سورية.. والبوصلة الأمريكية

كما نعرف جميعا، فإن البوصلة التي لا يمكن الاستغناء عنها أبدا في معرفة الاتجاهات، ليست قادرة في ذاتها على تحديد كل الاتجاهات، بل لها القدرة فقط على الإشارة إلى الاتجاه الشمالي للأرض.. ومن خلال ذلك الاتجاه يستطيع الملاحون وغيرهم التعرف على سائر الاتجاهات، وبدقة عالية جدا.
وهكذا الأمر بالنسبة لأمريكا التي يمكن اعتبارها بوصلة للشر، فحيث حلت أو رحلت كان الشر معها مصاحبا وملازما ورفيقا.
ولذلك كان على الذي أعجزه عقله عن تحديد الموقف المناسب في أي قضية وقع فيها الخلاف أن يرجع للموقف الأمريكي، ومن خلاله يبني موقفه.. وليس عليه أن يستثني، فقد يكون ذلك الاستثناء مصيدة للوقوع في حبال شرها.. والذي يستثني في مثل هذا يكون كالذي يتصور أن الشيطان يمكن أن يأمره بالخير، ولأجل الخير.. وليست أمريكا سوى شيطان من الشياطين.. بل شيطان الأكبر.
لكن الإسلاميين الذين يفعّلون عقولهم متى شاءوا ويعطّلونها متى شاءوا راحوا يقعون في فخاخ كيدها؛ فبعد أن كانوا ينادون كل حين بمقاطعة البضائع الأمريكية نتيجة موقفها الداعم والمؤيد للكيان الصهيوني، بالإضافة إلى جرائمها الكثيرة في أفغانستان والصومال والعراق وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، توهموا فجأة، ومن غير مقدمات أن البوصلة الأمريكية لم تعد بوصلة شريرة عندما تعاملت مع سورية بمنطق العدوانية والحرب والكراهية، واستعملت كل الوسائل لتركيعها؛ وعندما وجدت نفسها عاجزة، راحت لآبار بترولها تستولي عليها لتذيق الشعب السوري الجوع بعد أن لم تستطع أن تتحكم فيه كما تحكمت في سائر الشعوب.
ولم يكتف الإسلاميون بذلك التوهم، بل راحوا يؤيدون أمريكا في ضرباتها المختلفة على المراكز السورية الحساسة، بل كانوا يطلبون منها أن تمارس قتلا أكثر، ودمارا أكثر..
ولم يكتفوا بذلك أيضا، بل راحوا يمدون أيديهم إليها لتعطيهم أصناف الأسلحة ليجهزوا بها على دولتهم وإخوانهم ومؤسساتهم.
ولن ننسى أبدا تلك الخطبة التي لم يقع مثلها في التاريخ الإسلامي جميعا عندما راح القرضاوي شيخ الفتنة ودجالها يرفع أيادي الشكر والامتنان لأمريكا لأنها أمدت زعماء العصابات السورية بالمال والسلاح، ويطلب منها أن تقف وقفة لله، وتزيد في الدعم والمساندة، ليدعو الله لها أكثر.
ولن ننسى أيضا تلك المواقف المخزية التي جلسها الإخوان المسلمون في مصر، أو الاتجاه الإسلامي في تونس مع الشخصيات الأمريكية الكبرى، محاولين التقرب منها، لتحسين صورتهم وتلميعها، متصورين أن أمريكا هي التي تعز من تشاء وتذل من تشاء، وتهب الملك لمن تشاء، وتنزعه ممن تشاء.
ولن ننسى أيضا مواقف السلفية من أمريكا ومساندتهم لها ظاهرا وباطنا، حتى أن الشيخ عبدالرحمن السديس إمام الحرم المكّي وصف الرئيس الأميركي المجرم [دونالد ترامب] بأنه يقود العالم والإنسانية إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار والرخاء، ودعا له بأن يسدّد الله خطاه ويبارك جهوده([1]).
متناسيا أن ترامب هو الذي قال ـ وفي مناسبات مختلفة ـ عن السعودية: (علينا حلب المملكة السعودية السمينة قدر الإمكان، وحين يصبح المشايخ الأثرياء عديمي الفائدة، يتوجب علينا مغادرة الشرق الأوسط)، وقوله: (السعودية ستكون في ورطة كبيرة، وستحتاج لمساعدتنا.. ولولانا لما وجدت، وما كان لها أن تبقى)
ولم تكن تلك مجرد كلمات؛ فالخزائن الأمريكية تستحوذ على ترليونات الدولارات السعودية، والتي كان في إمكانها ـ لو استثمرت في البلاد العربية ـ أن تجعل منها مراكز اقتصادية كبرى، وتجعل من السعودية رأس تلك المراكز وقطب رحاها.. ولما استطاع الأمريكي وبالقوانين المختلفة أن يهدد بأخذها جميعا.
لكن السديس وغيره من السلفيين والإسلاميين لا ينظرون لهذا، ولا ينظرون لتلك المئات من المليارات من الدولات التي توضع كل حين في الخزائن الأمريكية، ومع ذلك يظل اللص الأمريكي جائعا ومطالبا بالمزيد.
ومثل ذلك ينسى الإخوان المسلمون المسبحون بحمد قطر أن أكبر قاعدة أمريكية موجودة بالعالم هي قاعدة العديد الجوية، والتي انطلق منها العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان وسورية، وكل بلد يريد أن يخرج عن العباءة الأمريكية.
ومثل ذلك يتناسون أن الأسطول الأمريكي الخامس الموجود على سواحل البحرين هو الذي يستحوذ عليها وعلى قراراتها، ويتصورون أن التهديد الموجه للبحرين تهديد إيراني لا أمريكي، وأن دور الأسطول الأمريكي هو حماية البحرين، وقمع شعبها المظلوم.
ومثل ذلك يتناسون أن الشعب اليمني المظلوم الذي دمرت مؤسساته، وهدمت بيوته، وفتكت به الأمراض، لا يضرب إلا بتلك الأسلحة الأمريكية التي زود بها ذلك التحالف العربي المشؤوم بقيادة السعودية.
ومع كل هذا نسمع أولئك المغفلين الذين يتصورون أنفسهم محللين استراتيجيين فوق العادة، يذكرون عكس ذلك تماما، فليست أمريكا عندهم صديقة للسعودية، ولا للقطر، ولا للبحرين.. وإنما هي صديقة لإيران.. ويذكرون أن إيران المجوسية الصفوية هي التي تتفق مع أمريكا ـ تحت الطاولة ومن وراء الكواليس ـ لضرب أهل السنة وتحويلهم إلى بقرة حلوب يشربون حلبيها، فإذا جف ذبحوه.
ولست أدري من أين لهم كل هذه العقول الجبارة التي تقرأ الأحداث على عكس مساراتها، وعلى عكس ما يظهر منها.. فهل إيران تلك المسكينة المظلومة تلك التي حوربت ثمان سنوات كاملة من أمريكا وداعميها العرب حليفة لأمريكا؟.. وهل كل تلك المقاطعات الاقتصادية والحصار الدائم لها مجرد لعب وضحك وسخرية؟.. وهل كل تلك التهديدات مجرد مدح وثناء مغلف في قوالب تهديد وسباب؟.. وهل صياح الإيرانيين كل حين بالموت لأمريكا، واعتبارها شيطانا أكبر مجرد مزاح ونكتة؟
لا أدري كيف يفكر هؤلاء، ولا كيف يضعون المقدمات، أو يستنتجون النتائج.. فهم يصورون سيناريوهات ممتلئة بالغرابة والعجب، فيذكرون أن الغرب ومن ورائه أمريكا قدم بالإمام الخميني ليستعمله لإبادة السنة.. والدليل الوحيد الذي يملكونه لذلك كله هو أن الخميني قدم إلى طهران في طائرة فرنسية، ولست أدري ما الضرر في ذلك، وهل كان عليه أن يأتي على ظهر بعير عربي، أو حمار خليجي؟
وهم يقولون ذلك متناسين أنه لا توجد علاقات بين أمريكا وإيران، ولا توجد سفارة، وأن أول ما فعله الخميني بعد أن مكن الله له في الأرض أن عوض السفارة الإسرائيلية بالسفارة الفلسطينية، ووقف موقف مشرفا جدا مع محتجزي الأمريكيين على الرغم من خطورة ذلك.. وبقي الأمر مدة طويلة، وبقيت إيران الجديدة تهدد كل حين بسبب ذلك.. ومع ذلك يتصور أولئك المغفلون من الإسلاميين أن كل ذلك مجرد تمثيلية.
وكل هذا كان سبب كل فشل يقعون فيه..
فالإسلاميون لا يخطئون فقط في ممارساتهم الدعوية، ولا سلوكاتهم السياسية، بل
يخطئون أيضا في أبسط تحليلاتهم.. لأنهم ينطلقون من الأهواء، والتفكير الرغبوي الذي
لا حظ له من عقل أو دين.
([1]) وذكر أن السعودية والملك سلمان ووليّ العهد محمّد بن سلمان مشاركان مع ترامب في خدمة الإنسانية.