عمرو خالد.. والتجارة الدينية

من الشخصيات التي ابتليت بها الأمة بعد أن أعرضت عن العلماء المحققين، والمشايخ المربين، والحكماء الناصحين شخصية [عمرو خالد]، الذي تاجر في الوعي الشعبوي الإسلامي فترة طويلة، لا ببضاعة من علم واسع، أو تحقيق دقيق، أو روحانية سامية، وإنما بقدرة عجيبة على التمثيل جعلت من جمهوره يتعلم الدين المزيف في قالب لا يختلف كثيرا عن قوالب المسلسلات المصرية.
ولا أريد أن أتحدث هنا عن تلك الصورة المشوهة التي كان يصور بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي أنزلته في أذهان العامة من منزلته الروحانية السامية إلى صورة ممتلئة بالتشويه، ليس هنا مجال ذكرها.
ولا أريد كذلك أن أتحدث عن عدم تخصصه في العلم الديني.. فهو خريج كلية التجارة من جامعة القاهرة عام 1988، ثم عمل بعدها بأحد مكاتب المحاسبة لمدة سبع سنوات، ثم افتتح مكتب محاسبة خاصا به في القاهرة.. لكنه ترك ذلك كله بعد أن رأى أن التجارة الدينية أكثر فائدة من تلك التجارة.. ولذلك ـ بعد أن رأى إقبال الناس ـ حصل هكذا فجأة، ومن غير دراسات سابقة ـ على دبلوم الدراسات الإسلامية من المعهد العالي للدراسات الإسلامية بميت عقبة (الجيزة)، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من جامعة ويلز ببريطانيا عام 2010، مع العلم أن الكثير من طلبة الأزهر، والذين يبدؤون دراستهم الشرعية فيه من صغرهم الباكر، إلى أن يشتعل الشيب في رؤوسهم لا ينالون مثل هذه الشهادات العالية.
ولا أريد كذلك أن أتحدث عن هوايته للمناصب، فهو مثل جميع التجار الدينيين من هواة تعديد المناصب.. فلذلك رأس في شبابه اتحاد طلاب كلية التجارة بجامعة القاهرة 1988.. ثم كان نائب رئيس اتحاد كليات جامعة القاهرة 1988.. ثم كان عضو فريق الناشئين بالنادي الأهلي المصري 1985.. ثم أسس حزبا سياسيا، صار هو رئيسه بالطبع.. وأسس قبله وبعده جمعيات أخرى.. كان هو رئيسها دائما.
ولا أريد أن أتحدث عما حصل له بعد أن احتضنه الإعلام، وحظي بتلك الشهرة الكبيرة التي كان الصالحون يخافون منها، بل يجنحون إلى العزلة خشية أن يكون حظهم من دينهم هو ذلك الثناء الذي ينالونه.. حيث لم يفعل عمرو ذلك.. وإنما استثمر الفرصة تجاريا، حتى ذكرت مجلة [فوربز العربية] أن صافي دخل عمرو خالد في عام 2007 وحدها بلغ مليونين ونصف مليون دولار.
وقد عبر بعض المقربين منه العارفين به ذلك التهافت على المال بعد أن نال كل تلك الشهرة، فقال: (عمرو خالد منذ أصبح داعية يرفض أن يعطي أي درس ديني بشكل مجاني، حتى لو كان ذلك في المسج.. ويشترط من أي جهة توجّه له دعوة لإعطاء محاضرة الحجز له على درجة رجال الأعمال أو الدرجة الأولى.. كما أنه لا يقبل الإقامة بفندق أقل من خمس نجوم.. حتى لو كان الطرف الداعي جهة خيرية، أو جمعية لا تستطيع تحمّل تكاليف هذه الشروط)([1])
لا أريد أن أتحدث عن هذا جميعا، وإنما أريد أن أتحدث عن ولوغه في الدم السوري، فقد هيئ تهيئة خاصة مثله مثل سائر القيادات الاجتماعية، ليكون له دور كبير في إثارة الفتن، والتحريض عليها.
مع أنه كان قادرا، لو كان له العلم الكافي، والروحانية الصادقة، أن يستثمر تلك الشهرة الكبيرة التي نالها، والسمعة العظيمة التي حصل عليها في الدعوة إلى التهدئة والحوار واستعمال الحكمة، خاصة وهو يعلم أن الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي كان موقفه مختلفا عن ذلك الموقف الذي تبنته الحركات الإسلامية، وتبنته معها الرجعية العربية بعمائمها المختلفة.
لكنه لم يفعل، بل راح يرسل رسالة للشيخ البوطي ينصحه فيها بأن ينقلب على بلده، ويتحول إلى داعية من دعاة الفتنة، مع أنه يشهد على نفسه أنه تتلمذ على كتابه [فقه السيرة]، وأن الملايين من المسلمين تتلمذوا على يديه.. ولكنه مع ذلك راح ينصحه.. ويحاول أن يستجره بما تعود أن يستجر به عوام الناس الذين لا يحبون إلا من يخرج دموعهم من مآقيهم لا من يخرج الجهل والخرافة مع عقولهم.
ولم يكتف بذلك، بل كان يبث حصصا خاصا بسورية، يدعو فيها إلى الفتنة، ويصور فيها الإرهابيين، كما كان يصور غزوة بدر وأحد والخندق.. ولم يكلف نفسه يوما ـ مع الثروة التي أتيحت له ـ بأن يذهب إلى سورية، ويسمع من علمائها، بل قد يتاح له اللقاء حتى مع رئيسها، لم يفعل ذلك كله، لأنه كان حريصا على سمعته وشهرته، وقد رأى كيف سقط كل من لم يقع في فخ الفتنة سقوطا حرا.. وهو لا يريد أن يسقط من عيون جماهيره سقوطا حرا.
وليت موقفه مع سورية ونظامها طبقه مع غيرها، إذن لهان الأمر.. بل هو على العكس من ذلك تماما كان يتحرك حيث تتحرك الكاميرات، ويستجيب لكل ما يطلبه جمهوره، لأنه لا يمكن لتاجر أن يبيع بضائعه قبل أن يكسب زبائنه.
وزبائنه للأسف هي هذه الأمة التي أعرضت عن أهل العلم والحكمة فيها، واشتغلت بمن يلبي أهواءها، لا تسمع للمعاني، ولا للحقائق، وإنما تنظر لجمال الصوت، وحركات الجسد، والقدرات التمثيلية، ولذلك أصبحت فلما مرعبا ممتلئا بالآلام..
ومن العجيب أنه مع وجود كبار العلماء والحكماء في الأمة إلا أن عمرو خالد نال من بينهم جميعا قصب السبق في أشهر الشخصيات العالمية، حيث اعتبرته مجلة تايم الأمريكية أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم عام 2007، وقد حضر عمرو خالد ـ طبعا ـ حفل التكريم الذي يضم المائة شخصية التي تم اختيارها لذلك العام، وألقى هناك كلمة قصيرة.
وبعد أن أدى أدواره الكثيرة في إثارة الفتنة، وتشويه الدين راح يمارس تجارة أخرى، لعلها لن تقل عمن سبقها من أنواع التجارة.. فقد عرض شريطا إعلانيا على صفحته التي يتابعها 29 مليوناً، ظهر فيه في إعلان رمضاني لشركة دواجن مصرية – سعودية إلى جانب الطاهية المصرية آسيا عثمان؛ حيث عمد إلى ربط صحة الصيام والتقرب إلى الله بتناول الدجاج الذي روج له في الإعلان قائلاً: (لن ترتقي الروح إلا لما جسدك وبطنك يبقوا صح.. وعشان هتجرب مع وصفات آسيا ارتقاءك لربنا في قيام الليل بعد الفطار وفي التراويح أحلى)
ولا زالت أشكال أخرى للتجارة.. ولا زال
الكثير من التجار يظهرون كل يوم، ليمارسوا أدوارهم في هذه الأمة التي لا تسلم
نفسها إلا لمن يخدعها، ويتلاعب بعواطفها، ويشتري منها عقولها بحفنة من الدموع.
([1]) انظر مقالا بعنوان: عمرو خالد.. السقوط إلى الهاوية، محمد الصنهاوي، موقع المصيدة.