لماذا فشلت ثورات الربيع العربي؟

لماذا فشلت ثورات الربيع العربي؟

هذا سؤال وجيه يحتاج كل عاقل للإجابة الهادئة والعقلانية عليه، ليخرج من تلك السطحية والبساطة التي يجيب بها الكثير من الإسلاميين الذين ركبوا موجة هذه الثورات، والذين يختصرون الجواب عليه في الشماعة التي تعودوا أن ينسبوا كل فشلهم إليها، وهي الطغاة والمستبدين والظلمة.

وأول جواب على هذا السؤال، هو ببساطة: هذه الثورات لم تكن ثورات حقيقية.. ولو كانت ثورات حقيقية لما فشلت.. ولأدت أغراضها بدقة.. فيستحيل على الثورة المستجمعة لشروطها أن تفشل.

والوصف الحقيقي لها هو ما وصفتها به وزيرة الخارجية الأميركية [كونداليزا رايس] عام 2005، في حديثها مع جريدة [واشنطن بوست الأميركية]، حيث أذاعت حينها عن نية أمريكا بنشر الديمقراطية بالعالم العربي والبدأ بتشكيل مايُعرف بـ [الشرق الأوسط الجديد] عبر نشر [الفوضى الخلاقة]

فهذا هو المصطلح الحقيقي لتلك الثورات المخطط لها سلفا، فهي فوضى بكل الاعتبارات، وليس لها من اسم الثورة شيء، بل هي والثورة خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا.

فأول شروط الثورة وجود قيادة روحية موحدة ذات مقبولية شعبية واسعة، بحيث يمكنها أن تملأ الفراغ الذي يحتاجه النظام الجديد.. لأنه لا نظام من دون زعيم له حظ كبيرة من المقبولية.. وهذا أخطر شرط افتقدته هذه الثورات العربية، أو الفوضى العربية، فقد ركبها الجميع، وكان الكل يتصور أنه صاحبها.. ولهذا بمجرد أن لاحت لهم بعض المكاسب راحوا يتصارعون فيما بينهم، من أجل الكعكعة التي لم يحصلوا عليها.

وثاني شروط الثورة وجود مرجعية فكرية واضحة، ومشروع بديل واضح.. وهو مبني على ما سبق من وحدة القيادة.. والفوضى العربية لم يكن لها أي مشروع، لأنه لم يقم بتحريكها فلاسفة ولا مفكرون.. وإنما قام به غوغائيون وفوضويون، وكان شعار مشروعهم نفسه شعارا فوضويا.. [الشعب يريد إسقاط النظام]، فهذا الشعار لا يحمل أي مضمون فكري، ولا أي بديل حقيقي.. هو مجرد دعوة للفوضى، لأنه إذا سقط النظام، فستحل بدله الفوضى.

وكان من شعاراته [الحرية]، وهو شعار مطاط يفهمه كل شخص بما يحلو له، فالإسلامي يفهمه على أنه يتيح له أن يقيم الدولة الإسلامية التي يحلم بها.. والليبرالي يحلم بأنه سيتيح له المزيد من الحريات، ويرفع الكثير من الكبت.. بل حتى المنحرفون يفهمون منه أنه يتيح لهم بناء الكثير من المراقص ودور اللهو والحانات، وربما يتصور بعضهم أنه ستسورد لهم المخدرات، وما يرضيهم من المغريات.

لذلك كان ذلك الشعار قنبلة موقوتة، فالدولة القوية تبنى على المسؤولية والحزم والعدالة، لا على الحرية الفوضوية.

وهكذا لم تتوفر لكل تلك الثورات ما يسندها من الحاضنة الشعبية الحقيقية.. فهي حركات مفرقة وجدت إعلاما يضخمها، وكانت تفتقر لكل قواعد التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.. ولهذا وقع التخوين بينها، وتحولت في فترة قصيرة إلى فوضى حقيقية، لا يستطيع أحد لم شملها.

والأخطر من ذلك كله هو اعتماد هذه الثورات الوهمية على القوى الخارجية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه [خيانة عظمى]، فالوطني الحقيقي يرضى بالمستبد في بلده، ومن أهل بلده، ولا يرضى بالمستعمر الغاشم الظالم.. ولذلك كان المستفيد الأكبر من تلك الثورات قوى الشر العالمي التي راحت تجني الكثير من الأرباح من الأطراف جميعا.

ولو أن الإسلاميين الذين كان لهم النصيب الأوفر في رعاية تلك الثورات، وتحريكها، والاستفادة منها، قرأوا قصة موسى عليه السلام، وكيف خرج قومه بواسطته من نير الاستبداد والاستعباد، لعرفوا كيف تدار الثورات، وكيف تنجح، ولم يستعجلوا في ركوب الموجات التي لا قرار لها.

فأول شروط الثورة، وهو القيادة الروحية، تمثلت في موسى عليه السلام، الذي هيئ تهيئة خاصة ليكون الزعيم الملهم الذي ينقذ قومه.. وثانيهما.. المرجعية الفكرية، والمشروع البديل، والذي كان يحمله موسى عليه السلام، وهو مشروع إلهي مقدس..

وثالثها وهو مهم جدا، هو تلك الحركة الهادئة التي تمثلت في ذلك الحوار اللين الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون، وهو ما افتقرت إليه الثورات التي كان ترفض كل أنواع الحوار، وتعتمد القسوة والشدة لا اللين واللطف.

ورابعها هو الحجة القوية، والبرهان القوي الذي تمثل في عصا موسى عليه السلام.. وكان في إمكان الإسلاميين أن يحصلوا على مثل تلك العصا لو أنهم تمسكوا بالدين الحقيقي، وكانوا نماذج صالحة له.. حتى تنهار جميع العصي بين أيدهم.

وخامسها هو وجود الاستبداد الحقيقي المتمثل في فرعون، والكثير من الثورات، وخاصة ما يطلق عليها [الثورة السورية]، لم يكن فيها أي فرعون، بل كان الفرعون فيها هم الثوار أنفسهم، لأنهم دُفعوا من طرف قوى الشر، لإحداث الفوضى في بلد كان ينعم بنظام هو أفضل الأنظمة العربية في مواقفه وعدله ورعايته لحقوق الإنسان.

هذه هي أسباب فشل الثورات العربية، ويمكن اختصارها بكلمة واحدة.. وهي افتقارها إلى المحرك والزعيم والقيادة الروحية ذات النظرة البعيدة، والفكر الاستراتيجي، والمشروع البديل.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *