جودت سعيد.. الناصح المضيع

جودت سعيد.. الناصح المضيع

من جنايات الإعلام المغرض الذي استخدم في حرب سوريا وغيرها من البلاد العربية ذلك الإشهار الخطير للأقزام من دعاة العنف والفتنة والحرب، في نفس الوقت الذي يقزم فيه عمالقة الفكر والهداية والتنوير من دعاة الحكمة والسلام والرفق.

وعلى رأس هؤلاء المفكر الكبير، والداعية القدير، والناصح المضيع [جودت سعيد]، داعية اللاعنف، والذي يطلق عليه في الساحة الفكرية لقب [غاندي العرب]

فلو أن الحركة الإسلامية في الجزائر استمعت إليه، وآثرته على أولئك المشايخ الذي كانوا ينفخون فيها كل براكين الحقد والعنف، ونظرت إلى حكمته، خاصة وهو يستمد الكثير منها من شيخه وأستاذه وصديقه [مالك بن نبي]، لما سالت قطرة دم واحدة في الجزائر، ولكان وضع الحركيين الآن مختلفا تماما، ولكنا بدل الكتابة عن جرائرهم ومثالبهم نكتب في محاسنهم ومناقبهم.

ولو أن الحركيين في سورية، أولئك الذين أحرقوا حماه، واستولوا عليها، وراحوا يبرزون عضلاتهم باسم الإسلام وهم يفتحونها بسيوفهم ـ كما يذكرون ـ استمعوا إلى نصائحه وأحاديثه المفعمة بالصدق والإيمان، والداعية إلى السلم واللاعنف، لكان وضع سورية الآن مختلفا تماما، ولما حدثت أحداث حماه، والتي أعيدت أحقادها بعد ذلك على الشكل الذي نراه.

ولو أن الحركيين الذين أرسلوا خيرة أبناء الأمة وشبابها إلى أفغانستان والصومال والسودان وأندونيسيا وكل أرض الله، ليفجروا أنفسهم، ويشوهوا الإسلام.. لو أنهم استمعوا إليه، لأرسلوهم إلى جامعات العالم ليتخرج منهم المهندس المسلم، والطبيب المسلم، والفلكي المسلم، والمفكر المسلم..

ولو أن الإخوان في مصر، استمعوا إلى نصائحه الغالية، وقوله قبل عقود من الزمان وعلى شاشة التلفزيون السوريّ: (إنّ الإسلام من معدن صدقٍ وأمانةٍ ووفاء، والسياسة من معدن كذبٍ وخيانةٍ وغدر).. لما أقحموا أنفسهم في السياسة، ولآثروا التغيير الاجتماعي الهادئ على التغيير السلطوي العنيف.. وحينها لن تكون هناك رابعة، ولا ثورة مضادة، ولا مصادرة أموال، ولا رمي بالإرهاب..

لكن هؤلاء جميعا لم يفعلوا، لأنهم لا يستطيعون أن يهضموا إسلاما من دون سيوف، وقد عودهم الإعلام أنه لا يمثل فلم ديني من غير سيوف، ومن غير رقاب تقطع، ودماء تسفك.

وعندما حضرت الفتنة السورية، وراحت قنوات الفتنة تبحث عن القادة الاجتماعيين الذين يخدمون أغراضها، تغريهم بالأموال الكثيرة، وكان يمكن أن تشتريه، كما اشترت غيره، وأن تجعله يصدر فتوى واحدة ضد نظام بلاده، يدعو فيها إلى المواجهة المسلحة.. لكنه لم يفعل مثلما فعل أولئك الخونة من القرضاوي وأذنابه.. فلذلك راح يسقط ويقزم ويحقر.. وراح يعمل في الفلاحة وتربية النحل في بلدته الصغيرة في الوقت الذي راح فيها دعاة الفتنة يتنافسون على القصور والأموال والجاه العريض.

ولهذا لا نستغرب أننا عندما نتحدث عن أولئك الظلمة من علماء الفتنة، أن يبرز لنا من عوام الناس بل من خواصهم من يقول لنا: ومن تركت من مشايخ الإسلام؟

وكأن مشايخ الإسلام ليسوا سوى أولئك الذين يظهرهم الإعلام، ويزينهم كما يزين منتوجاته التي يقوم بالإشهار لها.

لقد كان من كلماته التي استقبل بها تلك الموجة المسلحة التي بدأت بها الفتنة في سورية قوله: (إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح فسنظل محكومين بالسلاح الذي نحكم به منذ 1400 سنة من حكم معاوية إلي يومنا هذا. كل من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك، والديمقراطية لا تحل في بلد إلا إذا أجمع الفرقاء فيه على الاحتكام لا إلى القوة بل إلى الصندوق. هذه أشياء بدهية ولا يتكلم بها أحد)([1])، وكلمات كثيرة وجهها لقومه وللحركة الإسلامية خصوصا، تلك التي لا تعرف شيئا سوى العنف، والتي قابلت كلماته بالعبوس والشدة، واعتبرته شبيحا، وعميلا للنظام.

وكان قبل ذلك قد كتب الكتب الكثيرة التي يدعو فيها هذه الحركة إلى الكف عن منهجها العنيف، والتزام الإسلام المسالم؛ فهو الممثل الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والممثل الحقيقي للدين الأصيل.

لكن الحركة الإسلامية الممتلئة بمفاهيم الجهاد والعنف ترد عليه بقوة: كيف نهادن الأنظمة التي تريد اعتقالنا وقتلنا؟، فيجيبها بكل هدوء: بمذهب ابن آدم الأول الذي ذكره القرآن الكريم، لنعيشه ونعتبر به، والذي عبر عنه هابيل عندما هدده أخاه قابيل بقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 28]

لكن الحركة الإسلامية الممتلئة بالعزة الآثمة راحت تسخر منه، وتعتبر ما يدعو إليه مهانة، لأن الإسلام في تصورها لا يمثله الإنسان المسالم الذي يفعل ما فعله ابن آدم الأول، وإنما هو ذلك العنيف الذي عبر عنه صفوت حجازي بقوله: (من رشنا بالماء رششناه بالدماء)

وللذين يتساءلون عن البديل، وكيف نغير الواقع السياسي، يجيبهم جودت الذي تعود ألا يجيب إلا بالقرآن الكريم، بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]

ثم يفسر لهم ذلك بأنه لا يمكنهم أن يغيروا السياسة ولا المجتمع، حتى يبدأو بالأنفس؛ فيهذبوها، ويربوها، ويعلموها، ويرفعوها إلى مستوى الإنسان العدل لا الإنسان الكل، حينها يحصل التغيير وبصورة تلقائية من دون تكلف، ومن دون دماء.

ولذلك كتب كتبه الكثيرة يدعو إلى هذا النوع من التغيير المسالم المبني على رفع الإنسان إلى مستوى الإنسان، والترفع به عن تلك البهيمية والسبعية والعدوانية التي تدعو إليها الحركة الإسلامية، وتربي أتباعها عليها.

ومن عناوين كتبه الكثيرة نستشف رؤيته للتغيير وترشيد العمل الإسلامي، فمن عناوينها [مذهب ابن آدم الأول ـ أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي]، والذي شرح فيه قصة ابني آدم الواردة في القرآن الكريم واستنبط منها مبدأ [اللاعنف في الإسلام]، مستدلا لذلك بالأحاديث الكثيرة الداعية إلى مواجهة العنف باللاعنف.

وقد يتصور البعض أنه كتبه بعد حوادث العنف التي حصلت في حماه، ولم يكن الأمر كذلك، بل كتبه قبل حصولها، وبالضبط في منتصف الستينيات من القرن العشرين، ليوجهه نصيحة لها قبل أن تقدم على ما أقدمت عليه، وقد دعاه إلى ذلك ما رآه في صراع إخوان مصر حينها مع السلطة، والذي جرهم إلى ما جرهم إليه من اعتقالات كان يمكنهم تفاديها لو أنهم اكتفوا بالتغيير لما في الأنفس، والتزموا المنهج الهادئ.

وقد بين جودت سعيد في ذلك الكتاب أنه لا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل من أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع وإنما يذهب بهرقل ويأتي بهرقل، ولذلك منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من الدفاع عن أنفسهم أثناء وجودهم في مكة، وإنما سمح لهم الجهاد بالسيف بعد أن تشكل المجتمع الراشد في المدينة بدون ممارسة عنف وإنما بإقناع الناس، وعندما يتشكل المجتمع الراشد يصبح من واجبه نصرة المظلومين والدفاع عن سلامتهم.

ومن كتبه المهمة الممثلة لمشروعه البديل كتاب[حتى يغيروا ما بأنفسهم]، والذي قدمه له [مالك بن نبي] الذي نرى الحركة الإسلامية تتبنى شخصه، وتحارب أفكاره.

وقد طرح جودت سعيد في كتابه ذلك منهج الوصول إلى السلطة الذي تطمح إليه الحركة الإسلامية، فهو منهج يعتمد على تغيير ما بالأنفس، والذي يؤدي بالضرورة إلى تغيير الواقع، ففي الآية الكريمة ـ كما يفهم جودت سعيد ـ تغييران: تغيير يؤديه الله، وتغيير يقوم به القوم، والتغيير الأول نتيجة للتغيير الثاني، فالله لن يغير حتى يقوم القوم بالتغيير أولاً. كما أن مجال التغيير الذي يحدثه الله، هو ما بالقوم، والتغيير الذي أسنده الله إلى القوم، مجاله ما بأنفس القوم.

ويختم كتابه بقوله: (كم من حقائق قرآنية أولية بسيطة على مسمع كل أحد في قارعة الطريق، ولكن مع هذا كله لا ينتبه إليها منتبه، وكم من المصائب التي تسد علينا منافذ الحياة تنشأ عن هذا النسيان وعدم الانتباه.. وكم من الآلاف المؤلفة من الشباب يصابون بخيبة أمل، أو بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني حين يكشفون الحقيقة، لأنهم يعيشون على الوهم متقوقعين! ثم كم من الشباب يصابون بالشك في الدين إطلاقاً، ويظهر عليهم آثار ذلك بأساليب مختلفة، لكل موسم ما يناسبه، وليس آخرها أصحاب الشعور الطويلة الذين يملأون الأسواق … إنه الامتلاء بالأوهام. أجل إنها مشكلة مجتمع، مشكلة جيل ضائع متخم بالأوهام، ومجاعة من إدراك سنة الحياة)

وهكذا في كتبه جميعا كان يدعو إلى العلم والقراءة والترقي من خلالهما، وقد كتب في ذلك كتابه المعروف المهجور[اقرأ وربك الأكرم].. وغيرها من الكتب التي تطرح البدائل السلمية للعمل الإسلامي الذي يرقى بالأمة إلى مستواها الحضاري اللائق بقرآنها ونبيها ودينها.

ولأجل هذا كله هجرته الحركات الإسلامية، وسخرت منه، وراحت تحمل السلاح، وتسمع لمن يفتون بالقتل، والنفير العام، وتحضير المجاهدين لكل من يرغب الشياطين في تأديبهم.


([1])  انظر مقالا بعنوان: جودت سعيد: الهجرة إلى الإنسان، صالح عمر عبد النور.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *