لمن يريد أن يغادر القطيع..

لمن يريد أن يغادر القطيع..

من أخطر ما نصادفه في الواقع من عقول ما يمكن أن يطلق عليه [عقل القطيع]، وهو عقل يعتبر نفسه، وكأنه في برلمان، أو في أي مجلس يعتمد طريقة التصويت.. فحيثما رأى أصواتا أكثر رفع يده، وسارع إلى الاقتناع من غير تمحيص، ولا بحث عن دليل، ذلك أن الدليل الكمي عنده مقدم على الدليل الكيفي.

وقد يكون لهذا النوع من التفكير حجة منطقية أقنع بها عقله الباطن، وهي أن الحق مع الجماعة، وكل صوت خلافها نشاز وشذوذ.. وأن الكثرة تغلب الحق كما تغلب الشجاعة.. وأن العقول كلما كثرت، كلما ازدادت نسبة صحتها.

وقد يكون له أيضا أسباب نفسية، ذلك أن هذا العقل جبان، لا يستطيع تحمل نتائج الخروج عن القطيع، فهو يخاف الذئاب أن تلتهمه، ويخاف من القطيع أن يهجوه أو يهجره.

أو أنه عقل كسول، يكتفي بتفكير غيره عن تفكيره، فما حاجته للاجتهاد في مسألة قد بذل غيره وسعه فيها.. فما عليه إلا أن يسير خلفه، ليجني ما جنى من دون جهد ولا عناء ولا تعب.

أو أنه عقل عاطفي امتلأ محبة وعشقا وهياما لرأس القطيع، فراح يذبح عقله، ويقدمه قربانا لقلبه.

وكل هذه الأسباب لا تعفي صاحبها من نتائج تفكيره الذي لم يستعمله.. فالموازين الإلهية لا تعفي صاحب هذا العقل من المسؤولية، بل تضعه في صف واحد مع رأس القطيع، كما قال تعالى مشيرا إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم.. ومنها قوله تعالى في بيان تبرير القطيع لأسباب الضلال التي تسبب فيها رأسه: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} [الأحزاب: 67، 68]

والسادة والكبراء المذكورون في الآية الكريمة، لا يقصد بهم الحكام فقط، بل يقصد بهم، وبدرجة أكبر العلماء والدعاة والوعاظ الذين اتخذهم الناس وسائط للهداية، من دون أن يفكروا في مدى سلامة ما يطرحونه، ولكنهم اتبعوهم تبعية عمياء.

ويذكر الله تعالى مشهدا آخر للقطيع وهو يلوم رأسه الذي زج به في تلك المهالك: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } [إبراهيم: 21]

وهذا النص يشير إلى أن القطيع، حتى وهو في تلك المواطن الصعبة، وبعد أن مر بما مر به من أهوال لا تزال له بعض الثقة في الرؤوس التي اتبعها، ولهذا راح يستجديها أن تنقذه.

وتشير أيضا إلى أن رؤوس القطيع لا تزال تمارس دورها في الدجل والكذب على قطيعها، فبدل أن تنسب ضلالها لنفسها راح تنسبه لله، وتتهم الله به.

وبناء على هذا وردت التحذيرات الكثيرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تحول الإنسان المكرم الذي آتاه الله العلم والعقل والحكمة إلى مجرد ذنب بهيمة، وعقل معطل، فقال: (لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا)

وعلى هديه صلى الله عليه وآله وسلم سار ورثته من الأئمة والأولياء والصالحين، وقد قال الإمام علي في نصيحته لكميل: (يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق… أفٍ لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن افتتن به وإن الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه)

وقال ابن مسعود: (لا يتبعن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)

ولذلك تعلمنا النصوص المقدسة أن الحق ليس مع الكثرة، ولا مع الجماهير، بل الحق دائما مع القلة المستضعفة المحتقرة، وقد قال تعالى: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام: 116]

وذكر قلة المؤمنين الحقيقيين، فقال:{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } [هود: 17]

وهكذا أخبر أن { أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وأن { أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } [البقرة: 243]، وأن { أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } [غافر: 59]

ولهذا، فإن على من يريد النجاة أن يبدأ بإخراج عقله من قطيع العقول، ليبحث في الحقيقة بعيدا عن كل تأثيرات الأعداد، وحينها ستتنزل عليه هداية الله إن كان صادقا ومخلصا وله القدرة على التضحية.. فلا يصل إلى الحقيقة إلا المضحون بأنفسهم في سبيلها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *