حينما يتحول الانتحار إلى شهادة

حينما يتحول الانتحار إلى شهادة
من أول دلائل تغلب المصلحة على المبادئ في الفكر الحركي الإسلامي خصوصا ذلك التمجيد الذي رأيناه في بداية الربيع العربي لظاهرة الانتحار وحرق الأجساد التي بدأها البوعزيزي، ثم قلده الكثيرون، ولا تزال هذه الظاهرة تتواجد عند الكثير من المغرر بهم من أتباع القيادات الاجتماعية التي اختارها زعماء الحرب الناعمة.
وكيف لا تتواجد، وهم يسمعون أولئك الإسلاميين الذين يحدثونهم عن الجنة والنار، يذكرون البوعزيزي التونسي الذي أحرق نفسه بسبب شجار بينه وبين شرطة بلده، ويثنون عليه كثيرا، بل يعتبرونه شهيدا ورمزا من الرموز الكبيرة، لا لشيء إلا لكونه يخدم مصالحهم في ضرب الأنظمة ونشر الفتنة.
بل حتى القرضاوي نفسه، وفي برنامج الشريعة والحياة، وعندما سئل عن المسألة راح يعتذر لذلك أحرق نفسه، ويستغفر له، ويتهم الأنظمة بكونها السبب فيما حصل له([1]).. وذلك ما شجع الكثيرين بعد ذلك.
ولست أدري من أين لهم هذه التألي على الله، مع أن الله تعالى يقول: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]
وهل عندهم أثارة من النصوص المقدسة التي لا يمكن الحديث عن دين الله وما يرتبط به من دونها حتى يحكموا بذلك الحكم الخطير في تلك المسألة؟
بل إن النصوص المقدسة تذكر عكس ذلك، ولا تعطي المبرر لأي شخص بأن يحرق نفسه أو يقتلها أو يفعل شيئا يؤذيها، فالله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]
وقد ورد في الحديث الشريف ذكر العقوبة الشديدة لمن يفعل ذلك من دون استثناء أحد من ذلك، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها [أي يطعن] في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)([2])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)([3])
وقص علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة لا تختلف كثيرا عن قصة البوعزيزي وأمثاله، فقال: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)([4])
كان في إمكان الحركيين الذين استغلوا الفرصة حينها ليركبوا موج الفتنة بأن يوضحوا للمجتمع أن هذا من الكبائر، وأنه لا يصح إطلاق لقب الشهيد على من فعل هذا بنفسه..
وكان في إمكانهم أن يوجهوا الأمة إلى الحركة التغييرية المسالمة، وألا يخرجوا من حدود الشريعة في حركتهم أو ثورتهم أو أي مطالب يريدون تحقيقها، فالغاية لا تبرر الوسيلة.
لكنهم لم يفعلوا، بل صاروا يمجدون الانتحار، وحرق الجسد، ويبررون هذه الفعلات الشنيعة مع أن النصوص المقدسة لم تعط أي مبرر لمن يفعل ذلك.. ولو أن كل شخص أصيب بأي بلاء فعل بنفسه ذلك، لما بقي بشر في الدنيا.
وكل ذلك لسبب بسيط وهو أن النصوص المقدسة عندهم هي أهواؤهم وأمزجتهم، فهم الذين يفرضون على الدين كيف يكون، لا الدين بمصادره المقدسة الذي يفرض ذلك.
وكانت نتيجة حرق البوعزيزي لنفسه، وانتشار
هذه الظاهرة بعد ذلك، وتأييد الحركيين خصوصا لها هي أن احترقت بلادنا الإسلامية،
فقد صار الكل يفجر نفسه في كل مؤسسة أو تجمع شعبي، لينشر ثقافة الموت التي ينشرها
أولئك الحركيون بدل ثقافة الحياة التي جاء بها هذا الدين.
([1]) https://www.youtube.com/watch?v=v17uvN0JDFg.
([2]) رواه البخاري (5442) ومسلم (109)
([3]) رواه البخاري ( 5700 ) ومسلم ( 110 )
([4]) رواه البخاري ( 3276 ) ومسلم ( 113 )