هيكل.. والعقل الاستراتيجي المغيب

هيكل.. والعقل الاستراتيجي المغيب

من حماقات القائمين على الربيع العربي، وخصوصا ذوي التوجه الإسلامي منهم، تغييب العقول الاستراتيجية الكبيرة التي كان يمكنهم، لو تقربوا منها، واستفادوا من خبرتها، ومعرفتها بالواقع السياسي الدولي، والقوى التي تتحكم فيه، ومعرفتهم كذلك بالواقع المحلي، والأقطاب التي تسيره، لحموا أنفسهم من كل أنواع الفشل التي واجهت مشاريعهم، وفي أقصر مدة.

ومن تلك العقول الكبيرة عقل [محمد حسنين هيكل]، ذلك الذي طرد من كل الجهات، بسبب تصريحاته المضادة لما يسمى بالربيع العربي؛ فقد كان يدرك تماما أن هذا ربيع فاشل، لعدم تحققه بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الثورات، وصرح بذلك في وسائل الإعلام الكثيرة التي كانت تتاح له حينها.

لكن التفكير الرغبوي للجهات التي كانت ممتلئة بالزهو والغرور، لم تتركه ليصف لها الخريف الذي ينتظرها عن قريب، بل راحت تطرده وتشوهه وتتعامل معه كما تتعامل مع المجرمين، في نفس الوقت الذي تقرب من يزين لها أعمالها، ويثني عليها، حتى لو كان كاذبا في كل ذلك، من أمثال عزمي بشارة، وغيره من المرتزقة.

وأنا أجزم أن الإسلاميين المصريين لو تقربوا من هيكل، واستعانوا بخبرته الطويلة مع أنظمة الحكم المختلفة التي مرت بمصر، لما حصل لهم ما حصل من ثورة مضادة.. ولما حولهم من يتصورون أنهم حلفاؤهم ـ كالسعودية وأخواتها ـ إلى جماعة إرهابية، ولما أودعوا السجون، ولما صودرت ثرواتهم.. لكنهم صموا آذانهم عن سماع توجيهاته وتحذيراته، وتصوروه بصورة الأيديولوجي المغرض، لا بصورة الاستراتيجي الواقعي الناصح.

وأجزم كذلك لو أن الإسلاميين السوريين الذين كانوا مشعل نار الفتنة في سورية، وحطب وقودها، استعانوا بخبرته، واستفادوا منهما لجنبوا بلدهم كل فتنة، ولبقيت سورية بتلك الصورة الجميلة التي كانت عليها، وأمكنهم معها أن ينالوا من الحظوظ السياسية وغيرها، ما لم ينالوه الآن، بعد أن خربوا الديار، وصاروا مطية لكل راكب.

لكن الإسلاميين لم يفعلوا هذا ولا ذاك، لأنهم لا يحبون إلا من يلمع صورهم، ويمدحهم، ويثني عليهم بالذكاء الحاد، حتى لو فشلوا عشرين مرة، أو مائة مرة.. فهم يتصورون أن نقدهم نقد للإسلام، وأنهم الذي يوجهون، لا الذين يُوجهون.

وعندما نقارن موقفهم هذا بموقف الثورة الإسلامية في إيران، نجد الأمر معاكسا تماما، فإيران في ذلك الحين، استفادت من كل العقول، وقربتها، وجعلتها صوتا من أصواتها، حتى أن هيكل ـ وقد كان حينها لا يزال صغير السن، وأقل خبرة ـ وظف من هذه الثورة، وبقي متأثرا بها إلى آخر حياته، يشيد بها كل حين، بسبب قدرتها على اجتذابه والتأثير فيه.

وقد كتب عنها كتابه المعروف [مدافع آية الله]، بعد أن أجرى حوارات كثيرة مع قيادات الثورة، ومن بينهم الإمام الخميني نفسه.. فهل أتاح له مرسي أو غيره من الإسلاميين الفرصة ليجلس معهم مثلما جلس مع الخميني أو غيره، مع كونه ابن بلدهم، وكان له من العلاقة مع الرؤساء السابقين ما يجعله عارفا بالبلد وتفاصيلها.. هم لم يفعلوا ذلك، لأنهم كانوا لا يحبون إلا من يمجدهم، ويلقي فيهم قصائد المدح، لا من يخبرهم بحقيقة الحال، وما ينتظرهم في المستقبل القريب.

وهكذا ـ كما يذكر عن نفسه ـ كلما ذهب إلى لبنان استقبل بحفاوة من طرف حزب الله، وجلس مع أمينه العام الساعات الطوال، وهو ما يدل على أن من أسرار قوة ذلك الحزب استفادته من كل الخبرات والطاقات والعقول بغض النظر عن توجهها الديني أو السياسي.

والعجيب أن الجزيرة ـ قناة الفتنة المعروفة ـ كانت تخصص حصة له، وتسميها باسمها، وكان لها جمهورها العريض، ولكنه بمجرد أن خالفها في دورها القذر، وعرفت أن له القدرة على توعية الشعوب العربية حتى لا تقع في فخ الفتنة، طردته واستبدلت به من رأت فيهم القدرة على ذلك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *