المقدمة

لا يمكن لمن يريد أن يتعرف على إيران، أو على مشروعها الحضاري الجديد أن يمر مرور الكرام على نظامها الذي اعتمدته منذ انطلاقة الثورة الإسلامية قبل ما يقرب من أربعين سنة، ذلك أن كل الهجمات السياسية والعسكرية والإعلامية والدينية التي تعرضت لها كانت بسبب ذلك النظام الذي أسسه قادة ثورتها، ورضيه شعبها، وعبر عن رضاه بوسائل مختلفة.
وهو نظام متفرد من نواح كثيرة جدا؛ فلا هو بالنظام الديني المحض، ولا هو بالنظام العلماني والديمقراطي المحض، ولا هو مزيج ملفق من كليهما، بل هو نظام له خصوصياته التي تستدعي البحث الدقيق والموضوعي والهادئ بعيدا عن شغب المشاغبين وجدل المجادلين.
ولذلك اهتممنا في هذا الجزء بالتعرف على أسرار هذا النظام، والأسس الفكرية التي يقوم عليها، ومثل ذلك الآليات التي استخدمها لتحقيق تلك الأسس النظرية على أرض الواقع.
وقد دعانا إلى هذه الاهتمام مجموعة أمور:
أولها: أن هذا النظام تعرض منذ انطلاقته لحملة تشويه كبيرة جدا، لا من أمريكا وإسرائيل فحسب، وإنما من طرف الكثير من المسلمين الذين نهض ساستهم وإعلاميوهم ورجال دينهم لتشويهه وشيطنته وإلصاق كل أنواع التهم به.
ولذلك كان الواجب على كل باحث صادق إنصافه، لا بنصرته عاطفيا؛ فهو لا يحتاج إلى ذلك، وإنما بوصفه وصفا دقيقا وموضوعيا من خلال المصادر التي أُسس عليها، أو التطبيقات التي خرج بها إلى أرض الواقع.
ثانيا: أن هذا النظام متفرد في كل شيء، ابتداء من الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، وانتهاء بالمؤسسات التي يتكون منها، ولذلك يعتبر تجربة فريدة يتطلع كل عاقل للاطلاع عليها، ليستفيد من مزاياها، ويتجنب عيوبها، ولذلك كان البحث الموضوعي في هذا الجانب مهما جدا، حتى نتقي تلك الطروحات التي لا هم لها إلا تشويه الحقائق، وعرضها بصورة لا تتناسب مع الواقع.
ثالثها: أن هذا النظام يُصنف ضمن نماذج الإسلام السياسي، والتي نجد لها صورا كثيرة تحققت عبر التاريخ، وقد لقي الكثير منها ردود فعل سلبية بسبب الأخطاء التي وقع فيها، ولذلك كان لدراسة هذا النموذج دوره المهم في عرض صورة أخرى، ربما تكون أحسن تمثيلا لنظام الحكم في الإسلام، أو ربما لا تكون كذلك.. والمؤمن الصادق هو الذي لا يحكم على شيء قبل أن يطلع عليه، ومن أهله، لا من أعدائه.
رابعها: أن هذا النظام صمد فترة طويلة جدا، مع الحروب الكثيرة التي تعرض لها، بل نراه يقوى يوما بعد يوم، ويتحول من مجرد نظام لدولة من الدول إلى محور قائم بذاته تهابه إسرائيل وأمريكا وكل من يحلق في فلكهما، وذلك يستدعي البحث عن أسرار ذلك الصمود والاستقرار على الرغم من كل تلك الزلازل التي تحيط به.
خامسها: أن الكثير من الأخطاء التي يقع فيها السياسيون أو الإعلاميون أو رجال الدين في فهم المواقف الرسمية الإيرانية ناتج من عدم فهمهم للأسس الفلسفية والدينية التي يقوم عليها نظام الحكم في إيران، ولذلك كان البحث في هذا الجانب وقاية من الوقوع في تلك الأخطاء؛ فالمواقف السياسية تنبع في كل دولة تحترم نفسها من المبادئ والنظريات التي تقوم عليها.
هذه بعض الاعتبارات التي جعلتنا نخصص هذا الجزء للحديث عن النظام الإيراني، والمبادئ والقيم التي تحكمه، وقد دعتنا القراءة الموضوعية له إلى اعتماد المصادر التي ينطلق منها، وأهمها كتب قادة ثورته وخطبهم وبياناتهم، ومن أهمها كتب الخميني والخامنئي ومطهري وغيرهم، والتي يستند إليها الدستور الإيراني، وكل القوانين الإيرانية.
بالإضافة إلى المواقع الخاصة بالمؤسسات الإيرانية المختلفة، والتي نجد فيها التجليات والمظاهر التي طبقت بها تلك المبادئ النظرية.
وقد ألزمتنا القراءة الموضوعية لهذا النظام الاطلاع على ما كتبه أعداؤه من العرب وغيرهم، حتى نتبين صدق ما ذكروه أو تهافته، وحتى نعرض للقارئ الحقيقة من جوانبها المختلفة، ليبت فيها بعد ذلك بما يرشده إليه دينه والقيم الأخلاقية التي تحكمه.
وقد قسمنا الكتاب مثلما سبقه إلى سبعة فصول، تحاول أن تعرف بالأسس التي يقوم عليها هذا النظام وما ينبع منه من قيم ومؤسسات وقوانين، وهي كما يلي:
1 ـ ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية: وتناولنا فيه الأسس التي تقوم عليها نظرية الحكم في إيران، والتي يطلق عليها [ولاية الفقيه]، والتي تستند إلى مبدأ [الحاكمية الإلهية] الذي نص عليه قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وقد عرضنا فيه الأدلة التي اعتمدها مؤسسو هذا النظام، وما ناقشوا به مخالفيهم.
2 ـ ولاية الفقيه.. وقيم الجمهورية: وتناولنا فيه الآليات التي وفرها النظام الإيراني حتى يعبر بها الشعب عن إرادته ومواقفه، حتى لا يصطدم النظام الشرعي بالرفض الشعبي، وحتى يتخلص من سلبيات الحكومة الدينية التي شوهتها الكنيسة وبعض أنظمة الحكم الاستبدادي في التاريخ الإسلامي.
3 ـ ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة: وتناولنا فيه [الحرية] باعتبارها قيمة من القيم الكبرى التي ناضل من أجلها الشعب الإيراني ليتخلص من قيود الطواغيت والمستبدين، ويسترد ممتلكاته من مغتصبيها، ويمارس حياته بعيدا عن كل الضغوط، وقد ذكرنا فيه بتفصيل مدى الحرية المتاحة للإيرانين تحت ظل ولاية الفقيه على عكس ما يشيع المغرضون، كما ذكرنا فيه أيضا القيود المفروضة على الحرية السلبية حفاظا على السلم والقيم الاجتماعية والهوية الدينية للشعب الإيراني.
4 ـ ولاية الفقيه.. والأخوة الإنسانية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإسلامي الإيراني بقيمة [الأخوة]، سواء الأخوة الداخية مع جميع الأعراق والأديان والمذاهب، أو الأخوة الخارجية مع جميع شعوب العالم، وخصوصا المستضعفين منهم.
5 ـ ولاية الفقيه.. والمساواة العادلة: وتناولنا في قيمة [المساواة] باعتبارها من القيم التي قام عليها النظام الإسلامي الإيراني، وهي قيمة تجعل المواطنين في درجة واحدة، ودون تفريق بينهم، لا في الحقوق، ولا في الواجبات، إلا ما اقتضته العدالة.
6 ـ ولاية الفقيه.. والقيم التربوية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالقيم التربوية بجميع أصنافها، وفي جميع مجالاتها، ذلك أن هدف هذا النظام ليس توفير حاجيات الشعب الحسية فقط، وإنما يهدف فوق ذلك إلى بناء الإنسان، وتحقيق ما يطلق عليه [التقوى الاجتماعية]
7 ـ ولاية الفقيه.. والقيم الحضارية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالدعوة لقيام حضارة إسلامية جديدة، تستند إلى القيم الإسلامية، والمصادر الدينية، في نفس الوقت الذي لا تغفل فيه المكتسبات المادية، والخبرات البشرية، بل تحاول أن تزاوج بينها لتحقق القفزة الحضارية، وتكون نموذجا عن الحضارة الإلهية التي تخلص البشرية من الحضارة المادية.
ونحب أن ننبه إلى أنه مع اجتهادنا في أن نكون موضوعيين قدر الإمكان، إلا أننا لم نستطع أن نخفي إعجابنا ببعض مظاهر الجمال في هذا النظام، ولا أن نخفي نقدنا لبعض سلبياته؛ فالذاتية شيء لا مفر منه، لكنا لا ندخل ذواتنا في بيان الحقائق، أو وصف الوقائع، وإنما نذكرها تعليقا على تلك الحقائق والوقائع، وقد يوافقنا القارئ على ذلك، وقد يخالفنا فيه.
ونحن ـ مع احترامنا للقراء الكرام ـ إلا أنه لا تهمنا موافقتهم ولا مخالفتهم؛ فالحق أحق أن يتبع، وقد طولبنا بالشهادة بالحق، لا بما يرغب به الذين نصبوا أنفسهم قضاة على الخلق.
ونريد بهذه المناسبة أن نطلب من الذين يذكرون منتقدين بأننا بهذا الكتاب وغيره نقوم بنوع من الإشهار لإيران أو مشروعها، لأن ينكروا أولا على ما في مكتباتنا ورسائلنا الجامعية من الكتب التي تتحدث عن المشروع الشيوعي والاشتراكي، والكتب التي تتحدث عن الثورة الصينية والبلشفية والسوفياتية، والكتب التي تمدح الظاهرة اليابانية والماليزية والتركية، وينكروا قبل ذلك على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والليبرالية.. والتي تتبنى مشاريع لا علاقة لها بالدين، ولا بأي قيم أخلاقية.. وبعدها يمكنهم أن ينكروا علينا هذا الطرح الموضوعي المتعلق ببلد كريم من بلاد الإسلام أجمع الجميع على تشويهه وظلمه وخذلانه واحتقاره.
وواجبنا الشرعي يحتم علينا توضيح الحقائق التي تزيل الشبهات، وترفع الأوهام؛ فنصرة المظلوم واجب الشرعي، والساكت عن الظلم شيطان أخرس، ولا ينفع الحياد عندما تحتدم المعارك، ذلك أن المحايد ليس سوى متول عن الزحف، وقد حرم علينا التولي عن الزحف، والتثاقل إلى الأرض والهوى.