ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة

ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة
تعتبر الحرية القيمة الكبرى التي ناضلت من أجلها كل الشعوب لتخرج من قيود الطواغيت والمستبدين، وتسترد ممتلكاتها من مغتصبيها، وتمارس حياتها بعيدا عن كل الضغوط، ولهذا كانت شعارا أساسيا في كل الثورات ابتداء من الثورة الفرنسية إلى الآن.
بل لو درسنا التاريخ جيدا لوجدنا أن كل الدعوات الإصلاحية في التاريخ ترتبط بالدعوة للتحرر والانعتاق من نير الظلمة والمستبدين، لتنعم الشعوب، مجتمعات وأفرادا، بحقوقها بعيدا عن كل القيود.
وهكذا كانت الحرية شعارا في الثورة الإيرانية، لم يحمله الشيوعيون أو الاشتراكيون، أو الليبراليون فقط، بل حمله معهم وقبلهم الإسلاميون، وخصوصا الذين تحولوا بعد ذلك إلى قادة للثورة الإسلامية.
ولهذا نجد في الخطابات الكثيرة التي ألقاها الخميني أو غيره من قادة الثورة حديثا كثيرا عن الحرية والانعتاق من نير الشاه وظلمه واغتصابه لحقوق الشعب، وتلاعبه بثروته.
ومن الأمثلة على ذلك الخطاب التاريخي الذي يسمى [خطاب الإنتصار]، والذي ألقاه الخميني بتاريخ 1/ 4/1979 م، بمناسبة إعلان نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ومما جاء فيه مما يتعلق بالحرية، وكونها من المطالب التي تحقق بسبب الثورة الإسلامية: (على أي حال فإننا فزنا والحمد لله في هذا الاستفتاء، وقد ظهر بطلان ما كتب في الصحف الأجنبية، وقد أدلى شعبنا برأيه مائة في المائة تقريباً لصالح الجمهورية الإسلامية، وعلى الشعب أن يطبق هذه الجمهورية الإسلامية بعد اليوم.. يجب أن تتغير جميع الأمور في إيران في ظل الجمهورية لإسلامية، فالجامعات يجب أن تتغير، وتتبدل الجامعات العميلة إلى جامعات مستقلة.. وثقافتنا يجب أن تتبدل، وتحل الثقافة المستقلة محل الثقافة الاستعمارية.. وزارة العدل يجب أن تتغير؛ فالقضاء الغربي لا بد أن يتحول إلى القضاء الإسلامي.. اقتصادنا يجب أن يتغير، فالاقتصاد العميل يجب أن يتحول إلى اقتصاد مستقل.. وجميع الأشياء التي كانت في حكومة الطاغوت، وكانت قد طبقت استجابة لأوامر الأجانب في هذا البلد الضعيف، هذه الأشياء يجب أن تنقلب رأساً على عقب بعد أن استقرت الحكومة الإسلامية والجمهورية الإسلامية)([1])
فهذا النص يبين مفهوم الحرية لدى قادة الثورة الإسلامية، وهو مفهوم ينطلق من الهوية الإيرانية ذات البعد الإسلامي؛ فهو يدعو كل المراكز والمؤسسات التي كانت خاضعة للسيطرة والفكر الغربي إلى تعديل وجهتها لتنسجم مع الإسلام، ومع مطامح الشعب والقيم التي يؤمن بها.
وهذا على عكس ما يريده المغرضون الذين يتصورون أن إبعاد الشعب عن هويته وتحقيق متطلبات غرائزه هي الحرية، مع كونها ـ كما يذكر قادة الثورة الإسلامية ـ ليست سوى مصايد لإفساد الشعوب وإلهائها عن المطالبة بحقوقها.
ولهذا ينتقد الخميني تلك الرؤية الغربية للحرية، ويعتبرها من التدليس الذي يحتالون به على الشعوب للسيطرة عليها، يقول في ذلك: (إن أحكام الجمهورية الإسلامية التقدمية تسبق جميع الأحكام في سائر العقائد والطبقات.. نحن نرى إن دعاة الديمقراطية يتكلمون عن ديمقراطيتهم إلا أن ممارستهم للديمقراطية تختلف في الشرق عما في الغرب، ففي الشرق يواجه شعبهم ديكتاتورية كبيرة وفي الغرب كذلك، ونحن نرى أن بعض الأشخاص يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكننا رأينا أن جمعيات حقوق الإنسان لم تتكلم كلمة واحدة خلال هذه الخمسين سنة التي سيطرت فيها حكومة بهلوي الغاصبة، ومن ثم حكومة ابنه حيث سرق جميع أموال الشعب، ونرى خلال هذه السنوات الخمسين كيف قضى شبابنا في السجون وكم من شباب قد تم نشر أرجلهم بالمنشار وحرقوهم بواسطة المقلاة وقد مكثوا في السجن وتحت التعذيب حتى الأيام الأخيرة لما قبل الثورة. لقد مضى جلاوزة الشاه السابق عليهم ولم نر دعاة حقوق الإنسان طوال هذه المدة يتكلمون كلمة واحدة أو يستنكرون هذه الحوادث، لقد رأينا الرئيس الأمريكي كيف يساند الشاه السابق الظالم الشقي، ويؤيد هذا الجلاد الذي بعثر جميع ما نملك أدراج الرياح ولم نر دعاة حقوق البشر يستنكرون ذلك على الرئيس الأمريكي، ولكن الآن وقد سقط هؤلاء الجلادون في مصيدة الشعب ويريد الشعب أن ينتقم منهم، تعالت منهم صرخات [وا إنسانيتاه!!] أنا لا أقول شيئاً سوى إن هؤلاء عملاء للجلادين.. هؤلاء عملاء للقوى الكبرى، وإنهم لا يعملون لحقوق البشر)([2])
ولهذا، فإنه يدعو الشعب الإيراني للمحافظة على حريته، وألا يترك المجال لأي مستبد أن يحكمه ويتسلط عليه، يقول في الخطاب السابق: (على الناس أن يصلحوا أنفسهم، وعلى الظالمين الذين كانوا قد ظلموا الضعفاء ألا يظلموا بعد اليوم، الطبقات المختلفة يجب أن لا تظلم الطبقات التي دونها، يجب أن تعطى حقوق الفقراء والمساكين. كل هذه الأعمال يجب أن تطبق في الجمهورية الإسلامية، وعلى الشعب ـ في ظل الجمهورية الإسلامية ـ أن يساند الحكومة التي هي في خدمة الشعب. وإذا رأى الشعب خلافاً من الحكومة فعليه أن يوقفها عند حدها، وإذا رأى الشعب حكومة جائرة تريد أن تظلمه، فيجب عليه أن يقدم الشكوى ضدها، وعلى المحاكم أن تقيم العدالة وإن لم تفعل فعلى الشعب أن يقيم العدل ويحطم أفواههم، ليس في الجمهورية الإسلامية ظلم ولا إجحاف. الطبقة الغنية لا تستطيع أن تظلم الطبقة الفقيرة ولا أن تستثمرها، ولا تستطيع أن تأمر العمال بأداء أعمال كثيرة مقابل أجر زهيد. يجب أن نضع الحلول الإسلامية لكل القضايا ويجب أن تطبق هذه الحلول حتى يشعر المستضعفون بالراحة والقوة، فالمستكبر لا بد له أن يتواضع ويشعر مع الضعفاء، ولا بد للمستضعف أن يصبح قوياً وعلى الجميع أن يعيشوا الأخوة في هذا البلد) ([3])
ويصف في نفس الخطاب كل الشعارات التي يحاول الغرب أن يظهر بها، وبسببها يهاجم إيران، بكونها شعارات جوفاء كاذبة، ويعتبر أن الحرية والديمقراطية وغيرها من قيم الجمهورية لم تتحقق فيها، وإنما تحققت في إيران، يقول في ذلك: (نحن لا نخشى أن يتكلموا في الغرب ضدنا، وأن يعترض علينا الذين يدعون إنهم يرعون حقوق الإنسان، يجب أن نعاملهم على أساس ميزان العدل وسوف نفهمهم ما معنى الديمقراطية، فالديمقراطية الغربية فاسدة، والديمقراطية الشرقية فاسدة أيضاً، والديمقراطية الصحيحة هي الديمقراطية الإسلامية، وإذا وفقنا فسوف نثبت للشرق والغرب بعدئذٍ أن ديمقراطيتنا هي الديمقراطية، لا الديمقراطية التي عندهم والتي تدافع عن الرأسماليين الكبار، ولا التي عند أولئك المدافعين عن القوى الكبرى وقد جعلوا الناس كلهم في كبتٍ شديد.. لا يوجد اضطهاد في الإسلام، والحرية في الإسلام لجميع الطبقات للمرأة والرجل، للأبيض والأسود وللجميع.. إن حكومة العدل تقاوم الخلاف وتجازي المخالفين، وسوف لن يكن بعد اليوم بوليس سري أو التعذيب الذي كان يقوم به البوليس السري (السافاك)، لا تستطيع الشرطة أن تفرض علينا وعلى الشعب قولاً بعد اليوم. الحكومة لا تستطيع الإجحاف في حق الشعب. الدولة في ظل الحكومة الإسلامية خادمة للشعب ويجب عليها أن تكون في خدمة الشعب وإذا رأى الشعب ظلماً حتى من رئيس الوزراء فعليه أن يشكوه إلى المحاكم وعلى المحاكم أن تطلبه وأن ترى نتيجة عمله إذا ثبتت عليه جريمة. لا يوجد اليوم فرق بين رئيس الوزراء وغيره) ([4])
هذا نموذج عن مدى اهتمام قادة الثورة الإسلامية بالدعوة للحرية، واعتبار انتصار الثورة الإسلامية مكسبا عظيما تحقق من خلاله هذا الحق الطبيعي، ويتجلى من خلاله التفريق بين معنيين للحرية:
1 ـ المعنى الإيجابي: وهو يتفق في كثير من مناحيه مع المفهوم الغربي الذي انطلقت منه الثورات ضد الأنظمة العبودية والإقطاعية في العصور الوسطى، والذي (ترسخ بعد انتصار الثورات التي ألغت الإقطاع وأقامت الأنظمة الجمهورية، واستمر حتى صار يحمل دلالة تعادل صيغة تقرير المصير الفردي والجماعي)([5])
2 ـ المعنى السلبي: وهو المعنى الذي أشار إليه كاظم الحائري ـ وهو من المراجع المنظرين والمؤيدين لولاية الفقيه ـ عند تفريقه بين المفهومين الغربي والإسلامي للحرية؛ فقال: (هذه الكلمة [الحرية] بمفهومها الغربي تستبطن انحرافات كثيرة عن الخط الاسلامي الصحيح؛ فالحرية الاقتصادية تشير إلى النظام الرأسمالي الاقتصادي، بينما الاسلام له نظام اقتصادي مستقل عن كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي.. والحرية الفردية ترمز إلى السماح للفرد بأي تصرف يحلو له ما لم يزاحم حرية الآخرين، أما عند الاسلام فلا حرية الا في اطار الحدود التي تفرضها السماء على تصرفات الانسان.. والحرية الفكرية لا مجال لها في العقائد عند الاسلام الا بمعنى أن العقيدة يستحيل حصولها بالاكراه، ولكن يجب على الإنسان التفتيش عن الأصول العقائدية الصحيحة ولا تترك له الحرية في الاهتمام بذلك وعدمه، ولو أدى فكره إلى عقيدة تخالف الاسلام لا تترك له الحرية في الإضلال ويحرم عن الحقوق الخاصة بالمسلمين)([6])
بناء على هذا، سنحاول هنا أن نذكر كلا المعنيين في الرؤية السياسية الإيرانية من خلال تصريحات قادة الثورة الإسلامية، أو المنظرين لسياستها.
أولا ـ المفهوم الإيجابي للحرية:
يتردد كثيرا مصطلح الحرية بمعناها الإيجابي في كتابات وخطابات قادة الثورة الإسلامية؛ فهم يعتبرون أن ثورتهم لم تكن تهدف سوى لتحقيق الحرية الحقيقية، والتخلص من الاستبداد والظلم وكل أشكال الهيمنة التي كانت تهدف لا إلى سرقة ثروة الإيرانيين فقط، وإنما سلب شخصيتهم ومقوماتها أيضا.
وسنذكر هنا باختصار نصوصا وتصريحات من هؤلاء القادة، تدل على مدى اتساع مجال الحرية المتاحة في ظل ولاية الفقيه، مقارنة بما كان متاحا في عهد الشاه، أو في الكثير من الأنظمة التي تزعم لنفسها أنها أنظمة ديمقراطية، ونتبعها بما عليه الواقع الإيراني.
وأول ما تعنيه ـ حسبما يصرح به القادة والمفكرون الإيرانيون ـ التخلص من تلك التبعية التي كانت في عهد الشاه، والذي أراد أن يفرض أفكار المدارس الغربية على المجتمع الإيراني، لتصبح العلمانية والمادية واللادينية هي الأفكار السائدة، والتي بموجبها يصبح الشعب خاضعا لكل أنواع السخرة الغربية.
ولهذا يعتبر الخميني الاستقلال الفكري أول استقلال ينبغي توفره لتتحقق الحرية بمفهومها الصحيح، يقول في ذلك: (أوّل شرط لتحقيق الاستقلال هو الاستقلال الفكري والعقلي)([7])، ويقول: (إذا تمكّنا من إنهاء التبعيّة الفكرية، فإنّنا سنتمكن من إنهاء سائر أنواع التبعيّة)([8])
وهو يعتبر أن سبب تلك التبعية والعبودية للأفكار الغربية ناتج من عدم الثقة بالنفس وبهوية الأمة ودينها، يقول في ذلك: (ما لم ندرك أنّ لنا نحن أيضاً شخصيتنا. أنّ المسلمين لهم شخصيتهم، وأنّهم مجموعة أيضاً، ويمكنهم أن يفعلوا شيئاً ما. وإذا لم تتحقق لدينا الإرادة على أمرٍ ما، فإنّنا لن نتمكن من تحقيقه، وإذا لم ننتبه من غفلتنا، فإنّ تلك الإرادة لن تتحقق) ([9])
ويقول: (علينا أن نقنع أنفسنا بأنّنا بشر أيضا، وأنّنا موجودون في هذه الدنيا أيضاً، وأن الشرق مكان أيضاً، وأن الغرب هو ليس كلّ الأرض) ([10])
ويقول: (ما دامت أيدينا ممدودة نحو الشرق والغرب فنحن تابعون، فإذا أردنا أن نكون مستقلين غير تابعين لأحد، وجب علينا أوّلاً: أن ندرك أنّ لنا شخصيتنا، وأنّنا نستطيع أن نفعل شيئا) ([11])
أما الشيخ مرتضى مطهري، فقد فصل الحديث عن الحرية الفكرية في كتاب خاص أجاب به على كل الشبهات المثارة حولها، وقد ذكر فيه المدى الذي يعطيه الإسلام للعقل حتى يصل إلى الحقائق، ولذلك كان من الضرورات الكبرى إتاحة الحرية الكاملة له حتى يصل إلى الحقائق من غير أن يكره عليها، وقد قال في ذلك: (هناك جملة قضايا لا تبلغ النضج الاجتماعيّ المطلوب إلّا بترك الإنسان حرّا فيها، ومنها النضج الفكريّ، لكيلا يعترض تقدّمه أيّ مانع أو حاجز يحول دون تنمية قابليّاته الّتي ينشدها لتحقيق سعادته، وبما أنّ الفكر هو من أهمّ ما ينبغي تنميته لدى الإنسان، والتنمية بحاجة إلى الحريّة كما تقدّم، فالإنسان بحاجة إلى الحريّة في الفكر، لذا تعتبر حريّة الفكر من حريّات الإنسان الاجتماعيّة، وتدخل في صميم شؤونه الحياتيّة.. وعليه فإنّ الفكرَ والتفكيرَ عمل ضروريّ وواجب، بل هو من مستلزمات الحياة البشريّة حيث لا تستقيم بدونه)([12])
وهو يذكر أن هذه الحرية متاحة حتى في مسائل الدين، لأنه لا يمكن لأي كان أن يقتنع بالحقائق الدينية ما لم تكن لديه الحرية الكاملة في التعامل معها، يقول في ذلك: (وكذلك الكلام في مسألة الدِّين، فإنّ الإنسان لا يمكن أن ينضج في القضايا الدينيّة ما لم يُعطَ الحريّة الفكريّة، أمّا منع الناس من التفكير خشية الوقوع في الخطأ فيعدّ خطأ فاحش، حيث يؤدّي إلى عدم النضج في قضاياهم الدينيّة والتقدّم فيها)([13])
وعن سؤال حول موقف الإسلام من الحرية الفكرية، أجاب بقوله: (إنّ الإسلام لم يكتفِ بمنح حريّة التفكير، بل جعله من الواجبات والعبادات) ([14])
واستدل لذلك بما ورد (من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على التفكّر، بحيث لا نجد في أيّ كتاب دينيّ أو غير دينيّ هذا القدر من دعوة الناس إلى التفكير في شتّى المجالات)، بالإضافة إلى أن (الإسلام لا يقبل الإيمان بأصول العقائد تقليداً، بل يطالب الناس بالتحقيق في أصول الدِّين، فهو يرى للناس حريّة فكريّة تكون الأساس لقبول الإيمان بوحدانيّة الله والنبوّة والمعاد، وسائر الأصول الاعتقاديّة مسائل يجب التفكّر فيها والوصول إلى حقائقها من خلال الجهد العلميّ) ([15])
ويذكر من الأدلة على الحرية الفكرية في الإسلام ذلك التساهل الذي ورد في النصوص في التعامل مع الوساوس والشبهات، وقد طرح هنا شبهة تثار في هذا المجال، وهي (إذا كان التفكير يؤدّي إلى حصول وسوسات وشبهات في الذهن، فهل يحقّ للشخص الّذي يخطر في ذهنه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين؟)([16])
وقد أجاب عليها بقوله: (لا يعتبر الإنسان مذنباً، ولا يعذّب ما دامت الوساوس والشكوك في القلب، وقد تطرّقت روايات كثيرة إلى مسألةِ ما لو طرأ على الذهن بسبب هذا التفكير شبهات وشكوك ووسوسة.. وعلى الإنسان إن كان في حالة تحقيق وبحث، أن يرجع إذا شكّ إلى نبيّه وإلى تعاليم الإسلام، حيث يعتبر هذا الأمر ضروريّاً للوصول إلى الحقائق، وعليه لا بدّ أن نسلّم بأنه يحقّ لأيّ شخص حصلت لديه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين بهدف حلّها، وهذا حقّ طبيعيّ له، ويجب حلّ شبهته) ([17])
وهو يعتب على الذين يشكون لأجل الشك، أو يقومون بالتشكيك من غير أن يبذلوا أي جهد في البحث عما يزيل شكوكهم، ويعتبر هؤلاء من الذين يمارسون هذا النوع من الحرية بطريقة خاطئة، خاصة لو ضموا إلى شكهم تشكيك عوام الناس ممن ليس لهم قدرة على البحث والنظر، يقول في ذلك: (نعم، لو بقي الإنسان في حالة الشكّ وبقي في مكانه فهذا هو الهلاك وشكّ الكسالى، وكذلك الأمر لمن أصبح عنده التشكيك هدفاً يحاول بواسطته التشويه والتشنيع على تعاليم ومفاهيم الإسلام، كما نرى ذلك في كلّ عصر من العصور، حيث تظهر طائفة من الشكّاكين الّذين ينشرون الشبهات بين عامّة الناس) ([18])
ومع عتبه الشديد على هؤلاء إلا أنه يعتبر أن لهم دورا في توضيح الحقائق وجلائها، يقول في ذلك: (هناك وجه آخر لظهور الشكّاكين الّذين يلقون محاضرات ويكتبون مقالات ضدّ الإسلام، فإنّهم يؤدّون إلى جلاء وجه الإسلام أكثر، حيث يتصدّى العلماء لهم بما يؤول لصالح الإسلام.. وهذا ما حصل فعلاً حينما كتبت بعض الكتب والمقالات ضدّ الإسلام، ما أدّى إلى قيام العلماء بشرح مسائل كانت غامضة لفترة من الزمن) ([19])
وقد رد مطهري على من يريدون أن يستعملوا الحرية الفكرية وسيلة لبث الشبهات والشكوك، أو الدعوة إلى الوثنيات والخرافات، ويعتبرون الوقوف في وجه هذا الغزو قمعا فكريا، بأن ذلك نوع من المغالطة، يقول في ذلك: (قد يُقال، وبناءً على قاعدة أنّ فكر الإنسان حرّ وعقله كذلك، أنّ عقيدته لا بدّ أن تكون حرّة، ولذا فالوثنيّ مثلاً حرّ في عقيدته، وهذه مغالطة موجودة في العالم حاليّاً، وهي بدعواها منح الحريّة للفكر فإنّها في الواقع تقيّد الفكر)([20])
وقد رد على هذه المغالطة بأن هناك مسلكين في ميزان احترام اعتقاد الإنسان([21]):
أولهما: أن نعتبر الإنسان حرّاً ومختاراً، فنحترم كلّ ما يعتقد به ولو كنّا نرفض ما اختاره، أو كنّا نعلم بأنّه كَذِبٌ وخرافة، بل حتّى لو ترتّب عليه مستلزمات باطلة وفاسدة.
ثانيهما: أن يكون احترامنا له بتوجيهه نحو الرقيّ والتكامل والسعادة.
وهو يرى أن (ترك الإنسان يختار العقائد الفاسدة، كأن يختار الوثنيّ عبادة الوثن، هو تقييد لفكر الناس، واحترام هذا القيد هو عدم احترام لقابليّته الإنسانيّة ولاعتباره الإنسانيّ في مجال التفكير، في المقابل فإنّ المسلك الثاني هو الّذي ينهض بالإنسان ويوصله إلى رقيّه المنشود، والنتيجة أنّه لا بدّ من فكّ هذا القيد ليكون فكرُه حرّاً، وعليه فمن الخطأ على الصعيد الإنسانيّ احترام المرتكز العقائديّ لشعب يريد تقييد الإنسان) ([22])
وهو يستدل لهذا بما ورد في سيرة الأنبياء عليهم السلام، (فالنبيّ إبراهيم عليه السلام مثلاً قام بتحطيم أوثان قومه الّتي كانوا يعتقدون بها ويعبدونها وترك الوثن الكبير، فشكّل هذا الأمر صدمة لهم جعلتهم يرجعون إلى أنفسهم وفطرتهم ويتأمّلون في عقيدتهم، حيث إنّ هذه الأصنام غير قادرة على الدفاع عن أنفسها، وكبيرهم عاجز عن هذا التحطيم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}، ولذا فإنّ ما مقام به إبراهيم عليه السلام هو عمل إنسانيّ لأنّه حرّر فكرهم من قيد العقيدة الفاسدة) ([23])
ومثله موسى عليه السلام، (فقد كان عمله إنسانيّاً في حرقه لعجل السامريّ)
وهكذا حصل في (البعثة المباركة للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث نجد أنّه قد قام بمحاربة العقيدة الوثنيّة سنين طويلة كي يحرّر فكرهم، وتقدّم بذلك بهم نحو الرقيّ والتكامل، وفكّ قيودهم العقائديّة ووضع { عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157]
وبناء على هذا قنن الدستور الإيراني للأديان المسموح لها بممارسة شعائرها، حتى لا يدع الفرصة للعابثين من أمثال عبدة الشيطان وغيرهم من التسلل إلى المجتمع بحجة حرية العقيدة والتفكير.
ومن تلك الديانات التي لا يسمح لها في إيران بممارسة شعائرها وطقوسها [الديانة البهائية]، وقد كان ذلك سببا لإنكار المغرضين، مع أنهم لا يعلمون أن هذه الديانة ليس مسموحا لها بممارسة شعائرها في أكثر الدول العربية([24])، ما عدا الإمارات والبحرين بسبب علاقتهما الوثيقة مع أمريكا وإسرائيل.
والسبب الذي جعل إيران تتخذ منها ذلك الموقف السلبي علاقتها مع الشاه، وتأييدها له، بالإضافة إلى موقفها المؤيد للكيان الصهيوني، وكونها فوق ذلك فرقة من الفرق المنحرفة عن الإسلام، بل كونها نتيجة لصناعة المخابرات الأجنية، يقول الخميني ـ قبل انتصار الثورة الإسلامية ـ مبينا خطرها: (ولكن مَنْ هم المستشارون اليوم؟ إسرائيل! المستشارون الاسرائيليون! اليهود! لقد أُرسل ألفان من البهائيين كما اعترفوا هم أنفسهم بذلك في صحيفة (دنيا)؛ فلا يأتي غداً أحد النكرات (الشاه) ويقول بأن ذلك مجرد اشاعة، إذ ورد في صحيفة (دنيا): أنهم ألفا اسرائيلي، أعني البهائيين، طبعاً هم لم يذكروا اسم (البهائية)، بل قالوا: (عدد من اتباع بعض المذاهب (أسموها مذهباً) أرسل ألفي نسمة ـ ويقال: إنهم خمسة آلاف ـ من البهائيين باحترام تام بعد أن مُنح كل واحد منهم خمس مئة دولار من اموال الشعب المسلم، وأُعطي كل واحد حسماً في قيمة تذكرة االسفر بمقدار الف ومئتي تومان.. لمَ كل ذلك؟ ليذهبوا الى لندن للمشاركة في اجتماع معاد للاسلام يعقد هناك!)([25])
ويقول عنهم مبينا دورهم في حكومة الشاه، وعلاقتهم به: (لينتبه الإخوة إلى أن الخطر المحدق بالإسلام اليوم لا يقل عن خطر بني أمية، إن الجهاز الحاكم العميل لاسرائيل قد فوض جميع السلطات لهذه الفرقة الضالة المضلة في الجيش، الثقافة، الإعلام وسائر الوزارات الحساسة. عليكم أن تنبهوا الأمة لخطر إسرائيل وعملائها إلى جانب المصائب التي طالت الإسلام ومراكز الفقه والشريعة وحماتها.. أعربوا عن مقتكم لإرسال العناصر الخائنة التي تعقد الاجتماعات المناوئة للإسلام والأمة في لندن، واعلموا أن الصمت في هذه الأيام لا يعني سوى تأييد الجهاز الحاكم وإعانة أعداء الإسلام، اتقوا الله واخشوا نقمته، إنكم مسؤولون عما يحدث للعلماء (إذا ظهرت البدع فللعالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله)([26])
وهي ـ في نظر قادة الثورة الإسلامية والمنظرين لولاية الفقيه ـ حرية متاحة وإيجابية، لأنها تسهم في تحريك الأفكار في المجتمع، وتصحح ما يقع فيه من أخطاء، بالإضافة إلى رعاية التنوع الموجود في أفراده.
وإيران ـ في ظل ولاية الفقيه ـ من أكثر الدول الإسلامية اهتماما بالتنوع في مختلف مجالاته؛ فهي تحتضن الكثير من المدارس الفكرية والفقهية والعقدية والفلسفية، بل لها جامعات خاصة بذلك، ولا تمر بمكتبة من مكتباتها إلا وتجد فيه كل جديد من الكتب، ومن كل المدارس الإسلامية وغير الإسلامية، كما ذكرنا ذلك في الجزء السابق من هذه السلسلة.
وهكذا نرى في صحفها ومجلاتها تنوعا كبيرا في الطرح، ونرى فيها انتقادات صريحة وقوية للواقع والمسؤولين، من غير أن يُقمع أصحاب الآراء، ولا أن تصادر الصحف والمجلات التي يبثون فيها آراءهم.
وقد صرح كل قادة الثورة الإسلامية بوجوب إتاحة هذا النوع من الحرية، حتى تتلاقح الأفكار، وتصحح الأخطاء، ويراعى التنوع.
ومن الأمثلة على ذلك قول الخميني: (إن هذه الحرية التي يتمتع بها أبناء شعبنا من النساء والرجال والكتّاب والعناصر الاخرى، هي من النوع الذي يصب في منفعة أبناء الشعب. فأنتم أحرار في التعبير عن أفكاركم وآرائكم، وفي انتقاد الحكومة.. انتقدوا كل مَنْ خطا خطوة منحرفة.. اذهبوا ودافعوا عن شعبكم.. إنكم أحرار في فعل كل ما من شأنه خدمة الإنسان.. كل هذا مسموح فيه.. إن الذي حاربه الإسلام ولن يسمح به، هو القمار الذي يقود أبناء الشعب إلى التيه والضياع، والخمر الذي يضيّع الشعب، وأنواع البغاء والفحشاء الذي راج في عهد ذلك المجرم (محمد رضا بهلوي)، وعملوا على توفير مستلزماته. هذه الأمور هي التي حرّمها الاسلام وحاربها)([27])
بل إن الخميني يفتح مجال الحرية حتى لأصحاب الفلسفات المادية أنفسهم؛ فهو يقول: (إن الماركسيين احرار في بيان عقائدهم في المجتمع الذي نفكر بإقامته، لأننا واثقون أن الاسلام يلبي حاجات الناس، وإن إيماننا واعتقادنا قادران على مواجهة عقيدتهم، وقد طرحت الفلسفة الاسلامية منذ البداية موضوع أولئك الذين ينكرون وجود الخالق، إننا لم نسلب حريتهم أبدا، ولم ننل منها؛ فالكل حر في بيان عقيدته، لكنه ليس حرا في التآمر)([28])
وبهذه العبارة يلخص الخميني الموقف من حرية الرأي [فالكل حر في بيان عقيدته، لكنه ليس حرا في التآمر]
فالقوانين الإيرانية تسمح بحرية الرأي، ولكنها لا تسمح أبدا للمتآمرين الذين لهم صلات بجهات أجنبية تريد أن تقوض أمن البلاد، يقول الخميني محذرا: (إننا ومنذ اليوم الأول الذي تحققت فيه ثورتنا كانت جميع الحريات موجودة في ايران؛ فنحن سمحنا لجميع الفئات، ولم نمنع أحدا، لكن المؤامرات بدأت عندما وجدوا انفسهم أحراراً، إذ بدأت الأقلام بالتآمر لحرف مسيرة الشعب، وهؤلاء كانوا نفس الأشخاص المرتزقة عند الملك السابق أو مرتزقة أمريكا وأمثالها، وأرادوا من خلال ذلك حرف نهضتنا، وتمكنا بعد خمسة أشهر من إعطاء الفرصة للجميع من العثور على المتآمرين، طلبنا من تلك الاقلام المتآمرة، والتي كانت تريد عودة الأجنبي للتسلط علينا مرة أخرى أن تكف عن عملها، وقدمناها للمحاكم لنرى من هم هؤلاء، ووجدنا بعد التحقيق أن أكثرهم كانوا مرتزقة لإسرائيل، وكانوا أبواقا لأمريكا لكن بصورة أخرى، وإن من حق الشعب أن يمنع الذين يريدون التآمر عليه وحرفه وإعادة الأمور السابقة، وإلا فإن شعبنا يؤيد الحرية، ويؤيد كل أنواع الحرية إلا أنه لا يؤيد التآمر ولا يؤيد الفساد)([29])
وكمثال على ذلك أنه سئل في مقابلة صحفية عن إغلاق النظام لبعض صحف المعارضة، وهي صحيفة (آيندكان)؛ فأجاب بقوله: (إن صحيفة (آيندكان) كانت على ارتباط مع أعدائنا، كانت تتآمر ضدنا وعلى علاقة بالصهاينة. تأخذ التوجيهات منهم وتكتب ضد مصالح البلد. ولا يمكن التساهل مع الصحف التي تتآمر ضدنا، وقد قمنا بإغلاقها كي تكون عبرة لغيرها. وقد اكتشف القضاء الخيانات التي تقوم بها هذه الصحف، وكيف أنها كانت تستلهم توجهاتهم من الشاه ومن الأجهزة الصهيونية. وقد تم ايقاف نشاطها مؤقتاً ليتم التحقيق في ذلك. هذا ليس خلافاً للحرية. وإنما هو تصدي للتآمر ومثل هذا يحصل في مختلف انحاء العالم)([30])
وهكذا يقيد الخميني الحرية دائما بكونها لا تتسبب في ضرر الآخرين، كما عبر عن ذلك بقوله: (جميع أبناء الشعب أحرار في الأفعال السليمة، في الذهاب إلى الجامعة، وفي أي عمل سليم تمارسونه.. ولكن إذا ما أراد أحد أن يرتكب عملاً مخالفا للعفة، أو يلحق ضرراً بمصالح الشعب، أو يسي ء إلى السيادة الوطنية، فإننا سنقف في وجهه، وإن موقفنا هذا يدل على الرقي)([31])
وهكذا نرى الخامنئ يصرح كل حين بضرورة توفير حرية الرأي، وخاصة للصحافة، حتى تؤدي أغراضها، وتساهم في خدمة المجتمع، يقول في ذلك: (إن مهمة الصحافة غاية تتطلب وسيلة لبلوغها، وتلك الوسيلة هي الحريّة، فحريّة الصحافة يجب أن تكون وسيلة لأداء مهمّة الصحافة لا أن تصبح مهمّة الصحافة ضحيّة لحريّة مطلقة متحلّلة)([32])
ويقول: (نحن أول من رفع شعار هذه الحريّات (حريّة الصحافة والاصدارات…)، ولا زلنا والحمد للَّه على موقفنا منها حتى يومنا هذا، غير أنّنا نعارض حريّة المعاصي والحريّات الهدّامة)([33])
وهكذا يتحفظ ـ مثل الخميني ـ على تلك الحرية التي تريد أن تنشر الفساد في المجتمع، فالحرية تنتهي عند إضرارها بالآخرين، يقول في ذلك: (ليست القضيّة قضيّة مقصّ الرقابة، بل علينا أن لا نغذّي عقل وفؤاد الشاب بما يجرفه نحو الخطيئة والفساد، فهذا يختلف عن منح الحريّة للعقل من أجل الاختيار في قضيّة ما)([34])
وينبه إلى مسألة مهمة جدا يقوم بها المغرضون، وهي أنهم يسمحون لأنفسهم بنقد كل شيء، في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه الردود الموجهة على انتقاداتهم مصادرة للرأي، يقول: (يأمل العدو في أن تكتب الأقلام الموالية للاستكبار كلّ ما يحلو لها ولا يرّد عليها أصحاب الأقلام الموالون للنظام الإسلاميّ والخطّ الإسلاميّ ولو ردّوا عليهم سيقولون إنّ الحريّة معدومة)([35])
وهكذا يحدد الخامنئي الموقف من كل الآراء التي تدعو إلى انحراف المجتمع عن دينه وأخلاقه، ويعتبر معارضة ذلك شيئا طبيعيا، يقول في ذلك: (من الطبيعي أنّنا نعارض بعض الحريّات، وهل يشكّك أحد في أننا نرفض حريّة الجنس ونعارض حريّة اقتراف الذنوب؟!)، ويقول: (لا تخشوا الضجيج ولا الدعايات التي تتهمكم بمناهضة الحريّة)، ويقول: (لو منحتم أوسع الحريّات وحافظتم على مبادئكم، سيتهمونكم أيضاً بمناهضة الحريّة)، ويقول: (إنّ وجود مثل هذا الجوّ تثير فيه الصحافة عدم الارتياح عند مسؤولينا الكبار الذين يمتلكون السيف والقلم معاً، هو دليل واضح على الحريّة التي تتمتّع بها الصحافة في بلادنا)، ويقول: (ينبغي عدم التشبيه بين الحرية في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وحريّة الغرب بما تعنيه من اطلاق عنان السلطويّين والأثرياء ومن تحلّل في سلوكيّات البشر وأفعالهم)، ويقول: (الحريّة الإسلاميّة تنطوي على حريّة اجتماعيّة ومعنويّة وفرديّة لها قيودها وإدراكها وهديها ومفهومها الإسلاميّ)، ويقول: (لا تسمحوا لحفنة من المتشدّقين باسم الحريّة بإشاعة المنكرات والفحشاء والتحلّل في المجتمع)، ويقول: (لا يستطيع أحد انكار مناصرتي لحريّة الفكر وحريّة القلم وحريّة البيان ونشر مختلف أنواع المعارف في هذا البلد) ([36])
وبناء على هذا نرى رقابة شديدة في إيران على ما يبث في الإنترنت وخصوصا على شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها أصبحت وسيلة للحرب الناعمة، بالإضافة إلى كونها وسيلة لنشر الأفكار المضللة، والانحرافات الأخلاقية.
وقد حاول المختصون الإيرانيون أن يوفروا البدائل لذلك، حتى يتمكن الشعب من الاستفادة من هذه الوسائل، ويتجنب في نفس الوقت مضارها، ومن الأمثلة على جهودهم في هذا المجال إنشاؤهم لمواقع للتواصل الاجتماعي بديلة عن تلك المواقع المعروفة.
ومن أمثلتها ما ذكرته وسائل الإعلام تحت عنوان [إيران تنشئ موقعا لتبادل مقاطع الفيديو بدلا من اليوتيوب المحظور]، جاء فيه: (قامت إيران بالإعلان عن إطلاقها لمنصه محلية جديده على شبكة الإنترنت تحمل اسم [مهر] خاصة بتبادل مقاطع الفيديو، حيث جاء هذا الإعلان عبر موقع مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية «IRIB» على لسان نائب رئيس الإذاعة)([37])
ثم ذكرت صاحبة المقال سبب ذلك، فقالت: (ومن المعروف بأن إيران تحجب العديد من خدمات جوجل، على رأسها موقع اليوتيوب.. ومواقع الأخبار الأجنبية، والشبكات الإجتماعية كالفيس بوك وتويتر بسبب احتواها على مواد تتعارض مع القيم الأخلاقية وتشكيلها مصدرًا للانحطاط الثقافي بحسب المزاعم الإيرانية.. وتعليقا على هذا الخبر أعلن نائب رئيس مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية أنه من الآن فصاعدا سيستطيع الايرانيين تحميل مقاطع الفيديو الإسلامية والثقافية والرسوم المتحركة فقط على هذا الموقع المحلي)
والمشروع الأكبر من ذلك ما ورد في المقال عن أن (إيران أعلنت في شهر سبتمبر الماضي أنها تعتزم تحويل مواطنيها إلى شبكة محلية لخدمات الإنترنت فى خطوة وصفها مسؤولون بأنها محاولة لتحسين الأمن الإلكترونى)
وللأسف بدل أن يلقى هذا ترحيبا من الدول العربية، وخصوصا الخليجية منها، نجدهم يشنون الحملة الإعلامية الشديدة عليها، ويعتبرون أن ذلك يتنافى مع الحرية، ولست أدري أي حرية يقصدون، وهم يرون تلك الحرب الناعمة التي تشن عليها منذ انتصرت ثورتها، ولولا حنكة رجال أمنها بمختلف أصنافهم لحصل لها ما حصل للدولة العربية التي اخترقت بهذه الوسائل فيما يسمى بالحراك العربي.
مع العلم أن مثل هذا الموقف لم تتخذه إيران لوحدها، بل نجد دولا كبرى تتخذه حرصا على أمنها القومي، ومن الأمثلة على ذلك الصين التي حجبت فيس بوك وتويتر منذ 2009 وإلى الآن، حيث أنه (على إثر مصادمات وأحداث عنف شهدتها البلاد، اتخذت الحكومة الصينية قرارًا بغلق مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر ويوتيوب وبلوجر إضافة إلى مواقع أخرى، وكانت المصادمات قد اندلعت بين مسلمي الإيغور والشرطة في مدينة أورمتشي التي تقع شمال غرب الصين كما حجبت السلطات موقع أمازون، بسبب بيع الموقع لكتاب ممنوع من النشر في الصين يتحدث عن الثورات، حيث إنه إذا ما ضغط شخص على وصلة الكتاب من الصين،فإن الموقع يحجب بالكامل لمدة 15 دقيقة على الأقل)([38])
وهي من الحريات المتاحة في إيران، حيث نجد أحزاب موالاة، وأحزاب معارضة، وانتخابات بمختلف أنواعها، وكل أنواع الممارسات السياسية، ونجد معها نأيا للجيش وكل قوى الأمن عن التدخل في السياسة، تقيدا بالتعليمات التي نص عليها قادة الثورة الإسلامية.
ولكن هذه الحرية مضبوطة أيضا بما ضُبطت به سائر الحريات؛ حتى تتناسب مع الشريعة الإسلامية؛ فلذلك لا يسمح في إيران لأحزاب تريد أن تخالف الشريعة، أو تعمل على تقويض النظام الذي يدعو إلى تحقيقها في الواقع.
وهذا ـ وإن لقي إنكارا كبيرا من طرف المغرضين ـ إلا أن واقع أكثر دول العالم تطورا ينسجم معه، وأولها أمريكا، كما سنرى، ولهذا قبل الخميني بلقب [الجمهورية] بعد الانتصار، ولم يقبل بلقب [الديمقراطية]
ولمعرفة سر ذلك نقتبس نصا من مقال هدف صاحبه إلى تشويه مفهوم الحرية السياسية في إيران، واعتبارها مجرد دعاية لا حقيقة لها، وهو نص نجد أمثاله يردد كثيرا في وسائل الإعلام، ويُقصد منه التشويه، ولكنا عندما نقرؤه بتمعن، وبعيدا عن الرؤية الغربية والعاطفية لمثل هذه القضايا سنرى الأمر مختلفا تماما، ذلك أنه في الحقيقة مدح في قالب ذم.
والمقال بعنوان [كيف نجح الخميني وفشل العرب؟]، وقد قال في مقدمته: (بعد نجاح الثورة مباشرة استمر الخميني بتنفيذ أهدافه النهائية، وقبيل الدخول في جدل حول إعادة إنشاء مؤسسات الدولة ما بعد الثورة، أراد الخميني أن يحسم أمرًا كان في منتهى الأهمية بالنسبة إليه، وهو اسم الدولة الجديدة، وذلك من أجل القطع تمامًا مع الماضي البهلوي، ليس فقط في بنية الدولة بل في مسماها أيضًا، احتدم الجدال بين رفقاء الثورة حول اسم الدولة الجديدة، وتراوحت الاقتراحات بين [جمهورية إيران الديمقراطية] و[الجمهورية الإيرانية]، و[الجمهوية الديمقراطية الإسلامية]، إلا أن الخميني رفضها كلها وأصر على [الجمهورية الإسلامية] فقط، حيث أخضع اقتراحه لاستفتاء شعبي حصل على غالبية مطلقة من قبل الشعب الإيراني ليحسم بذلك المسمى، ولينطلق من بعد ذلك لاستكمال باقي الخطوات) ([39])
ومع أن المعلومات التي ذكرها صحيحة، لكن تفسير الكاتب لذلك كان مجافيا للصواب؛ فقد نظر إلى الأمر من زاوية صورية، ولم ينظر إلى المعنى الذي جعل الخميني يرفض وصف الديمقراطية، ويقتصر على وصف الجمهورية؛ فقد قال في تعليل ذلك: (تجدر الإشارة إلى أن رفض الخميني لإدراج كلمة [الديمقراطية] في اسم الدولة يعود إلى اعتقاده بأن الديمقراطية منتج غربي ومن يتمسك بها؛ فكأنه يتمسك باستمرار التأثير الغربي على الشؤون الإيرانية الداخلية، وقد تمشى ذلك بشكل واضح مع المنطلقات العامة لفلسفة الخميني السياسية، فقد أراد أن يقدم نموذجًا جديدًا للنظام السياسي بعيدًا عن الثنائية السياسية التي كانت تحكم العالم آنذاك والمتمثلة بالرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، ومن هنا كان الشعار الذي رفعه الثوريون الإيرانيون إبان الثورة: [لا شرقية ولا غربية.. بل حكومة إسلامية])([40])
وهذا غير صحيح تماما؛ فالخميني صرح في محال كثيرة بأن الديمقراطية بمفهومها الصحيح لا تتنافى مع الإسلام، فقد قال: (الإسلام دين سام، وديمقراطي بمعنى الكلمة)([41])، وقال: (إنّ ديمقراطية الإسلام أكمل من ديمقراطية الغرب)([42])، وقال: (الديمقراطية مندرجة في الإسلام، والناس أحرار في الاسلام في بيان عقائدهم أو في اعمالهم ما لم تكن ثمة مؤامرة في الموضوع ولم يطرحوا مسائل تجر الجيل.. الى الانحراف) ([43])
لكن مقصد الخميني من ذلك هو الحفاظ على هوية الدولة، حتى لا تتمكن قوى الاستكبار العالمي من العودة من جديد إلى حكم إيران تحت ظل الحكم الديمقراطي المطلق البعيد عن كل القيم، بخلاف وصف الجمهورية الذي يضمن المشاركة الشعبية، وفي نفس الوقت يضمن القيم والمبادئ التي تقوم عليها الدولة، والتي تنطلق من هوية الشعب.
وحتى نفهم هذا المعنى جيدا، لابد أن نفهم الفرق بين مصطلحي [الجمهورية]، و[الديمقراطية]، حيث أن الديمقراطية ـ بمفهومها الغربي ـ تعني الحرية بمفهومها الواسع، والذي يعني ـ حسب تعريفاتهم لها ـ (الانطلاق بلا قيد، والتحرر من كل ضابط، والتخلص من كل رقابة، حتى ولو كانت تلك الرقابة نابعة من ذاته هو، من ضميره، فلتحطم وليحطم معها الضمير إن احتاج الأمر، حتى لا يقف شيء في وجه استمتاعه بالحياة، وحتى لاتفسد عليه نشوة اللذة، ومعنى هذا ترك الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهكذا بدون قيود ولا ضوابط، ولا رقابة، وعلى المجتمع أن يسّلم بذلك الحق، وعلى الحكومة أن تحافظ على تلك الحرية وتحميها، فلا دين يحكم النفوس، ويكبح جماحها، ولا أخلاق تهذب طباعها، وتوقظ مشاعرها، وتثير فيها روح النخوة والغيرة والإباء، ولا مثل، ولا فضائل، تقاس على أساسها الأعمال خيرها وشرها، ولا حياء يمنع ارتكاب الشطط، والمجاهرة بالمنكر([44]).
على خلاف مفهوم الجمهورية، والذي يعني الاعتراف بالمبادئ والقيم التي تقوم عليها الدولة، والتي لا يجوز لأحد أي كان تجاوزها، حتى لو كانت أغلبية الشعب نفسها.
ولنفهم هذا جيدا نحتاج إلى التعرف على أكبر حزبين في أمريكا: الحزب الديمقراطي، والحزب الجمهوري، والفرق بينهما، حيث نجد الديمقراطيين ليبراليين في فلسفتهم، يرون أن دور الحكومة هو إدارة شؤون الاقتصاد، وإتاحة الكثير من الحريات، بخلاف الجمهوريين المحافظين في فلسفتهم، والذين يرون أن دور الحكومة هو إدارة المؤسسة الأخلاقية، ومن هذا المنطلق يتعين عليها ضمان معاقبة الناس في حال ارتكابهم أعمالا تتنافى مع الأخلاق، مثل تعاطيهم المخدرات، وأن يلتزم الناس بالنهج الصحيح في زيجاتهم عن طريق تحريم زواج المثليين، خلافا للديمقراطيين الذين يؤيدون هذا النوع من الزواج.
والحزب الجمهوري يميل إلى التدين على عكس الحزب الديمقراطي، وفي مقال بعنوان [أمريكا والجمهوريون والخلط بين السياسة والدين] ذكر صاحبه أنه قبل أن يلحق الناخبون الأمريكيون الهزيمة بالحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، حذر السناتور الجمهوري جون دانفورث، سفير واشنطن السابق في الأمم المتحدة ومبعوث الرئيس بوش السابق إلى السودان في كتاب جديد بعنوان [الدّين والسياسة]، من أن الحزب الجمهوري تحوّل إلى حزب ديني لليمين المسيحي المحافظ، وقال دنفورث: (إن الشعب الأمريكي يتعرّض للفرقة والانقسام بسبب تركيز الحزب على قضايا خلافية تتعلق بالقيّـم الدينية)
ومع أن السناتور دانفورث جمع في حياته بين أنه كان قسّـا بالكنيسة الأسقفية البروتستانتية، وبين عمله في السياسة كعضو في مجلس الشيوخ عن ولاية ميسوري لمدة 18 عاما، إلا أنه إنه تعرّض في كتابه للفرقة التي أحدثها المزج بين السياسة والدّين على يد الحزب الجمهوري، حيث اتسعت الهوة في أمريكا بين اليمين واليسار، وبين المحافظين والليبراليين، وبين المؤمنين والمُـلحدين، بعد أن تحول الحزب الجمهوري، كما يقول في كتابه، إلى ذراع سياسي للمتطّرفين من المسيحيين المحافظين اليمينيين، الذين سيطروا على توجّـهات الحزب، استنادا إلى اعتقادهم بأن برنامجهم يُـسانده الله.
ودعا السناتور المتقاعد إلى الابتعاد عن القضايا الخلافية، التي فرّقت الأمريكيين في جدل مُـحتدم حول الإجْـهاض والخلايا الجذعية وزواج المثليين، وعرض الرموز الدّينية في الأماكن العامة وحق المريض الميئوس من شفائه في إنهاء حياته ([45]).
هذا بالنسبة لأكبر حزبين أمريكيين، أما السياسة الأمريكية العامة، فهي تعتمد النظام الجمهوري، لا الديمقراطي، ويتجلى ذلك من خلال القسم الذي يقول: (أتعهد بالولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية، وللجمهورية، أمة واحدة بعد الله، غير قابلة للتقسيم، بالحرية والعدل للجميع)([46])
ومن الأدلة على هذا التوجه، أن القوانين التي يسنها الأغلبية قد ترفض بسبب مخالفتها لقيم الجمهورية، ومن الأمثلة على ذلك قوانين [جيم كرو]([47])، والتي تنادي بالفصل العنصري، فقد اعتبرت غير دستورية، وتم إلغائها.
وفي قضية شهيرة عام 1954 بين المجلس التعليمي والسود؛ ألغت المحكمة العليا بالولايات المتحدة مدارس الفصل العنصري التي ترعاها الدولة بعد أن اعتبرت ذلك غير دستوري.
وفي حالات معاصرة، تم رفع قضية عام 2010 ضد مشروع قانون إصلاح نظام الرعاية الصحية بالمحكمة العليا بالولايات المتحدة لأنها كانت تجبر الأفراد على شراء التأمين الصحي، مع أنه تم تمريره من الأغلبية، ولكن المنتقدين ادعوا أن هذا يخالف حرية الأفراد بإجبارهم على الدخول في التجارة، وهي السلطة التي لا تملكها الحكومة في هذه الجمهورية.
وفي ولاية كاليفورنيا طالبت أغلبية المصوتين بجعل زواج متشابهي الجنس قانونيا؛ وحينها قال الناقدون للقانون أن هذا يخالف حرية الأفراد من المثليين والمثليات، وأنه ليس من حق الأغلبية فعل ذلك في الجمهورية.
وهكذا نرى أن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تقرر مدى دستورية القوانين، ولديها سلطة إلغاء القوانين التي تعتقد أنها غير دستورية، وفي ذلك إثبات على أن سيادة القانون ودستور الولايات المتحدة أعلى سلطة من رغبة الأغلبية في أي وقت، وذلك ما يدعم كونها جمهورية.
ومع التفاوت الشديد بين الرؤية السياسية الأمريكية والرؤية الإيرانية إلا أن هذا المثال يقرب بينهما من جهات كثيرة، ربما يمكن حصرها في جانبين:
الجانب الأول: السياسة العامة للدولة:
حيث أن النظام الإيراني ـ مع احترامه للأغلبية ـ إلا أنه ـ مثل النظام الأمريكي ـ لا يقر بكل القوانين التي تصدرها، بل يمررها على المجالس التي تراقب مدى شرعيتها ابتداء من مجلس صيانة الدستور وغيرها.
وقد أشار إلى هذا المعنى الأصل الرابع من [القانون الأساسي]، والذي ينص على أنه (يجب ان تقوم جميع القوانين والمقررات المدنية، الجزائية، المالية، الاقتصادية، الإدارية، الثقافية، العسكرية، والسياسية وغيرها على أساس الموازين الإسلامية، وهذا الأصل يكون حاكما على عموم أو إطلاق كافة أصول القانون الأساسي وسائر القوانين والمقررات، وتقع مهمة تشخيص هذا الأمر على فقهاء مجلس صيانة الدستور، ويشمل هذا الأصل القائد أيضاً، فهو ليس فعالا لما يشاء، لما يتمتع به من صلاحيات قانونية وفقهية واسعة فبإمكانه العمل كيفما يشاء وإصدار أي قانون، فإذا ما حاول القائد ـ لا سمح الله ـ الخروج عن حدود القوانين الإسلامية، فهو يفقد شروط القيادة، وتسقط ولايته أيضاً، وفي ضوء هذا الأصل يفقد قانونه الاعتبار أيضاً)([48])
وأهمية هذا الجانب ـ كما أشرنا سابقا ـ هي في قوة الدولة وثباتها على مبادئها، لأنها لو ترك الأمر للأغلبية الشعبية من دون قيود؛ فإنه يمكن أن يتسرب إلى مجالس الشورى من ليست له الأهلية، ثم ينجح فيها بفعل الدعم الخارجي أو الإعلامي الذي يتلقاه، ثم تكون له القدرة بعد ذلك على تغيير قوانين الدولة، بل تغيير نظامها جميعا.
وقد أشار إلى هذا المعنى مالك مصطفى وهبي العاملي بقوله: (إن نظرية ولاية الأمة على نفسها ـ أي الحرية السياسية المطلقة ـ هي نظرية الإنقلابات المتكثرة واللااستقرار الاجتماعي، والتخلي عن الدين كشرع يحكمنا في كل صغيرة وكبيرة. فإننا إذا بنينا على ولاية الأمة على نفسها بدون ضوابط وكان هذا حقها الحصري، تأتي مجموعة أسئلة لتثير مخاوف تجعل مصالح الأمة في معرض التسيب والزوال. فإنه لو لم يكن للفقيه ولاية يتمكن من خلالها من إلزام الأمة بسلوك الطريق الصحيح، ونقصد الإلزام الشرعي، فهذا يعرض الأمة للفساد ولتسلط المنحرفين عليها ويفسح المجال لظهور حكومات لا علاقة لها بالإسلام. وفي هذا تضييع للهدف المنشود من وراء تشكيل حكومة ترعى شؤون المسلمين)([49])
ثم بين مدى يسر ذلك وسهولته على المندسين؛ فقال: (ما أسهل أن تسيطر قلة قليلة على الأكثرية من خلال الإعلام ونمط تثقيفي تربوي معين وقدرة مالية، فبدل أن تكون الولاية للأمة على نفسها، وهو الشعار البراق، نكون قد أعطينا الولاية لتلك الفئة القليلة على الأمة، ولذا ترى كل الضغط المنحرف متجه نحو إلغاء فكرة ولاية الفقيه من نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، والذي يتمظهر بمظاهر متعددة والتي منها المطالبة بإلغاء كل ما يشكل ضمانة للأمة من عدم الوقوع في الإنحراف، كإلغاء مجلس صيانة الدستور والتخفيف من شروط الدخول في مجلس الخبراء ونحو ذلك لكي يسهل لهم فيما بعد الوصول بحكام غير فقهاء بل وغير عدول يتحكمون بالأمة ومصيرها)([50])
وأشار الشيخ تقي مصباح يزدي إلى أن هذا التقييد لرأي الأغلبية هو الممارس في كل الدول القوية المستقرة، فكلها تمارس نظام [ولاية الفقيه] بطريقتها الخاصة، يقول في ذلك: (وهذا أمر لا يختص بالدين وحده، بل نجدنماذج كثيرة منه في كل المذاهب غير الدينية وفي كل الأنظمة القانونية، فلنفترض مثلاً أن شعباً يحترم دستور بلاده احتراماً كبيراً وقد أقرّه بكل ما أوتي من قوة، لكن هذا الشعب نراه يختلف أحياناً في فهم نص مادة من هذا الدستور، وهنا نراه يعين مرجعاً لتفسير الدستور فيرجع إليه مثل مجلس الشورى أو مجلس الشيوخ أو مجلس الخبراءأو مجلس صيانة الدستور، وهكذا نجد في كل بلد مرجعاً يؤخذ برأيه في تفسير الدستور، ثم إن هناك خلافاً يحدث بين المفسرين أنفسهم، فنراهم في النهاية يأخذون جميعاً برأي واحد، ويطبقونه، ولا حيلة غير ذلك، إذ حين لا يمكن التوصل إلى معنى النص ينبغي الرجوع إلى خبير أكثر بصيرة ومعرفة من غيره والوثوق بكلامه)([51])
وقد أشار إلى هذا المعنى قبل هؤلاء جميعا محمد باقر الصدر في رسالته [لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في ايران]، والتي كانت مرجعا أساسيا أثناء تدوين الدستور الإيراني أول مرة، فقد قال في مقدمتها: (في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة، على أن لا يتعارض مع الدستور)([52])
ويذكر نوع الحرية السياسية التي تمارس في هذه المنطقة، وكونها حرية مسؤولة؛ فيقول: (إن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى، وبهذا ترتفع الأمة وهي تمارس السلطة إلى قمة شعورها بالمسؤولية لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض فحتى الأمة ليست هي صاحبة السلطان، وإنما هي المسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى عن حمل الأمانة وأدائها)([53])
الجانب الثاني: التيارات السياسية في إيران:
حيث نجدها تشبه إلى حد بعيد تلك الأحزاب الكبرى التي تتشكل منها التيارات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تنقسم إلى قسمين كبيرين([54]):
التيار الأصولي(المحافظ): ويلتزم أصحابه بولاية الفقية المطلقة، ويطالبون بتدخل أكبر للفقهاء في السياسة، ويقاومون بشدة أي تيارات أخري اصلاحية أو تقدمية، ويضم هذا التيار الكثير من الأحزاب السياسية، مثل [حزب الجمهورية الإسلامي] و[حزب المؤتلفة الإسلامي]، ويتخذ هذا التيار موقفاً مناهضاً من الولايات المتحدة، ويؤمن بوجود مؤامرة عالمية لاسقاط الثورة الإسلامية.
التيار الإصلاحي: ويلتزم بولاية الفقيه، إلا أنه ينادي بدور أقل للفقهاء في النظام السياسي.
وكلا الحزبين يمارس دوره بكل حرية، وينشر المقالات التي تعترض على الحزب الآخر، أو تعترض على الحكومة ومؤسساتها المختلفة من غير أن يكون في ذلك أي قمع أو اعتقال لأي منتقد أو معارض.
ومثلما ذكرنا السابق؛ فإن الحرية السياسية لهذه الأحزاب مكفولة بشرط حفاظها على قيم الجمهورية الإسلامية، وأولها ولاية الفقيه، باعتبارها خيارا شعبيا، وافق عليه الشعب بالأغلبية الساحقة القريبة من الإجماع، أما الأحزاب التي لا تحترم هذه القيم؛ فإنه لا يسمح لها بالعمل.
وقد سئل الخميني عن سر إيقاف (حزب تودة، وحزب فدائيان، ومنظمة مجاهدي خلق)؛ فأجاب بقوله: (الاحزاب ايضاً كانت بهذا النحو، والتي لم تلجأ الى التآمر فهي تمارس نشاطها بحرية تامة)
وعن سؤال حول دور الأحزاب اليسارية في الثورة، وأنها بعد انتصار الثورة الإسلامية حرموا من العمل السياسي، وهي شبهة يثيرها المغرضون كثيرا، أجاب بقوله: (ليس صحيحاً أنهم ناضلوا وتعذبوا جراء هذا النضال، إن أبناء الشعب هم الذين عانوا وتحملوا الآلام. إن عدداً كبيراً من هؤلاء كان خارج البلد، والآن جاؤوا لقطف ثمار الثورة دون عناء. كما أن فئة أخرى منهم كانت متخفية داخل الجحور أو في البيوت، وبعد ان ثار الشعب وتحمل الآلام وقدم الدماء وأنجز كل شيء، جاء هؤلاء، وبدأوا يستحوذون على الغنائم، ومع ذلك هم أحرار ولم يتصدّ لهم أحد)([55])
والخميني يصر دائما في كل لقاءاته الصحفية بعد انتصار الثورة الإسلامية، على كون الإسلاميين هم الذين مارسوا الثورة، وهم الذين قدموا التضحيات، وأن الشعب الإيراني لم يكن لينهض لو لو تكن الثورة إسلامية، وقد أجاب الخميني في المقابلة السابقة عن السر في تهميش اليساريين، فقال: (لم يكن أي دور لهؤلاء في ثورتنا هذه، بل كانوا من المعارضين لنا. وإن هذه الأحزاب الاربعة التي تعمل الآن ضدنا، كانت لها توجهات خاصة ولازالت مصرّة على نهجها. نهضتنا نهضة اسلامية، وكان اليساريون يعارضونها، حتى أن معارضتهم لها أشد من معارضة الشاه. كما أنهم متواطئون ويريدون إعادة الأمور الى سابق عهدها. وفي تصوري أن اليساريين مزيفون وهم ليسوا يساريين حقيقيين، بل هؤلاء من صنع أميركا. بناء على ذلك فهم ليسوا كما تتصورين، ولم يكن لهم مساهمة في نهضتنا. لم يضطلع هؤلاء بأي دور في ثورتنا، وإذا ما كان لديهم تحرك ما فهو بدافع تحقيق أهدافهم ولا علاقة له بنهضتنا. لا علاقة لثورتنا باليساريين، واليساريون لم يقدموا أية خدمة لثورتنا. بل إن كل ما قاموا به هو إعاقة تحركنا والوقوف ضدنا)([56])
وهنا سألته الصحفية هذا السؤال المحرج، والذي لا يزال يردد: (هل يمكن أن توضحوا لنا بأن هذا الشعب ناضل من أجل الحرية أو من اجل الإسلام؟)، وأجابها الخميني بصراحته المعهودة قائلا: (إن هذا الشعب ناضل من أجل الإسلام. بيد أن الإسلام يشمل كل تلك المفاهيم التي يتصور العالم بأنه هو الذي أبدعها وأطلق عليها لفظ الديمقراطية.. الإسلام لديه كل هذه الافكار وإن شعبنا ناضل من أجل تحقيقها) ([57])
وعن سؤال حول سر تشطيب كلمة الديمقراطية، والإبقاء (الجمهورية الإسلامية)، أجاب بقوله: (ثمة عدة قضايا بهذا الشأن. القضية الأولى هي إيجاد مثل هذا الوهم لدى الكثيرين من أن الإسلام يفتقر إلى مثل هذه المفاهيم، لذا يجب استعارتها، ومثل هذا محزن بالنسبة لنا، لأننا نؤمن بأن الإسلام لديه من التعاليم ما يفوق هذه المفاهيم، وهو يشتمل على كل شيء. هذا الأمر بالنسبة لنا مزعج ومؤلم جداً أن تجد من يفكر بهذا النحو، هذا أولًا، وثانياً: إن مصطلح الديمقراطية التي هي عندكم مهمة جداً، لا يوجد لها مفهوم واضح. أرسطو عرّفها بشكل، والسوفييت عرّفوها بشكل آخر، والرأسماليون بنحو ثالث، ونحن في دستورنا لا نستطيع أن ندخل لفظاً مبهماً كل واحد يفهمه مثلما يحب، نحن وضعنا الإسلام مكان الديمقراطية، لأن الإسلام يوضح ويبين ما هو الحد الوسط، وهو لا يخشى شيئاً. ولكن هؤلاء الذين يجهلون الإسلام، الاجانب الذين ليس لهم شأن بالإسلام، ومن في الداخل الذين لا يفقهون الإسلام، يتطلعون الى أمور مبهمة من هذا القبيل) ([58])
بعد هذه التصريحات من الخميني، نذكر هنا شهادة عيان من رجل موضوعي مختص بالشأن الإيراني، وهو د.حبيب فياض، والذي ذكر شهاداته في مقال له بعنوان [الحرية في الجمهورية الإسلامية]، وقد بين فيها المدى الذي وصلت إليه الحرية السياسية في إيران، وعبر عن تجربته عن ذلك؛ فقال: (في هذا المجال أود أن أروي حادثة حصلت أمامي في جامعة طهران، فقد اختلف أحد الطلاب مع أحد الأساتذة، وقال الطالب لأستاذه: (الفرق بين ما قبل الثورة وما بعدها أنه كان عندنا شاه بتاج، الآن عندنا شاه بعمامة)، ولم يعتقله أحد، بل لم يتعرض له أحد، رغم أنه تعرض لأصل النظام، ومؤخراً هاشمي رفسنجاني وهو أحد أعمدة النظام، تعرض لحملة قاسية جداً من الانتقادات، ولم يلجأ إلا إلى القنوات القانونية من أجل رد الحملات التي تعرض لها، ففي إيران حرية تعبير وحرية معتقد، والشاهد أن إبراهيم يزدي الذي لا يؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية وصاحب التوجهات القومية ظاهراً والعلمانية باطناً، يمارس حريته السياسية وعنده حركة سياسية في طهران ولم يتعرض له أحد على مدى 25 سنة. ولكن متى تنكمش الحرية في إيران؟ عندما يتم الخوض في مسألتين، إما مسألة الدم وإما مسألة تهديد أركان النظام)([59])
ويبين الحدود أو الخطوط الحمراء التي تقف عندها الحرية؛ فيذكر ثلاثة أمور لا بدّ من التمييز بينها في هذا الشأن، وهي([60]):
أولاً: التمييز بين ما هو أخلاقي وما هو قانوني؛ فالبعد القانوني إلزامي، أما البعد الأخلاقي فهو التزامي واختياري يقوم على الحرية؛ فعندما لا يتجاوز الشخص إشارة المرور الحمراء فجراً، حين لا يوجد شرطي ولا أحد يفرض مخالفة مرور، يكون الأمر أخلاقيا، ومتعلقا بالحرية الشخصية، و(هذا العامل موجود بقوة في إيران، صحيح أن هناك تداخلاً بين ما هو تشريعي قانوني وما هو أخلاقي، لكن العامل الأخلاقي النابع من إرادة حرة في الالتزام الديني، يؤدي إلى بلورة مفهوم من الحرية يختلف إلى حدٍ كبير عما هو سائد في الدول الغربية. فكما هو معلوم، إذا انقطعت الكهرباء لخمس دقائق في مجتمع من المجتمعات الغربية فإنه يتحول إلى غابة) ([61])
ثانياً: التمييز بين المجتمع والدولة، فالمجتمع الإيراني مسلم ملتزم قبل النظام الحالي، وهو الذي ساهم في صناعة النظام الحالي، (ففي إيران كل المظاهر الإسلامية التي نراها حالياً كانت موجودة حتى قبل نظام الشاه، وبالتالي الدولة هي انبثاق عن حركة مجتمع يتبنى الدين الإسلامي والقيم الإسلامية.. وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الدولة الإسلامية تماماً كما مجتمع المؤمنين قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة. هذا أعلى درجات الحرية، لأنني أسعى إلى تحقيق مسألة وأبذل الغالي والرخيص من أجل تحقيقها وبالتالي هنا القرار ملكنا والاختيار عندنا، وكذلك الجهد والمساعي الحثيثة من أجل الوصول إلى المطلوب) ([62])
ثالثا ـ التمييز بين الالتزام والإلزام، فالالتزام حالة طوعيّة وتتجلى بشكل جماعي، (وهذا ذروة الحرية لأنه لا أحد يُلزمني، بل أنا ألُزم نفسي بهذا الخط وهذا الخيار وهذه الدولة. في حين حالة الإلزام هي عبارة عن فرض وقهر، وفي إيران لو لم يكن هناك حرية لدى الناس للالتزام بخيار الدولة الإسلامية، بالتأكيد لما كان هناك من إمكانية لاستمرار هذا النظام، يعني عندما يقرر الشعب الإيراني أن يكون حراً ومتحرراً من الدولة الإسلامية، لن يكون هناك دولة إسلامية) ([63])
ثانيا ـ المفهوم السلبي للحرية:
وهو المفهوم الذي عبر عنه قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36][16]، وهي الآية التي لا تضع أي خيار أو حرية أمام المؤمن بالله ورسوله تجاه أي تشريع أو حكم.
وعبر عن الآثار الخطيرة لهذا النوع من الحرية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلك الناس جميعهم وإن منعوهم نجو ونجى الناس جميعاً)([64])
فهذا الحديث يشير إلى أن الحرية لها حدود ترتبط بالآخرين، ولذلك تتوقف حرية الإنسان عند تعرضها للآخر بأي نوع من أنواع الأذى.
وبناء على هذا نرى قادة الثورة الإسلامية يعقبون على أحاديثهم عن الحرية وضرورتها بالدعوة إلى الحذر عن السلبيات والعواقب السيئة التي قد تنجر عنها، والتي تنشأ من سوء استعمالها، أو استعمالها في غير المواضع المرتبطة بها، ذلك أن الحرية في الإسلام تقترن بالمسؤولية، وتنأى عن الفوضى، وتراعي حقوق الآخرين.
وقد عبر الخميني عن هذا المعنى عند حديثه عن حقوق المرأة، والضوابط التي تحكم هذه الحقوق، بقوله: (إن الإسلام يأخذ ينظر الاعتبار حقوق النساء، مثلما يهتم بحقوق الرجال، وقد اعتنى بالنساء أكثر من اعتنائه بالرجال، فلهن الحرية في ممارسة نشاطاتهن وبكامل إرادتهن، وفي انتخاب العمل، لكن ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان أن في الشرق ثمة محدوديات للرجال أيضاً، وهي لمصلحة الرجال أنفسهم، فالإسلام يحرم ممارسة الأفعال التي فيها مفسدة للرجال كالقمار وتناول الخمور والمخدرات، لأنها مقرونة بالمفاسد، فهناك محدوديات للجميع، شرعية وإلهية، محدوديات لمصلحة المجتمع نفسه، ذلك أن الإسلام لا يمنع من الأشياء التي ينتفع منها المجتمع)([65])
وذكر المساوئ الكثيرة المنجرة وراء ترك العنان للحريات من غير ضوابط ولا قوانين ولا مراقبة؛ فقال: (عندما تقرؤون الصحف فإنكم كثيرا ما تشاهدون فيها أن هذا يسيء إلى ذاك، وذاك يسي ء إلى هذا، والآن بعد تحرر الأقلام فهل يصح أن يتحدث كل إنسان بما يشاء تجاه الآخرين، أو أن يتصرف كل واحد مع الآخر بحيث تدب الفوضى في البلاد، وتخرج من النظام؟.. هل هذا هو معنى الحرية؟.. وهل أن الحرية في تلك البلدان التي تريد نهبنا هي على هذه الشاكلة؟.. لو كانت هكذا لما حصل الانسجام، ولما تطورت، إنهم يريدون من خلال كلمة [الحرية] التي يلقونها في عقول الشباب أن يفرضوا سلطتهم عليكم ويسلبوا حريتكم، إنهم يدركون ما يفعلون، يقولون: أنتم قمتم بثورة فأنتم الآن أحرار، أنت تحدث بما تشاء عن ذاك، وذاك يتحدث عنك بما يشاء، وهذا يسخر قلمه ضدك، وأنت تسخر قلمك ضد الآخرين، إنهم يدركون ما يفعلون، ويريدون من خلال الحرية أن يسلبوا حريتكم.. أي أن يوجدوا عندكم الحرية غير الصحيحة، ويسلبوا منكم الحرية الحقيقية)([66])
وهو يقصد بالحرية الحقيقية المفهوم العرفاني لها، والذي يعني سيطرة العقل على الهوى، وتحكم الروح في النفس، كما عبر عن ذلك الشيخ مرتضى مطهري عند ذكره لقصة بشر الحافي مع الإمام موسى الكاظم، والتي عبر عنها تعبيرا جميلا في كتابه [الهجرة والجهاد]؛ فقال: (في عصر الإمام الكاظم كان في بغداد رجل معروف يقال له بشر، وكان ممن يشار إليه بالبنان، وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم ماراً من أمام بيت بشر، فاتفق أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام قائلاً: يا جارية هل صاحب الدار حر أم عبد؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة من سؤاله هذا، وبشر رجل معروف بين الناس، وقالت: بل هو حر، فقال الإمام: (صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه)([67])
ثم ذكر كيف أثرت تلك الكلمة في بشر عندما أخبرته بها الجارية، وأنه ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر، ثم حكى مطهري بلسان حاله قوله: (سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً، ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية فيّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدو أسيراً لها، لا أريد أن تُؤسر فيّ الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله ولله وحده، حراً تجاه غيره)
وانطلاقا من هذا دعا قادة الثورة الإسلامية إلى إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي مارسها الإمام موسى الكاظم كما مارسها سائر الأئمة، بل هي شريعة من شرائع الله الكبرى، التي لا تقوم بها الجهات الرسمية فقط، بل يقوم بها جميع المسلمين؛ فالشعب جميعا مكلف بمراقبة سلوكات بعضه بعضا، والنهي عن أي منكر لا يتناسب مع الشريعة.
وقد ذكر الخميني ذلك عند انتقاده للمفهوم الغربي للحرية، والذي لا يتناسب مع الفطرة السليمة، كما لا يتناسب مع المجتمع الإيراني المحافظ؛ فقال: (لنعلم جميعا أن الحرية على الطراز الغربي تؤدي إلى تدمير الشبان فتيات وفتية، وهي مدانة بنظر الإسلام والعقل، ومحرم تلك الدعاية والمقالات والخطابات والكتب والصحافة المنافية للإسلام والعفة العامة ومصالح البلاد، وواجب علينا جميعا، وعلى المسلمين كافة منعها، ويجب منع المدمر من الحريات، والجميع مسؤولون للتصدي بحزم لما يحرم في الشرع، وما يعرقل مسيرة الشعب والبلد الإسلامي، ويتنافى وكرامة الجمهورية الإسلامية، الجميع مسؤولون، وإذا ما شاهد الناس وشبان حزب الله أيا من تلك الموارد فليراجعوا الأجهزة المختصة، وإذا ما قصرت هذه فهم بأنفسهم مكلفون بمنع ذلك، وكان الله تعالى بعون الجميع)([68])
وقال: (كما أن كل فرد مطالب بإصلاح نفسه، فإنه مطالب أيضاً بإصلاح الآخرين)([69])
وهو ينقل لهم ما ورد في النصوص المقدسة من ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعضهم، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)([70])
فهذه الرواية تشير إلى (الارتباط الغيبي بين المعاصي والمشاكل الدنيوية.. فالمشاكل الاقتصادية والفتن بين الناس بالإضافة إلى أسبابها الطبيعية لها ارتباط بالنهي عن المنكر، وهي نوع من العقاب الإلهي لترك هذه الفريضة)([71])
وينقل لهم أيضا ما روي عن الإمام الحسين، وأسباب ثورته، وقوله: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي)([72])
ويستنتج من هذه النصوص وغيرها أن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كافة أبناء الشعب)([73])
ويقول مخاطبا شعبه داعيا إلى المبادرة في مواجهة المنكر قبل أن يستشري: (إذا لم تقفوا بوجه الفساد منذ بداية ظهوره فليس من المستبعد أن نعود إلى ما كنا عليه في السابق)([74])
بل إنه يدعو إلى التعامل بشدة مع من يحارب المجتمع بنشر قيم الفساد فيه، ويقول عنه، وعن حكمه الشرعي: (إن من يعمل على إفساد المجتمع ولا يرعوي عن ذلك إنما هو غدة سرطانية يجب فصلها عن المجتمع)([75])
ولهذا لا نستغرب من تلك الأحكام المشددة التي يواجه بها القضاء الإيراني المروجين للمخدرات والمتاجرين بها، أو أولئك العابثين بالأمن العام، والتي لقيت نقدا كبيرا من المغرضين الذين راحوا يرحمون المجرمين حفاظا على حقوق الإنسان، ويتركون الضحايا([76]).
وهكذا نجد الولي الفقيه الحالي السيد علي الخامنئي يصرح كل حين بوجوب قيام الشعب جميعا بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبلاغ السلطات المسؤولة في حال الحاجة إلى ذلك.
ومن أمثلة ذلك قوله([77]): (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف عام، ولا يوجد خطاب يفوق في شدّته وحزمه خطاب الأمر بالمعروف)، وقوله: (الأمر بالمعروف ليس ضرباً من الفضول، بل هو نوع من التعاون والرقابة العامّة على نشر الخير وتقويض الشر والفساد)، وقوله: (عندما يشيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أوساط المجتمع، فإن ذلك سيؤدّي إلى أن تعتبر الخطيئة في نظر الناس خطيئة إلى الأبد)، وقوله: (إذا أهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفشّت في المجتمع الأفعال المنكرة، إذ ذاك ستمهّد الأرضيّة إلى أن يمسك الأراذل بزمام الأمور)، وقوله: (على الشعب أن يطالب المسؤولين بالعمل الصالح، وليس ذلك عن طريق الدعوة والرجاء، بل عن طريق الأمر)، وقوله: (لا يتحدّد النهي عن المنكر بالردع عن الذنوب الشخصيّة، بل هو معشار العشر منه)، وقوله: (هناك منكرات شائعة على صعيد المجتمع ينبغي النهي عنها من قبيل إهدار الثروات العامّة والحياتيّة)، وقوله: (القول بجواز النهي عن المنكر باللسان ووجوبه هو واجب الجميع ولا يسقط في ظلّ أيّ ظرف)، وقوله: (النظام الإسلامي هو نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما واجب حتميّ على الجميع)، وقوله: (لا ينحصر المأمورون بالمعروف والمنهيّون عن المنكر في طبقة العوام فحسب، بل ربّما كانوا من الخواصّ أيضاً)، وقوله: (إيّاكم أن تتوجّهوا إلى شخص من النخبة بالرجاء، بل عليكم أن تنهوه، قائلين: لا تفعل هذا الشي ء، فالحالة الاستعلائيّة لا بدّ من تمثّلها في الأمر والنهي)، وقوله: (الجميع مخاطبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو كان الشخص أكثر أهميّة)، وقوله: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحدى الواجبات، ولا يتحمّل محاباة وخجلاً)
وغيرها من المقولات الكثيرة، والتي تحمل معاني سامية ترتبط بالإصلاح الاجتماعي، بل بكل أنواع الإصلاح، ذلك أن الهيئات الرسمية وحدها لا يمكن أن تقوم بكل شيء، أو تراقب كل شيء.
ولهذا استطاع الإيرانيون بمشاركتهم لحكومتهم ونظامهم إحباط كل المؤامرات والفتن التي دبر لها الأعداء، ذلك أن الذي بادر بمواجهة المتآمرين هم الشعب نفسه قبل أن تتدخل قوات الأمن.
انطلاقا من هذا سنذكر هنا باختصار نموذجين من نماذج الحرية السلبية التي واجهها النظام الإيراني لمنافاتها الشريعة الإسلامية، وقد لاقت تلك المواجهة الكثير من النقد من طرف المغرضين.
1 ـ المظاهر الغربية ومواجهتها:
استعمل النظام الإيراني البائد كل الوسائل لنشر مظاهر الحياة الغربية في اللباس وأنماط المعيشة المختلفة، متأثرا في ذلك بما عليه الحال في تركيا، ذلك أنه بعد تنصيب الشاه (رضا بهلوي) في عام 1926م، حاول أن يتقرب من مصطفى كمال أتاتورك، وأن يقيم علاقات جديدة معه، وكان متأثرا به تأثرا شديدا، ولذلك استعمل كل الوسائل لتحويل إيران إلى نفس النمط الذي تحولت إليه تركيا الحديثة، ولولا مواجهة العلماء، وتأثيرهم في الشعب الإيراني لتم له الكثير مما أراد.
ومن تلك المظاهر التي حرص على الدعوة إليها إدخال التقاليد الغربية في اللباس والحفلات وجميع شؤون الحياة، ولذلك كره الشعب الإيراني ـ بحكم تدينه أولا، وبحكم كراهيته للشاه واستبداده ثانيا ـ تلك المظاهر، وراح يتعلق بالعلماء والمراجع الرافضين لذلك.
ولهذا؛ فإن الدعوة لمواجهة التغريب ومظاهره المختلفة لم تلق أي ردود سلبية من طرف الشعب الإيراني، بل إنه نفسه بادر للدعوة إلى مواجهتها، وخاصة بعدما تشبع بتلك الخطب والبيانات الكثيرة التي كان يلقيها قادة الثورة الإسلامية، وخصوصا الخميني الذي لم يكن يدع مناسبة إلا وينكر فيه على مظاهر التغريب والسفور والانحراف التي ينشرها الشاه، عبر القوانين التي يضعها كل حين.
وقد عبر الخميني عن ذلك الدور المشبوه الذي قام به الشاه لنشر المظاهر السلبية للتغريب بحجة التمدن والتحضر؛ فقال: (في عهد هذا النظام (بهلوي) الذي كانت تتعالى فيه الصيحات (النساء حرات، الرجال أحرار) ماذا كانت نشاطات المرأة؟ النشاط الذي شاهدناه من النساء هو قيام مجموعة من النسوة بالذهاب إلى قبر رضا خان بذلك الوضع المخزي لتقديم شكرهن لأنه حررهن، أما كيف حررهن وماذا فعل؟ فإنهن لا يفكرن بهذا.. لا يفكرن بأنه أرادهن أحرارا مع الرجال من دون أي ضوابط أخلاقية.. لتشارك النسوة في تلك المجالس التي كانت تقام، وتظهر أمام أعين الرجال غير النزيهة بذلك الوضع.. إنهم يريدون حرية الفحشاء بكل أنواعها)([78])
ويذكر الخميني أنه في الوقت الذي كان يسمح فيه بهذا النوع من الحرية، كان الاستبداد والقمع ساريا في كل شؤون الحياة؛ يقول في ذلك متسائلا: (.. أي امرأة تمكنت أن تتحدث عن قضايا الساعة، وأي رجل استطاع أن يكتب كلمة واحدة عن المشاكل التي يعاني منها شعبنا بسبب تدخل الأجانب وعملائهم الداخليين؟.. وأي مطبوعة من مطبوعاتنا كانت حرة؟ ومتى كان المذياع والتلفاز حرا؟ ومتى كان الناس والشبان وطلاب الجامعات وطلبة العلوم الدينية أحراراً؟)([79])
ويجيب عن هذه التساؤلات بقوله: (إن الحرية الواقعية المفيدة لمجتمعنا كانت مسلوبة تماما خلال هذه الخمسين سنة التي شاهدت فيها مختلف القضايا؛ فالنسوة لم يملكن الحرية لممارسة النشاط الاجتماعي أو التحدث عن المصائب التي يعانيها الشعب، والويلات التي لحقت به من الشرق والغرب، ولم يسمح لهن بالتحدث ولا بكلمة واحدة عن مصائب الشعب من الحكومات العميلة وما أصاب الشعب بسببه) ([80])
وفي نفس الوقت الذي اهتم فيه الشاه بإشاعة المظاهر الغربية، لم يهتم بتطوير بلاده في النواحي التي كان عليها أن يستفيدها من الغرب، يقول في خطاب له عند بيانه لآثار الشاه السلبية على المجتمع الإيراني: (إن هذا الشاه جعل ثقافتنا متخلفة بحيث لايحصل شباننا على العلم التام والكافي هنا ويمسون بعد مدة من الدراسة مع كل ما يرافقها من صعوبات وضغوط يمسون مضطرين للسفر إلى خارج البلاد لإكمال دراساتهم.. إننا نملك دراسات جامعية منذ خمسين عاما أو أكثر، ونملك جامعة منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولكن ولأنهم خانونا، فإن هذه الجامعة لم تتطور ولم تحقق لأبنائها بلوغا أنسانيا. لقد قضى هذا الشخص على جميع أبنائنا وعلى طاقاتنا البشرية)([81])
وفي المقابل يذكر الخميني أن هذا الشاه الذي لم يهتم بالتطوير العلمي لبلده راح يهتم بمظاهر الابتذال المتنافية مع الشعب الإيراني، يقول: (لقد أقام هذا الشخص- ونتيجة لعبوديته للآخرين- بإنشاء مراكز الفحشاء، فبرامجه التلفزيونية ليست سوى فحشاء، وبرامجه الإذاعية في أغلبها فحشاء، وجميع المراكز التي أجازوا فتحها هي مراكز للفحشاء يعضد بعضها بعضا، فمراكز بيع الخمور أكثر من مراكز بيع الكتب، ومراكز الفساد الأخرى تنتشر الى ما شاء الله)([82])
ثم بين أنه لا ينتقد السينما ولا الفنون، ولا التطور، وإنما ينتقد استخدامها لإشاعة الفحشاء، يقول: (نحن لا نعارض دور العرض السينمائي، ولكننا نعارض مراكز الفحشاء، نحن لا نعارض الإذاعة ولكن نعارض الفحشاء، نحن لا نعارض التلفزيون بل نعارض ما يقومون به خدمة للاجانب وللإبقاء على ابنائنا متخلفين، ولتدمير طاقاتنا البشرية.. متى عارضنا التجديد؟ متى عارضنا مراكز التطور؟.. إن السينما احد مظاهر التحضر التي ينبغي توظيفها لخدمة الناس ولتربيتهم، لكن وكما تعلمون فانها قد دفعت ابنائنا نحو الضياع، وكذا هو حال سائر هذه المراكز. لذا فاننا نعارضها، وهؤلاء قد خانوا بلادنا بهذه الطريقة) ([83])
وهو يذكر أن ذلك التمجيد الذي حصلت عليه إيران في عهد الشاه من طرف القوى الغربية لم يكن بسبب مراعاته للحريات، أو حقوق الإنسان، وإنما بسبب تلك المصالح التي ينالونها منه، والتي تضر بالشعب الإيراني، يقول: (أما نفطنا فقد أعطوه إلى الآخرين بالكامل.. أعطوه لأمريكا وغير أمريكا. وماذا اخذوا في المقابل من أمريكا؟ أخذوا منها أسلحة ومعدات لإقامة قواعد لها؟ فنحن أعطيناهم النفط وأقمنا لهم قواعد في أراضينا، وتمكنت أمريكا بهذه الحيلة التي ساهم فيها هذا المخلوق (الشاه) من الاستحواذ على نفطنا وتشييد قواعد لها بثمنه، فقد صدرت امريكا إلينا اسلحة لا يمكن لجيشنا الاستفادة منها إلا بمساعدة المستشارين والخبراء الأمريكان)([84])
وهكذا يذكر الخامنئي ذلك التغريب السلبي الذي قامت به أسرة الشاه طيلة حكمها لإيران؛ فقال: (حين آل الأمر إلى أُسرة بهلوي ارتكبوا من الفعال ما هو أسوأ بكثير مما ارتكب في العهد القاجاري؛ فأسرة بهلوي ضربت على قواعد الثقافة الذاتية الخاصة للشعب وزلزلت أركانها، وأنشبت أظافر التخريب فيها، حتى حلت الثقافة المستوردة بدلاً من الثقافة الخاصة، ونفذت في أغلب مرافق حياتنا وشؤونها)([85])
وضرب أمثلة على ذلك؛ فقال: (كان شعبنا ملتزماً طوال قرون الحضارة الإسلامية، برعاية الآداب في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل، وهذا لا يعني عدم وقوع حالات من الخطأ والمعصية؛ فالخطأ موجود في كلّ العصور وفي مختلف المجالات، وسيبقى أفراد البشر عرضه للخطأ أبداً. ولكن ثمَّ فرق بين الخطأ، وبين أن يتحوّل الخطأ إلى عرف عام في المجتمع وعلى صعيد الشعب، لقد كانت مجالس الأشراف وبلاطات الملوك والأمراء ومن يقع على شاكلتهم، هي وحدها التي تشهد مجالس اللذة والطرب والفحشاء، حيث تمضي الليالي الحمراء حتى الصباح بهذه الخطايا، قد سعى الأوروبيون ـ الذين لا تغلق باراتهم طوال الليل والنهار ـ أن يدفعوا مجتمعنا صوب هذه العادات المشؤومة الفاسدة)([86])
بل إن الأمر وصل به ـ كما يذكر الخامنئي ـ إلى درجة الدعوة إلى تغيير اللباس الوطني المحافظ للإيرانين، واستبداله بالزي الغربي، يقول: (لكم أن تلاحظوا الآن مقدار الفضيحة التي تنطوي عليها ممارسة ملك قام باستبدال الزي الوطني لشعبه مرَّة واحدة دفعةً! إذا ذهبتم إلى أقصى نقاط الدنيا، كالهند مثلاً تجدون أن الشعوب لها زيَّها الوطني وهي تفتخر به، ولا تشعر بالخجل أو العار منه، ولكن هؤلاء غيّروا الزي الوطني ومنعوه مرة واحدة، لماذا؟ زعموا أن الإنسان لا يكون عالماً مع هذا الزي! في حين نجد أن أبرز العلماء الإيرانيين، الذي لا زالت آثاره تدرس في أوروبا، عاش بهذه الثقافة وأمضى حياته بهذا الزي، ترى ما هو تأثير الزي؟ وما هو الكلام الذي يجافي المنطق ويبعث على السخرية؟.. لقد استبدلوا الزي الوطني ومنعوا ارتداء الحجاب. وقالوا إنّ المرأة لا تستطيع أن تتحوّل إلى عالمة مع الحجاب (العباءة) ولا يمكن أن يكون لها مشاركة في الفعاليات الاجتماعية! أتوجه إلى هؤلاء بسؤال: إلى أي مدى استطعن النساء أن يشاركن في الفعاليات الاجتماعية بمنع الحجاب وتحريم العباءة؟ هل سمح عهد رضاخان وابنه للمرأة أن تشارك في الفعاليات الاجتماعية؟ في عهد حرم الرجل من ممارسة الفعالية الاجتماعية كما حرمت من ذلك المرأة أيضاً)([87])
ثم بين أن التحضر والرقي لا يرتبط بتلك المظاهر الغربية، بل يرتبط بتوفير البيئة المناسبة للتطور والرقي، يقول: (لقد استطاعت المرأة في إيران أن تلج ميدان العمل الاجتماعي وتحوّل البلد بإرادته القوية، حيث جرّت الرجل إلى الساحة وراءها، حينما ارتدت الحجاب ووضعت العباءة على رأسها.. ثم ما تأثير الزي والحجاب في عدم فعالية المرأة أو الرجل؟ المهم هو القلب الذي ينطوي عليه هذا الرجل وتلك المرأة.. والمهم هو كيف يفكر؟ وما هو قدر إيمانهما، وما هي طبيعة الروحية التي ينطوي كل منهما عليها، وطبيعة الدافع الذي يسوقهما لممارسة الفعالية الاجتماعية والنشاط العلمي؟)([88])
ثم يعقب متأسفا على هذا الموقف الذي نشأ عن التبعية للغرب والشعور بالنقص: (لقد وضع رضاخان ـ هذا الطاغية الأمي المتجبر ـ نفسه أُلعوبة بيد الأعداء؛ فغيّر الزي الوطني واستبدل الكثير من الآداب والسنن السائدة بين الشعب، ومنع مزاولة الفعل الديني، وزوى بالدين جانباً، مارس جميع هذه الفعال بالقوة ـ كما تعلمون جميعاً ـ وتحوّل إلى شخصية محبوبة لدى الغرب، لم يكن محبوباً من قبل الرأي العام في الغرب، أو أبناء الشعوب الغربية، وإنما أضحى محبوباً من قبل السلطويين والساسة الغربيين)([89])
انطلاقا من هذا الموقف شرعت القوانين بعد انتصار الثورة الإسلامية، لتواجه كافة أشكال التغريب ومظاهرها السلبية، وقد لقي ذلك انتقادا كبيرا من أولئك الذين كانوا يمجدون الشاه، ويعتبرونه مراعيا لحقوق الإنسان، مع أنه نهب ثروات البلاد، ولم يجلب لها إلا الفساد وكل مظاهر الانحراف.
ومن تلك القوانين التي لقيت انتقادا كبيرا، بل جُند الإعلام بمختلف وسائله لتشويه إيران بسببها موقفها من اللباس، سواء كان لباس الرجل أو المرأة، والذي وضعت قوانين ترتبط به، لتجعله محافظا على أحكام الشريعة، مع أن الشاه نفسه ومعه أتاتورك وضعا القوانين الداعية للسفور والمحرمة للحجاب، ومع ذلك لم ينالا من الإنكار ما نالته إيران في عهد الولي الفقيه.
ولو أن الإنكار كان من الغرب وحده لما تعجبنا، ذلك أن الغرب براغماتي وصاحب مصالح، وهو يعطي ما يشاء من الأوصاف لمن يشاء من الدول؛ لكن المشكلة أن يكون الإنكار من الدول العربية، ذات المجتمعات المحافظة؛ فقد راحت مصر ودول الخليج خصوصا تنكر على تلك القوانين الإيرانية المرتبطة باللباس، بل راحت تدعو الشعب الإيراني للتمرد عليها، واستعملوا في ذلك كل أنواع الأكاذيب.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في مقال بعنوان [ممنوعات على نساء إيران: الرقص والنرجيلة والدراجات وأشياء أخرى] جاء فيه: (منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، فُرضت قيود عدة على المواطنين عموماً، والنساء خصوصاً، في البلاد، إذ أُجبرن على الالتزام بقواعد اللباس، ومُنعن من الاختلاط بالرجال، بالإضافة إلى ممنوعات أخرى تركزت على الفنون مثل الرقص والموسيقى الغربية ومشاهدة العروض الرياضية) ([90])
ثم يفصل في بعض الممنوعات على المرأة الإيرانية، ومنها ـ كما يذكر ـ الرقص؛ يقول في ذلك: (منذ عام 1979، حُظرت معظم أنواع الفنون، نتيجة قيود وأحكام المحافظين، وبينها الاستماع إلى الموسيقى الغربية والرقص، ما أنتج نوعاً من الحرب الثقافية بين السلطات الإيرانية وشبابها، إذ اعتقلت السلطات الإيرانية أخيراً 4 شبان وشابتين، واتهمتهم بتعليم الرقص الغربي، وبينها الـ [زومبا]، والسعي إلى [تغيير نمط الحياة] و[الترويج لخلع الحجاب]، وفقاً لأحد قادة الحرس الثوري الإيراني، ورقص سبعة أشخاص (شبان وشابات) على أنغام أغنية غربية شهيرة في 2014، ونشروا مقطعاً مصوراً على مواقع التواصل الاجتماعي لكن السلطات الإيرانية اعتقلتهم، وفرضت عليهم أحكاماً بالسجن و91 جلدة، ما أدى إلى إثارة الرأي العام العالمي، فأوقف الحكم مقابل اعتذارهم عبر التلفزيون الوطني الإيراني، وبعد أشهر عدة، رقصت شابة إيرانية على متن قطار في العاصمة طهران، وصورها الركاب، وانتشرت مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي في إيران، لكن السلطات لم تستطع تحديد هويتها)([91])
هذا مجرد مثال انتقيناه من الكثير من المقالات الإخبارية باعتباره أكثرها لطفا، في مقابل مقالات إخبارية تصدر كل يوم، لتشوه الموقف الإيراني من المحاولات التي يقوم بها الغرب في إطار الحرب الناعمة لصرف الإيرانيين عن دينهم وعن نظامهم وفقهائهم.
وقد كان في إمكان هؤلاء الذين يرغبون فيما شاءوا من اللباس أو الغناء أو الرقص أو النرجيلة أن يمارسوه في بيوتهم من غير أن يتدخل أحد لاعتقالهم أو مواجهتهم، ولكن الغرض ليس هو التمتع بتلك المظاهر، وإنما الغرض هو مواجهة القيم التي تبناها المجتمع عبر توليه للولي الفقيه، والقوانين التي يصدرها.
ولهذا تصر الكثير من القنوات العربية ووسائل الإعلام على القيام بحملة إشهار مجانية لأولئك الأفراد المحدودين الذين يتمردون على القوانين، ويصورون أن هؤلاء هم كافة الشعب الإيراني، وأن الشعب الإيراني ضاق بتلك القوانين التي تحد من حريته.
وللرد على هذه المغالطة نحب أن نذكر هنا الموقف الشرعي، بل العقلي والفطري من هذا الأمر، وهو أن اللباس مع كونه حقا شخصيا للإنسان لا يجوز التدخل فيه، لكنه إذا أثار فتنة في المجتمع، أو ساهم في إفساده والإضرار به؛ فإنه حينها يخرج عن كونه حرية شخصية، بل يتحول إلى قضية مرتبطة بالمجتمع، وحينها توضع القوانين التي تضبط ذلك، والتي نراها في قوانين العالم جميعا.
ولا يقال هنا بأن على أفراد المجتمع أن يغضوا أبصارهم، لأن ذلك مستحيل؛ فالمجتمع يحوي جميع أصناف الناس، المتدينين وغيرهم، وفيه المراهقون والمنحرفون، ولا يصح أن يتحمل المجتمع جميعا وزر امرأة ظهر لها أن تخرج سافرة بين الناس لتفتنهم.
ولو طبقنا هذا الأمر لأجزنا لمن يشاء أن يروج المخدرات والخمور وغيرها أن يفعل ذلك، ثم نطالب المجتمع بأن يتورع عن الشراء، أو أجزنا لمن شاء أن يضع شاشة في الشارع، ويضع فيها ما يشاء له هواه من الانحرافات، ونطالب المجتمع بأن يغلق عينيه وأذنيه إذا مر عليها.. وهذا لم يقل به أحد.
ولهذا؛ فإن القادة الإيرانيين لم ينظروا إلى اللباس وغيره من المظاهر باعتبارها حريات شخصية، وإنما نظروا إليها باعتبارها اختراقا يحاول الغرب من خلاله أن يتسلل للمجتمع لإفساده، وتيسير السيطرة عليه.
وقد أشار إلى هذا المعنى الخميني في حوار له مع مذيعة لإحدى القنوات حينها ـ وكانت كبيرة السن ـ حيث قالت له: (هل يعقل ان تخفي نفسها وراء هذا التشادور [العباءة السوداء] المرأة التي شاركت في الثورة، وقتلت وعذبت وناضلت ودخلت السجون؟)
فأجابها بقوله: (أولًا إن المرأة مخيرة في ارتداء التشادور وقد اختارته بصورة طوعية، ولا يحق لك أن تسلبيهن هذا الاختيار، نحن إذا ما طلبنا من النساء الراغبات في ارتداء التشادور أو الحجاب الإسلامي النزول إلى الشوارع، فسوف تخرج ثلاثة وثلاثون مليوناً من خمسة وثلاثين مليون امرأة، فهل يحق لك الوقوف بوجههن؟ أي استبداد هذا الذي تنسبينه الى النساء؟.. ثانياً نحن لا نحدد حجاباً بعينه، كما أن النساء اللواتي من عمرك، لا توجد أية حساسية بشأن حجابهن، ولكننا نتصدى للفتيات الشابات اللواتي يستخدمن المكياج المفرط ويخرجن الى الشوارع متبرجات حيث يلاحقهن أفواج الشباب)([92])
وتمنينا لو أن هؤلاء الذين ينكرون على إيران التزامها بهذه المظاهر الدينية المحافظة، طبقوا ما ذكره الخميني، ولاحظوا أعداد الذين يطالبون بحقوقهم في التبرج والسفور، وقارنوها بعدد الذين يرتدون الحجاب من تلقاء أنفسهم، لخففوا من غلوائهم وتشددهم، وعلموا أنهم يقفون في وجه شعب كامل من أجل حفنة محدودة.
ولو أنهم أضافوا إلى تلك المقارنة زيارة الجامعات والمدارس والسينما والمسرح والمؤسسات الرياضيةوكل المحال لوجدوا للمرأة حضورا قويا لا يضاهيه أي حضور في كل تلك الدول التي لا هم لها إلا تشويه إيران.
2 ـ الانحلال الأخلاقي ومواجهته:
بناء على ما ذكرنا في الفصل الأول من أن الحكومة الإلهية تختلف في وظائفها عن الحكومة الوضعية والعلمانية، ذلك أن هدف الأخيرة قاصر على رعاية حاجات المجتمع المادية، وعلى توفير رغباته الدنيوية، بينما الحكومة الإلهية، والتي مثلها الرسل وخلفاؤهم؛ لا تهتم بذلك فقط، وإنما تهتم قبله وبعده ببناء المجتمع الصالح، وتوفير كل ما يخدم هذا البناء، والوقوف في وجه كل ما يعترضه، كما قال تعالى في تعداد وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]
فالتزكية، وهي ترقية الإنسان وتربيته الإيمانية والروحية والأخلاقية من مهمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يذكر قادة الثورة الإسلامية في إيران أن على الولي الفقيه أن يتولاها باعتباره نائبا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الأئمة في هذه الوظيفة.
ومن بين الوسائل التي تستعمل للتزكية ـ حسبما ورد في النصوص المقدسة ـ الحدود والتعزيرات التي يستعملها الحاكم المسلم ليحفظ المجتمع من تسرب أدوات الفساد إليه، ذلك أن فردا واحدا أو أفرادا معدودين من المنحرفين يمكنهم إذا أعطيت لهم الحرية الكافية الخالية من أي ردع أن يفسدوا مجتمعا كاملا، ولذلك ورد في الأثر: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)
وقد نص القرآن الكريم على هذا المعنى في قوله تعالى عند بيان حد الفاحشة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، فقد ربط الله تعالى بين عقوبة الزناة مع أمره بحضور جماهير الناس للعقوبة، حتى يكون ذلك وازعا تربويا لهم، بالإضافة لوسائل أخرى سنعرفها إن شاء الله في الفصل الخاص بالقيم التربوية من هذا الكتاب.
وهكذا أخبر القرآن الكريم أن القصاص حياة، قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179]، ذلك أن إقامة القصاص على فرد واحد يحمي المجتمع من سريان مثل هذه الظاهرة فيه، وبذلك يحيا المجتمع جميعا بحمايته من أمثال هذه الجرائم.
بناء على هذا، كانت المقارنة في مجال الحريات وحقوق الإنسان بين النظام العلماني الذي تتبناه أكثر دول العالم والنظام الإيراني مقارنة خاطئة؛ فالفلسفة التي يقوم عليها كلا النظامين مختلفة تماما.
وليس في ذلك أي إجحاف أو ظلم بحق الشعب الإيراني، لأنه هو من ارتضى هذا النظام، وهو من طالب حكامه بأن ينفذوه، وهو الذي ظل منذ ما يقارب أربعين سنة ينتخب مسؤوليه، ويخرج في كل المظاهرات والمسيرات التي تؤكد ولاءه المطلق لنظامه ومسؤوليه.
ولذلك؛ فإن الدعايات المغرضة التي تنتقد قوانين العقوبات الإيرانية أو تقارن بينها وبين النظم العلمانية دعايات قد تقبل في المجتمعات غير المسلمة، لكن المسلم الحريص على دينه العارف بربه، لا يمكنه أن يرفضها، أو ينتقدها، لأنها قوانين شرعية، ومنطلقة من الأحكام الفقهية، بالإضافة إلى دورها الكبير في مواجهة الجريمة والانحلال، وهي مع مقومات تربوية أخرى سنراها في محلها تشكل ركنا أساسيا في الإصلاح الاجتماعي.
وقبل أن نسرد ما ذكره قادة الثورة الإسلامية في الرد على تلك الشبهات والاعتراضات التي يبثها الإعلام المغرض، بما فيهم بعض الإسلاميين، أو كثير منهم، نذكر هنا مقارنة أجرتها بعض الصحف بين بعض الممارسات التي يعتبرها القانون الإيرني جرائم يعاقب عليها بأشد العقوبات في نفس الوقت الذي لا يقاضى فيه مرتكبها حسب القوانين الأمريكية، وكأنه في رأي صاحب المقال أمريكا أكثر سماحة وعدلا من إيران.
وعنوان المقال [ثمان جرائم تستوجب الإعدام فى إيران والبراءة في أمريكا]([93])، ومما ورد فيه: (نفذت إيران حوالى 700 حكم بالإعدام فى 2015، على جرائم لا تدخلك حتى السجن فى الولايات المتحدة، حسبما ذكر موقع فوكاتيف الأمريكي، ورأى الموقع أن إيران تنفذ أحكام الإعدام هذا العام بوتيرة قياسية، حيث تم إعدام حوالى 694 شخصًا منذ شهر يناير الماضى وتتوقع منظمة العفو الدولية أن العدد سيزيد عن ألف بنهاية العام، وقال الموقع إن القانون الإيرانى يفرض عقوبة الإعدام على مجموعة جرائم، لا تفرض حتى عقوبة الحبس على الأشخاص فى الولايات المتحدة من بينها تهريب المخدرات والعلاقات الجنسية الشاذة.. وأشار الموقع إلى أن بعض الجرائم يتم توقيع العقوبة على مرتكبيها بعد الانتهاك الرابع، من ضمن ذلك الزنا والدخول فى علاقات جنسية شاذة ويعاقب الطرفان فى تلك الحالات بعقوبة الإعدام)
وقد نشر الموقع جدولا تفصيليا يقارن بين 14جريمة وعقوباتها فى كل من إيران والولايات المتحدة من بينها ثمانى لا تعتبرها أمريكا جرائم يعاقب عليها القانون، بحسب بيانات الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان.
وحسبما ذكر الموقع، هذه هي الممارسات التي يتأسف الكثيرون على اعتبارها جرائم في القانون الإيراني القاسي حسبما يصورون، بينما لا يعاقب عليها القانون الأمريكي الرحيم:
- زنا المحارم: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (سجن حتى 15 عاما)
- اغتصاب: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (من 5 – 15 عاما سجن)
- شخص متزوج يمارس الرذيلة مع غير متزوج: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- ممارسة الرذيلة مع زوجة الأب: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- غير مسلم يمارس الرذيلة مع مسلمة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- علاقات الشذوذ الجنسى: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- التآمر لإسقاط الحكومة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- تسهيل مهمة الجماعات المعارضة للحكومة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- اغتيال متعمد للقادة السياسيين: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- سب النبى صلى الله عليه وآله وسلم: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
- القتل العمد: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (إعدام)
- تهريب المخدرات: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (5 سنوات سجن)
وهكذا نجد موقعا آخر، وهو الموقع الرسمي لمنظمة العفو الدولية، يذكر اعتراض جماعات حقوق الإنسان على القوانين الإيرانية المرتبطة بالخمر، فقد ورد فيه هذا الخبر: (قالت منظمة العفو الدولية إنه يتعين عدم إعدام رجلين وجِدا مذنبين بتعاطي الكحول للمرة الثالثة، وهو محظور بمقتضى قانون العقوبات الإيراني؛ فقد أعلن رئيس الهيئة القضائية في شمال شرق إقليم خراسان رضوي، السيد حسن شريعتي، أن السلطات تقوم بالتحضيرات لتنفيذ حكمي الإعدام اللذين أقرتهما المحكمة العليا في طهران، وقد نفذ بحق الرجلين، اللذين لم تتم تسميتهما، حكم بالجلد 80 جلدة لكل منهما عقب إدانتين سابقتين بشرب الكحول، وتنص المادة 179 من قانون العقوبات الإيراني على عقوبة الإعدام الإلزامية لمن يدانون للمرة الثالثة بشرب الكحول، واحتفظت صيغة منقحة من قانون العقوبات، لم تصبح نافذة بعد، بأشد العقوبات قسوة هذه لمن تتكرر إدانتهم بالجرم) ([94])
وجاء في الموقع أن [آن هاريسن] صرحت حول هذا الأمر بقولها: (نناهض عقوبة الإعدام في جميع الأحوال، بيد أن شرب الكحول لا يمكن أن يصنَّف منطقياً بأنه من الجرائم الأشد خطورة، التي تشكل الحد الأدنى للمعايير الدولية التي تجيز عقوبة الإعدام بالنسبة للدول التي ما زالت تطبق العقوبة.. ومن المؤسف أن السلطات الإيرانية لم تستفد من عملية المراجعة الأخيرة لقانون العقوبات كي تجعله يتماشى مع التزاماتها الوطنية حيال حقوق الإنسان وتلغي عقوبتي الجلد والإعدام لمن يتعاطون الكحول)([95])
وهكذا تأسفت هذه المنظمة وغيرها، والتي كانت تغض الطرف عن جرائم الشاه، على المتاجرين بالمخدرات، والذين تحكم القوانين الإيرانية عليهم بالإعدام؛ فقد ورد في الموقع: (كثيراً ما تفرض إيران حكم الإعدام على الجرائم المتعلقة بالمخدرات، ولا سيما على المتّجرين بكميات تزيد على حد معين من المخدرات المختلفة أو العقاقير غير القانونية. وتستمر هذه الطريقة في معالجة المشكلة رغم عدم وجود أدلة واضحة على أن عقوبة الإعدام قد شكلت عامل ردع فعال ضد الجرائم المتعلقة بالمخدرات، وتأتي إيران في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث أعداد أحكام الإعدام التي تنفذ سنوياً، وقد نفذ العديد من أحكام الإعدام الصادرة في 2011، والتي وصل عددها إلى أكثر من 600، حسبما يعتقد، خلف ستار من السرية. وتصدر الأغلبية العظمى من أحكام الإعدام في البلاد على مرتكبي جرائم تتعلق بالمخدرات)
واختتمت آن هاريسن تصريحها بقولها: (يتعين على إيران وقف فرض عقوبة الإعدام على مرتكبي جرائم المخدرات وتعاطي الكحول المزعومة، كخطوة أولى نحو الإلغاء التام لهذه العقوبة)
وهكذا نجد موقعا آخر يدافع عن العقوبات التي تسلطها القوانين الإيرانيين على [الوشم]، ففي مقال بعنوان [تطاردهم شرطة الأخلاق وتعاقبهم أشد العقوبات.. أين يحصل الشباب الإيراني على وشومهم رغم تحريمها؟]([96]) جاء فيه: (الترويج للوشوم ليس أمراً يسيراً في هذا البلد المشهور بشرطته المخصصة للأخلاق، ويقوم عادةً بذلك من خلال عدة حسابات على الشبكات الاجتماعية. ولكنَّ العاقبة قد تكون وخيمة؛ إذ يروي تجربة شخصية مريرة، قائلاً: (في أحد الأيام، وجدت شرطة الأخلاق تقتحم الاستوديو الخاص بي، واقتادوني إلى قسم الشرطة كأنني قاتل أو سارق، ثم تم اتهامي بتهمة مزاولة عمل منافٍ للآداب العامة وتعاليم الجمهورية الإسلامية، وتم الحكم علي بالسجن 10 أشهر)
وهكذا نجد كل حين المواقع الإخبارية تتأسف للعقوبات المشددة التي وردت في قانون العقوبات الاسلامي الإيراني، والمتعلقة بالمحاربة، وتشمل كل من يمارس العنف في المجتمع سواء لغاية السرقة أو غيرها، والتي نصت عليها [المادة 190]، والتي تذكر أن (حدّ المحاربة والفساد في الأرض، أحد الأحكام الأربعة التالية 1. القتل، 2. الاعدام، 3. قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، 4. النفي من البلد)، وتضيف [المادة 191] أن (اختيار أي من الحدود الاربعة المذكورة، هو من صلاحيات القاضي، سواء أكان المحارب قد قتل أو جرح احداً أو سلب ماله أم لم يفعل ذلك)، وجاء في [المادة 195]: (إذا تم صلب المجرم؛ فيجب إبقاؤه ثلاثة أيام على الصليب من دون أن يموت، ولايجوز أكثر من ثلاثة أيام، وإذا مات حينها يمكن إنزاله من الصليب)
مع أن هذه العقوبات منصوص عليها في القرآن الكريم بصيغة قطعية لا تحتمل أي تأويل؛ فقد قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]
وقد كان لتطبيق هذا القانون، أثره الكبير في إحلال الأمن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية مقارنة بالكثير من الدول حتى المتقدمة منها، ولكن مع ذلك نرى المغرضين يدافعون عن الجلاد، وينسون الضحية، وهو ليس ذلك الفرد الذي تعرض للأذى فقط، وإنما المجتمع جميعا.
ونحب أن نذكر هنا بأن الكثير من عقوبات الإعدام التي نص عليها القانون الإيراني مرتبطة بتكرار الجريمة، فقد ورد في [المادة 179] من قانون العقوبات: (من كرّر شرب الخمر وأجري عليه الحد في كل مّرة، يكون جزاؤه الاعدام في المرّة الثالثة)
وورد في [المادة 90]: (إذا زنى رجل أو زنت أمراة عدة مرات وأجري عليهم الحد بعد كل مرّة، يقتل في المرّة الرابعة)
وورد في [المادة 157]: إذا قذف امرئ الأخرين لعدّة مرات، وأجري عليه الحد بعد كل مرة، يقتل في المرّة الرابعة)
وورد في [المادة 201] بعد بيان حدّ السرقة في المرة الأولى والثانية والثالثة: (جزاء السرقة في المرة الرابعة الإعدام، حتى إذا حدثت السرقة داخل السجن)
وسبب ذلك إضافة إلى ما ورد في الأحكام الفقهية حول المسألة، هو أن تكرار الجريمة يدل على تمرد صاحبها على القانون، ونرى مثل هذا في القوانين الغربية؛ فقد ورد في بعض المواقع أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية وأكثر من 25 ولاية، نص قانونها على أنه إذا ارتكبت جريمة من نوع واحد لثلاث مرات، فعاد صاحبها، وارتكبها بعد أن عوقبت عليها، يعتبر بعد المرة الثالثة متمرداً (Outlaw)، فتسلب منه كافة حقوقه، ويخسر حماية القانون، وتسمى الأحكام الصادرة ضد مثل هؤلاء المجرمين Mandatory Sentencing، أي الأحكام الثابتة التي لا تقبل التخفيف والتغيير والعفو، وهي السجن المؤبد بدون عفو أو تخفيف العقوبة، وتصدر مثل هذه الاحكام ضد السياقة في حال السكر، وارتكاب جريمة بسلاح خطر، وبيع المخدرات. وقد سلب القانون الصلاحيات التقليدية التي كان يتمتع بها القضاة في اتخاذ القرارات بشأن هؤلاء المجرمين([97]).
بعد هذا العرض الموجز للمواقف المنتقدة لقوانين العقوبات الإيرانية، والمرتبطة بالاستعمال السيء للحرية، نذكر هنا جوابا مفصلا للخميني يخاطب به جمعيات حقوق الإنسان، وهو بعنوان [خيانة وتآمر أدعياء حقوق الإنسان وإهمال المستضعفين]، وقد ألقاه على أعضاء هيئة التجار الإيرانيين في البدايات الأولى لانتصار الثورة الإسلامية([98]).
وقد بدأ جوابه ببيان السبب في تلك الحملة الشديدة من أدعياء حقوق الإنسان على الدولة الإيرانية الفتية في نفس الوقت الذي يسكتون فيه على جرائم الشاه، بل على جرائم دول الاستكبار العالمي؛ يقول: (من الطبيعي أن أولئك الذين يرون مصالحهم قد تعرضت للخطر، أو مصالح أربابهم سوف يعترضون على هذه الثورة، ويسعون لإخماد هذه النهضة بختلف الوسائل، فتارة بذريعة حقوق الإنسان والاعتراض على الإعدامات التي حصلت في إيران، ويعتبرونها من مصاديق العنف.. إنهم لم يكونوا في إيران حتى يشاهدوا ماذا جرى على إيران طوال أكثر من خمسين عاما، وماذا جرى على شبابنا مؤخراً، ومع ذلك فهم مطلعون.. إنهم يعلمون ماذا فعل الشاه السابق والأسبق في إيران، وما هي الخيانات التي ارتكبها هذان الرجلان في إيران.. وهم لم ينطقوا بكلمة أو اشارة إلى حقوق الإنسان.. إنهم لا يأتون بذكر لحادث الخامس عشر من خرداد، لقد قتلوا حسب ما نقلوا قرابة 15000 شخص.. إن أنصار حقوق الإنسان هؤلاء كأنهم لا يعتبرون هذا لعدد بشراً، أو يرونهم بشرا ولكنهم لايجعلون لهم حقوقاً.. إذا كان هؤلاء بشراً ولهم حقوق، وكان هؤلاء 60000 أو أكثر الذين قتلوا في إيران خلال الأشهر الأخيرة وهم من أفضل شبابنا ومن جميع الفئات، إذا كانت لهم حقوق فإنهم حتى لم يسألوهم ما هذه الأعمال! إننا لم نسمع صوتهم يعترضون)([99])
ثم بين أن ما نصت عليه قوانين الجمهورية الإسلامية من عقوبة المفسدين والظالمين، هو تطبيق لحقوق الإنسان، ورعاية لها، يقول في ذلك: (إننا نقوم بهذا العمل من أجل حقوق الإنسان، وإن هذه الجمعية التي علا صوتها تطالب بحقوق الإنسان، هم أجراء الاستعمار، فأصل هذه الجمعيات التي أُسست في أمريكا، أو في أماكن أخرى تحت عنوان جمعية حقوق الإنسان، جمعية كذا وكذا، وجدت أساساً لتضييع حقوق الإنسان) ([100])
ويقارن بين تلك المواقف التي تدافع عن المجرمين باسم حقوق الإنسان، وفي الوقت تسكت عن إصدار بيانات التشجيب عن الضحايا الذين قتلهم أولئك المجرمون، ويضرب المثل على ذلك بقتل الشيخ مرتضى مطهري، فيقول: (هؤلاء الذين قتلوا الشيخ مطهري، الذي لم يؤذ حتى نملة، إنني أعرف هذا الرجل منذ ما يقرب عشرين عاماً، إنسان بتلك الإنسانية وبتلك السلامة، بذلك الأدب، لماذا قتلوه؟ ما هو ذنب مطهري؟ هل قتل أحداً؟ ماذا فعل؟ أليس هو إنساناً؟! ألم يكن فيلسوفاً وعالماً وفقيهاً، ألم يكن بشراً؟! يقتلون هذا الإنسان بهذا الشكل دون أن يكون له أي ذنب.. إن لديهم الآن قائمة بأسماء الذين يريدون قتلهم. يتصورون أنه بقتل مطهري وأمثال مطهري، سينحبوا لهيب هذه النهضة، وتضيع ثانية حقوق شعبنا، بل أن أدعياء حقوق الإنسان لم يكتبوا حتى كلمة واحدة بخصوص مقتل الشهيد مطهري. ولم يتحدثوا بشيء، إننا لم نسمعهم يتكلمون بشيء، أليس هذا إنساناً؟! لم يعترضوا، لم يتكلموا، لم يستنكروا هذه الجريمة، هل يجهلون ذلك؟ فلماذا إذاً لم ينتقدوا الجماعة التي قامت بذلك؟.. إننا إذا عثرنا الآن على قاتل الشيخ مطهري وعاقبناه، وحكمنا عليه بالقصاص، سيرتفع صوتهم اعتراضاً على ذلك بأنه عنف! أليس هذا عنفاً أن يقتل إنسان دون ذنب؟)([101])
ثم يبين المفارقة العجيبة التي يقع فيها أدعياء حقوق الإنسان حين يسكتون عن مقتل عالم وفيلسوف ومصلح في نفس الوقت الذي يدافعون فيه عن المجرمين، يقول: (نعم، أحياناً يكون الإنسان قد فعل شيئاً، ولكن هذا الإنسان لم يكن لديه عمل غير التعلم والتعليم كان إنساناً محترماً أعرفه منذ قرابة عشرين عاماً ومطلع على أوضاعه وأحواله، وأعرفه بأنه لم يؤذ أحداً. شخص قد أجهد نفسه من أجل هذا الشعب، كان كاتباً، فيلسوفاً، مفكراً. هل يستحق القتل حتى قتلوه؟ أين هي جمعية حقوق الإنسان، لماذا لم تصدر منهم أية كلمة؟ إننا لو عثرنا الآن على القاتل وقتلناه، ستبدأ أقلام (حقوق الإنسان) بالكتابة والدعاية ووصف ذلك بالعنف، وأنه يوجد في إيران عنف. ولا يراعون حقوق الإنسان. أي أناس؟ إنني لا أدري أية تربية تربى عليها هؤلاء، وأية حيوانات هم هؤلاء؟!)([102])
ثم يبين أن العلة التي جعلتهم يقفون هذه المواقف المتناقضة هي نوع التفكير الذي يفكرون به، والفلسفة التي ينطلقون منها، وهي فلسفة مادية، تجعل كل همها منصبا نحو حرب الدين ومواجهته، وتستعمل لذلك كل الذرائع، يقول: (هذا هو وضع العالم المادي، وهذا هو وضع أدعياء حقوق الإنسان الماديين. هذا هو وضع العالم المادي، حيث لا يلاحظ أبناؤه إلّا منافعهم المادية ومنافع أربابهم، وكأنهم غير مطلعين على أي شيء، يغضون أنظارهم عن كل شيء، فإذا رأوا مصالحهم تتعرض للخطر علا صوتهم، وهذه خصوصية التربية المادية، وهذا هو واقع الحكومات القائمة حالياً) ([103])
وفي مقابل ذلك يبين خصوصية موقف الإسلام من حقوق الإنسان، ومدى صدقها وعمقها وموضوعيتها وعقلانيتها؛ فيقول: (خصوصية التربية الإسلامية تتمثل في المعنوية، فلا يصح سجن أحد بدون ذنب، لا يصح نفيه، لا يصح ولا يصح.. الحقوق الإنسانية الإسلامية هي هذه، لا يجوز الظلم، ولا يجوز إضاعة حق المظلوم أيضاً. فلا يجوز ظلم أحد، ولا يجوز غض الطرف عن ظلم الآخرين والقول بأن الظلم قد وقع وانتهى وتم الأمر) ([104])
وكمثال على هذا يبين الفرق بين المعاملة التي كان يقوم بها الشاه مع السجناء، والظلم والتعذيب الذي كان يحيق بهم، مقارنة بحالهم بعد الثورة الإسلامية، تطبيقا للشريعة الإسلامية؛ فقال: (لقد أوصينا أن يتم التعامل حتى مع هؤلاء الاشخاص الذين قاموا بذلك التعذيب وقتلوا الناس بنحو لا توجه لهم حتى كلمة سيئة واحدة في السجون، لقد أعلنت هذا، وأصدرت بياناً حوله.. ففي ظل الحكومة الإسلامية لا يحق للسجانين أن يتركوا السجناء جائعين، لا يحق لهم أن يصفعوه على وجهه، لا يحق لهم أن يعذبوه، لا يحق لهم أن يشتموه، إنما حقه أن يحاكموه، ويعاقبوه بسب جرمه، وبقدر جرمه ليس أكثر من ذلك، هذا هو واقع السجون في ظل الجمهورية الإسلامية التي تضم أمثال هؤلاء الجلادين الذين لو كان أحدنا قد ابتلي ووقع في أيديهم سابقاً كانوا يتعاملون معه بذلك الشكل الفظيع، إن هؤلاء الجلادين موجودون الآن في سجوننا، وقد جاءوا من الخارج وشاهدوا السجون وقالوا بأنها مطابقة للمقاييس الحضارية)([105])
وانطلاقا من هذه كله يصور الغرض من الحدود والعقوبات الشرعية، وأن تطبيقها يحقق مصالح كثيرة، باعتبارها من وسائل تربية المجتمع، وتهذيب سلوكه، يقول: (الحدود الإلهية هي لتربية المجتمع، لا من أجل الانتقام فالقاتل إذا لم يقتل، فإن القتل سيكثر {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، إننا إذا أغلقنا باب القصاص، ولم نعاقب القاتل، فإن القتل سيكثر حينئذ، وتختل حياة الناس، فكل من شاء يقتل من شاء، فالقصاص هو لضمان حياة الناس، إنه تربية لمصلحة المجتمع) ([106])
وهكذا يذكر بأن تطبيق الحدود الشرعية يحمي المجتمع، ويساهم في تنظيفه من كل العناصر الضارة، كما يساهم في تهذيب سلوكه، وتحقق كل متطلبات الأمن التي لا يمكن قيام المجتمعات من دونها، يقول: (إن الحدود الإلهية هي لمصلحة المجتمع؛ فلو أن الفعل الفلاني الذي قُرّر له في الشرع عقوبة معينة لم تجعل له تلك العقوبة، فإنه سيكثر وقوعه؛ فالذي يذهب ويفعل ما يشاء مع زوجة شخص ولم يعاقب على ذلك فإن الفحشاء ستزيد. يجب منع شيوع الفحشاء) ([107])
وقارن بين العقوبات كما قررها الإسلام، وبين العقوبات التي وضعتها القوانين الوضعية؛ فقال: (إنهم يأخذون اللصوص ويودعونهم السجون، وهناك يتعلمون السرقة! يقولون بأنه قد تم فتح درس لتعليم كيفية سرقة الجيوب والأسلوب الأمثل لذلك؟ إنهم لو أخذوا أربعة من اللصوص وعاقبوهم، طبقاً للموازين، فإن السرقة ستنتهي في إيران، ويقضى عليها في العالم. فلو أقيم الحد على أربعة لصوص بالشكل الذي أمر به الشرع وهو الذي لا يرضى بظلم حيوان فضلًا عن الإنسان حيث أمر بإقامة الحد على من يسرق. وما ذلك إلا لأنه يحافظ على المصلحة الإنسانية، وحفظ حقوق الإنسان)([108])
وهكذا الأمر بالنسبة لعقوبة من يتاجرون في المخدرات أو بيع الأسلحة، وغيرها من الآفات الاجتماعية، والذين يعاقبهم القانون الإيراني بالإعدام، يقول: (ثمة مشكلة أخرى تتمثل بالمهربين، وبائعي المخدرات، ومهربي الأسلحة. وهذا أيضاً مرض وبلاء أصيب به هذا الشعب. إن هؤلاء يعتبرون خونة من الدرجة الأولى لهذا البلد. إن المتاجرة بالأفيون وتوزيعه بين الناس، جلب الهروئين وتوزيعه بين شبابنا، سوف يقضي على شعبنا. ليلتفت هؤلاء إلى هذا الأمر ويتخلوا عنه قبل أن يأتيهم العذاب الإلهي، قبل أن يضربهم السوط الإلهي. إنها جناية، تقود شبابنا الشرفاء إلى الهلاك، هذا إفساد للأجيال. وهل أغلقت أبواب العيش حتى يلجأ الإنسان إلى بيع الهروئين؟ ليعمل عملًا آخر! اذهب واعمل عملًا آخر!)([109])
هذا نموذج من أجوبة الخميني عن تلك الطروحات التي تشوه الموقف الإيراني من حقوق الإنسان، والعجيب كما ذكرنا، أن تصدر من المسلمين، ومن كثير من الإسلاميين الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولست أدري كيف يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية مع التخلي عن مثل هذه الأحكام، التي تعتبر جزءا أساسيا لا يمكن إصلاح المجتمع من دون القيام به، حتى لو وقف العالم كله ضده.
ذلك أن العالم الذي يجيز الاستعمار وقتل الملايين، بل
يثني على حقوق الإنسان في دول الاستكبار العالمي لا يصح أن يستمع أحد لإنكاره
وشجبه، وهذا ما فعله الخميني الذي لم يستسلم لكل تلك التنديدات والتشجيبات مراعاة
لمنصبه الفقهي الذي انتخبه على أساسه الشعب الإيراني.
([1]) انظر: نص الخطاب كاملا في: خطاب الانتصار [خطابات وكلمات الخميني التي ألقيت في المناسبات السنوية لذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران]، ص 24
([2]) المرجع السابق، ص21.
([3]) المرجع السابق، ص24.
([4]) المرجع السابق، ص27.
([5]) انظر: الديمقراطية ونقادها، روبرت دال، ترجمة نمير عباس مظفر، ص 517..
([6]) اساس الحكومة الإسلامية كاظم الحائري (ص: 92).
([7]) الكلمات القصار، ص 150.
([8]) المرجع السابق، ص147.
([9]) المرجع السابق، ص148.
([10]) المرجع السابق، ص145.
([11]) المرجع السابق، ص147.
([12]) الحرية الفكرية، الشيخ مرتضى مطهري (ص: 9).
([13]) المرجع السابق، ص 10.
([14]) المرجع السابق، ص 11.
([15]) المرجع السابق، ص 12.
([16]) المرجع السابق، ص 13.
([17]) المرجع السابق، ص 14.
([18]) المرجع السابق، ص 15.
([19]) المرجع السابق، ص 15.
([20]) المرجع السابق، ص 22.
([21]) المرجع السابق، ص 22.
([22]) المرجع السابق، ص 22.
([23]) المرجع السابق، ص 24.
([24]) من الأمثلة على ذلك أن الحكومة المصرية لا تعترف بشرعية الديانة البهائية، وقد جردت الديانة من الاعتراف في العام 1960 و منذ ذلك الوقت أغلقت جميع المؤسسات البهائية، و منعت جميع أنشطتهم الاجتماعية. و قد قضت محكمة ابتدائية بأن الدستور المصري لا يضمن حرية الاعتقاد للبهائيين.
([25]) صحيفة الإمام، ج 1، ص: 210.
([26]) الإمام الخامنئي.. السيرة والمسيرة (ص: 249).
([27]) من حديث في جمع من المعلمات والطالبات في مشهد، بتاريخ 30/9/1979، نقلا عن: الحرية في فكر الإمام الخميني (ص: 34)
([28]) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 370..
([29]) المرجع السابق، ص 370..
([30]) صحيفة الإمام: 10/74.
([31]) من لقاء مع صحيفة اطلاعات، بتاريخ 23/1/ 1979، نقلا عن الحرية في فكر الإمام الخميني (ص: 20).
([32]) الكلمات القصار، ص216.
([33]) المرجع السابق، ص216.
([34]) المرجع السابق، ص216.
([35]) المرجع السابق، ص216.
([36]) المرجع السابق، ص216.
([37]) إيران تنشئ موقعا لتبادل مقاطع الفيديو بدلا من اليوتيوب المحظور، إيمان الزبيدي، 10 ديسمبر 2012.
([38]) أشهر 15 دولة مارست الحجب الكلي أو المؤقت لمواقع التواصل الاجتماعي، محمد فتحى، 4 يونيو,2014، موقع ساسة..
([39]) كيف نجح الخميني وفشل العرب؟، نبيل عودة، موقع ن بوست.
([40]) المرجع السابق.
([41]) الكلمات القصار، ص 145..
([42]) المرجع السابق، ص142.
([43]) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 359..
([44]) انظر: مفهوم الحرية، علي فقيهي، ص5 – 6..
([45]) أمريكا والجمهوريون والخلط بين السياسة والدين، محمد ماضي – واشنطن، 19 نوفمبر، 2006 ، موقع سويسرا بعشر لغات..
([46]) انظر: ما الفرق بين الديمقراطية والجمهورية؟، محمد علاء عيسى، موقع ساسة، 23 سبتمبر، 2014.
([47]) وهي مجموعة قوانين فصل عنصري تم تفعيلها من 1876 حتى 1965).
([48]) انظر: ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة جوادي آملي (ص: 54)
([49]) الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 98).
([50]) المرجع السابق، ص99.
([51]) الحكومة الإسلامية و ولاية الفقيه يزدي (ص: 17).
([52]) لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في ايران باقر الصدر (ص: 3).
([53]) المرجع السابق.
([54]) انظر مقالا بعنوان: ما هي أهم التيارات السياسية الفاعلة في إيران؟، عبد الرحمن ناصر، 12 ماي، 2014، ساسة بوست.
([55]) صحيفة الإمام، ج10، ص: 72.
([56]) المرجع السابق، ج10، ص: 72.
([57]) المرجع السابق، ج10، ص: 73.
([58]) المرجع السابق، ج10، ص: 74.
([59]) المقال موجود في كتاب بعنوان: الحرية قراءة في مرتكزاتها الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ص 164.
([60]) المرجع السابق، ص166 .
([61]) المرجع السابق، ص166 .
([62]) المرجع السابق، ص166 .
([63]) المرجع السابق، ص167 .
([64]) رواه البخاري، 8 /399..
([65]) من حديث في أوساط طبقات الشعب المختلفة بتاريخ 29/ 3/1979، انظر: المرأة في فكر الإمام الخميني (ص: 26).
([66]) منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 371.
([67]) الهجرة والجهاد مطهري (ص: 2).
([68]) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 360 359..
([69]) الكلمات القصار . ص245..
([70]) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 11، ص 399..
([71]) إصلاح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ، (ص: 13)
([72]) بحار الأنوار، المجلسي، ج 44، ص 329..
([73]) الكلمات القصار، ص105..
([74]) المرجع السابق.
([75]) الكلمات القصار، ص104..
([76]) انظر مقالا بعنوان: على إيران إلغاء الإعدامات المتعلقة بالمخدرات، بتاريخ 20 يوليو 2017، ففيه: قالت [هيومن رايتس ووتش] اليوم إن على الحكومة الإيرانية إلغاء جميع عمليات الإعدام المتصلة بجرائم المخدرات..
([77]) انظر هذه المقولات مع المناسبات التي قيلت فيها في: الكلمات القصار، الخامنئي، ص123..
([78]) منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 362 361..
([79]) المرجع السابق.
([80]) المرجع السابق.
([81]) صحيفة الإمام، ج 6 ، ص 23.
([82]) المرجع السابق، ج 6 ، ص 24.
([83]) المرجع السابق، ج 6 ، ص 23.
([84]) المرجع السابق ، ج 6، ص: 22.
([85]) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 4).
([86]) المرجع السابق، ص5.
([87]) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 6).
([88]) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 7).
([89]) المرجع السابق.
([90]) ممنوعات على نساء إيران: الرقص والنرجيلة والدراجات وأشياء أخرى، موقع (العربي الجديد)، 10 أغسطس 2017.
([91]) المرجع السابق.
([92]) صحيفة الإمام، ج10، ص: 79.
([93]) ثمان جرائم تستوجب الإعدام فى إيران والبراءة في أمريكا، دنيا الوطن ـ رام الله ، 25/07/2015.
([94]) إيران: ينبغي تخفيف أحكام الإعدام الصادرة بحق متعاطي الكحول، منظمة العفو الدولية، 29 حزيران / يونيو 2012، موقع منظمة العفو الدولية..
([95]) المرجع السابق.
([96]) تطاردهم شرطة الأخلاق وتعاقبهم أشد العقوبات.. أين يحصل الشباب الإيراني على وشومهم رغم تحريمها؟، شيماء محمد ، عربي بوست، 13/04/2018.
([97]) انظر مقالا بعنوان: الجرائم الموجبة لعقوبة الاعدام في القانون الايراني وقانون العقوبات الاسلامي.
([98]) انظر: صحيفة الإمام، ج7، ص: 230، فما بعدها.
([99]) المرجع السابق، ج7، ص: 230.
([100]) المرجع السابق، ج7، ص: 230.
([101]) المرجع السابق: ج7 ، ص 235..
([102]) المرجع السابق: ج7 ، ص 235..
([103]) المرجع السابق: ج7 ، ص 236..
([104]) المرجع السابق: ج7 ، ص 236..
([105]) المرجع السابق، ج7، ص: 233.
([106]) المرجع السابق، ج7، ص: 235.
([107]) المرجع السابق، ج7، ص: 236.
([108]) المرجع السابق، ج7، ص: 236.
([109]) المرجع السابق، ج7، ص: 237.