محمد الغزالي.. والربيع العربي

محمد الغزالي.. والربيع العربي

يصدح الكثير باسم الشيخ محمد الغزالي، ويثنون عليه، ويتصورون أنهم يحملون همومه الدعوية، وتوجهه الفكري، ومشروعه الحضاري، بينما هم أبعد الناس عنه، وأكثرهم حربا له، وقد كان الربيع العربي هو الابتلاء الإلهي الذي كشف زيف تلك التلمذة، وكذب تلك الدعاوى.

فالشيخ محمد الغزالي الذي لم يكتب له أن يعيش هذا الربيع المشؤوم، كان قد حذر منه بصنوف من التحذيرات، وكأنه كان يراه بفكره الثاقب وبصيرته النافذة.

ولذلك وضع صمام الأمن لمواجهته، ومواجهة ما يحمله من تقسيم للأمة ومحاربة لقيمها وأخلاقها، وإشاعة للصراع بينها.

فقد كان يتحدث كثيرا عن التطرف والتشدد، وجميع أصناف الدجل الديني، ويحذر منها، بل يعتبرها غباء وقلة عقل، ويعتبر أصحابها أدوات يمكن لأي مخادع ذكي أن يستعملها في أي حرب يريدها، وقد حصل ذلك بالفعل؛ فقد كان أولئك المتطرفون الذين حذر منهم الغزالي، وحذروا منه وكفروه، هم الأدوات التي استعملتها قوى الشر في ذلك الربيع المشؤوم لبث الفتنة والصراع.. فهم لا عقول لهم يفكرون بها، بل هم يفكرون بما يمليه عليهم مشايخ الفتنة، وشبكاتها الإعلامية.

وكان يتحدث عن المنهج السلمي في الدعوة والإصلاح، ويعتبر العنف سلوكا متنافيا مع الإسلام، وقد كان الأساس الذي قام عليه الربيع العربي المزيف هو اعتبار العنف جهادا، واعتبار الإرهابيين مظلومين ومضطهدين ودعاة حقوق الإنسان.

وكان يتحدث عن الارتباط الوثيق بين مؤسسات الأمة جميعا لتؤدي دورها الإصلاحي، وكان الربيع العربي هو المقص الذي قطع كل العلاقات، والفأس التي هوت على كل المؤسسات.

وكان يدعو إلى الصلة الطيبة بين الحاكم والمحكوم، ليتعاون الجميع في خدمة مصالح الأمة، وكانت له لأجل ذلك علاقة طيبة مع الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد، وكان يدعو أبناء الحركة الإسلامية إلى التزام الهدوء والأدب في التعامل معه ومع غيره.. لكن الحركة الإسلامية رفضت توجيهاته في حياته قبل موته، وكانت تنادي في الشوارع بعكس ما كان يدعو إليه، وقد استثمر دعاة الفتنة ذلك التوجه ليبدأ الصراع في الربيع العربي بالصراع مع الحاكم، ثم يمتد لجميع مؤسسات الدولة.

أما ثالثة الأثافي، وعمود الخيمة، وهو الوحدة الإسلامية، التي انطلق الربيع العربي لحربها، والتفريق بين المسلمين وإشاعة الطائفية بينهم؛ فقد كان الغزالي من أكبر الدعاة إلى الوحدة بين طوائف المسلمين جميعا، وخصوصا بين السنة والشيعة، باعتبارهما أخوان في الإسلام، ولا فرق بينهما إلا في كون كل واحد منهما له تصوره الخاص للإسلام.. وكان يرد على الكثير من الشبهات التي يشيعها المغرضون في ذلك، ومن ذلك قوله: (إنَّ الشيعة يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويرون شرف علي في انتمائه الى هذا الرسول، وفي استمساكه بسنته، وهم كسائر المسلمين، لا يرون بشراً في الأولين ولا في الآخرين أعظم من الصادق الأمين، ولا أحق منه بالاتباع، فكيف ينسب لهم هذا الهذر؟ الواقع أن الذين يرغبون فى تقسيم الأمة طوائف متعادية لما لم يجدوا لهذا التقسيم سببا معقولا لجأوا إلى افتعال أسباب الفرقة، فاتسع لهم ميدان الكذب حين ضاق ميدان الصدق، لست أنفى أن هناك خلافات فقهية ونظرية بين الشيعة والسنة، بعضها قريب الغور وبعضها بعيد الغور، بيد أن هذه الخلافات لا تستلزم معشار الجفاء الذى وقع بين الفريقين، وقد نشب خلاف فقهى ونظرى بين مذاهب السنة نفسها بل بين أتباع المذهب الواحد منها، ومع ذلك فقد حال العقلاء دون تحول هذا الخلاف إلى خصام بارد أو ساخن)([1])

وقال في موضع آخر داعيا إلى ما دعا إليه الشيخ محمود شلتوت من إتاحة الحرية الدينية بين المسلمين ليختار كل مسلما ما يراه مرضيا له عند ربه: (إن السلف والخلف وأهل السنة والشيعة والمتصوفة والمتفلسفة كلهم يرى أنه يخدم الإسلام ويناصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويرفع رايته، ومن الصعب إقناع الحرفيين من أهل النص بأن مذهب العقليين أولى بالحق وكذلك العكس، ومن الصعب إقناع العاطفيين من أصحاب القلوب أن مذهب أهل الفقه أدق وأجدر بالاستمساك، وكذلك العكس، ومن الصعب إقناع الشيعة الذائبين فى محبة آل البيت أن النظام الجمهورى فى اختيار الإمام وعزله أولى من الالتفاف حول قريب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تضفى عليه العصمة، وكذلك العكس، ونحن نرفض فى التعليق على مذاهب أولئك جميعا قول الشاعر: وكل يدعى وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا كما نرفض اعتبار الحق سائلا يتلون مع كل إناء، وأنه ليست له حدود قائمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها)([2])

وصرح في موقف آخر تصريحا لا يقل عن تصريح محمود شلتوت، فقال: (ولقد رأيت أن أقوم بعمل إيجابي حاسم سدا لهذه الفجوة التي صنعتها الأوهام، فرأيت أن تتولى وزارة الأوقاف ضم المذهب الفقهي للشيعة الإمامية إلى فقه المذاهب الأربعة، وستتولى إدارة الثقافة تقديم أبواب العبادات والمعاملات فى هذا الفقه الإسلامي لمجتهدين من إخواننا الشيعة، وسيرى أولو الألباب عند مطالعة هذه الجهود العلمية أن الشبه قريب بين ما ألفنا من قراءات فقهية، وبين ما باعدتنا عنه الأحداث السيئة)([3])

ومن هذا الباب أيد فتوى الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر المشهورة، والتي نص فيها على أن (مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر المذاهب، فينبغي للمسلمين ان يعرفوا ذلك وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة)، وكان يذكرها كثيرا في دروسه، ومن تعليقاته عليها قوله: (واعتقد ان فتوى الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت، قطعت شوطاً واسعاً في هذا السبيل، واستئناف لجهد المخلصين من أهل السلطة وأهل العلم جميعاً، وتكذيب لما يتوقعه المستشرقون، من أن الأحقاد سوف تأكل الأمة، قبل ان تلتقي صفوفها تحت راية واحدة… وهذه الفتوى في نظري، بداية الطريق وأول العمل)([4])

فهل يمكن لأحد بعد هذه النصوص والاقتباسات من كلام الشيخ محمد الغزالي أن يزعم أنه تلميذ هذا الشيخ، أو يحمل همومه ومشروعه، وهو في نفس الوقت يحمل المعول والفأس وكل أدوات الهدم ليحارب بها جميع مشاريع الشيخ، ويواجه بها كل دعواته؟


([1]) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، دار نهضة مصر، الطبعة : الأولى، ص 221.

([2]) المرجع السابق، ص173.

([3]) كيف نفهم الإسلام، محمد الغزالي، دار نهضة مصر، الطبعة الأولى، ص118.

([4]) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، ص257.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *