعة الله شرائع وقوانين جاهلية، قال تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50]، واعتبر تارك شريعة الله، والملتجئ لغيره مشركا؛ فقال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى: 21]
بل نجد من الآيات الكريمة ما ينفي الإيمان عن المعرض عن أحكام الله، كما قال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65]
وضرب مثالا على ذلك بما كان يحصل في عهد النبوة من مرضى القلوب الذين يدعون الإيمان بالله ورسوله، وفي نفس الوقت لا يذعنون لما يرد عنهما من أحكام، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) } [النور: 47 – 51]
وذكر في مقابلهم موقف المؤمنين الصادقين في إيمانهم والمذعنين إذعانا تاما لله ورسوله، وذكر جزاءهم ومصيرهم؛ فقال:{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 51، 52]
وهكذا نرى القرآن الكريم يعتبر الدعوة إلى الحكم بغير ما أنزل الله دعوة إلى الطاغوت، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 60، 61]
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هذه المصطلحات القرآنية في مواجهة الشاه؛ فقد كانوا يطلقون عليه لقب الطاغوت، ويدعون إلى الثورة عليه، وعدم جواز السكون والرضى بقوانينه، بل يدعون إلى مواجهتها وتحديها والإعراض عنها، ويستعملون القرآن الكريم في تلك المواجهة، مثلما يفعل دعاة الحركات الإسلامية تماما، يقول الخامنئي: (القرآن يصطلح على كل ولاية غير ولاية الله بالطاغوت. فهو يؤكِّد أنَّ من لا يخضع لولاية الله وحاكميته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميته، فما هو الطاغوت؟.. الطاغوت هو ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه.. إذاً، فليس الطاغوت اسماً خاصاً، وليس صحيحاً ما يتخيله البعض من أنَّ الطاغوت اسم لصنم معين. نعم، يطلق على الصنم ويسمى الصنم به لكنه ليس صنماً معيناً، وقد يكون الإنسان نفسه صنماً، وكذلك ثروته وحياته العاطلة المتراخية المترفة، وكذلك أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كل ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضة أو النظام الاجتماعي أو القانون. فليس الطاغوت اسماً لشيء محدد خاص. والذي يستنبط من القرآن الكريم أنَّ الطاغوت مقامٌ فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبارين والرهبان.. وعلى هذا فكل من يخرج عن ولاية الله وحاكميته فلا بدَّ أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان)([35])
ومثله قال الخميني في الرد على العلماء الذين يدعون إلى السكون إلى الطغيان وعدم مواجهته: (لقد كان نبي الإسلام وأئمته وعلماؤه دائماً في نزاع مع سلاطين عصرهم، إن الذين كانوا ملوكاً باسم الخلفاء سجنوا الإمام موسى بن جعفر عشر سنين أو خمس عشرة سنة، لماذا؟ هل لأنه كان يصلي؟! لقد كان هارون والمأمون يصليان أيضاً، وكانا يؤمّان صلاة الجمعة والجماعة! فهل قبضوا عليه لأنه من أحفاد النبي أو لانه إمام؟! هل القضية هذه؟! كلّا، بل لأن الإمام موسى بن جعفر كان يخالف ذلك النظام الطاغوتي! وكانت معارضته له سبباً لمشاكله، وقد ثار علماؤنا منذ صدر الإسلام والى الآن، وفي عصر الأئمة ثار أبناء الائمة وكان ذلك بدافع من الأئمة، فإذا كان زيد إنساناً ارتكب ذنباً فلماذا يثني عليه الأئمة؟! كما لدينا في عصرنا عدة ثورات قام بها العلماء. العلماء الذين يتحدث عنهم اليساريون والمنحرفو بأنهم أعوان البلاط! ولا غرابة في ذلك فهم لم يدرسوا، وليست آذانهم مفتوحة ليعلموا كم مرة ثار علماء الإسلام في عهد رضا شاه وعهد محمد رضا شاه، حيث كان يجتمع علماء أصفهان وآذربيجان ومشهد وقم ويُعلنون اعتراضهم، فهل كان أولئك من أعوان البلاط؟!)([36])
وهكذا كانوا يستدلون أيضا بالنصوص الكثيرة الدالة على شمولية أحكام الشريعة الإسلامية لكل شؤون الحياة، مثل قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:162]، وقوله: { ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:89]
ومثلها الآيات الكريمة التي تدعو إلى الدخول في الإسلام من جميع أبوابه، وفي جميع معانيه ومجالاته، كقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 208]
أو تلك الآيات الكريمة التي تحذر من الأخذ ببعض الكتاب، وترك بعضه، كما قال تعالى منكرا على اليهود: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة:85]
ولهذا نرى الخميني ـ في مناقشته للمعترضين على ولاية الفقيه ـ يستعمل مثل هذه النصوص، ومن أمثلة ذلك قوله: (الدليل الآخر على لزوم تشكيل الحكومة هو ماهية القوانين الإسلامية (أحكام الشرع) وكيفيتها. فماهية هذه القوانين تفيد أنها قد شُرِّعت لأجل تكوين دولة، ولاجل الإدارة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع إذ أنها تشتمل على قوانين ومقررات متنوعة تبني نظاماً اجتماعياً شاملاً، ويتوفر في هذا النظام الحقوقي كل ما يحتاجه البشر، من نمط التعامل مع الزوجة والأولاد والعشيرة والقوم وأهل البلد والأمور الخاصة والحياة الزوجية، إلى المقررات المتعلقة بالحرب والصلح والتعامل مع سائر الشعوب، ومن القوانين الجزائية، إلى قوانين التجارة والصناعة والزراعة. ففيها قوانين لمرحلة ما قبل النكاح وانعقاد النطفة، وتبين كيف يجب أن يتم النكاح، وماذا ينبغي أن يكون طعام الإنسان عندها، أو أثناء انعقاد النطفة، وما هي تكاليف الأبوين فترة الرضاعة، وكيف يجب أن يربى الطفل، وكيف يجب أن يتعامل الرجل والمرأة مع بعضهما، ومع أولادهما، فيوجد فيها قانون لجميع هذه المراحل، لتربِّي الإنسان فردا كاملا فاضلا، يجسد القانون ويعمل على تطبيقه تلقائياً، ويتضح بهذا إلى أي حد يَهتمُّ الإسلام بالحكومة والعلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع، لكي يوفر كل الظروف لأجل تربية الإنسان المهذب الفاضل، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة يشتملان على جميع القوانين والأحكام التي يحتاجها الانسان لسعادته وكماله)([37])
ويستدل الخميني لهذا، بما ورد في كتاب الكافي تحت عنوان [الرد إلى الكتاب والسنة، وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة]([38])، وهو ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن تبيانا لكل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يقول عبد: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزل الله فيه)([39])
ويضرب الخميني في كتابه [الحكومة الإسلامية] الأمثلة الكثيرة على ذلك، ومنها ما عبر عنه بقوله: (الضرائب التي فرضها الإسلام والميزانية التي طرحها تدل على أنها ليست لمجرد سد رمق الفقراء من السادة الهاشميين وغيرهم، وإنما لأجل تشكيل حكومة، وتأمين المصارف الضرورية لدولة كبيرة، مثلاً: الخمس أحد الموارد الضخمة التي تصب في بيت المال، ويشكل أحد مصادر الميزانية، وبحسب مذهبنا يؤخذ الخمس بشكل عادل من جميع المصالح، سواء الزراعة أو التجارة، أو المصادر المخزونة في جوف الأرض، أو الموجودة فوقها، وبشكل عام من جميع المنافع والعوائد بنحو يشمل الجميع من بائع الخضار على باب المسجد، إلى العامل في السفن، أو من يستخرج المعادن. فهؤلاء عليهم دفع الخمس من أرباحهم بعد صرف المصارف المتعارفة إلى الحاكم الإسلامي لكي يضعه في بيت المال. ومن البديهي أن مورداً بهذه العظمة إنما هو لأجل إدارة بلد إسلامي، وسد جميع حاجاته المالية. فعندما نحسب خمس أرباح البلاد الإسلامية، أو جميع انحاء الدنيا ـ فيما لو صارت تحت الحكم الإسلامي ـ يتضح لنا أن الهدف في وضع ضريبة كهذه ليس مجرد سد حاجة السادة الهاشميين وعلماء الدين، بل ان القضية أهم من ذلك. فالهدف هو سد الحاجة المالية لجهاز حكومي كبير. ففيما لو قامت الحكومة الإسلامية فيجب أن تدار بواسطة هذه الضرائب) ([40])
ومن الأمثلة على ذلك ـ كما يعبر الخميني ـ (أحكام الدفاع الوطني)، وهي (الأحكام التي تتعلق بحفظ نظام الإسلام والدفاع عن جميع أراضي الأمة الإسلامية واستقلالها، وهي تدل على لزوم تشكيل الحكومة، فمثلاً هذا الحكم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، والذي هو أمر بالاستعداد وحشد ما أمكن من القوى المسلحة المدافعة بشكل عام، وأمر بالتهيؤ والمراقبة الدائمة في فترة الصلح والهدوء، لو عمل المسلمون بهذا الحكم، وقاموا بالحشد الواسع من خلال تشكيل حكومة إسلامية، وكانوا في حالة استعداد قتالي كامل، لما تجرأت حفنة من اليهود على احتلال أرضنا وتخريب المسجد الأقصى وحرقه، دون أن يتمكن الشعب من القيام برد فعل فوري. فكل هذا نتيجة عدم قيام المسلمين بتنفيذ حكم الله، وتشكيل الحكومة الصالحة والمطلوبة. ولو كان حكام البلاد الإسلامية ممثلين للشعب المؤمن ومنفذين للأحكام الإسلامية، لوضعوا الخلافات الصغيرة جانباً، وتخلوا عن التفرقة والتخريب، وصاروا يداً واحدة فعندها ما كانت حفنة من اليهود الاشقياء العملاء لأمريكا وانكلترا والأجانب لتستطيع القيام بهذه الاعمال حتى ولو كانت أمريكا وانكلترا داعمتين لها)([41])
وهكذا نرى الأمثلة الكثيرة في كتب قادة الثورة الإسلامية، والتي تبين شمول الشريعة لكل مجالات الحياة، وهو ما يستدعي توفر الحكومة التي تطبق تلك الأحكام بحروفها ومقاصدها.
ثانيا ـ التأصيل الشرعي لولاية الفقيه:
كل ما ذكرناه سابقا من التأصيلات المرتبطة بالحاكمية متفق عليها بين المسلمين جميعا، ما عدا أولئك المتنورين الذين ينادون بالعلمانية، أو يؤمنون بالحداثة، أو يتصورون أن الإسلام لا يختلف عن المسيحية في كونه مجرد علاقة بين العبد وربه، أو مجموعة قيم خلقية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وشؤون الحياة.
ولكن الخلاف الكبير بين هؤلاء الذين اتفقوا على شرعية الحكومة الإلهية يبدأ من علاقة الفقيه بهذه الحكومة، وهل هي قاصرة على الاستشارة، أو بعض الصلاحيات المحدودة، أو أن الفقيه هو عينه من تُوكل إليه مهام تطبيق الشريعة في الواقع، وذلك عبر الصلاحيات الكبرى التي تعطى له؛ فتجعله على أعلى هرم السلطة في البلاد.
وربما يكون أقرب البيئات الإسلامية لتقبل إعطاء الفقيه هذه الصلاحيات التي بموجبها يصبح صاحب الكلمة النافذة في المجتمع هي البيئة الشيعية، بحكم علاقتها بالفقيه، والتي تتعدى الاستشارة إلى الولاية، فكل شيعي مكلف ـ على حسب فقه الشيعة ـ باتخاذ مرجع حي يثق في علمه وتقواه وعدالته ليجعله واسطة لتلقي أحكام الشريعة، كما يجعله واسطة لتبليغ الحقوق المختلفة، سواء كانت مالية أو غيرها.
وقد رأينا في الواقع العراقي كيف استطاعت فتوى السيد السيستاني على الرغم من كونه لم يتبوأ منصب ولاية الفقيه المطلقة، أن تجمع أكبر حشد من المتطوعين لمواجهة أكبر تنظيم إرهابي في التاريخ، وفي أقصر مدة.
وقد أشار المفكر والإعلامي الكبير فهمي هويدي إلى تفرد البيئة الشيعية بتقبل مثل هذا النوع من النظام عند رده على رسالة أرسلها بعض العلماء الإيرانيين إلى الرئيس المصري حينها [محمد مرسي]، دعوه فيها للاستفادة من التجربة الإيرانية في هذا المجال، وتطبيق ولاية الفقيه في مصر، والتي أحدثت حينها ـ كما يذكر ـ فرقعة في الساحة السياسية، بل صارت محلا للسخرية.
وقد كتب فهمي هويدي في ذلك مقالا يحسن ذكر بعض ما ورد فيه، باعتباره أكثر المفكرين والإعلاميين فهما للواقع الشيعي، والإيراني خصوصا، وله في ذلك كتابه المعروف [إيران من الداخل]، ولست أدري هل هو في رده على تلك الرسالة كان حزينا لعدم تمكن المصريين من تقبل مثل هذا النوع من الأنظمة، أو أنه كان يرى مصر أرفع وأعظم من أن تقبل به.
يقول في بيان أسباب تفرد البيئة الشيعية بالقدرة على تقبل الولاية المطلقة للفقيه: (ولاية الفقيه فكرة مرتبطة بخصوصية المذهب الشيعي، ثم إنها ليست محل إجماع داخل المذهب ذاته، ولا نستطيع أن نستوعب الفكرة ما لم نضعها في سياقها التاريخي، ذلك أنه باستثناء الدولة الفاطمية التي استمرت نحو مائتي عام في مصر وتونس والشام (969 -1172م)، فإن الشيعة عاشوا على مر القرون بلا دولة يستظلون بها، فقام الفقيه بهذه المهمة، إذ صار هو المظلة التي تحمي وترعى أتباع المذهب، به يلوذون، وإليه يقدمون زكواتهم ويستفتونه فيما يستشكل عليهم، وتقليد المرجع الديني الحي واجب على المتدينين)([42])
ثم بين نوع الولاية التي كان يمارسها الفقيه في البيئة الشيعية؛ فقال: (ولكي يقوم المرجع بواجباته فإنه يوفر الخدمات للأتباع مما يحصله من مال الزكاة. وهذه الخدمات تتراوح بين مساعدة الفقراء وإنشاء المدارس والمعاهد والمستشفيات وبعثات الحج والابتعاث الدراسي إلى الخارج، وله معاونون يباشرون تلك الأنشطة لا يختلفون كثيرا في أدائهم لوظائفهم عن الوزراء المختصين، كما أن له وكلاء في مختلف الأقطار يتسلمون الزكوات ويتلقون استفسارات المقلدين، وهم أقرب إلى السفراء فيما يؤدونه من وظائف)
ثم ذكر عن نفسه كيف التقى ببعض أولئك المراجع، والأدوار التي كانوا يمارسونها في مجتمعاتهم؛ فقال: (لقد أتيح لي أن ألتقي بعضا من المراجع العظام في مدينة قم حين كنت أعد كتابي [إيران من الداخل]، الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1987، ووجدت أنهم أقاموا ممالك مصغرة لا تختلف كثيرا عن الإمارات التي انتشرت في أوروبا العصور الوسطى، وأشرت في ثنايا الكتاب إلى أن الدور الذي يقومون به وفر لأتباع المذهب الغطاء الذي كانوا بحاجة إليه في غياب الدولة، وأن قيام المراجع بذلك الدور كان حلا عبقريا للحفاظ على المذهب، خصوصا في ظل المخاطر التي كانت تتهدده جراء ضغوط مجتمعات أهل السنة المحيطة به، التي تحولت إلى صراع وحروب بين الدولتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية، استمرت ستة عشر عاما فيما بين سنتي 1623 و1639)([43])
وقد كان لذلك كله دوره الكبير في تقديس الشيعة لمراجعهم، وخضوعهم لهم، وقبولهم بولايتهم، يقول فهمي هويدي: (هذه الخلفية حفرت للفقيه دورا عميقا ومهما في المجتمعات الشيعية، أحسب أنه يتجاوز بكثير دور الفقيه في مجتمعات أهل السنة، وهذا الدور كان بمثابة التربة التي نمت فيها فكرة ولاية الفقيه عند الشيعة، ذلك أنه إذا كان في غيبة الدولة يقوم الفقيه بكل هذه الرعاية لصالح مقلديه، فإن تأصيل هذه الفكرة من الناحية الشرعية من خلال ولاية الفقيه يغدو تطورا منطقيا ومفهوما) ([44])
وعلى خلاف هذا ـ كما يذكر فهمي هويدي ـ ما جرى عليه العمل في البيئة السنية، وموقفها من علمائها؛ فقد قال في خاتمة مقاله عن اختلاف البيئتين: (لأنه لا مكان للإمامة في الفكر السياسي لدى أهل السنة، فلا محل للحديث عن نائب الإمام أو عن مراتب الفقهاء الذين يتميزون بعلمهم، فضلا عن أن الفقهاء عند أهل السنة ليسوا خريجي المعاهد الدينية فقط، وإنما هم كل من حسن إسلامه وتبحر في أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية.. وقد درج العمل في مجتمعات أهل السنة على الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، وثمة كتابات عدة تعرضت لهذه المسألة وشاركت في صياغة وضبط العلاقة بين الفقيه والسلطان. وظل الاتجاه الغالب ينحو نحو التمييز بينهما. والتمييز غير الفصل الذي يدعو إليه البعض، وإنما هو أقرب إلى تنوع الاختصاص واحترام حدوده) ([45])
وبناء على هذا يذكر فهمي هويدي أن [ولاية الفقيه]، ليست كما يزعم بعض السنة والشيعة من أنها بدعة ابتدعها الخميني، وخالف بها أصول مذهبه، وإنما هي فكرة قديمة، مورست في الواقع، ولم يكن دور الخميني إلا زيادة تأصيل لها، وتحويلها من مجرد ولاية ترتبط ببيئة محدودة إلى نظام سياسي يشكل دولة كاملة، بل يطمح إلى الوصول إلى جميع بلاد العالم الإسلامي، لتخضع جميعا تحت سلطة الولي الفقيه.
وما ذكره فهمي هويدي في هذا الجانب ليس استنقاصا من دور الخميني في الدعوة لهذا النظام، أو التأصيل له، ذلك أن الخميني نفسه أشار إلى هذا، وتحدث عنه كثيرا، حتى يرد على تلك الشبه التي يوردها المخالفون له من المدرسة الشيعية.
ومن أمثلة ذلك قوله في كتابه [الحكومة الإسلامية]: (إن موضوع ولاية الفقيه ليس موضوعاً جديداً جئنا به نحن، بل إن هذه المسألة وقعت محلاً للبحث منذ البداية. فحكم المرحوم الشيرازي ([46]) في حرمة التنباك كان واجباً اتباعه، حتى من الفقهاء الآخرين أيضاً. وقد اتبع ذلك الحكم جميع علماء ايران الكبار ماعدا بضعة أشخاص، وهو لم يكن حكماً قضائياً في خلاف بين بعض الأشخاص، بل كان حكماً ولائياً (حكومياً) أصدره (رحمه الله) بالعنوان الثانوي([47]) مراعاة لمصالح المسلمين. وكان الحكم مستمراً مادام العنوان موجوداً. وبزوال العنوان ارتفع الحكم)([48])
وضرب له مثالا آخر بـ (المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي([49]) الذي حكم بالجهاد ـ وكان ذلك بصفة دفاع بالطبع ـ فقد اتبعه بقية العلماء، لأنه كان حكماً ولائياً (حكومياً)([50])
ومنهم ـ كما يذكر الخميني ـ (المرحوم النراقي الذي يرى ثبوت جميع شؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفقهاء، والمرحوم النائيني أيضاً يقول أن هذا المطلب يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة)([51])
وقد عقب على هذه الأمثلة، ببيان الجديد الذي جاء به؛ فقال: (وعلي أية حال هذا البحث ليس جديداً، وإنما قمنا نحن بالبحث حوله أكثر فحسب، ووضعنا تشعبات المطلب المذكور في متناول السادة لتتضح المسألة أكثر، كما قمنا تبعاً لأمر الله تعالى في كتابه، وبلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ببيان بعض الأمور المبتلى بها هذه الأيام. وإلاَّ فإن المطلب هو نفس ما فهمه الكثيرون وذكروه) ([52])
ثم طلب من الفقهاء بعده أن يتولوا البحث المفصل في كيفية تطبيق هذه الولاية وتنظيمها، فقال: (لقد قمنا بطرح أصل الموضوع، وعلى هذا الجيل والاجيال القادمة أن تبحث وتفكر في ذيوله وتشعباته، وأن تجد السبيل إلى تحقيقه، ليطردوا عن أنفسهم التراخي والضعف واليأس، وسوف يتوصلون إن شاء الله إلى كيفية التشكيل، وسائر الفروع من خلال التشاور وتبادل وجهات النظر، ويضعون مسؤوليات الحكومة الإسلامية بيد خبراء أمناء عقلاء من أهل الإيمان والعقيدة، ويقطعون أيدي الخونة عن الحكومة والوطن وبيت مال المسلمين ليتيقنوا أن الله القدير معهم) ([53])
وقد ذكر فهمي هويدي أمثلة أخرى لم يذكرها الخميني؛ فقال: (يذهب بعض الباحثين في لبنان إلى أن فكرة ولاية الفقيه أطلقها أحد المجتهدين الكبار بين علماء الشيعة، هو الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وهو من قرية جزين في جبل عامل. وقد ألف كتابا كان عنوانه [اللمعة الدمشقية]، وفيه ذكر لأول مرة عبارة نائب الإمام، التي ذاع أمرها فيما بعد واعتبرت أساسا لقيام الفقيه أو المرجع بالدور الذي يتعين أن يقوم به الإمام الغائب في القيام بأمر الأتباع. وقيل في هذا الصدد: (إن التشيع أفلح على يد محمد بن مكي الجزيني في ملء فراغ السلطة، الذي استمر فترة تزيد على أربعة قرون، أي منذ الانتهاء العملي لفترة الإمامة)، أي منذ اختفاء آخر أئمة آل البيت)([54])
ومن الأمثلة التي ذكرها: (الشيخ أحمد النراقي الذي ينسب إلى قرية نراق بمحافظة كاشان في إيران (توفي سنة 1820م). وقد خصص الشيخ النراقي فصلا في كتاب أصدره بعنوان [عوائد الإمام]، كان عنوانه [ولاية الفقيه]، وسواء كان الرجل قد استقى العنوان من فكرة نائب الإمام التي صكها الشيخ الجزيني أم لا، فالثابت في الأدبيات الإيرانية أن الشيخ النراقي هو صاحب الفكرة، وأن آية الله الخميني تأثر بها ودعا إليها في مشروعه الذي جسده في كتابه عن [الحكومة الإسلامية]، وجمعت فيه محاضراته التي ألقاها على الدارسين في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف (العراق) خلال ستينيات القرن الماضي)([55])
وقد ذكر فهمي هويدي ردود فعل بعض الفقهاء والمراجع، وما قابلوا به تلك التأصيلات التي أصل بها الخميني لولاية الفقيه، والتعرف عليها مهم جدا لفهم سر ذلك الانفعال والألم الذي كان يبدو عليه الخميني، وهو يحاول أن يطرح ولاية الفقيه.
يقول فهمي هويدي: (وفي حين رحب بها البعض فإن آخرين رفضوها. وفي المقدمة من هؤلاء السيد أبو القاسم الخوئي (المتوفى سنة 1992) الذي كان مرجع زمانه ويتربع على رأس الحوزة العلمية في مدينة النجف بالعراق وقد أصدر رسالة انتقد فيها رأى الإمام الخميني كانت بعنوان [أساس الحكومة الإسلامية]، أيده في ذلك المراجع الكبار في مدينة قم بإيران. وكان ذلك الموقف هو السبب الأساسي الذي دعا الإمام الخميني لأن يفضل الإقامة في طهران بدلا من قم، بعد نجاح الثورة وعودته إلى وطنه من منفاه بباريس، وكان لذلك التحفظ صداه في أوساط شيعة لبنان، فأصدر الدكتور محمد جواد مغنية، وهو من فقهائهم، كتابا بعنوان [الخميني والدولة الإسلامية]، فند فيه رأي الخميني ورفض فكرة الولاية المطلقة للمرجع. وأيده في هذا الموقف رئيس المجلس الشيعي الأعلى الإمام محمد مهدي شمس الدين (المتوفى سنة 2001)، وقد سمعت منه حديثا مطولا في المسألة انحاز فيه إلى فكرة ولاية الأمة ورفض ولاية الفقيه)([56])
وقد رد الخميني على هؤلاء جميعا ردا مفصلا في كتابه [الحكومة الإسلامية]، أو عبر بياناته وخطبه المختلفة، بل إن الأمر وصل به إلى اعتبار ولاية الفقيه قضية بديهية لا تحتاج لوضوحها لأي براهين، حيث يقول في مقدمة كتابه [الحكومة الإسلامية]: (وولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها التصديق بها، فهي لا تحتاج لأية برهنة. وذلك بمعنى أن كل من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية ـ ولو إجمالاً ـ وبمجرد أن يصل إلى ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً، وسيجدها ضرورة وبديهية)([57])
وبين الأسباب الداخلية والخارجية التي حولتها من قضية بديهية إلى قضية تحتاج إلى البراهين والأدلة؛ فقال: (والسبب في عدم وجود أدنى التفات لولاية الفقيه وفي أنها صارت بحاجة للاستدلال هو الأوضاع الاجتماعية للمسلمين بشكل عام والحوزات العلمية بشكل خاص، وهناك أسباب تاريخية لأوضاعنا الاجتماعية نحن المسلمين، ولأوضاع الحوزات العلمية نقوم بالاشارة اليها، لقد ابتليت النهضة الإسلامية منذ انطلاقتها باليهود، فهم الذين شرعوا أولاً بالدعاية ضد الإسلام وبالدسائس الفكرية بنحو ـ وكما تلاحظون ـ وصل مداه إلى أيامنا هذه. ووصل الدور بعدهم إلى طوائف هم ـ بمعنى من المعاني ـ أكثر شيطنة من اليهود، وهؤلاء استطاعوا الوصول إلى البلاد الإسلامية على شكل استعمار منذ ثلاثة قرون أو أكثر وقد رأوا أنه من اللازم لكي يصلوا إلى مطامعهم الاستعمارية أن يهيئوا الأرضية للقضاء على الإسلام. ولم يكن هدفهم ابعاد الناس عن الإسلام لتقوية النصرانية، لأن هؤلاء لا يعتقدون بالنصرانية ولا بالإسلام، لكنهم ـ وطوال هذه المدة وأثناء الحروب الصليبية شعروا ان الذي يقف سداً أمام مصالحهم المادية، ويعرّض مصالحهم المادية وقواهم السياسية للخطر هو الإسلام وأحكامه وإيمان الناس به، فقاموا بالدعاية والدس ضد الإسلام بمختلف الوسائل. وقد تعاضد في العمل على تحريف حقائق الإسلام رجال الدين الذين أوجدوهم في الحوزات العلمية، والعملاء الذين كانوا يعملون لهم في الجامعات والمؤسسات الاعلامية الحكومية أو مراكز النشر، والمستشرقين الذي هم في خدمة الدول الاستعمارية، فهؤلاء جميعاً تكاتفوا في ذلك بنحو صار فيه الكثير من الناس والمثقفين في حالة من الضياع والانحراف عن الصواب تجاه الإسلام)([58])
وهو يتعجب من الذين يريدون من الفقهاء اعتزال السياسة وتركها باعتبارها من الدنيا؛ فيقول: (لقد غرسوا في أذهانكم من البداية أنّ السياسة تعني الكذب وما شابه ذلك من المعاني، لكي يبعدوكم عن أمور البلاد، بينما يتصرفون هم كما يريدون. وأنتم عليكم بالدعاء أيضاً، عليكم بالجلوس هنا والدعاء بـ (خلد الله ملكه) بينما هم يفعلون ما يحلو لهم، ويرتكبون القبائح التي يريدون. بالطبع فهم لا يمتلكون هذه الدرجة من الفهم ـ وللّه الحمد ـ لكن أساتذتهم وخبراءهم هم الذين وضعوا هذه الخطط. وضعها الاستعمار الانكليزي الذي دخل بلاد الشرق منذ ثلاثة قرون، وتعرّف إلى جميع أمور هذه البلاد)([59])
ويذكر عن نفسه بعد خروجه من السجن، وكيف راحوا يستعملون الوسائل المختلفة لإقناعه بالابتعاد عن السياسة، والاكتفاء بالتدريس والمرجعية العلمية؛ فقال: (كتبوا في الجرائد بتاريخ 4/8/1963م حين أخرجوني من السجن ما يُفهم منه أن علماء الدين لن يتدخلوا في السياسة. وأنا الآن أُبيّن لكم حقيقة الأمر. لقد جاءني أحدهم ولا أريد ذكر اسمه، وقال لي: أيّها السيد إن السياسة كذب وخداع وغش ونفاق، والخلاصة أنها بلاء ولعنة فدعوا ذلك لنا نحن. وبما أن الظرف لم يسمح فلم أشأ مناقشته، فقلت له: نحن منذ البداية لم نتدخل في هذه السياسة التي تتكلم عنها. والآن حيث أن الظرف يستلزم ذلك، فإني أقول: إنّ هذا ليس من الإسلام في شيء. والله إن الإسلام كله سياسة. لقد بيّنوا الإسلام بشكل غير سليم. إنّ سياسة المدن تنبع من الإسلام. إنني لست من أولئك الملالي (رجال الدين) الذين يكتفون بالجلوس هنا والتسبيح. أنا لست [البابا] لكي أكتفي بتأدية بعض المراسم يوم الأحد، وأنصرف بقية الأوقات إلى شأني، دون التدخل في الأمور الأخرى) ([60])
بعد هذا التمهيد الذي رأينا ضرورته، سنسوق هنا باختصار ما ذكره الخميني وغيره من قادة الثورة الإسلامية ومراجعها من براهين على ولاية الفقيه، والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين: أدلة عقلية كلامية، وأدلة نصية روائية.
1 ـ الأدلة العقلية والكلامية على ولاية الفقيه:
بما أن المدرستين السنية والشيعية تختلفان في النظر للإمامة، وهل هي من أصول الدين أم من فروعه، فإن الخلاف أيضا امتد إلى مسألة [الحكومة الإلهية]، باعتبارها امتدادا للإمامة، أو نيابة عنها، أو تمثيلا لها، وسرى الخلاف أيضا إلى [ولاية الفقيه] باعتبارها تطبيقا من تطبيقات الحكومة الإلهية.
وقد أشار الخميني إلى هذا البعد الكلامي في [ولاية الفقيه]؛ فقال: (حفظ النظام من الواجبات الأكيدة، واختلال أُمور المسلمين من الأُمور المبغوضة، ولا يقوم ذا ولا يُسدّ عن هذا إلّا بوالٍ وحكومة. مضافاً إلى أنّ حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم من غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلّا بتشكيل الحكومة. وكلّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون، ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصَّانع. فما هو دليل الإمامة، بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف… فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الملَّة الإسلاميَّة وعدم تعيين تكليف لهم؟ أو رضى الحكيم بالهرج والمرج واختلال النظام؟)([61])
وأشار إليه من المعاصرين الفيلسوف والمفسر الكبير عبد الله جوادي آملي بقوله: (البحث الكلاميّ بشأن ولاية الفقيه، هو أنّ الله عالم بجميع ذرَّات العالم {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}، فهو يعلم أنّ للمعصومين من أوليائه حضوراً وظهوراً خلال مدَّة معيّنة، وسيغيب خاتم أوليائه مدّة مديدة، فهل أمر بشيء زمان الغيبة، أم ترك الأُمّة لحالها؟ وإن أمر بشيء، فهل ذلك الأمر نصب الفقيه الجامع شرائط الولاية وضرورة رجوع الناس إلى هذا الوليّ أم لا؟ إنّ موضوعا هكذا مسألة هو [فعل الله]، وبناءً عليه فالبرهان الّذي يثبت ولاية الفقيه مرتبط بعلم الكلام)([62])
بناء على هذا اعتمد المنظرون لولاية الفقيه على نوعين من الأدلة: أدلة عقلية يُعتمد عليها عادة في علم الكلام، وأدلة نصية تستعمل عادة في الفقه.
ونحب أن نزيل هنا الإشكال المرتبط بربط المسألة بعلم الكلام والعقيدة، وأن ذلك لا يعني تكفير المخالف، وإنما يعني أهمية المسألة، وضرورتها، وكونها لا ترتبط بأفعال المكلفين فقط، وإنما ترتبط أيضا بالعدالة الإلهية، ذلك أن الله الحكيم ـ كما ينص القائلون بولاية الفقيه ـ يستحيل عليه أن يترك خلقه للملوك والمستبدين، دون أن ينصب لهم أئمة، أو دون أن يشرع لهم الشرائع التي تنوب عن الأئمة في حال فقدهم.
وقد عبر عن هذا المعنى بعضهم؛ فقال: (إنّ المباحث الكلاميَّة لا تتَّصف بالدرجة نفسها من الأهمِّيَّة، فبعض المباحث الكلاميَّة جزء من مباحث أُصول الدِّين، مثل مبحث النبوّة والمعاد، أمّا مبحث الإمامة فهو بحث من أُصول المذهب. والمعاد من أُصول الدِّين. وجزئيَّات تلك المسألة وتفصيلاتها، رغم كونها كلاميَّة، ليست بأهمِّيَّة أصل المعاد. وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه والحكومة في عصر الغيبة، رغم كونها مسألة كلاميَّة، هي أقلُّ مرتبة من مسألة الإمامة. ومن هنا، فهي ليست من أُصول المذهب)([63])
ونحب أن نشير هنا أيضا إلى أن ربط المسألة بالعقيدة وعلم الكلام ليست بدعة ابتدعها الخميني أو غيره من القائلين بولاية الفقيه، بل نجد هذا المعنى موجودا لدى قادة الحركات الإسلامية، وخصوصا سيد قطب، والذي اعتبر [الحكومة الإلهية] قضية عقدية، وليست مجرد فروع فقهية، بناء على ما ورد في النصوص من بيان خطورة التخلي عن حكم الله، كما قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
بل إننا نجد المدرسة السلفية نفسها، والتي تنكر إنكارا شديدا على ولاية الفقيه، تضع في مسائل العقيدة قضايا فرعية جدا، هي أدنى بكثير منها، من أمثال المسح على الخفين، وتبرر ذلك بما ذكره ابن جبرين في شرحه على الطحاوية بقوله: (مرت بنا مسألة فرعية، وذكرنا أنها أدخلت في الأصول لأجل أن الخلاف فيها مع المخالفين في الأصول، وهي مسألة المسح على الخفين، وذلك لأن الرافضة أنكروا المسح على الخفين، وصاروا يمسحون على القدمين مكشوفتين، فتركوا سنة وارتكبوا بدعة، ولما كانوا مخالفين في العقيدة.. فقد ترتب على ذلك المخالفة في المسح على الخفين، فذكرت في العقائد)([64])
بل إن الأمر بلغ بالسلفية ما هو أخطر من ذلك حيث أدخلوا فروعا فقهية كثيرة مثل التوسل والاستغاثة وزيارة الأضرحة في أبواب العقائد، بل جعلوها من أصول العقائد، وكفروا على أساسها المخالفين، باعتبارهم وقعوا في الشرك الجلي.
وحتى لا نتيه في الخلاف في المسألة، لأنها في كلا الحالتين ـ عند القائلين بولاية الفقيه ـ لا علاقة لها بالكفر والإيمان، وإنما علاقتها بمدى أهمية المسألة، ذلك أنها عندما ترتبط بالعقيدة يكون الاهتمام بها أعظم من كونها مجرد فرع من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف.
وقد أشار إلى هذا الشيخ عبد الله جوادي آملي عندما ذكر أن الخميني استفاد من التدرّج الذي حصل سابقاً في علاقة الفقيه بالأمة، والتي ابتدأت بعلاقة المحدِّث بالمستمع، ثم تطورت إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين إلى أن بدت تتضح معالم ولاية الفقيه في الأبحاث العلمية، ويذكر أن الخميني قام بإنجاز عظيم حين أخرج بحث ولاية الفقيه من دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، وأن لذلك تأثيره الكبير في نجاح الثورة الإسلامية، ذلك أن عموم الناس يهتمون للعقائد أكثر من اهتمامهم للفروع الفقهية، وخاصة إذا وقع الخلاف فيها.
ونحب أن ننبه هنا أيضا إلى أن ربط المسألة بعلم الكلام لا يعني إعطاء الفقيه منزلة فوق منزلته، ذلك أن دور الفقيه لا يعدو النيابة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة في تنفيذ الأحكام الشرعية، كما نبه إلى ذلك الخميني بقوله: (عندما نثبت نفس الولاية التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمة للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمن أحد أن مقام الفقهاء نفس مقام الأئمة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنما عن الوظيفة، فالولاية ـ أي الحكومة وادارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدس ـ هي وظيفة كبيرة ومهمة، لكنها لا تحدث للانسان مقاماً وشأناً غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الانسان العادي. وبعبارة اخرى فالولاية ـ التي هي محل البحث، أي الحكومة والادارة والتنفيذ ـ ليست امتيازاً، خلافا لما يتصوره الكثيرون، وانما هي وظيفة خطيرة)([65])
ثم وضح مرتبة ولاية الفقيه، وعلاقتها بالنبوة والإمامة؛ فقال: (ولاية الفقيه من الأمور الاعتبارية العقلائية وليس لها واقع سوى الجعل، وذلك كجعل القيم للصغار، فالقيم على الامة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأن الإمام قد عين شخصاً لأجل حضانة الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام والفقيه)([66])
ولهذا يعبر عن الولي الفقيه بكونه نائبا للإمام، أو خليفة له، أو ممثلا في الأمة عنه، وهو ما يعطيه مكانة اجتماعية مهمة تجعل لأوامره من القداسة والأهمية ما ليس لغيرها، ومع ذلك لا ترقى به إلى مرتبة النبوة والإمامة.
بناء على هذا استعمل القائلون بولاية الفقيه، وخصوصا الخميني، الكثير من الأدلة العقلية لإقناع المخالفين، أو جماهير الناس، وأولها البداهة العقلية التي تبدو من خلال الإجابة على أمثال هذه التساؤلات: (هل يجوز تصدّي الفقيه للشؤون الاجتماعيَّة والأُمور العامَّة للمسلمين أو لا؟ وهل يجب على المسلمين طاعة أوامر الفقيه ونواهيه في الأُمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة؟ وهل تجب عليهم مساعدة الفقيه العادل في ممارسة الولاية على أُمور المسلمين العامَّة؟ وهل يجوز للمسلمين أن يسلّطوا على أُمورهم غير الفقيه العادل؟ وهل تجب طاعة أحكام الوليّ الفقيه من قبل سائر الفقهاء؟)([67])
فالإجابة البديهية على هذه التساؤلات هي أن الحكومة الإلهية تقتضي علما واسعا بالشريعة، وكيفية تنفيذها، ذلك أنه لا يمكن أن ينفذ الشريعة من لم يحط علما بفروعها وأصولها.
وذلك يقتضي أن يكون لذلك العالم الفقيه الكثير من السلطات التي تتيح له ذلك التطبيق، وكلما كانت السلطات أكثر كان التطبيق أفضل، وأحق باسم الشريعة.
فلو أن دور الفقيه لم يتعد الاستشارة، ولم يكن له دور التنفيذ، لم يتمكن من تنفيذ الكثير من أحكام الشريعة، ولذلك ستعطل باعتبار أنه لم يُستشر فيها، أو لم يكن له رأي حتى يدليه نحوها.
لكن إن كان للفقيه كل السلطات، بحيث يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويخطط للدولة ومستقبلها في جميع المجالات بناء على علمه بأحكام الشريعة؛ فإن تطبيق الشريعة حينها سيكون في أوج كماله الممكن، وخاصة إن استعان بالمستشارين من الفقهاء وغيرهم، وفي المجالات المختلفة، وخاصة إذا علمنا أن مصطلح [الفقيه] الذي ترتبط به الولاية، لا يعني فقط العلم بالأحكام الشرعية، وإنما يعني علوما كثيرة سنتطرق لها عند الحديث عن الجانب التطبيقي من ولاية الفقيه.
ونحب أن نذكر هنا باختصار بعض النماذج عن الأدلة العقلية التي اسنتد إليها القائلون بولاية الفقيه، وهي كما يلي([68]):
وينص على أن علة بعث الأنبياء والأئمة موجودة في نصب الولي؛ فالمتكلمون ذكروا أن الله تعالى رحمة بعباده نصب لهم من يحفظ البلاد، وينظم أمور المعاش والمعاد، وأوجب ذلك على نفسه؛ فكما وجب النصب عقلاً بالنسبة إلى النبي والإمام وجب النصب عقلا بالنسبة إلى القائم مقامهم، وهو الولي الفقيه، أو كما عبر عن ذلك الخميني بقوله: (لا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع، فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (عجّل الله فرجه) ولا سيما مع طول الأمد)([69])
وقد قرر بعضهم هذا الدليل عن طريق المقدمات التالية([70]):
1 ـ الإنسان كائن اجتماعيّ، ومن الطَّبيعيّ حدوث التَّنازع والاختلاف في كلّ مجتمع، ولذلك، فالمجتمع البشريّ بحاجة إلى التَّنظيم والانضباط.
2 ـ لا بدَّ من أن يضمن نظام الحياة الاجتماعيَّة البشريَّة كمال الإنسان وسعادته الفرديَّة والاجتماعيَّة.
3 ـ لا يتمُّ تنظيم الحياة الاجتماعيَّة، بما يجعلها خالية من النِّزاعات والاختلافات، وضامنة لسعادة الإنسان المعنويَّة والغائيَّة، إلّا من خلال القوانين المناسبة والمنفّذ الجدير.
4 ـ ليس للبشر قدرة على تنظيم الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة من دون الله.
5 ـ لا بدَّ من أن يكون حامل القوانين الإلهيَّة وحافظها معصوماً لتصل إلى الإنسان بصورة كاملة، ومن دون نقص وتدخّل وتصرّف.
6 ـ تبيين الدِّين الكامل وإجراؤه يتطلّب نصب الوصيّ والإمام المعصوم.
7 ـ لا يؤمّن الهدف المذكور ـ أي الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة والمنسجمة مع القوانين الشَّرعيَّة ـ في حالة فقدان النبيّ والإمام المعصوم، إلّا من طريق القائد العالم بالوحي والعامل به.
وبناء على هذا؛ فالمقدّمة السادسة، في هذا البرهان، مقيدة بلزوم نصب الإمام، والمقدّمة السَّابعة تثبت ضرورة نصب القائد في زمان غيبة الإمام.
وقد عبر عن الصُّورة الحاصلة من اندماج مقدِّمتي هذا البرهان الشيخ جوادي آملي بقوله: (إنّ حياة الإنسان الاجتماعيَّة وكماله الفرديّ والمعنويّ تتطلّب، من جانب، قانوناً إلهيّاً في الأبعاد الفرديَّة والاجتماعيَّة، مصوناً ومحفوظاً من الضُّعف والنَّقص والخطأ والنسيان، وتحتاج، من جانب آخر، إلى حكومة دينيَّة وحاكم عالم وعادل لتحقُّق وإجراء ذلك القانون الكامل. والحياة الإنسانيَّة لا تتحقَّق، في بعدها الفرديّ والاجتماعيّ، بدونهما أو بأحدهما، وفقدانهما في البعد الاجتماعيّ يوجب الهرج والمرج وفساد المجتمع الّذي لا يقرّه أيّ شخص عاقل. وهذا البرهان الّذي هو دليل عقليّ، ولا يختصُّ بأرض وزمن معيَّنين، يشمل زمان الأنبياء عليهم السلام. ولما كانت نتيجته ضرورة النبوّة، فإنَّه يشمل، أيضاً، ما بعد نبوّة الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعني أنَّه يفضي إلى ضرورة الإمامة، وكذلك إلى عصر غيبة الإمام المعصوم وحاصله ضرورة ولاية الفقيه)([71])
وهو متكون من خمس مقدمات:
المقدمة الأولى: يلزم في كل مجتمع أن يكون فيه قانون وحكومة تحكمه، وإلا لساد الهرج والمرج، وهذا أمر وجداني مؤيد بالنصوص المقدسة، ومن أمثال قول الإمام علي في جواب الخوارج عندما سمع قولهم: (لا حكم إلا لله)، حيث قال: (كلمة حق يراد بها باطل، نعم، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: (لا إمرة إلا لله)، وإنه لا بد للناس من أمير براً كان أو فاجر..)([72])
المقدمة الثانية: أن المجتمع الإسلامي فيه قانون إلهي، يعتقد المسلمون بصحته وكماله، وهو يوجب العمل والحكم على طبقه، كما في قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
المقدمة الثالثة: قوانين كل بلد يلزم أن تكون منسجمة فيما بينها، وصادرة من منشأ واحد، حتى لا يحصل فيها التعارض والتزاحم والخلل، والأمر كذلك في قوانين الحكومة الإسلامية، حيث يجب أن تكون صادرة من اجتهاد فقهي واحد، أي جميع قوانين البلاد تكون مطابقة لفتوى فقيه معين، وهذه الوظيفة الأولى للولي الفقيه.
المقدمة الرابعة: في كل إدارة يلزم أن يكون المدير واحدا، ومركزه على رأس الهرم الإداري في إصدار الأوامر حتى لا يؤدي التعدد إلى حصول النزاع والتخاصم بين المدراء، ويؤدي إلى ضعف عملهم أو عدم انسجامه وتوحده في نظام عام، وكذلك الإدارة السياسية الإسلامية يلزم أن يكون الحاكم شخصا واحدا.
المقدمة الخامسة: اتخاذ القرار السياسي لابد أن يكون صادرا من شخص الحاكم بحسب تشخيصه للمشكلة الموجودة في الواقع الخارجي وعلمه بالقانون، فيحدد القرار المناسب لرفع المشكلة على وفق القانون، حاله حال الطبيب الذي يشخص المرض، ويعطي العلاج المناسب، ولا يمكن الفصل بين الطبيب المشخص للمرض وبين المعطي للعلاج، وكذلك الحال في الحاكم الإسلامي لابد أن يكون فقيها عالم بالقانون الإسلامي على نحو يستطيع أن يستنبط منه الحكم المناسب لمشكلة الواقع السياسي الخارجي، وهذه الوظيفة الثانية للولي الفقيه.
والنتيجة التي تدل عليها هذه المقدمات هي أن وظيفة الحاكم الإسلامي تتلخص في أمرين:
التقنين: أي تقنين قوانين الحكومة الإسلامية واستنباطها من مصادرها الشرعية بحيث تكون جميع أحكام الدولة مطابقة لفتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل أليه.
التطبيق: أي ممارسة السياسة بنفسه أو الإشراف عليها على نحو يطابق مبادئ الإسلام ويحول دون مخالفة أحكام الإسلام بحسب فتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل إليه.
وهاتان الوظيفتان لا تمنعان من تفكيك القوى إلى السلطات الثلاثة، بحيث يكون دوره دور الإشراف، وصاحب القرار النهائي، وكل قرار سياسي يكون على طبق فتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل إليه.
وهو دليل عقلي مركَّب، يتكوّن من بعض المقدِّمات الشَّرعيَّة، بالإضافة للأدلة العقلية، وقد ذكره العلامة الكبير السيد حسين البروجردي(1875- 1961)، بالاستناد لهذه المقدِّمات العقليَّة والنقليَّة([73]):
1ـ يتصدّى الحاكم لتلبية الحاجات الّتي يتوقَّف عليها حفظ نظام المجتمع.
2ـ التفت الإسلام إلى هذه الحاجات، وشرّع لها الأحكام اللازمة، وطالب حاكم المسلمين بإجرائها.
3ـ كان قائد المسلمين وزعيمهم، في صدر الإسلام، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده الأئمّة الأطهار، وكان من وظائفهم سياسة شؤون المجتمع وإدارتها.
4ـ القضايا السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع لا تقتصر على ذلك الزمان، فهي من حاجات المسلمين في العصور والدُّهور جميعها.
5 ـ لم يكن من السَّهل على المسلمين، الوصول إلى الأئمّة في حياتهم، ولذلك، فإنّنا نوقن بأنّهم نصّبوا بعض الأفراد لإدارة هذه الأُمور، ونحن لا نحتمل ـ في عصر الغيبة ـ أن يكون الأئمّة قد نهوا عن الرُّجوع إلى الطَّواغيت وأعوانهم، وفي الوقت نفسه أهملوا السِّياسة، ولم ينصّبوا بعض الأفراد لتدبير الأُمور السِّياسيَّة، ورفع الخصومات وسائر المتطلّبات الاجتماعيَّة المهمَّة.
6ـ بالنَّظر إلى لزوم نصب الوليّ، من جانب الأئمّة، لا بدَّ من إحراز تعيين الفقيه العادل لإحراز هذا المنصب، لأنّه لا أحد يعتقد بنصب غير الفقيه لهذا المنصب، فليس هناك سوى احتمالين:
الأوّل: أنّ الأئمّة لم ينصّبوا أحداً، وإنّما نهوا عن الرُّجوع إلى الطَّاغوت والسُّلطان الجائر فقط.
والثاني: إنّهم نصّبوا الفقيه العادل لهذه المسؤوليَّة.
ويتّضح من المقدمات الأربع السابقة بطلان الاحتمال الأوّل. وعليه، قطعاً، تم نصب الفقيه العادل.
وقد قرّره الشيخ جوادي آملي على حسب المقدمات التالية([74]):
1.صلاحيَّة الدَّين الإسلاميّ وديمومته إلى يوم القيامة من المسلّمات والواضحات.
2. تعطيل الإسلام، في عصر الغيبة، مخالف لخلود الإسلام في جميع الشؤون العقديَّة والأخلاقيَّة والعمليَّة.
3. إقامة النِّظام الإسلاميّ وإجراء أحكامه وحدوده والدفاع عن كيان الدِّين وحفظه من الطامعين أمورٌ لا يشكّ في ضرورتها.
4. الله تعالى بحكمته ولطفه بعباده لا يرضى بهتك الحرمات الشَّرعيَّة وأعراض الناس وضلالهم وتعطيل الإسلام.
5. دراسة الأحكام السِّياسيَّة ـ الاجتماعيَّة للإسلام تفيد استحالة تحقّقها من دون زعامة الفقيه الجامع للشرائط.
وبناء على هذه المقدمات، فإن العقل يحكم، على هذا الأساس، أنّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإسلام والمسلمين في عصر الغيبة من دون زعامة.
2 ـ الأدلة القرآنية والروائية على ولاية الفقيه:
من أكبر الأدلة على كون [ولاية الفقيه] مسألة من المسائل المطروحة قديما، وأنها ليست بدعة ابتدعها الخميني، ولا تصحيحا للتشيع، أو خروجا عنه، أو تأثرا بالمدرسة السنية، أو الحركات الإسلامية، كما يزعم بعض الباحثين من المدرسة السنية والشيعية، هو تلك النصوص القرآنية والروائية التي تتحدث عن السلطات التي يمكن أن يتولاها الفقيه، باعتباره واسطة بين الله وعباده في تعريف الأحكام الشرعية، وفي تولي تنفيذها.
وقد ذكر تلك النصوص أكثر الفقهاء القدامى([75])، حيث نجد الحديث عن مسائل ولاية الفقيه كفتاوى من غير إشارة الى دليل عند الشيخ المفيد (المتوفى 413هـ)، فقد صرح بها في المقنعة([76])، والطوسي في النهاية([77])، ومحمد بن إدريس الحلي في السرائر([78])، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان([79])، والمحقق الأول في شرائع الإسلام([80])، وغيرهم.
كما نجدها مذكورة ـ مع الأدلة المختصرة ـ عند العلامة الحلي في المختلف والتذكرة، وباقي كتبه([81])، ونصير الدين الطوسي، والشهيد الأول في الدروس، والشهيد الثاني في المسالك واللمعة، كما نقل الإجماع عليها العديد من الفقهاء منهم المحقق الكركي في رسالة صلاة الجمعة([82])، وغيرهم.
كما نجدها ـ مع الدليل المفصل ـ عند الشيخ النراقي، الذي بحث فيها بحثا مفصلاً في عوائد الأيام([83])، ومثله المير عبد الفتاح المراغي في كتاب العناوين([84])، والسيد محمد آل بحر العلوم في كتاب بلغة الفقيه([85])، وصاحب المستند، وصاحب الجواهر الذي قال: (بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً، ثم أخذ في الاستدلال بنصوص روايات كثيرة، وأخيراً قال: فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم ـ يقصد أئمة أهل البيت ـ أمراً)([86])، وختم قوله هذا بقوله: (هذا حكم أساطين المذهب)، والميرزا محمد حسين النائيني في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة ([87])، وغيرهم.
وفي الأخير تحولت إلى مرحلة التطبيق العملي، وما تبعه من التأصيلات النظرية، والتحقيقات العلمية المرتبطة بها، والتي حولتها إلى حقيقة بديهية واضحة.
وقد اعتبر بعضهم هذه الموارد نوعا من الإجماع الفقهي عليها، كما عبر عن ذلك العلامة محمد هادي معرفة بقوله: (كانت هي مورد اتفاق الفقهاء فيما سلف حتى عصر صاحب الجواهر حيث بدت بعده وساوس المتشككين، وراق لبعضهم إنكارها رأساً، إنكار أمر كان قد أحكمه أساطين المذهب)([88])
وهذا لا يعني عدم ورود الخلاف في المسألة؛ فقد صرح بالخلاف فيها الشيخ الأنصاري الذي حصر ولاية الفقيه في التصدّي للأمور الحسبية فقط، ومثله السيّد الخوئي الذي أنكر مطلق الولاية للفقيه حتى ولايته في شؤون القضاء، بل أثبت نفوذ قضائه، وحجّية فتواه، والتصرف في أموال القصّر أو غير ذلك لا من باب الولاية، بل من باب الأمور الحسبية.
لكن السيّد الخوئي نفسه، وفي أواخر عمره، تصرف بما تقتضيه ولاية الفقيه العامة، حيث أنه قام في أيام الانتفاضة الشعبانية بتنصيب عشرة من تلامذته الأكفاء لقيادة العراق في تلك الظروف، وكان ذلك نوعا من صلاحيات الولي الفقيه.
وهذا الموقف إما أن يحمل على تراجع السيد الخوئي عن موقفه القديم، والقول بولاية الفقيه، كما فعل تلميذه السيد علي السيستاني بعد احتلال العراق، وصرح بعد ذلك بقبولها، أو أنه وسّع الحسبة، كما برر ذلك بعضهم بقوله: (لا يتصور أن مفهوم الحسبة ضيق جداً، بل يشمل كل ما كان للمعصوم في إدارة شؤون الأمة الإسلامية)، وهذا بعينه القول بولاية الفقيه العامة.
بناء على هذا نجد القائلين بولاية الفقيه يستدلون لها بالكثير من الأدلة النصية، والتي يمكن تصنيفها إلى ما يلي:
وقد جمعها العلامة الشيخ أحمد أزري قمّي في كتابه (ولاية الفقيه من منظار القرآن الكريم)، ومن الآيات التي أوردها للدلالة عليها:
1 ـ قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والتي علق عليها الخميني بقوله: (إن جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً وعدَّ طاعته واجبة ليس المراد منه أنه إذا ذكر الرسول حكماً فيجب علينا القبول والعمل به، فالعمل بالأحكام إطاعة لله عز وجل، وكل الاعمال العبادية وغير العبادية التابعة للأحكام هي إطاعة لله، واتباع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس عملا بالأحكام، وإنما هو أمر آخر، أجل طاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي بمعنى من المعاني طاعة الله، لأن الله قد أمر أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي هو رئيس المجتمع الإسلامي وقائده ـ أمر الجميع بلزوم الذهاب إلى الحرب مع جيش أسامة؛ فلا يحق لأحد أن يتخلف، وهذا ليس أمر الله، وإنما هو أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالله تعالى قد أوكل الحكومة والقيادة له صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم هو صلى الله عليه وآله وسلم وفقاً للمصلحة بتجييش الجيوش، وتعيين القضاة والحكام والولاة، أو يعزلهم)
وبناء على ما ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا). قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: (اتباع السلطان؛ فاذا فعلوا ذلك، فاحذروهم على دينكم)([89])، فإن النص في الآية ـ كما يذكر الخميني ـ يتعلق بهم أيضا، حيث قال: (وبناءً على هذا فالفقهاء أمناء الرسل، تعني أن الفقهاء العدول مكلفون ومأمورون بالقيام بجميع الأمور التي كانت في عهدة الأنبياء، ولئن كانت العدالة من الأمانة، فمن الممكن أن يكون الانسان أميناً في الأمور المالية، دون أن يكون عادلاً، إلا أن المراد من أمناء الرسل هو أولئك الذين لا يتقاعسون عن أداء أي تكليف، والذين يكونون طاهرين ومنزهين)([90])
وقد ورد في هذا روايات كثيرة في المصادر السنية والشيعية تعتبر الفقهاء والعلماء بالدين من أولي الأمر، كما روي عن الإمام علي قوله: (أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه)، وقال: (ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق)([91])، وقال: (إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به)، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35])([92])
وهاتان الآيتان الكريمتان واضحتان في الدلالة على ولاية الفقيه، حيث أنهما تنصان على أن الاتباع لا يكون إلا للمهتدين، ولا يكون المرء مهتديا ما لم يكن له علم مفصل بمواضع الهداية، وذلك ليس إلا للفقيه العالم.
2 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، فهذه الآية الكريمة تصرح بالدعوة للرجوع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لأولي الأمر، وهي تذكر من صفاتهم القدرة على استنباط حكم الله في المسألة، وذلك لا يكون إلا للفقيه العالم.
وقد ذكر هذا المعنى الكثير من فقهاء المدرسة السنية، ومنهم الإمام الجويــني، الذي نص على هذا بقوله: (إذا كان صاحب الأمر مجتهداً فهو المتبوع، الذي يستتبع الكافة في اجتهاده ولا يتبع، أما إذا كان سلطان الزمان لا يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء، والسلطان نجدتهم وشوكتهم، والسلطان مع العالم كملك في زمان نبي، مأمور بالانتهاء إلى ما ينهيه إليه النبي)([93])
ويصرح في موضع آخر من كتابه على ذلك بقوله: (إذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمر موكول إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقاً، وذو النجدة من الحكام مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتفاء أثرهم، والانكفاف عن مزاجرهم)([94])
بل إنه ينص على كيفية تطبيق ولاية الفقيه؛ فيقول: (وإن كثُر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، وإن فرض استواؤهم في العلم، فإصدار الرأي عن جميعهم) ([95])
ومثله قال الفخر الرازي: (لكن المقصود بأولي الأمر في الآية هم العلماء، وأعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى)([96])
3 ـ قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]، حيث حصرت الآية الكريمة الحكم لثلاث أصناف من الناس: وهم(النبيون) والمراد بهم الأنبياء ورسل الله تعالى، و(الربانيون) وهم ورثتهم من الأئمة، و(الأحبار) وهم ورثة الأئمة من العلماء، فأثبتت هذه الآية الكريمة الولاية للعلماء في حال غياب الأنبياء والأئمة.
وهي كثيرة جدا، نذكر باختصار بعضها، مع بيان وجوه استدلال الخميني بها، على حسب ما ذكره في كتابه [الحكومة الإسلامية]:
وهي ما روي عن عمر بن حنظلة، أنه سأل الإمام الصادق عن رجلين حصلت بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة؛ فقال له الإمام الصادق: من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفر به، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، فقال له عمر: فكيف يصنعان؟ فأجابه الإمام الصادق: (ينظران من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا؛ فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حد الشرك بالله)([97])
وقد اهتم الخميني بهذه الرواية، وأشار إليها كثيرا عند استدلالاته على ولاية الفقيه، وقد قال عنها: (هذه الرواية من الواضحات، وليس ثمة وسوسة في سندها ودلالتها، فلا ترديد في أن الإمام الصادق قد عين الفقهاء لأجل الحكومة والقضاء، وعلى جميع المسلمين طاعة أمر الإمام)([98])
ومع كون الرواية واضحة في الدعوة لتحكيم الفقهاء والعلماء، بدل القضاة والسلاطين، إلا أننا سنقتبس بعض ما ذكره الخميني من وجوه الاستدلال بها([99]):
1ـ كما يتحصل من صدر وذيل هذه الرواية، ومن استشهاد الإمام الصادق بالآية الشريفة، فإن موضوع السؤال كان حكماً عاماً، كما أن الإمام قد بين التكليف العام، وقد ذكرت الرجوع في الدعاوى الحقوقية والجزائية إلى القضاة، وإلى المسؤولين التنفيذيين والحكوميين بشكل عام، فالرجوع إلى القضاة يكون لأجل اثبات الحق، وفصل الخصومات، وتعيين العقوبة، والرجوع إلى السلطة لأجل إلزام الطرف الآخر في الدعوى بقبول النتيجة، أو لتنفيذ الحكم الحقوقي أو الجزائي.
2 ـ في هذه الرواية يُسأل الإمام عن جواز الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، ويجيب الإمام بالنهي عن الرجوع إلى دوائر الحكومات غير الشرعية، سواء التنفيذية أو القضائية، ويقول بأنه على الشعب المسلم ألا يرجع في أموره إلى سلاطين وحكام الجور والقضاة العاملين لديهم، حتى لو كان حق الشخص المراجع ثابتاً، ويريد الرجوع لإحقاقه وتحصيله.. ومن رجع إليهم في موارد كهذه فقد رجع إلى الطاغوت، أي السلطات غير الشرعية، وما يأخذه من حق بواسطتهم فإنما يأخذه سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، فهو حرام، ولا حق له في التصرف فيه.
3 ـ بين الخميني بعض الأسرار الثورية التي يحملها قول الإمام الصادق؛ فقال: (هذا حكم سياسي للإسلام، حكم يبعث على امتناع المسلمين عن الرجوع إلى السلطات غير الشرعية والقضاة التابعين لهم، وذلك لكي تتوقف الأجهزة الحكومية الجائرة وغير الإسلامية، وتتعطل هذه المحاكم الطويلة العريضة التي لا يعود للناس منها سوى التعب والمشقة، وتفتح الطريق إلى أئمة الهدى وإلى الأشخاص الموكل اليهم حق الحكم والقضاة من قبلهم، والهدف الأساسي هو عدم السماح للسلاطين والقضاة التابعين لهم بأن يكونوا مرجعاً للأمور، وبأن يتبعهم الناس في ذلك. فقد أعلن الأئمة للأمة الإسلامية أن هؤلاء ليسوا بمرجع، والله تعالى أمر الناس بالكفر بهم وعصيانهم، والرجوع اليهم يتنافى مع الكفر بهم، فإذا كنت كافراً بهم وتراهم ظالمين وغير لائقين، فيجب ألا ترجع إليهم) ([100])
4 ـ بناء على هذا، وبناء على حاجة الناس للقضاة والحكام؛ فإن قول الإمام الصادق، ليس سوى دعوة لتحقيق ولاية الفقيه في الواقع، كما ينص الخميني على ذلك بقوله: (بناءاً على هذا، فما هو تكليف الأمة؟ وما الذي يجب عليهم عمله في الحوادث والمنازعات؟ وإلى من يرجعون؟.. فالإمام لم يترك شيئاً مبهماً ليقول البعض إذن فرواة الحديث هم المرجع والحاكم، بل ذكر كل الجهات وقيد (الرواة) بكونهم ممن نظر في الحلال والحرام وفقا للقواعد، وله معرفة بالأحكام، ويمتلك الموازين لتمييز الروايات الصادرة على خلاف الواقع.. ومن الواضح أن معرفة الأحكام ومعرفة الحديث أمر آخر غير نقل الحديث) ([101])
5 ـ يقول تعليقا على قول الإمام الصادق: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً): (أي منصباً من قبلي للحكم والامارة، وللقضاء بين المسلمين. ولا يحق للمسلمين أن يرجعوا إلى غيره، وبناءاً عليه، فلو اعتدى أحدهم على مال لكم، فالمرجع في الشكوى هي السلطة التي عينها الإمام، وإذا تنازعتم مع أحد على دَين، واحتجتم إلى اثبات ذلك، فالمرجع هو ذلك القاضي الذي عينه أيضاً، ولا حق لكم في الرجوع إلى غيره. وهذه وظيفة جميع المسلمين، وليس تكليفاً خاصاً بعمر بن حنظلة حين يواجه تلك المشكلة، فأمر الإمام هذا عام وكلي، فكما كان أمير المؤمنين في زمان حكومته يعين الحكام والولاة والقضاة، وكان على جميع المسلمين أن يطيعوهم، فالإمام الصادق أيضاً بما أنه ولي الامر المطلق، وله الولاية على جميع العلماء والفقهاء والناس، فهو يستطيع أن يعيّن الحكام والقضاة لزمان حياته، ولما بعد مماته. وقد قام بذلك وجعل هذا المنصب للفقهاء، وإنما قال [حاكماً] لكيلا يتوهم البعض أن الأمر مختص بالمسائل القضائية، ولا يشمل سائر أمور الحكم والدولة) ([102])
وهي ما روي عن سالم بن مكرم المكنى بأبي خديجة([103])، أنه قال: (بعثني أبو عبد الله إلى أحد أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء، أن تُحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)([104])
وقد ذكرها الخميني في كتابه [الحكومة الإسلامية]، وذكر وجوه الاستدلال بها بتفصيل نختصره فيما يلي ([105]):
1. المراد من التداري المذكور في الرواية هو الاختلاف الحقوقي؛ فالمعنى أن لا ترجعوا إلى هؤلاء الفساق في الاختلافات الحقوقية والمنازعات والدعاوي. ومن قوله بعد ذلك: (إني قد جعلته عليكم قاضياً) يتضح أن المقصود من [الفساق] هم القضاة المعينون من قبل سلاطين ذلك الوقت، والحكام غير الشرعيين. ويقول في ذيل الحديث: (وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)، أي لا ترجعوا في الأمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية هؤلاء الحكام غير الشرعيين.
2. أن السلطان الجائر هو كل حاكم جائر وغير شرعي بشكل عام، ويشمل جميع الحكام غير الإسلاميين، والسلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية جميعاً، لكن بالالتفات إلى أنه قد نهى قبل ذلك عن الرجوع إلى قضاة الجور، يتضح أن المراد بهذا النهي فريق آخر، وهم السلطة التنفيذية.
3 ـ أن قوله: (إيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر) ليست تكراراً للكلام السابق، أي النهي عن الرجوع إلى الفساق، وذلك لأنه قد نهى أولاً عن الرجوع إلى القاضي الفاسق في الأمور المتعلقة به من التحقيق، وإقامة البيّنة، وأمثال ذلك، وأوضح وظيفة اتباع القاضي الذي عينه، ثم منع بعد ذلك من الرجوع إلى السلاطين أيضاً، مما يدل على أن باب القضاء غير باب الرجوع إلى السلاطين، وأنهما صنفان. وفي رواية عمر بن حنظلة حيث نهى عن التحاكم إلى السلاطين والقضاة أشار إلى كلا الصنفين، غاية الأمر أنه هنا إنما عين القاضي فقط، بينما في رواية عمر بن حنظلة عين الحاكم المنفذ والقاضي كلاهما.
4 ـ أن الإمام الصادق جعل منصب القضاء في حياته للفقهاء ـ وفقاً لهذه الرواية ـ بينما جعل لهم منصب القضاء والرئاسة وفقاً لرواية عمر بن حنظلة.
5 ـ لا يمكن لأحد أن يقول باعتزال الفقهاء عن هذه المناصب بموت الإمام؛ ففي انظمة الدنيا جميعا لا تلغي المناصب والمراكز العسكرية والتنظيمية بمجرد وفاة رئيس الجمهورية أو السلطان، أو تبديل الأوضاع وتغيير النظام.
6 ـ بناء على ما سبق؛ فإن مناصب العلماء باقية مستمرة، وكذلك مقام الرئاسة والقضاء الذي عيَّنه الائمة لفقهاء الإسلام، فهو مستمر وباق؛ فالإمام يعرف أنه في حكومات الدنيا تبقى المناصب مستمرة حتى لو مات الرئيس؛ فلو كان يريد سلب حق الرئاسة والقضاء من الفقهاء بعد وفاته لكان يجب أن يعلن أن ذلك المنصب للفقهاء إنما كان فترة حياته فحسب، وأنهم بعد رحيله معزولون؛ فظهر إذن أن الفقهاء منصوبون من قبل الإمام لمنصب الحكومة والقضاء، وأن هذا المنصب لهم باق دائماً، واحتمال كون الإمام المتأخر قد نقض هذا الحكم، وعزلهم عن ذلك المنصب، احتمال باطل. إذ عندما ينهى الإمام عن الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، ويقول أن الرجوع اليهم رجوع إلى الطاغوت، ويتمسك بالآية الشريفة التي تأمر بالكفر بالطاغوت، ومن ثمَّ ينصب (الفقهاء) قضاة وحكاماً للناس، فلو ألغي الإمام المتأخر هذا الحكم، ولم ينصب حاكماً وقاضياً آخر، فما هو تكليف المسلمين؟ ولمن يجب عليهم الرجوع في الاختلافات والمنازعات؟ هل يرجعون إلى الفساق والظلمة، والذي هو رجوع إلى الطاغوت، ومخالف لأمر الله؟ أم يبقون دون مرجع وملجأ، وتعمّ الفوضى؟ وليفعل كل امرئ ما يريد من اكل حق، أو سرقة أو سواها؟
ما ورد في الحديث المعروف المتفق على روايته عند السنة والشيعة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل العلماء وطلبة العلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به. وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض، حتى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورَّثوا العلم. فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)([106])
والحديث ـ كما يذكر الخميني ـ له دلالة واضحة على [ولاية الفقيه]، ولذلك استدل به النراقي لإثبات ولاية الفقيه([107])، ومحل الشاهد منه ـ كما يذكر ـ هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، ومن وجوه الاستدلال التي ذكرها([108]):
1ـ أن المقصود من العلماء هم علماء الأمة، وليس الأئمة، إذ أن نمط المناقب الواردة للائمة يختلف عما ورد في الحديث؛ فهذه العبارات من قبيل: (إن الأنبياء انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ منه أخذ وافر) لا تصح لتعريف الأئمة.
2 ـ أن الإشكال الذي يذكر أن الأنبياء ـ على الرغم من كونهم يتلقّون العلم بواسطة الوحي ـ إلا أن ذلك لا يقتضي الولاية لهم على الناس والمؤمنين، غير صحيح ذلك أن (الميزان في فهم الروايات وظواهر الالفاظ هو العرف العام والفهم المتعارف للناس، لا ما تؤدي اليه التجزئة والتحليل العلمي، ونحن أيضاً نتبع فهم العرف. فلو أراد الفقيه أن يدخل التدقيق العلمي في فهم الروايات لتوقف في كثير من المسائل)، وبناء على ذلك (يمكن القول بأن الأحكام التي تركها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته هي نوع من الميراث ـ وان كانت لا تسمى ميراثا بحسب الاصطلاح ـ والذين يأخذون هذه الأحكام هم ورثة النبي)
3 ـ أن الولاية والامارة من الأمور الاعتبارية والعقلائية، وفي هذه الأمور يجب أن نرجع إلى العقلاء لنرى هل يعتبرون انتقال الولاية والحكومة من شخص إلى شخص آخر وراثة ام لا؟ فلو سئل عقلاء الدنيا مثلا عمن قد ورث السلطة الفلانية، فهل يجيبون بأن هذا المنصب لا يقبل الوراثة؟ أم يقولون أن فلان مثلا هو وريث العرش والتاج؟ وأساساً فإن هذه الجملة [وريث التاج والعرش]، من العبارات المعروفة. فلاشك في أن الولاية في نظر العقلاء قابلة للانتقال، كمثل الإرث من الأموال التي تنتقل من شخص إلى آخر.
4 ـ ومن يلاحظ الآية الشريفة { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، والرواية التي تقول: (العلماء ورثة الأنبياء) يلتفت إلى أن المراد هي نفس هذه الأمور الاعتبارية التي يرى قابلية انتقالها عقلا.
5 ـ بناءاً على هذا، لو كنّا نحن وجملة العلماء ورثة الأنبياء فقط، وصرفنا النظر عن صدر الرواية وذيلها، فالظاهر أن جميع شؤون النبي صلى الله عليه وآله وسلم القابلة للانتقال بعد وفاته ـ ومنها الامارة على الناس الثابتة للائمة من بعده ـ ثابتة للفقهاء أيضاً. ماعدا الشؤون التي تخرج بدليل آخر. ونحن نخرجها بمقدار ما يدل الدليل.
وهي خطبة للامام الحسين في منى حول وظائف الفقيه ومسؤولياته، وأسباب جهاده وثورته الداخلية ضد الحكم الأموي، وقد اهتم بها الخميني كثيرا، وفصل في شرحها، وذكر في مقدمته لها أنه (يتحصل منها أمران مهمان: الأول: [ولاية الفقيه] والثاني: أنه يجب على الفقهاء أن يفضحوا الحكام الجائرين، ويوقظوا الناس من خلال جهادهم وامرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، حتى تقوم الجماهير الواعية من خلال نهضتها الشاملة باسقاط الحكومة الجائرة، واقامة الحكومة الإسلامية)([109])
وسنذكر هنا الرواية بطولها، ثم نذكر بعض تعليقات الخميني عليها، فقد ورد فيها: (اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، وقال:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [المائدة: 78]، وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون والله يقول: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [المائدة: 44]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة: 71]؛ فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت، استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها. وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.ثُمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعِلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف، ويُكرمكم الضعيف، ويُؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر. أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله، وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصِّرون؟ فاستخففتم بحقّ الأمّة، فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتم، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتم في ذات الله. أنتم تتمنّون على الله جنّته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ نقمة من نقماته لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلةً فضّلتم بها، ومن يعرف بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده تُكرمون. وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من فيها تُعينون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون. كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، ما سُلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ولكنّكم مكّنتم الظّلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات. سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعَف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجبّار، في كلّ بلدٍ منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّارٍ عنيد وذي سطوةٍ على الضعفة شديد مطاع لا يعرف المبدئ والمعيد، فيا عجباً ومالي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.. اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فُضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإن لم تنصرونا وتُنصفونا، قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير)([110])
وسأقتبس هنا بعض ما ذكره الخميني من استدلالات بالحديث([111]):
1 ـ من البديهي أن هذا الذم والتقبيح الذي ذكره الإمام الحسين لا يختص بعلماء اليهود، ولا بعلماء النصارى، بل يشمل علماء المجتمع الإسلامي أيضاً، وجميع علماء الدين بشكل عام؛ وبناءاً عليه، فعلماء الدين الإسلامي مشمولون للذم والتقبيح الإلهي أيضاً فيما لو ظلوا ساكتين أمام سياسة الظلمة ونهجهم، وهذا الامر لا يخص السلف والاجيال الماضية، بل تتساوى فيه الاجيال الماضية مع أجيال المستقبل.
2 ـ أن تساهل العلماء في وظائفهم ضرره أكثر من تقصير الآخرين في القيام بنفس تلك الوظائف المشتركة، إذ عندما يرتكب التاجر مخالفة ما، فإن ضررها يعود عليه، لكن إذا قصر العلماء في وظائفهم، فسكتوا مثلا أمام الظلمة، فإن الضرر يعود على الإسلام. وإذا عملوا بوظيفتهم، وتكلموا حيث يجب أن يتكلموا، فإن النفع سيعود على الإسلام أيضاً.
3 ـ لقد ذكر قول الاثم وأكل السحت مع أنه يجب النهي عن جميع الأمور التي تخالف الشرع، وذلك من أجل بيان أن هذين المنكرين أخطر من جميع المنكرات، ويجب أن يعمل على إنكارهما ومحاربتهما بشكل أكثر جدية، إذ أنه أحيانا يكون لأقاويل الأنظمة الظالمة ودعاياتهم ضرر على الإسلام والمسلمين أكثر من عملهم في سياستهم، وغالبا ما يعرّضون كرامة واعتبار الإسلام والمسلمين للهتك؛ فالله تعالى يؤاخذهم على عدم التصدي لأقاويل الباطل، ودعايات السوء للظلمة، وعلى عدم تكذيبهم لمن يدعي أنه خليفة الله، وأن الأحكام الإلهية هي تلك التي يطبقها هو، والعدالة الإسلامية هي ما يقوله وينفذه مع كونه لا يخضع للعدالة أصلا.
4 ـ لو قام شخص ما بتفسير الأحكام بنحو لا يرضي الله، أو بإحداث بدعة بذريعة أن العدل الإسلامي يقتضي ذلك، أو بتنفيذ أحكام مخالفة للإسلام، فيجب على العلماء أن يبدوا معارضتهم له؛ فإذا لم يفعلوا، فإنهم ملعونون من الله تعالى، وهذا واضح من خلال الآية التي استدل بها الإمام الحسين، وفي الحديث: (إذا ظهرت البدع، فللعالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله)([112])، فإبداء المعارضة، وبيان الأحكام والتعاليم الإلهية المخالفة للبدع والظلم والمعاصي مفيد في حد ذاته، لأنه يؤدي إلى إطلاع الناس على الفساد الاجتماعي، ومظالم الحكام الخونة والفسقة، أو الذين لا دين لهم؛ فإبداء المعارضة من قبل علماء الدين في موارد كهذه هو نهي عن المنكر من قبل القادة الدينيين للمجتمع، ويستتبع موجة من النهي عن المنكر، ونهضة معارضة وناهية عن المنكر، يشارك فيها جميع أبناء الشعب المتدينين والغيورين.
5 ـ حاول الخميني أن يعيد صياغة الخطبة السابقة، بشكل يتناسب مع العصر، ومن ذلك قوله مخاطبا العلماء والمراجع: (إذا لم تكونوا قادرين حاليا على منع بدع الحكام، وإزالة هذه المفاسد، فعلى الاقل لا تبقوا ساكتين. إنهم يحاربونكم، فضجوا واصرخوا واعترضوا، ولا تستسلموا للظلم. فالاستسلام للظلم أسوأ من الظلم. استنكروا واعترضوا واصرخوا، وانفوا اكاذيبهم، يجب عليكم أن تؤسسوا أجهزة اعلامية مقابل أجهزتهم، لتفضح وتنفي جميع أكاذيبهم، وتظهر للملأ أنهم يكذبون، وأن العدالة الإسلامية ليست ما يدّعون، ويجب أن تُعلَن هذه الأمور لينتبه الناس، ولا تجعل الاجيال القادمة سكوت هذه الجماعة حجة، وتحسب أن أعمال ومناهج الظلمة كانت مطابقة للشرع، وأن الدين الإسلامي المبين قد اقتضى أن يقوم بأكل السحت وسرقة اموال الشعب)([113])
وقال: (لقد أحرقوا المسجد الاقصى، ونحن نصرخ: دعوا المسجد الاقصى على حاله نصف المحترق هذا ولا تزيلوا آثار الجرم بينما نظام الشاه يفتتح الحسابات ويجمع المال من الناس باسم بناء المسجد الاقصى، ليتمكن من جني الفوائد، وملأ جيوبه عبر هذا السبيل، ومن خلال ذلك يزيل آثار جرم إسرائيل)([114])
وقال: (إن الاسباب الأساسية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الأمور. بينما نحن قد جعلنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن دائرة صغيرة وحصرنا ذلك في الموارد التي يترتب فيها الضرر على الفاعل للمنكر، أو التارك للمعروف، وقد غرس في أذهاننا أن المنكرات هي تلك الأمور التي نراها ونسمع بها بشكل يومي في حياتنا الاعتيادية فحسب، كسماع الموسيقى في الباصات، أو ارتكاب بعض المخالفات في المقاهي، أو تجاهر بعض الناس بالافطار، وأن هذه الأمور هي التي يجب أن ننهي عنها فقط، ولا نلتفت إلى تلك المنكرات الكبيرة، إلى أولئك الذين يقومون بضرب الإسلام معنوياً، وسحق حقوق الضعفاء وما شابه من الموارد التي يجب أن ينهى فيها عن المنكر. لو صير إلى الاعتراض بشكل جماعي على الظلمة، وعلى المخالفات التي يقومون بها، أو الجرائم التي يرتكبونها، ولو أرسلت اليهم آلاف برقيات الاستنكار من جميع البلاد الإسلامية، فمن المتيقن أنهم سوف يتخلون عما يقومون به) ([115])
وقال: (إني أستوضحكم الآن: هل الأمور التي ذكرها الإمام في هذا الحديث كانت خاصة بأصحابه المحيطين به، والذين يستمعون إلى كلامه؟ أليس خطاب [اعتبروا أيها الناس] موجَّهاً لنا؟ ألسنا مصداق الناس وجزءً منهم؟ ألا يجب أن نأخذ العبرة من هذا الخطاب؟ وكما ذكرت في أول البحث، فإن هذه المطالب ليست مختصة بجماعة معينة، وانما هي إعلان من الإمام إلى كل أمير ووزير وحاكم وفقيه، وإلى كل الدنيا، وجميع البشر. فوصاياه قرينة للقرآن ومثله، إذ وجوب اتباعها مستمرة إلى يوم القيامة. والآية التي استدل بها أيضاً {لولا ينهاهم الربانيون} وإن كانت خطاباً للربانيين والأحبار، لكن الخطاب موجَّه للجميع. ولقد ذمَّ الله تعالى الربانيين والأحبار، واستنكر عليهم لسكوتهم أمام ظلم الظلمة خوفاً أو طمعاً، مع كونهم قادرين على القيام بما يمنع الظلم من خلال المعارضة ورفع الصوت والكلام، فعلماء الإسلام أيضاً إذا سكتوا، ولم يقوموا بوجه الظالمين؛ فإنهم سوف يقعون محلاً لاستنكار الله عز وجل)([116])
هذه ـ باختصار ـ صورة عن القيمة الأولى من القيم التي يقوم عليها نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي قيمة [الحكومة الإلهية]، والتي استطاع فيها النظام الإيراني أن يتجاوز كل التطبيقات الخاطئة التي وقعت فيها جماعات الإسلامي السياسي، ووقعت فيها قبلها الأنظمة الثيوقراطية المستبدة التي مارستها الكنيسة.
ذلك أن النظام الإيراني استطاع أن يحافظ على قيم الحكومة الإلهية، والتي يتولاها الولي الفقيه، والمؤسسات المختلفة، وفي نفس الوقت حافظ على إشراك الشعب في جميع قراراته عبر المؤسسات المختلفة، وهو ما لم يتوفر في أي نظام من النظم.
ونحن ـ كما عرضنا ـ هذه الصورة الجميلة لتلك المزاوجة
التي حصلت في إيران بين الحكم الإسلامي بمبادئه وقيمه، في نفس الوقت الذي روعيت
فيه كل القيم الجمهورية والديمقراطية، نتمنى أن تتخلى حركات الإسلام السياسي عن
نظرتها السلبية لولاية الفقيه، وتنظر إليها من خلال ممارساتها الواقعية، وتأصيلها
النظري، لا لتتبناها بمثل الصورة التي تبنتها بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية،
وإنما بالصورة التي تتناسب مع كل بلاد تريد أن تطبق الحاكمية الإلهية عليها، ذلك
أنه يستحيل أنه يستحيل أن يطبق الحاكمية الإلهية من لم يكن عارفا بها، وفقيها
فيها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
([1]) صحيفة الإمام، ج1، ص: 275.
([2]) المرجع السابق، ج1، ص: 275.
([3]) المرجع السابق، ج1، ص: 276.
([4]) المرجع السابق، ج1، ص: 278.
([5]) المرجع السابق، ج1، ص: 280.
([6]) الخميني: شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف، سعيد حوى، ص3.
([7]) موقع رابطة الحوار الديني للوحدة.
([8]) صحيفة الإمام: ج1 ، ص 46.
([9]) المرجع السابق، ج1، ص47.
([10]) كشف الأسرار، ص138..
([11]) أثبت زيف تلك الترجمة بالأدلة الكثيرة د. إبراهيم الدسوقي شتا رئيس قسم اللغات الشرقية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة في كتيب بعنوان (كشف الأسرار بين أصله الفارسي والترجمة الأردنية)، نشر كمقال في (مجلة الراصد – تموز 1991م) ونشر في الترجمة الجديدة للكتاب من ص13-29، وقد كشف المقال عن تحريف خطير ومغرض في الترجمة (الأردنية) بغية تشويه صورة الخميني، وتشويه صورة الشيعة والطعن فيهم، وقد تم ترجمة كتاب [كشف الأسرار] ترجمة صحيحة معرّبة.
وقد اشترك في الترجمة الأردنية المحرّفة بشار عواد معروف، ومعه أستاذ الشريعة محمد أحمد الخطيب، ومعهم سليم الهلالي، ومعهم الشخصية الوهمية محمد البنداري التي اخترعوها ليكون في واجهة الغلاف بأنه المترجم للكتاب، وقد تم هذا بمباركة الألباني الذي ألحق فتواه في آخر الطبعة المذكورة بكفر الخميني.
([12]) الحكومة الإسلامية، ص11.
([13]) الحكومة الإسلامية، ص.
([14]) لمحة عن عبادة الإمام ومؤلفاته، السيد أحمد الخميني، مقال من كتاب: الإمام الخميني قدوة، ص6.
([15]) المرجع السابق، ص7.
([16]) المرجع السابق، ص7.
([17]) انظر مقالا بعنوان: كتب في ولاية الفقيه، عباس رشيد، مجلة بقية الله، السنة الثالثة عشر، العـــــدد 145.
([18]) الإسلام يتحدى، ص156.
([19]) المرجع السابق، ص156.
([20]) المرجع السابق، ص156.
([21]) المرجع السابق ، ص157.
([22]) المرجع السابق، ص157.
([23]) المرجع السابق ، ص158.
([24]) الحكومة الإسلامية، ص10.
([25]) المرجع السابق، ص11.
([26]) المرجع السابق، ص11.
([27]) المرجع السابق، ص11.
([28]) المرجع السابق، ص12.
([29]) المرجع السابق، ص12.
([30]) المرجع السابق، ص13.
([31]) المرجع السابق، ص15.
([32]) هو مرجع شيعي عراقي مُعاصر مقيمٌ بمدينة قم، وهو أحد أبرز تلاميذ محمد باقر الصدر،.
([33]) أساس الحكومة الإسلاميّة، الحائري، ص5..
([34]) المرجع السابق، ص6.
([35]) الإمامة والولاية، الخامنئي، 93 – 92.
([36]) صحيفة الإمام، ج4، ص: 70.
([37]) الحكومة الإسلامية، ص27.
([38]) أصول الكافي، ج1، ص76ـ80.
([39]) أصول الكافي، ج1، ص76ـ80.
([40]) الحكومة الإسلامية، ص28.
([41]) المرجع السابق، ص31.
([42]) انظر مقالا بعنوان: ولاية الفقيه لا تلزمنا، فهمي هويدي، جريدة الوطن الالكترونية، بتاريخ 19/2/2013 م..
([43]) المرجع السابق.
([44]) المرجع السابق.
([45]) المرجع السابق.
([46]) ) الميرزا حسن (أو محمد حسن) بن محمود الحسيني الشيرازي (1230 ـ 1312هـ ق) فقيه اصولي، ورئيس الامامية في عصره. انتخب بعد وفاة الشيخ الانصاري مرجعا للشيعة. وقصة التنباك المعروفة التي حصلت سنة وفاته وأدت إلى ترك استعمال التبغ من قبل ملايين الايرانيين، مما سبب إلغاء الاتفاقية مع الانكليز، كانت نموذجاً واضحاً عن قدرته الدينية وبصيرته السياسية.
([47]) العناوين التي يتعلق بها الحكم الشرعي لها نحوان: الأول لا يكون العنوان أو الموضوع مقيدا بقيد كالاضطرار مثلا، ففي هذه الصورة يسمى الحكم المجعول لها بالحكم الأولي، والنحو الثاني يكون العنوان أو الموضوع مقيدا بقيد كالحرج والاضطرار والاكراه والضرر والفساد، ففي هذه الصورة يسمى الحكم المتعلق بها بالحكم الثانوي..
([48]) الحكومة الإسلامية، ص119.
([49]) ) الميرزا محمد تقي بن محب علي الشيرازي الحائري (1338 هـ ق) بعد اكمال دراسة المقدمات سافر إلى سامراء، وحضر درس الميرزا الشيرازي (الكبير) وصار معدودا من أفضل طلابه، ونال مقام المرجعية بعد الميرزا في سامراء، وبعد السيد محمد كاظم اليزدي تولى رئاسة الشيعة.. وأعلن الجهاد بفتواه المشهورة في العراق، ودعا الشعب إلى مواجهة الانكليز الذين دخلوا إلى العراق.
([50]) الحكومة الإسلامية، ص119.
([51]) المرجع السابق، ص119.
([52]) المرجع السابق، ص119.
([53]) المرجع السابق، ص120.
([54]) انظر المقال السابق: ولاية الفقيه لا تلزمنا، فهمي هويدي.
([55]) المرجع السابق.
([56]) المرجع السابق.
([57]) الحكومة الإسلامية، ص7.
([58]) المرجع السابق، ص8.
([59]) المرجع السابق، ص136.
([60]) الكوثر في خطابات الإمام الخميني، ج1، ص104 ـ 105. يوم الجمعة 10/4/1964م ضمن خطبة له في بيته.
([61]) البيع، الإمام الخميني: 461 و462.
([62]) ولاية الفقيه والقيادة في الإسلام، عبد الله جوادي آملي: 143.
([63]) الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص182.
([64]) شرح الطحاوية لابن جبرين (57/ 3)
([65]) الحكومة الإسلامية، ص47.
([66]) المرجع السابق، ص48.
([67]) انظر: الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص179.
([68]) انظر في تقريرات هذه الأدلة: ولاية الفقيه مفهوماً ودليلاً ، السيد أبو الحسن الموسوي الغريفي، مركز الصدرين للدراسات السياسية، و الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون.
([69]) كتاب البيع، الخميني ، ج2، ص460..
([70]) الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص212.
([71]) ولاية الفقيه: 151 و152..
([72]) نهج البلاغة / الخطبة 40.
([73]) ولاية الفقيه: 167 و168..
([74]) ولاية الفقيه: 167 و168..
([75]) انظر: ولاية الفقيه مفهوماً ودليلاً ، السيد أبو الحسن الموسوي الغريفي، وقد استفدنا منه الاقتباسات التي ذكرت ولاية الفقيه في الكتب الفقهية.
([76]) المقنعة: 675، 163، 811، 252، 270، 152، 442، 678، 721،774، 740 وغيرها.
([77]) النهاية: 185، 192،700، 704، 706..
([78]) السرائر، ج3، ص538 و539.
([79]) مجمع الفائدة والبرهان: 12: 28..
([80]) الحلي، جعفر بن حسن، شرائع الإسلام، مختلف الشيعة: 4: 478. تذكرة الفقهاء، ج1، ص452.
([81]) محمد علي المدرس، ج2، ص177. والرضوي، محمد تقي المدرس، أحوال وآثار خواجة نصير الدين الطوسي.
([82]) رسائل المحقق الكركي (المجموعة الأولى): 142.
([83]) عوائد الأيام: 536..
([84]) العناوين 2: 557، العنوان 73، 74، 75.
([85]) بلغة الفقيه. رسالة في الولايات.
([86]) جواهر الكلام – ج21، ص394ـ397.
([87]) النائيني، محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ص41.
([88]) آية الله محمد هادي معرفة، ولاية الفقيه أبعادها وحدودها ، ص2…
([89]) اصول الكافي، ج1، ص58،.
([90]) الحكومة الإسلامية، ص65.
([91]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 163..
([92]) مجمع البيان، ج2، ص458..
([93]) الجويني ، غياث الأمم ، ص380.
([94]) المرجع السابق، (ص 280).
([95]) المرجع السابق، (ص 391)
([96]) مفاتيح الغيب: (5/150)
([97]) الكافي ، ج7، ص412، رقم5..
([98]) الحكومة الإسلامية، ص88.
([99]) المرجع السابق، ص86.
([100]) المرجع السابق، ص87.
([101]) المرجع السابق، ص87.
([102]) المرجع السابق، ص88.
([103]) كان من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم وروى عن كليهما، وثَّقه ابن قولويه، وعليّ بن فضّال، وعبَّر عنه الرجاليّ الكبير النجاشيّ بالثقة.
([104]) وسائل الشيعة، ج18، ص100.
([105]) الحكومة الإسلامية، ص89.
([106]) أصول الكافي، ج1، ص42، وقد روي الحديث في المصادر السنية التالية: مسند أحمد (5/196)، والدارمي (340)، وأبو داود (3641) ، وابن ماجة (223)
([107]) عوائد الايام، 186.
([108]) الحكومة الإسلامية، ص93.
([109]) المرجع السابق، ص103.
([110]) تحف العقول، ص237..
([111]) الحكومة الإسلامية، ص105، فما بعدها.
([112]) اصول الكافي، ج1، ص54.
([113]) الحكومة الإسلامية، ص107.
([114]) المرجع السابق، ص108.
([115]) المرجع السابق، ص111.
([116]) المرجع السابق، ص113.