خالد الملا.. والوعي الاستراتيجي

خالد الملا.. والوعي الاستراتيجي

من العلماء البارزين الذين كان لهم دورهم الكبير في مواجهة التطرف والعنف والحرب الناعمة الشيخ خالد الملا، رئيس جماعة علماء العراق، وهو رجل من علماء أهل السنة الكبار الذين يتجاهلهم الإعلام المغرض، ويعتبرهم تابعين لإيران مع كونه عالما من علماء أهل السنة، تربى على أيديهم، وتتلمذ على كتبهم، وهو لا يدرس أو يخطب إلا من خلال مصادرهم، وأتحدى من يجد لي في كلماته كلمة واحدة يدعو فيها إلى التشيع.

ولكن مع ذلك كله نجد الإسلاميين ومعهم الإعلام المغرض يتهمه بذلك، وبالتبعية لإيران، ناسين أنهم غارقون إلى أذقانهم في التبعية لأمريكا وإسرائيل وكل أعداء الأمة.

وميزة هذا الرجل ـ على حسب متابعتي لتصريحاته وخطاباته ـ هي ذلك الحرص الشديد على مصالح الأمة الإسلامية ووحدتها، ولذلك يدعو كل حين إلى التقارب بين المذاهب الإسلامية، وتعايش بعضها مع بعضها، وتعاونها فيما بينها لدحر الأعداء الحقيقيين الذين يريدون بث الفرقة بين المسلمين ليتمكنوا من تحقيق مشاريعهم.

وميزته الأخرى، وهي أهم من هذه الميزة، هي ذلك الوعي الاستراتيجي الذي جعله يتنبأ بالكثير من الأحداث قبل وقوعها، وأذكر جيدا أنه في الفترة التي كان فيها دعاة الفتنة من القرضاوي وغيره يدعون الشعب العراقي إلى الاعتصام في الساحات، ورفع شعارات إسقاط النظام، كان يدرك جيدا الأهداف التي يسعى إليها أولئك المعتصمون الممتلئون بالأحقاد، فلذلك دعا الحكومة العراقية إلى التعامل مع تلك الاعتصامات باعتبارها تمردا لا اعتصاما.

ولذلك دعا إلى موقف صارم شديد، لا يحترم فيه إلا الأمن القومي المهدد، وبرر ذلك بأن تلك الاعتصامات لم تكن سوى (ساحات لإثارة الفتن، وتنفيذ الأجنده الخارجية التي تريد أن تشعل حرب طائفية في العراق)

وكان يردد حينها كل مرة: (إن الحكومة تحلت بالحلم والحكمة، وتمادت قيادات الاعتصام بتجاوزها كل الخطوط الحمر، وصنعت أرضية خصبة لتواجد عصابات القاعدة وداعش؛ ولذلك فإن إزالة هذه الساحات واجب وطني وشرعي بعد أن ثبت أنها تصدر الخطاب الطائفي وتجند الإرهابيين)

ودعا في بيان له باعتباره رئيس جماعة علماء العراق (رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة بعدم التراجع عن تطهير المحافظات التي تتواجد فيها القاعدة والميليشيات وزمر الإرهاب والجريمة وأن يطاردهم جيشنا الباسل أينما كانوا؛ وألف تحية لمواقف الجيش العراقي الذي يقاتل شرار الناس ويدك معاقلهم ليعيش العراقيون بأمن وسلام)

وصدق في كل ما ذكره، فقد كانت تلك التجمعات بمثابة مدرسة حضانة تهيئ الأرضية لقبول داعش والقاعدة وغيرها من الجماعات المتطرفة، فقد كانت رايات تلك الجماعات تخفق في تلك الاعتصامات، وكانت شعاراتها تردد، لكن المسؤولين للأسف لم يبادروا للمواجهة العنيفة لتلك الاعتصامات، خوفا من وسائل الإعلام، ومن اتهامهم بمواجهة المظاهرات السلمية، وكانت نتيجة ذلك احتلال مدن كثيرة من طرف الإرهابيين، لم تكن لتحتل لو ووجهت تلك المظاهرات بعنف في بدايتها.

لقد كان في إمكان الشيخ خالد الملا في ذلك الحين أن يركب الموجة، وأن يضع نفسه في قائمة اتحاد علماء المسلمين، ليصبح تبعا للقرضاوي ومن شاكله، وينال من أموال الخليج ما يشاء له هواه، لكنه لم يفعل، ولم يركب الموجة، ولم يساير التيار، بل بقي يواجه كل المؤامرات التي تحاك على الأمة في العراق وسورية وكل البلاد الإسلامية إلى يومنا هذا.

ولذلك تعامل معه الحركيون، والإعلام المغرض باعتباره شبيها لمفتي سورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون، ولمفتي مصر الشيخ علي جمعة.. ورموه معهم في سلة التجاهل والتبديع والتضليل والسخرية.

ولذلك لا يرى المغرر بهم من ضحايا الإعلام والتوجهات السلفية والحركية أمثال هذا العالم، وهم كثير جدا، لسبب بسيط، وهو أنهم لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة، بل يريدون فقط من يغني لهم على حسب ما يشتهون، لأنهم لا يفكرون إلا بما تمليه غرائزهم وأهواؤهم وسادتهم الذين يخضعون متذللين لهم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *