رسالة إلى المنزعجين مني

رسالة إلى المنزعجين مني

من الملاحظات التي لاحظتها على كثير من أصدقائي المحترمين وغيرهم، حتى من الذين كانوا يثنون على كتبي، ويذكرون لي استفادتهم منها، موقفهم المتشدد مني بسبب مقالاتي التنويرية حول سورية، ودعمها، ومواجهة المشاريع التي توجه لتقسيمها وتقزيمها وتحويلها إلى دولة فاشلة، مثل ليبيا وأفغانستان والصومال وغيرها من البلاد.

وأنا أحب أن أقول لهؤلاء الأصدقاء وغيرهم، بأني ظللت سنين من عمري، منذ بدأت أزمة سورية، وأنتم ترددون على مسامعي كل أنواع السباب والشتائم للنظام السوري وجيشه ورئيسه، بل حتى العلماء الذين تبنوا النظام، أو تبناهم النظام..

كنتم كل حين تسمعونني أو أقرأ لكم ليس مقالات علمية أو صحفية ناقدة فقط، وإنما سبابا بذيئا، وربما كلاما فاحشا، وربما صورا وكاريكاتورات سوقية ساخرة، ومع ذلك كله لم أقل لكم شيئا.

لم أتهمهم في دينكم، ولا في عقيدتكم، ولا في ولائكم لوطنكم، لأني أعلم أنني مجرد عبد بسيط، والله هو الديان، وكنت أعذركم لأنكم لا تسمعون إلا لجهة واحدة هي تلك الجهة التي استطاعت أن تتظاهر بتني الإسلام، بينما هي تمارس معه كل فنون الحرب والتشويه.

لم أقل لكم أبدا كل هذه السنوات: إنكم أصدقاء للسفير الأمريكي أو السعودي أو القطري، ولم أقل لكم أبدا: إنكم عملاء لأي جهة من الجهات.

بل اكتفيت فقط بالصمت المطبق، لأني أعلم أنكم تثورون لأبسط نصيحة، وتقيمون الدنيا ولا تقعدونها لأحقر نقد.. ولأنكم تعتقدون أنفسكم أصحاب الحق المطلق الذي يعلو دائما، ولا يعلى عليه.

وأنا راعيت مشاعركم تلك؛ فلم أرد عليكم، ولولا أن السيل بلغ الزبى، وأصبحت إسرائيل تضرب سورية كل يوم، ولا أحد يستنكر، ولا أحد يتحرك قلبه، بل وجدت من يدعمها، ويؤيدها، ويذكر أنه لو ووجد حلفا مع الشيطان للقضاء على النظام السوري، لقام به، أو يطلب منها آخر، وهي في جراحها الكثيرة التي أصابتها بها سهام العالم أجمع أن ترد على إسرائيل، وتضربها ليقف متفرجا على الطائرات الإسرائيلة والأمريكية وهي تدمر كل سورية.

حين حصل ذلك اختلف الأمر.. فلم يعد الأمر قاصرا على إرهابيين تبنيتموهم وسميتوهم مجاهدين.. ولم يعد بيد أولئك العرب الذين تصورتم أنهم حملة لواء السنة، وحماة أهلها.. وإنما صار بيد إسرائيل وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، والتي لا يشك أحد في كونهم أعداء الأمة من قديم.

ومع ذلك كله لم تتحركوا.. لم يتحرك علماؤكم الذين زعمتم أنهم وحدهم العلماء، ولم تتحرك أحزابكم التي زعمتهم أنها إسلامية من دون الأحزاب جميعا، ولم يتحرك إعلامكم، بل راح يصب المزيد من الملح على الجراح السورية.

ولذلك رحنا نصرح بالحق الذي كنا نراعي مشاعركم عند التلميح به.. ورحنا ندعوكم إلى استعمال عقولكم، والنظر في الأمر بجدية بعد كل هذه السنوات الطوال، والتي ظهرت فيها المعارضة على حقيقتها، كما ظهر فيها أولئك الإرهابيين الذين تبنيتموهم على حقيقتهم.. بل وردت التصريحات من الكثير من الساسة الذين ذكروا حقيقة ما جرى في سورية، وأنه لم يكن سوى محاولة لتحطيم سيادتها، بل أُلفت المؤلفات الكثيرة التي تشرح خطة ما وقع بدقة، بل منها ما كتبه عرابو الخراب أنفسهم من أمثال عزمي بشارة وغيره.

ومع ذلك كله غضضتم أبصاركم عن كل ذلك، وبقيتم مصرين على تلك الأفكار التي لقنتم إياها في أول يوم.. وصرتم ملوكا أكثر من الملوك أنفسهم.

وكان لكم بعد هذا أن تسكتوا على الأقل، أو تدعوا مخالفيكم يعبرون عن آرائهم بكل حرية، لكنكم أبيتم ذلك.. ورحتم تجرمون من يفعل ذلك.. ولست أدري بأي لغة أعبر عن هذا السلوك، وهل يمت للإنسانية والحضارة بأي صلة.. وهل يمت قبل ذلك للأخلاق التي دعانا إليها ديننا بأي صلة.

لو أنني حملت بندقية أو أي سلاح، ورحت إلى سورية واستعملته ضد من تسمونهم ثوارا أو مجاهدين، لكان لكم ربما بعض العذر في تلك الحملة التي تشنونها علي، ولكني لم أفعل..

كل ما فعلته هو مجرد كلمات وكتابات.. لكنكم ضقتم منها، في نفس الوقت الذي تدعون أنكم تحاربون فيه الاستبداد، وتدعون فيه إلى الحرية، وتحاربون فيه الأنظمة التي تمنع ألسنتكم أو أقلامكم، مع أن الأنظمة أرحم منكم، فهي تتيح للجميع أن يتحدث ويكتب ما لم يمس بالأمن العام.

ولست أدري هل كتاباتي هذه تمس بالأمن العام، وأنا الذي أقول لشعب بلادي، وجميع شعوب البلاد الإسلامية: مهما فسدت أنظمتكم، ومهما عانيتم بسببها، فلا يصح أبدا أن تدعو إلى إسقاط الأنظمة أو محاربتها، بل استعملوا كل وسائل التغيير السلمي التي تتيح لكم خدمة بلادكم من غير أن تهريقوا قطرة دم، أو تهدموا أي بيت أو مؤسسة، لأن القتل والهدم لا يلد إلا القتل والهدم.

ولم أقل هذا عن سورية وحدها، بل عن كل بلاد الإسلام، بل حتى لغير بلاد الإسلام، فأنا لا أؤمن بالعنف والصراع، بل أؤمن بالحوار والتغيير السلمي الهادئ الممتلئ بالأدب، والذي إن لم يثمر في الوقت القريب، فسيثمر في الوقت البعيد.

بعد هذا أقول لهؤلاء، بأني لا أعرف أي جهة في الدنيا، فأنا كالمعري حبيس بيتي الريفي المتواضع، والذي يبعد عن العاصمة بمئات الأميال، ولا أعرف إلا طلبتي المحدودين، وبعيد جدا عن كل الجهات سياسيها وثقافيها، فلذلك لا تضخموا الأمور، ودعوني أكتب ما أريد، ولكم أن تنتقدوني بما تشاءون، واعلموا أني مهما قلتم فلن أتغير، لأني أعلم أن الله وحده هو الديان، ونحن جميع عباده الفقراء إليه، وأننا لا نفعل إلا ما نتصور أنه يرضيه.

فافعلوا ما تتصورون أنه يرضي الله، ولا تمنعوني أن أرضي الله بما أراه وأقوله، والذي أعتقد أنه واجب شرعي، لأن المنكر كبير، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

هذه رسالتي إليكم لتراجعوا أنفسكم، لا بالقبول بما أطرحه من آراء، فذلك شأنكم، ولكن في التواضع مع مخالفيكم، واعتبار أنهم ربما يكونون من المجتهدين الذين اخطأوا في اجتهادهم، وأنتم قد تعودتم أن تعذروا من قتل عشرات الآلاف بل مئات الآلاف بسبب خطئه في الاجتهاد، فاعذروني، فأنا لم أقتل بمقالاتي هذه صرصورا واحدا، وإنما هي مجرد كلمات، وإن كان هناك من يحاسبني عليها، فدعوا الأمر لله، فعند الله يكشف كل شيء، وتظهر كل الحقائق.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *